ماجدة الرومي بقلم الدكتور جورج شبلي
لقد لَزَمَت الشَّرقَ يَمينٌ لا كَفّارةَ لها في تَرك الجيّد من المَغنى، فما بقيَ إلاّ الأقلّون يُقيمون وحدَهم في هذا الدّيوان الى أن يَغلق. وبين الأصيل والتَّهليل إشراكٌ غدرَ بالأصوات العذبة وبالأنغام الموزونة، وكانت شِدّةٌ غرَّبت صُنّاع الموسيقى وأساطين الغناء. لكنّ الرّوح التي طَرُبَت، جَمَّعت قِواها ولم تستسلم وأعادَت لِجَسَد الإنشاد جزءَه المُحيِي، وكأنّ الشدّة كحلٌ تَرى به ما لا تَراه بالنّعمة.
ماجدة الرّومي عَرَافةٌ ظريفة آتيةٌ من إثنَي عَشَر البروج المُماثِلة للمقامات، وكأنّ صوتَها الصوفيّ يتّصل بالعناصر الأزلية، فيُخضع النَّغمةَ له كما يَخضع الإنسان للكواكب. من هنا، طَبّقَ النّظامُ المقاميّ على الموسيقى عقيدة مَزاج الصَّوت وسُلطته الحَيَّة، فاتَّصفت المقامات بالأحوال، وكان منها مقام النّار ومقام العُشّاق ومقام الحزن والصَّفاء...وبلغَت هذه مع ماجدة درجةً من الإتقان لا نزال نُعجَب بها ونُفتَن. لقد دمج صوت ماجدة، وهو ينبوع نقاوة الألحان، إيقاعات القوافل بنَبرات حركات النّجوم، في نظامٍ يجمع خشوع التَّرتيل الى تَرَنُّح الطَّرَب وما بينهما. وكان في مَداه التَّنغيميّ ذي الفواصل المتعدِّدة، ظاهرةً تُلامِس السَّمع بلا مَلَل، وتُباعِدُ ما بين العاديّ والتَّجاوُز. إنّ القدرة الأدائيّة والقالَب الجماليّ في صوتها رَفعاه الى مرتبة الفنّ الموسيقيّ المُكتمِل، والتي لم يُوَفَّق إليها غيرُ شَبيهي إسحق الموصِلي وابرهيم بن المَهديّ.
ماجدة الرّومي الأَسمهانيّةُ التَّحليق، هي غنوةٌ بديعة لا يمكنُ تَذَوُّقُ ثمرتها إلاّ في معارض الحضارة. فالصَّوت الرَّخيم المُشَبَّع بتِقنيّة الغناء، وكأنّه يكرّس التّراث الحقيقي لرؤوس المَغنى، والذي تناقلته الأجيال وبقيت ماجدة أمينةً لأُصوله. لكنّ المحافظة بالتمسّك بقوالب الإرث لا تعني، بأيّ حال، مُجافاةَ المُعاصَرة وتنكُّراً للإبتكار. فبالرَّغم من تَقيّدها بتقاليد الغناء وتَبَنّي طُرُقه المتوارَثة، حتى لَيُظَنّ بأنّ صوتَها آتٍ من عصر ألف ليلة وليلة، انتمت ماجدة الى مدرسة الحداثة، وأَفردَت لها وقتاً وجهداً جعلاها أكثرَ تحسُّساً لمَوجات التَّجديد، حتى لمع اسمها لمعاناً باهراً. لكنّ لمعانَها هذا لم يكن موسميّاً فما استطال عليه زمانُ الرّكود، وما خضع لعوامل الضَّياع والتَّحريف، وبالتالي، لم يتطلَّب نتاجُها اللّاتَقتيريّ عنايةَ الدّعاية والتَّرويج، ذلك لأنه لا ينتسبُ إلاّ الى تَركة الكِبار.
إنّ صوت ماجدة الغنيّ بالتَّنسيقات الأدائية مُحاط ٌبهالةٍ من القيمة، لأنه يمارس الإنشاد بُغيةَ الإطراب الذي تستسيغه النّفوس. وعندما قُرِعَت له أبواب الفنّ، لم ينغلق على نفسه، بل تعاطى التَحدّي الجريء مع ذاته أولاً، ومن ثمّ مع سواه. والتحدّي هنا لا يعني الصّراع أو المُجابهة، بِقدر ما هو دعوةٌ الى الإتقان. فماجدة غَنَّت لنفسها قبل أيّ أَحد، ولمّا استَطيَبَت رسالةَ حنجرتها الى أُذُنها، أطلَّت، فلم تُطِل عهدَ مَن ثَقُلَ دَورُ الغناء معهم، وأعادت بذلك تدشينَ مِقصَف المَغنى الحقيقي، بعد غَزوٍ ممَّن خلَّفوا فيه أضراراً لا توصَف وتشوُّهاتٍ لا تُحصى.
إنّ صوت ماجدة الرومي "صَدرٌ أعظَم" وليس مملوكاً، فالسَّطوةُ تشكّل جزءاً جوهريّاً من بُنيانه. وهذه، لم يكن لها أن تُفرَض لولا المهارة التي تُعتَبَر أَهمَّ موارد الفنّ الأساسية. إنّ ما غَنَّته ماجدة لَهو قُطَعٌ تزيينيّة لعبَت فيها الزّخارف الصوتيّة لُعبتَها، إن في تَمهيديّاتها أو في تَذييليّاتها أو في مَتنها السِّياقي، بحيث أنّه في الكثير من الأحيان، كان يجري تَكييف الآلات الموسيقية لِتُتابع سُلَّم ماجدة. وما كان لها أن تُوَفَّق الى هذه الرّحلة بين القِمم، لو لم يتوفَّر لها تدريبٌ إتقانيّ على يدِ ملاَّحٍ خبير مُتَشَدِّد، هو والدها الموسيقار حليم الرّومي الذي عملَ على تأصيل الأساس النَّوعي للموسيقى في تلميذته النَّجيبة، في الشَّكل وفي المُحتوى. وقد اكتسبَت ماجدة هذه الميازين الجماليّة بالتمرّس والعادة، حتى قدَّمَت لها الإجادةُ الطَّاعة.
أمّا الطَّبقات التي تشكّل درجات الأصوات، فلا تعثر عليها الآذانُ المُتَدَرِّبة إلاّ في سُلالة المُبدِعين. هؤلاء الذين، ومنهم ماجدة، يتنقّلون بين الفواصل بِسلاسة، ويتألّقون في المَدّات، ويُحلّقون فوق السَّلالم بسهولة وعفويّة في النّظام النَّغَمي، بحيث أنّ شَهقات السّامعين لا تعود تكفي للتَّعبير عن أنفسهم التي تهتزّ حتى أعماقها إبهاجاً وتأثُّراً. ولو زارَنا عُمر بن أبي ربيعة واستمع الى ماجدة، لأَعاد ما قاله في المُغنّية " عِزَّة " : "والله، لقد سمعتُ ما لم أملِكْ معه لا نفسي ولا عقلي". من هنا، نحن مع ماجدة الرومي أمام لغة خاصة لا تقبلُ المقارنة، لأنّ قدرتها الذّاهبة أُفقيّاً وعاموديّاً لا تندمج في النّظام المَعروف اليوم للغناء، حيث يلعب الصَّوت دوراً ثانويّاً، إن لم نَقُل هامشيّاً.
في صوت ماجدة شعائرُ النَّبرة الإبتهاليّة، فاحتفالها الغنائيّ ليس له علاقةٌ بالمسرح بِقَدر ما يُشعرُك صداه وكأنّ جُدران المعابد تُردِّده، ليَصدُق القولُ بأنّ الموسيقى تخدم الله. وكذلك، فإنّ الهندسة المعماريّة في صوتها الكثيرِ النَّغمات، والتي كانت في أساس التَّعبير المُمَنهَج ذي الجُمَل الموسيقية المُوَقَّعة، قادت مُنتخَباتِها الغنائيّة للتَّعريف بجوهر النَّغَم. هذه الثَّروة الصَّوتية التي حازت إجماعَ النُقاد والنّاس، هي ثورةٌ يتَّكِئ عليها التَّفاؤلُ الفنّي السّاعي الى اندفاعة جديدة، أو هي ظاهرةٌ في تَكايا مدارس الصَّوت التي تُكرِّسها مقعداً فخريّاً يُخرِّج طبقةً تتناوبُ غناء ماجدة، وذلك لِنَقل فنّ الغناء من العاديّة الى التَمَتُّع بأوقاتٍ طيِّبة.
النَّفَسُ الوطنيّ لم يكن سائباً خائراً مع ماجدة، لكنّه أَندى حَلقَها ونَضحَ من لُجَج قلبها. وقد زيَّنت الوطن بأنواع الحُليّ من أغنياتها، فحبُّ لبنان فيها مُدَّخَر، ومجلسُها لا يتمّ إلاّ به. إنّ علاقة ماجدة بالوطن فيها شيءٌ من التُّقى، وشيءٌ من الرّوح المُلتَهِب، لذلك تزاوجَ في صوتها الصَّخَبُ والصّلاة. لقد غنَّت لبنان بِسُمُوٍ وإباء، وكأنّه معها نزلَ منزلاً قد أَشرَعت إليه الجَنَّة أبوابها. إنّ الطَّابع المميَّز في نبرتها الوطنية، فيه نَشوةُ الإصطباح برائحة الأرض وإصحاحات البطولة، وفيه حَضٌّ على إسقاط الأقنعة وعلى الإيمان باليوم الثالث. ماجدة، كم كانَ خَجَلُ بيروت عظيماً لو لم تَقُم من تحت الرَّدم، بعد أن دَعَوتِها إليه.
وبعد، يومَ تقول ماجدة الرّومي"أنا اعتزلت الغِناء"، يجب على الفنّ أن يُعلنَ ذلك يومَ حِدادٍ وطنيّ.