Pierre Chedid

زاوية مبدعون من لبنان/ ك1/2018 مقابلة مع الفنّان بيار شديد - حاوره أ. د. لويس صليبا

بيار شديد فنّان لبناني أصيل. ومسيرته في دنيا الرسم والنحت طويلة ومثيرة، تنقّل فيها من مدرسة إلى أخرى حتى كوّن لنفسه مدرسة خاصّة ومميّزة. وموهبته التي ظهرت منذ الصغر قادته من ضيعته الصغيرة شامات/قضاء جبيل إلى عواصم الفنّ الكبرى: باريس وروما وإسبانيا وألمانيا وغيرها. درس في الأولى، وعرض في الثانية وغيرها. طرق أبواب العالمية فانفتحت بوّاباتها الموصَدة بوجه لوحاته المبدعة: معارض وغاليريات كبرى تستضيف أعماله.

كلاسيكيّ في نشأته الفنّية وطبعه. ولكنه بالمقابل لم يترك مدرسة أخرى إلا وانخرط في تجربتها! وهكذا انقسمت مسيرته إلى حقبات عديدة: المرحلة الخطوطية، الدائرية، التجريدية، فالعمودية الأفقية...وبقي فيها كلّها لا يشبه إلا نفسه!

وله كذلك في الفنّ المقدّس ورسم الأيقونات المسيحية صولات وجولات. وأيقونته "القديسة رفقا" التي اختيرت واعتمدت من بين أكثر من مئة لوحة أخرى تشهد له بالتفوّق والريادة في هذا المجال.

ولهذه الأسباب وغيرها نال جوائز محلّية وعربية وعالمية عديدة: الجائزة الأولى بين الفنّانين العرب 1990، درع الإمارات العربية للفنّانين التشكيليين 1990، جائزة سعيد عقل 2001، شهادة تقدير من الفاتيكان على تحفته الفنّية "القدّيسة رفقا" مع هدية خاصّة من البابا يوحنا بولس الثاني. وعشرات الجوائز الأوروبية والعربية، وله ثلاثة أعمال في متاحف إيطاليا، ومئات اللوحات الموزّعة في جميع أنحاء العالم.

دخلنا إلى محترفه في عمشيت/جبيل فطالعتنا لوحاته المبدعة: القداسة إلى جانب العري، وكلّ يعبّر، على طريقته، عن قدرة فائقة على الخلق، وكلّ يمجّد، بأسلوبه، الخالق المبدع الأول ويُدخلك في رهبة الفنّ الأصيل وقدسيّته. براعته في رسم الأجساد العارية تذكّرك أن الجنّة الأولى، أو جنّة عدن لم تحوي من الإنس سوى جسدين عاريين لأبوينا الأوّلين. وعريهما كان جزءاً من قداستهما. وعندما سقطت هذه القداسة بسقوطهما في التجربة عندها فقط تحوّل العري من قداسةإلى...فضيحة، فشعرا بوجوب ستره!

وفي هذا المَرْسَم، ووسط هذه اللوحات العابقة بأريج القداسة...والإثارة بمختلف أنواعها دار بيننا حوار طويل نورد في التالي أبرز ما جاء فيه.

*س: تقول: "اللوحة ليست سوى لغة أو رسالة أعبّر من خلالها عن حالة أعيشها. فأنا أؤمن أنّني عابر سبيل على هذا الكوكب أسجّل انطباعاتي عن الطبيعة والإنسان الذي يحيا فيها".
-هل ترى أن الفنّ عملية تعبير عن اختبار داخلي؟ أم أن ممارسته هي بحدّ ذاتها تجربة واختبار؟

ج: لا يستطيع الفنّان التعبير عن انطباعاته الداخلية ما لم يُتقن لغة التعبير سواء كانت باللون أم بالكلمة... وما يميّز الفنّان عن غيره هو هذا المخزون الثقافي لمفهومه لذاته وللوجود، ثم كيفيّة ترجمة هذا المفهوم بأسلوب تعشقه العين. وهذا يرجع إلى المران والخبرات والتقنيّات التي اختبرها في مسيرته الفنّية.

-أنت تعبّر بالشكل واللون، وآخرون يعبّرون بالنغمة أو بالكلمة أو بالصوت...فأية طريقة هي برأيك الأقرب إلى فهم المتلقّي، والأبقى؟

ج: الإنسان مركّب من حواسّ خمس وإذا خُيّرتُ ما أفضلها لاخترتُ طبعاً حاسّة البصر، فهي الأغنى بين الحواسّ من نواحي الإدراك والمعرفة. وهذا ما ثبُت ولمسناه عبر التاريخ من الإنسان الأول الذي ترك رسومه على جدران المغاور، ومن الحضارات القديمة كالبابلية والفرعونية والإغريقية والرومانية وغيرها، وقد بقيت آثارها شاهداً حيّاً على أدقّ التفاصيل في حياة بُناة هذه الحضارات وذلك من خلال مجسّماتهم النحتية أو تصاويرهم ورسومهم. فالصورة بالنسبة إليّ خير دليل على زمنٍ مضى ونعاينه اليوم. كما أن الفنّ الراهن هو تسجيل للأجيال المتعاقبة التي تأخذ منه العِبَر.

-هل ترى أن الرسالة التي وددتَ أن تبعث بها من خلال لوحاتِك قد وصلت؟

عندما أجسّدُ عملاً فنّياً لا يدخل في اعتباراتي سوى أدائه على أكمل وجه بما أوتيتُ من معرفة وخبرات وتقنيّات وجماليّات. ولا يمكن لأي عمل فيه هذه المواصفات إلا أن يبقى خالداً عبر الزمن.

وهل لديك المزيد من الرسائل؟
الرسائل لا تنتهي. أنا اليوم غير الأمس! وغداً غير اليوم. فكلّ لحظة لها انطباعاتها وحيثيّاتها ومشاعرها ومناخها، ولا تنتهي هذه الرسالة إلا عندما ينتهي صاحبها.

*س: تقول عن الفنّ ورسالته في زمننا: "في الكون إيقاعٌ لا يمكن للإنسان أن يتخطّاه مهما بلغت درجة تطوّره التكنولوجي. وأرفض التكهّن بإفلاس الفنّ في زمن العولمة، وأعتبر أن الفنّ يتطوّر مع تطوّر الفكر البشريّ، وليس حاجة وقتيّة في زمن ما".
-هل ترى أنه كان لوسائل التواصل الحديثة أثرٌ سلبي على الفنون التشكيلية كما هي حال المسرح والأدب، أقلّه من الناحية التسويقية؟

ممّا لا شكّ فيه أن وسائل التواصل الحديثة قد أثّرت على كلّ الفنون واتّجاهاتها. سواء كان ذلك من ناحية الحضور، أم من الناحية التسويقية. وذلك يعود إلى التطوّر التكنولوجي الكبير الذي فتح نافذة في كلّ بيت على الصغيرة والكبيرة ممّا يجري على هذا الكوكب وهذا ما وفّر على المتلقّي تكبّد مشقّة المواكبة الميدانية لأي نشاط ثقافي ومعاينته وجهاً لوجه، فاكتفى بمشاهدته من منزله دون أن يكلّف نفسه العناء والتعب.

-هل تطال العولمة مضمون الفن، أم يبقى أثرها برأيك مقصوراً على الشكل؟

الإبداع والجمال يبقيان عنواناً رئيسيّاً عبر الأزمان، لكن قواعد اللعبة تتغيّر. وهذا ما لمسناه تاريخيّاً، لا سيما عندما ظهرت المدرسة الانطباعية إذ فجّرت ثورة كبيرة زلزلت المفاهيم التي كانت سائدة في تلك الحقبة ممّا اضطّر القيّمين على الفنون التشكيليّة أن يخصّوا هؤلاء الجماعات التي اعتُبرت من الشاذّين بصالات عرضٍ سمّيت "قاعات المرفوضين". وتلت هذه الثورة ثورات عديدة منها التكعيبية والسوريالية والتجريدية والمستقبلية والوحشية وغيرها من المدارس التي بَلْورت مفاهيم جديدة لشكل الإبداع والجمال. والإنسان بطبعه توّاق إلى التغيير والتجديد، وإلا لما كان لنا هذه الحضارة التي تتجدّد كلّ لحظة، وتغيّر مفاهيم كانت سائدة ومسلّم بها. والخلاصة فإنّني أعتقد أن ما يتغيّر هو الشكل، وليس المضمون. وأعني بالمضمون حبّ الإنسان الدائم للإبداع والجمال.

-هل تلاحظ تراجعاً في الاهتمام بالفنون التشكيلية في زمننا؟

هناك تراجع ملفت عند الجمهور، وهذا يعود إلى المستوى الذي انحدر بصورة دراماتيكية إذ أصبح أيّ شخص بمقدوره أن يضرب ألوانه على القماشة كيفما جاءت أن يسمّى فنّاناً. وتُعرض لوحاته تحفاً فنّية وبأغلى الأسعار. وهذا ما ساهمت به الغاليريات ودُور المعارض ووسائل الإعلام. إذ أصبحت هذه كلّها دكاكين ترتزق غايتها المال، والمال فقط. ممّا أثّر تأثيراً سلبيّاً على محبّي هذا النوع من الفنون ومتذوّقيه. فاختلط الحابل بالنابل وتشوّش فكر الكثير من الناس فحاروا في التمييز بين الصحّ والخطأ وعجزوا عن التفريق بين الجيّد والهابط من الأعمال الفنّية لا سيما في ظلّ كثرة العناوين واختلاف التيّارات وأهدافها وأساليبها المشعوذة والغريبة والتي لا ترسو إلى أي ميناء تريح العين والعقل. وأنا لا أنكر أن هناك نقّاداً كباراً منهم من دافع دفاعاً شرساً عن هذه المدرسة أو تلك، ومنهم من أسقط المدارس الأخرى، فنشب خلافٌ كبير بين النقّاد انعكس على الجمهور ومتابعي الحركة الفنّية وتسبّب بضياع البوصلة وأدخل الجمهور في حالة ضبابية لا تركن إلى مقياس أو قاعدة يُبنى عليها الذوق السليم. فبتنا نرى عملاً سخيفاً لا يتطلّب أي مجهود فنّي أو إبداعي أو تقني يباع بملايين الدولارات. وإنني على يقين من أن هناك مافيات عالمية غايتها ضرب الذوق العامّ وخربطة المقاييس لتفريغ الشعوب والثقافات من مفاهيم جمالية تربّت عليها، وبَنَت كل حضاراتها على أساسها. ولا أقصد هنا أنّني ضدّ المدارس الحديثة، بل أنا ضدّ استغلال هذه المدارس وتسخيفها واللعب على مضمونها الفلسفي والجماليّ.

*س: تقول عن الغاليريات ودور الفن بحسرة: "يؤسفني أن تكون المعارض قد تحوّلت من الحدث الثقافي الفنّي إلى دكاكين رخيصة"
-إلى ماذا يعود هذا الانحطاط برأيك؟

اختلفت في زمننا الحاضر المفاهيم والأهداف والقيَم، وأصبحت الغاية الأولى والمثلى هي عبادة المال وكسبه ولو على حساب أي شيء سياسيّاً كان أم طبّياً أم تعليمياً أم غذائياً... ولم يستثنِ هذا الوباء الجسم الفنّي، فكم بالحري الغاليريات ودور العرض!!

-هل هي حالة مقصورة على وطننا، أم أنك ترى أنها تعمّ بلداناً أخرى؟

إنها موجة عالميّة وراءها أصحاب رؤوس المال الكبار عالمياً، إذ يستطيعون أن يسقطوا ما شاؤوا ويرفعوا أعمالاً مهما كانت ساقطة، فتُسلّط الأضواء عليها، وتُدفع أثمانٌ خيالية لا يستثيغها العقل البشري! وما هذا إلا الضربة القاضية لكلّ الجهود والإبداعات التي ابتكرها الفنّانون في مسيرة حياتهم الفنّية بدءاً من الجامعات ووصولاً إلى ما حقّقوه من تطوير خبرات وأساليب فنّية. وقد أثّرت هذه الموجة بقوّة على مسار الحركة الفنّية في لبنان. فتناولها الكثيرون، ولا سيما الدخلاء على الفنّ، ومشوا في ركابها واعتبروا أن ما يقدّمونه هو ذروة الإبداع والتطوّر. فمفاهيم تيّارات كهذه لا صلة لها بالفن لا من قريب ولا من بعيد، وهدفها الأساسي ضرب الفنّ بكلّ مفاهيمه وأبعاده وأهدافه.

*س: تقول عن النقد الفنيّ: "لا أرى اليوم نقداً حقيقيّاً للأعمال الفنّية في لبنان، بل مجرّد صحافة تكتب وفقاً للمعطيات المادّية"
-هل ترى أن النقد الفنّي أصبح في لبنان مجرّد عمل نفعيّ مأجور؟

أذكر في فترة الستّينات والسبعينات عندما كان يصدر كتابٌ لأديب أو شاعر، أو يُقام معرضٌ لفنّان أو تُعرض مسرحية لكاتب، كانت أقلام الصحافة والنقّاد تتزاحم بقوّة فتملأ صفحات الجرائد بتقييمها ونقدها بمنهج علمي وموضوعي إشادة بها أو نقضاً لها من دون أي اعتباراتٍ أخرى. وهذا ما دفع الحركة الفنّية إلى خلق الجديد والمنافسة على الإبداع في كلّ الميادين...

-هل ترى تراجعاً تدريجيّاً لمستوى النقد منذ بدأتَ مسيرتَك الفنّية؟

ما نحن فيه اليوم صورة مختلفة كلّياً عن ذاك الزمن الذهبي الجميل. فالأقلام اليوم لا تكتب، ولا تسلّط الضوء على أي عمل فنّي من دون المعيار المادّي وحجمه!

-هل انحطاط النقد الفنّي جزءٌ من انحطاط ثقافيّ واجتماعيّ عامّ؟

لا أميل إلى تسمية هذه المرحلة التي نمرّ فيها "مرحلة انحطاط". إنها مرحلة غيّرت الكثير من ثقافتنا وقناعات تربّينا عليها وألفناها. وإني لعلى قناعة أن كلّ حقبة زمنية مرّت عبر التاريخ قد قلبت معادلاتٍ ومفاهيم.

- وهل من سبيل للخروج منه برأيك؟

ما نحن عليه اليوم ليس إلا صورة عن هذا المشهد الذي لا ينتهي. والإنسان سائرٌ إلى الأمام، وحده التاريخ يحدّد إذا ما كان عصرنا هذا عصر انحطاط أم تطوّر.

*س: تقول عن فنّ رسم الوجوه: بورتريه Portrait الذي تمارسه منذ بداياتك: "الهدف ليس رسم الخطوط في البورتريه أو الوجوه أو الجسد، بقدر ما هو إظهار وجدان الباطن للشخص الذي يُكسب اللوحة روحاً تستمرّ بها عبر الزمن"
-كيف يمكنك سبر أغوار الوجدان الباطني للشخص كي تنفخ لوحتك بروح تؤمّن لها الاستمرار؟

كلّ الوجوه لها أحجامها وخطوطها ومقاييسها وملامحها المميّزة. فإذا نجح الرسّام برسم هذه المعالم فهو يعطيك شكل الشخص فقط. أما أن تغوص بوجدانه الباطني، وتُظهر روحيّة شخصيّته فهذا يعود إلى مهارة عالية في علم التشريح. وعضلات الوجه تتأثر تأثراً دقيقاً بنفسيّة الشخص. فكلّ انفعال نفسي له مدلوله على الوجه، فأدقّ انفعال يحرّك خطوطاً دقيقة في الوجه لا يقرأها إلا من يملك الحسّ العالي إلى جانب خبرته في علم التشريح، ومعرفة تجسيد ونقل أدقّ التفاصيل إلى اللوحة. وهذا يتطلّب مهارةً وخبرةً عميقة. ثم إن الأمر ليس محصوراً بالخطوط فقط، بل باللون الذي يلعب دوراً كبيراً في نقل أدقّ المشاعر والأحاسيس.

-إلى أي مدى يتيح تجاوب الشخص الذي ترسمه لك النجاح في عملك؟

طبعاً يساعد الشخص الموديل في إنجاح العمل، لا سيما عندما يعرض وجهه للفنّان كما يريد أن يشاهده في اللوحة. هذا أولاً، وثانياً عندما يتناغم مع الفنّان في الحفاظ على تعابير وجهه والزاوية التي يؤخذ منها رسم الشخص.

-هل تكتفي أحياناً برسم بورتريه استناداً إلى صورة دون حضور الشخص المعنيّ؟

أرسم بورتريه عن صورة في حال تعذّر على الشخص الحضور لأسباب معيّنة، أو إذا كان ميتاً. وفي هذه الحال أستند إلى صورة على أن تكون واضحة. ثم أضيف إليها شيئاً من اللمسات الخاصّة لتحسين جوّها ومناخها.

وهل يملك عملك حينها مقوّمات النجاح الذي تطمح إليه؟

طبعاً ينجح العملُ نجاحاً جيّداً، كما الصورة طبق الأصل، مع الإضافات التي ذكرتها. ويبقى أنه من الأفضل عندي أن يكون الشخص حيّاً أمامي. فبهذا أستطيعُ اختيار الزاوية والضوء والظلّ كما أراه مناسباً مع دراسة الوجه من كلّ الاتّجاهات.

*س: تقول عن المرحلة الدائرية في مسارك الفنّي: "على الرغم من أنّني لم أكن أرى في عمق الأجسام في الطبيعة وأشكال الكواكب والنجوم والمجرّات وحتى الذرّة إلا حقيقة واحدة هي دائرية الشكل...إلا أنّني كنتُ أتساءل دائماً ماذا بعد الدائرة؟ وقد أرهقتني هذه المرحلة كثيراً، لأن إيقاع حياتي كان بعيداً عن الواقع المعيوش المألوف"
-هل وصلتَ إلى جوابٍ عن سؤالك: ماذا بعد الدائرة؟ وما هو؟

صرفتُ فترة طويلة من عمري تمتدّ إلى نحو اثنتي عشر سنة في البحث الفنّي والعلمي عن الدائرة وعن سرّ هذا الكون حيث جميع مكوّناته كرويّة من أصغر عناصره إلى أكبرها. والحافز الأكبر الذي دفعني للغوص في هذا المجال هو أنّني شاهدتُ فيلماً وثائقياً روسيّاً يعرض إصبعَ إنسانٍ كُبّر ملايين المرّات حتى بان لنا عالماً غريباً، وأجساماً كرويّة يبعد بعضها عن بعض بُعد النجوم والكواكب عن بعضها! فأثارني هذا المشهد، وأيقنتُ أن ما أراه في عمق هذا الإصبع هو صورة مصغّرة عن شكل هذا الكون الخارجيّ. فلو افترضنا أنّنا نعيش داخل هذا الإصبع وعلى ذرّةٍ من ذرّاته ونظرنا إلى الذرّات الأخرى لوجدنا مسافات شاسعة تفصلنا عنها، وهل كنّا أدركنا أنّنا داخل إصبع؟! فعكستُ الصورة إلى سرّ هذا الكون العجيب، وقلتُ من يستطيع أن ينفي أن هذا الكون ليس بجسمٍ حتى نستطيع تخيّله أو تحديد معالمه لمحدودية إدراكنا وحواسّنا، وأن كلّ هذه النجوم والكواكب والمجرّات هي ذرّات هذا الجسم. فمن هذه الرؤية بدأتُ الغوص، وأسميتُها المرحلة الدائرية. وقد أتعبتني كثيراً كما قلتُ، وأبعدتني عن واقعي المحسوس والمعاش.

-لماذا أخرجَتْك هذه المرحلة عن الواقع المألوف؟

شغفي وحبّي ورغبتي بمعرفة معنى وجودي في هذا الكون وفهم نفسي وكسر طوق المحدودية التي أنا عليها، لذلك أطلقتُ العنان للمخيّلة وكلّي ثقة أن كلّ ما يجول في الخيال هو الحقيقة التي لم نصل إليها بعد!

-أي أثر تركَتْ هذه المرحلة فيك وفي تطوّر مسارك الفنّي؟

كان لهذه المرحلة تأثير كبير فيّ شمل كلّ الأصعدة: إن من الناحية الفنّية أو الفلسفية أو الدينية أو العلمية. وانعكست على مسار حياتي اليومية فاختلفَت نظرتي ومفهومي للوجود والإنسان وكلّ ما هو محسوس وملموس، وكذلك مفهومي للحياة والموت. أما من الناحية الفنّية فقد أغنت مخزوني الثقافي وشقّت لي طرقاً جديدة في الفنّ وأغنتني بالتقنية والمضمون واللون.

*س: تقول عن المرحلة الأفقية العمودية في مسارك الفنّي: "الأفقية تمثّل الحياة التي نعيش في إيقاعاتها وتفاصيلها بألوان الطبيعة، فيما تمثّل العمودية الحالة الروحانية والشفافية والانعتاق من الواقع. ويمثل الترابط بين الأفقية والعمودية ترابط العالمين المادّي والروحاني".
-كيف جسّدتَ هذه الرؤيا في لوحاتك؟

إثر المرحلة الدائرية تساءلتُ لماذا أنا على هذا الكوكب وكلّ تفكيري واهتمامي خارجه؟! فأدركتُ حينها أن لي دوراً أساسيّاً على هذه الأرض وإلا لما كان من سببٍ أو معنى لوجودي هنا. فكان تحوّل كبير من المرحلة الدائرية إلى نهج جديد أسميته العمودية والأفقية. فالأفقية تمثّل الأرض التي نحن عليها، والعمودية هي كلّ ما ينطلق من الأرض نحو الفضاء. فاختصرتُ الطبيعة بما فيها من ألوان غنيّة فاتنة متضاربة بشكل مكثّف سميك يجسّد المادّة والعمودية نورانية رقراقة تمثّل الانعتاق والتجلّي من المادّة إلى العالم الروحي.

-إلى أي مدى عبّرَتْ اللوحاتُ العارية من ناحية، واللوحات المقدّسة من ناحية أخرى عن هذا التضادّ بين الدنيوي والروحانيّ؟

-لا أرى تضادّاً بين العري وبين الأمور الروحيّة، وإنما تكمن المشكلة في نظرة المرء إلى هذه الأمور. والعري، أكان العاري رجلاً أم امرأة أجمل خلق الله. فأجمل الجمال موجود في الطبيعة، والله جمال. وكيف تنظر أنت إلى هذا الجمال، فهذا هو المهمّ. لذلك سمح الفاتيكان لـِ ميكال أنج أن يرسم العري في كنيسة سكستين.

-هذه الرؤيا هل هي نتاج نظرة فلسفية عامّة إلى الكون، أم هي مدخل لفهمه من هذه الزاوية؟

-ليست هي نظرة فلسفية، بقدر ما هي معادلة منطقية فكري وروحيّة.

*س: تسمّي المرحلة الراهنة من فنّك "الفنّ التفسيري"، وقد سعيتَ فيها إلى تطويع التجريد لخدمة الكلاسيكية، وراهنتَ كما يقول عنك أحد النقّاد: "على قدرتك على عقد زواج كاثوليكيّ بين الكلاسيكية والتجريد".
-إلى أي مدى تشعرُ اليوم أن رهانك هذا قد نجح؟

-بالنسبة إليّ فأنا أتعاطى مع الإيقاع والظلّ والضوء واللون سواء كان ذلك بالكلاسيك أم التجريد، أم أي تيّار آخر. وقد فرّقتُ بين التجريد والكلاسيك لتقريب المفهوم لدى المتلقّي كي يستطيع أن يفهم اللوحة ويستوعبها، لا سيما وأن ثمة من لا يقترب من التجريد بدعوى أنه لا يفهمه. وفي الخلاصة، فرِهاني الذي تحدّثتَ عنه قد نجح نجاحاً باهراً.

-هل استقرّ مسارُك الفنّي على "الفن التفسيري" أم أنه مجرّد مرحلة كغيرها وسابقاتها؟

لا أستطيع أن أسمّيها مرحلة، ولا أن أقول أني استقرّيتُ عندها. فكلّ العناصر التي بين يديّ أسخّرها لتخدم الفكرة التي أريدُ أن أوصلها. أنا هنا الآن، ولكنّي لا أعرف أين أصيرُ غداً. وإذا كنتُ قد أمضيتُ حتى يومي هذا نحو عشرين سنة في الفنّ التفسيري فلأنه قد استطاع أن يترجم أعمق مشاعري الباطنية.

-بماذا تردّ على القائلين إن الجمع بين التجريد والكلاسيكي كالجمع بين الصيف والشتاء على سطحٍ واحد؟

أقول لهم ببساطة بل يجتمعان، وقد نجحتُ في جمعهما. بل حتى ومن قال أن الصيف والشتاء لا يجتمعان وقد تمطر أحياناً في تمّوز وآب!؟ فما من عجب، فكلما سما الإنسان بفكره وتعالى وجد الأضداد تتلاقى وتتلاشى.

*س: الفنّ المقدّس هو أحد المجالات التي تفوّقتَ فيها. وتقول في هذا الصدد: "لا أحب فن الأيقونة البيزنطية، لأنها نوع من تشويه الشكل الإنساني Déformation"
-هل يعني ذلك أنك تحبّذ الفن المقدّس الغربي؟ أم أن لك مدرسة خاصّة في هذا الفنّ؟

لا أدّعي أن لي مدرسة خاصّة في هذا الفنّ. وأنا لا أفرّق فيه بين غربيّ وروسي وبيزنطي وشرقي. فالرسالة المسيحية واحدة وغايتها واحدة. فكلّ عمل فنّي يقرّبني من هذه الرسالة، ويسمو بي نحو الخالق أكون من محبّذيه، وأنحني أمامه.

-ألا ترى في حكمك على فن الأيقونة البيزنطي شيئاً من القسوة، لا سيما وأنه كوّن مع الزمن مدرسة انتمى إليها مئات الفنّانين، واستوحى منها حتى فنّانو الغرب؟

لا أُنكر أهمّية الأيقونة البيزنطية تاريخيّاً، بما تحمله من قدسية ووقار وأعرف أيضاً أن مبدعها يحب أن يكون بحالة تقشّف وابتهال ونقاء روحي. وهي ليست بصورة بقدر ما هي صلاة. وقد نفّذتُ عشرات الأيقونات في مسيرتي الفنّية ورمّمتُ الكثير الكثير منها، فهناك أيقونات لا سيما الروسية منها لا يسعني إلا أن أنحني أمامها لما فيها من قدسية وإبداع وعظمة. ولكنّني لا أستسيغ الأيقونة التي تشوّه وجه المسيح والعذراء والقدّيسين كما نرى في أغلب الأحيان.

-ممّا تستوحي الوجوه والأشكال في لوحاتك المقدّسة؟

أستوحيها من مسار حياتهم وسيرتهم الذاتية، ثم من تجربتي الخاصّة بين الناس. بين إنسان متصالح مع ذاته، معطاء، محبّ لأخيه الإنسان، مسامح. وآخر لا يعكس إلا الشرّ والكره والحقد. عندها يغدو من اليسير عليك أن تعبّر عن الخير والشرّ في تعابير الوجه وملامحه.

-ولكنّنا نلمح في بعض رسومك لوجه المسيح ملامحَ من وجهِك!؟

عندما أرسم المسيح أعكس في ملامح وجهه الرسالة التي ناضل من أجلها كي تصل إلينا، فأحياناً المحبّة والحنان يشعّان من عينيه، وأحياناً الألم الذي تحمّله من أجلنا وأحياناً الثائر على الخطأ وأحياناً المتجلّي. فالملامح التي تشبهني تشبه كل إنسان ثائر أو مصلوب على خشبة هذا الوطن المعذّب

-تقول كذلك عن الفنّ المقدّس: "ليس الشكل هو المهمّ، بل أن تضع الإحساس الروحيّ فيه". فهذا الإحساس من أين تستمدّه: أمِن تجربتك الروحية وإيمانك، أم من روحانية من ترسم؟ أم ممّا؟

أستمدّه من تجربتي الروحانية، وتعمّقي بالمسيحية وبالرسالة المسيحية والغاية منها. وأي ملمح أودّ أن أعبّر عنه، فإني أضعه على هذه السكّة وذلك إلى جانب روحانية الشخص الذي أرسمه.

-تنقل عن سعيد عقل قوله عن لوحتك "القدّيسة رفقا" :"نظرتُ إلى هذه اللوحة، فأحسستُ أنّني أريد أن أصلّي". فهل تعتقد أن هذا الإحساس المرهف عنده نتج عن أن عملك في الأيقونة هذه كان في الأساس عمل تأمل وصلاة؟
-نعم وبالتأكيد. فملامح الوجه تنقل المشاعر الباطنية عند الإنسان. فأغرفُ إذاً من النبع الذي غرفت منه القدّيسة رفقا، وأنظرُ كيف ينعكس كل هذا على وجهها.

-ماذا عن عملك في ترميم الأيقونات القديمة، وقد برعتَ في هذا المجال: أيقونة مار جرجس، أيقونة ظهور العذراء، إلخ. فكيف توفّق فيه بين الأمانة لفنّان آخر هو الرسّام الأصلي، وبين إبداعك الشخصي الذي يتطلّب حرّية ما في العمل؟

في الترميم لا يعود للموضوع علاقة بإبداعك الشخصي. بل عليك بالحريّ أن تكون أميناً وحريصاً على نفَس الفنّان في العمل، وتعرف أن تقرأه وتفهم طريقته في التعبير. عليك أن تكون قادراً أن تلبس شخصيّة هذا الفنّان: ماذا يريد أن يعمل هنا وهناك وهنالك. وباختصار عليّ في ترميم اللوحات القديمة أن أتقمّص شخصية الفنّان، وان أمنع نفسي من التدخّل حتى في تصحيح أي خطأ.

*س: تروي عن أستاذك الفرنسي البروفسور Marander أنه قال لك: "أنت ترسم لوحات جميلة جدّاً، ولكنني أريدك أن تعيش العصر الذي أنت فيه، وأن تتنشّق عصرك وتعبّر عنه. عليك أن تدخل في الحداثة".
-إلى أي مدى أثّرت نصيحة أستاذك فيك؟

-صعب عليّ بداية أن أعمل بهذه النصيحة، واستمرّيتُ على هذه الحال حتى دخلتُ يوماً إلى متحف اللوفر ورأيتُ لوحة رسمها Jean Fortrier، وهي كناية عن ضربتين بالطبشورة بلون أزرق، وفوقها ثلاثة خطوط بالرصاص. حرتُ في هذه اللوحة، وقرأتُ لاحقاً أنها كانت طريقته في التعبير عن هول المأساة التي عاشها في الحرب، فهو أراد أن يظهرَ أنه لا يستطيع أن يعبّر عن مشاعره في ظلّ هذا الوابل من القنابل والانفجارات. وقد أثّرت فيّ هذه اللوحة لأهمّية الحدث وفتحت لي أفاقاً جديدة لفهم ماهيّة الفنّ الحديث وصدق الفنّان بترجمة أدقّ المشاعر والانفعالات حتى في أخطر الظروف.

-وكيف وضعتَ كلّ هذه المؤثّرات موضع التنفيذ؟

عندها بدأت أدخل في عالمٍ آخر من مفهومي للفنّ. وبين المزح والجدّ كانت هذه المرحلة أهمّ مرحلة في تطوّري الفنّي، وهي التي أوصلتني إلى المرحلة الدائريّة.

*س: تقول عن تجربتك الفنّية: "الفنّ يضعك في هذا البحر، ويجعلك تفتّش عن معادلة جديدة. وقد تمرّ بفترة ركود، ووتوقّف عن البحث. ولكن الغاية ليست أن تسوّق وتبيع، بل أن تكتشف ذاتك".
-إلى أي مدى كان الفنّ عندك تجربة روحية ومسار تطوّري ذاتيّ؟

-الفنّ كان دوماً عندي تجربة روحيّة ومساراً تطوّرياً ذاتيّاً لفهم ذاتي.

-كونك تعيش من فنّك ألا يجعلك هذا الأمر تكرّر ذاتك في بعض اللوحات بهدف الارتزاق والبيع؟

لم أتعاطَ وإن لمرّة واحدة مع فنّي بخلفيّة تجارية، ولو فعلتُ لكنت صرتُ رجلاً ثريّاً. لم أساير مرّة واحدة بفنّي إرضاءً لمشترٍ، وعندي أمثلة عديدة على ذلك، وغالبيّة متذوّقي أعمالي يعرفون ذلك عنّي.

*س: تقول عن أهمّية الكلاسيكية: "لا أؤمن على وجه الإطلاق بفنّان يعمل على الفنّ الحديث، من دون أن يمتلك المبادئ الأساسية للرسم الكلاسيكي الذي يجسّد الطبيعة المادّية وجميع كائناتها الحيّة".
-هل ترى أن التمرّس بالكلاسيكية هو المدخل الضروري والإلزامي لاحتراف الفن والبراعة فيه؟

-بالتأكيد لا بدّ من التمرّس بالكلاسيكية فهي مثل دو ري مي في الموسيقى، ولا يمكن أن تتقن الموسيقى من دون أن تعرف عن كثب درجات السلّم الموسيقي. ولكن ليس كلّ من يرسم لوحات كلاسيكية يصير فنّاناً كلاسيكيّاً.

-وما جدوى الالتزام بقيود الكلاسيكية إذا كان الفنّان سيعمد وبأسرع وقتٍ إلى كسرها؟!
-لا اعتقد أنه يكسر قواعد الكلاسيك عندها، بل هو يعمد بالأحرى إلى الاختصار والاختزال. وأنت لا تستطيع أن تختصر شيئاً ما إذا لم تكن قد امتلكته كلّه. ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن التجريد عالم لم تألفه تماماً بعْد ثقافتنا الفنّية!

*س: تقول عن وطنك: "لبنان هذا البلد المسالم الذي لم يصدّر عبر تاريخه إلا الفكر والمعرفة إلى العالم". وتضيف: "يكفينا فخراً أنّنا الشعب الوحيد الذي لم يستعمر دولة أخرى، وكانت رسالتنا دوماً الحب والجمال والفكر".
-أي أثر كان لوطنك وطبيعته في فنّك؟

في كلّ سفراتي خارج وطني بقي أمرٌ يشدّني إلى هذا البلد وهو ضيعة جدّتي لأمّي: إنها قرية الدوق/قضاء البترون. الدوق شدّتني وجعلتني أرى وطني من بعيد لا كسائر الأوطان. والضيعة بالنسبة إليّ هي عنزة جدّتي ودجاجاتها. وقبو ستّي كان سوبرماركت: يحوي العسل والزيت والنبيذ والكونياك، وفيه 15 فخّارة ممتلئة، وكانت تغسل لي وجهي بطاسة فيها صفوة الرماد، وهي تطهّر أكثر من أي نوع من صابون اليوم ومساحيقه. وكنتُ عندما أجلس خارج لبنان أشعر أن نسمات هواء الضيعة تختلف عن أي نوع من الهواء في الخارج. والسكون الذي أخبره في الضيعة يختلف عن أي سكون في الخارج. منجيرة الراعي، والسكون الذي يليها يشعرك أنك قريبٌ من الآلهة، وعلى أرض الآلهة. ما عنى لي في حياتي وفي فنّي هي التفّاحة والسنديانة والمورج وكذلك المحبّة بين أهل الضيعة. عشتُ هذا الزمن الجميل. ولم أشعر بمثله في كلّ دول العالم. وفي كلّ هذه الدول لم أستطع أن ألملم حالي، وأن أكون متصالحاً مع ذاتي كما كنتُ في قُرانا التي عشتُ فيها وتنقّلتُ. هذا كان وطني ولا يزال، وكما قال جبران: "لكم لبنانكم، ولي لبناني" ولبناني واحةٌ من الجنّة النفسية والمصالحة مع الذات وهي ما يعطيك معنى لنفسِك ووجودك... وفنّك

-في أي مقام تضع لبنان مقارنة بالدول الكبرى الصانعة للفنّ أمثال إيطاليا وفرنسا؟

ممّا لا شكّ فيه أن الغرب فتح لي آفاق واسعة وتعلّمتُ منه الكثير على كلّ الأصعدة وأغنى ثقافتي وبلورها في كلّ الميادين وخاصّة في الفنّ والهندسة والإبداع. أما وطني لبنان فكان مهداً للحضارات صدّر الحرف وعلّم الشعوب التخاطب يكفينا فخراً أنّنا لم نعتدِ في تاريخنا على أي شعب. ولا ننسى أيضاً أنه أرض مقدّسة مشى عليها الأنبياء، فميزته تختلف كلّياً عن باقي الدول. وقد لا يستطيع لبنان أن ينافس الغرب فنّياً، ولكنه مع ذلك يبقى مصدر إلهام يعطيك الدفع للإبداع، إنه غذاء روحيّ.

-هل ترى أنّنا شعب يحافظ على تراثه الفنّي ويقدّر مبدعيه؟ ولماذا؟

لا أستطيع أن أجزم أن الشعب اللبناني يحافظ على تراثه. وقد يكون له أسبابه الموجبة التي تمنعه من ذلك. ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن معظم من بقي في لبنانليس النخبة. النخبة هربت، ومن بقي هم بأكثرهمالاتّباعيّون. بيد أنه يبقى عندي إيمان أن الشعب اللبناني هو الأولى بالحفاظ على تراثه ونتاج مبدعيه.

خاتمة

تعدّدت جلساتي مع بيار شديد كي ننجز هذا الحوار، وفي كلّ جلسة كنتُ أشعر أنّني لستُ في حضرة فنّان/رسّامٍ ونحّات بارع وحاذق وحسب، بل أنا أمام فيلسوف في الفنّ: صاحب تجربة عميقة في الحياة والفنّ، وقد تأمّل واستبصر في هذه التجربة ثمّ عبّر عنها بالريشة واللون بأصالةٍ فجاء تعبيره صادقاً ومبدعاً، ويحكي عن غنى في النفس، ورحابة في الرؤيا.

قد تختلف الآراء في بيار شديد وفنّه، ولكن لا يستطيع أحدٌ أن ينكر أنه صادقٌ... وصادقٌ حتى العظم في هذا الفنّ. لا يحابي ولا يساير. فمذ صنع ريشته الأولى، وهو فتى، من شعر أخته سهام، وإلى يومنا هذا الذي غدا فيه فنّاناً ذا شهرةٍ عالميّة تغيّرت أشكال التعبير وتيّاراته مراراً عنده، بيد أن أمراً واحداً لم يتغيّر ألا وهو تفانيه وتكرّسه في معبد الفنّ.

بيار شديد فنّان في حال تغيّرٍ دائم ومستمرّ، وهذه حال كلّ مبدع أصيل، وهو لذلك، ومع كلّ لوحةٍ يتحفك بجديد وبما يستحقّ التأمّل والتبصّر.
فنّه عودة إلى الذات ببُعديها: ذات الفنّان الخلّاق، وذات المتلقّي/المتأمّل، ومن هنا ديمومته، وإمكانات التجدّد فيه.

بيار شديد قيمة مضافة إلى لبنان، ولا سيما إلى الفنّ في لبنان.