Wadih Sabra

النبوغ اللبناني وديع صبرا نابغة الموسيقى الشرقية سلمى صايغ - المعرض العدد الثاني ايلول- كانون الاول 1921

لا اظن انه يوجد بين قراء هذا السطور من سكان بيروت من يجهل الاستاذ وديع صبرا، فقد عرفته هذه المدينة موسيقيا بارعا وعاملا نشيطا في عالم الفن. على ان له مزية اخرى لا يعرفها الناس وهي العمل في بناية هذا الوطن من قبل ان يصير وطنا. لهذا اقول بفخر ان وديع صبرا هو من الرجال الذين يعملون منذ سنين في سبيل عمل لم يقدم عليه سواه لا من الغربيين ولا من الشرقيين. وهذا سيفتح صفحة جديدة في حياة الموسيقى الشرقية. من المعلوم ان الموسيقى العربية الحالية مأخوذة عن الموسيقى البيزنطية وان الموسيقى الشرقية كلها غير مقيدة بالعلامات التي تتميز بها الموسيقى الغربية ولم يقدم احد الى اليوم على ربط الموسيقى الشرقية بالعلامات المعروفة ب ( النوت)- بطريقة اصولية- لان هذه العلامات وضعت للانغام الغربية. وهذه الانغام هي نفسها ناقصة نسبة الى الموسيقى الشرقية التي هي اقرب الى الاصوات الطبيعية.

ان اقرب الآلات الى الاصوات الطبيعية هي الآلات النافخة كالقصب والناي والفلوت وسواها ويتلو هذه ذوات الاوتار كالكمنجة والعود والقيثارة " Guitare " . اما البيانو فمع انها ناقصة – من جهة الاصوات - بالنسبة الى ذوات الأوتار فهي كآلة اكثر ضبطا من جميع الآلات لأن من يضرب عليها لا يحتاج الى ما يسمونه (الدوزان).
على ان البيانو لا تؤدي الالحان الشرقية كاملة ذلك لان الاصوات في الموسيقى الغربية تقسم الى انصاف. اما الاصوات الشرقية فتقسم الى ارباع والى اثمان. لهذا لا يمكن لأي موسيقي مهما كان بارعا ان يعزف على البيانو نغم (غيري على السلوان قادر) او اي نغم سواه ويأتي به كاملا كما يأتي به العواد.

وقد خطر في بال الاستاذ وديع – وذلك منذ 15 سنة – ان من الممكن ايجاد طريقة تقيد بها الموسيقى الشرقية بارباعها واثمانها وتطبيقها عمليا على آلة مثل " البيانو" ولما عرض فكره هذا في استانبول سنة 1908 قال له احدهم ( لو كان هذا العمل ممكنا لسبقك اليه الغربيون).

لقد وصفوا الشرقي بقلة الثبات، على ان وديع صبرا يخفي وراء سكوته ارادة تفتت الصخر ولا تفتت. فهو منذ خمسة عشر سنة يعمل لايجاد الطريقة التي حلم بها عندما كان تلميذا في دار الموسيقى في باريس الى ان تكلل جهاده بالفوز وتوصل الى اكتشاف ما قضى الحياة بالتفتيش عنه.

اما سر نجاحه فهو الثبات اولا ثم ( الانقطاع بالكلية الى العمل الذي وجد لاجله). وقد اشتهر بهذه الصفة حتى شاع عنه انه لا يعرف من امور الدنيا شيئاً الا الانغام. فلو تكلم احد امامه عن مسألة تجارية قال بكل بساطة ( هذه مسألة يفهمها جيدا التاجر الفلاني) واذا سأله احد رأيه في السياسة اجاب مبتسما: ( السياسة من اختصاصيات الكوميساريا).

على انه يفهم من الامور اكثر من كثيرين غيره ولكن مبدأه في التخصيص ثابت لا يحول ولا يزول وكثيرا ما يقول النكات المستظرفة في هذا الصدد.

اذكر انه ذهب مرة الى ادارة شركة الماء ليطالبها بواجبها نحوه كرجل يدفع الاشتراك ولا يأخذ شيئا. ولما سأله ذووه عن نتيجة تلك المقابلة قال:

( استقبلني فلان وكلمني عن الموسيقى ولما صرنا الى البحث عن الانغام الشرقية رأيت نفسي امام رجل متضلع في الفن فرجعت ولم أكلمه في مسألة المياه لانني قلت في نفسي ان الرجل الذي يعرف الموسيقى الى هذه الدرجة يجهل – ولا بد – كل ما هو متعلق بالماء وشركات الماء).

ان في هذه النكتة المضحكة مثالة كبيرة فلو تخصص كل منا للموهبة التي اوجدها الخالق فيه لانقطع هذا الضجيج في لبنان وسوريا وساد مكانه العمل الهادىء المثمر...

لنرجع الى الآلة التي اخترعها الاستاذ وديع. لقد اشتغل الاستاذ نهارا وليلا حتى عثر على ما يصبو اليه. وفي هذه الايام يسمع من يسكن في جواره انغاما رقيقة كانغام العود تخترق الاثير وتحمل الى قلب كل من تتبع وديع في جهاده عاطفة جميلة هي الشعور معه بسمو الفوز بعد الجهاد. وهذه الانغام تخرج من طاولة خشبية بسط عليها الموسيقي اختراعه الذي سيعرضه بعد اسابيع قليلة على البيروتيين فيعزف امامهم الالحان الشرقية على البيانو المعروف فيرون النقص فيه ثم يعزف الالحان نفسها على الآلة التي اخترعها فيظهر الفرق جليا واضحا.

وقد اهتم ارباب الفن في باريس لهذا الاختراع يوم سافر الاستاذ وديع في صيف 1919 الى باريس وعرض فكرته على صاحب معمل بلايل الذي كلفه ان يطلعه على كل ما يجد لديه ووعده بصنع البيانو العربية حالما يتم اختراعها.
وليس صاحب معمل بلايل بالغربي الوحيد الذي يعرف قيمة هذا النابغة اللبناني، فقد سبق الاستاذ لافينياك الشهير وكتب عنه سطورا جميلة هي عبارة عن نبوءة تمت اليوم. وفي الاسطر التالية شيء من هذه المراسلة القديمة التي تدل على اقرار الغربي للشرقي بالنبوغ.

قال الاستاذ لافينياك:

عندما اتاني وديع صبرا سنة 1894 لم يكن يعرف كلمة من اللغة الافرنسية او علامة من العلامات الموسيقية. والحق يقال انني لا اعلم كيف توصل الى فهم الدروس التي كنت القيها على صفي. على ان نجاحه كان غريبا في بابه فقد كان يتعلم بسهولة نادرة وظهر لي ان الموسيقى شيء غريزي فيه.

واليوم اصبح اصيلا في علم الايقاع وقد برهن مرارا عديدة على مقدرة في التأليف . فهو موسيقي كامل الاوصاف وليس هذا كل ما يقال عنه فهو ممتاز بفضائل سامية وبخلاق رضية وقد عرف ان يجعل نفسه محبوبا من كل رفاقه ومن كل اساتذته. اما انا فاسر لانني ارى فيه – ما عدا التلميذ البارع- الصديق الحقيقي وانني له كذلك.

وكتب الاستاذ نفسه في احدى المجلات الموسيقية ما يأتي:

ان ما يجب الفات النظر اليه هو مقدرته الفنية المضاعفة. فهو الموسيقي الوحيد الذي يعرف الفن الغربي والفن الشرقي في وقت واحد.

اما مواهبه الموسيقية فلم ارها في احد من ابناء الشرق. لقد قدم فرنسا فتى وتعلم فيها الموسيقى الغربية على انه لم يهمل موسيقى بلاده فهو يسافر من حين الى آخر الى وطنه ويدرس فيه الموسيقى الشرقية ولولا التوازن المتين في قواه العقلية لما نتج عن هذا الدرس المختلط سوى الاضطراب والتعقيد. على ان وديع صبرا قدر ان يملك ناصية الفنيين في وقت واحد، فبينما هو يشتغل في تعميم الموسيقى الاوروبية في بلاده نراه في باريس يشتغل بدون ملل بين ارباب الفن ليحبب اليهم الموسيقى العربية ويكشف لهم مخبآتها.

ويلذ لي ان اصرح ان وديع صبرا هو استاذ ذو مكانة سامية فهو يكاتب ويتكلم لغتين من لغات الموسيقى مختلفتين عن بعضهما كل الاختلاف ويفهم جمال الاثنتين على حد سواء. وهذا حدث مفرد في تاريخ الفن.

هذا ما يقوله عن وديع صبرا كبير من كبار الموسيقيين في الغرب. ويلذ لي في هذه الفرصة ان انشر هذه السطور ليصير ( للانبياء شيء من الكرامة في وطنهم).