Abu Nawas

مقامه الادبي واسلوبه الشعري

مقامه الادبي واسلوبه الشعري

ذكرنا سابقا  انه كان واسع المعرفة متصلا  بحياة عصره الفكرية. وفي شعره ما يشعر باطلاعه على آراء الفلاسفة والمتكلمين. على ان أهم ما يذكر له هنا تبخره في العلوم اللغوية والاسلامية، حتى قال الجاحظ "ما رأيت رجلا  اعلم باللغة من ابي نواس وافصح لهجة مع مجانبة الاستكراه". وقال بعض الرواة "كان اقل ما في ابي نواس قول الشعر وكان فحلا  راوية  عالما ". وقال عن نفسه "ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب غير الخنساء، فما ظنك بالرجال؟ واني لأروي سبعمئة ارجوزة لا تعرف. ولقد تزول دهشتنا واستنكارنا ذلك اذا عرفنا ان اساتذته كانوا من مشاهير العلماء. والمحدثين منهم ابو زيد الانصاري وابو عبيدة ابن المثنى وعبد الواحد بن زياد وازهر السمان ويحيى القطان. ومنهم خلف الاحمر الذي لزمه مدة غير يسيرة. ولم يكتف بذلك بل قصد بادية بني اسد واخذ اللغة عن اعرابها وقد روى عنه جماعة من ادباء ذلك العصر وعلمائه.

اما النظم فيشهد بعلو كعبه فيه كبار اهل العربية. حدث الا مدي عن المبرد قال ما تعاطى الشعر احد من المحدثين احذق من ابي نواس. وحكى ابن الجراح عن ابن عكرمة عامر الضبي عن ابن السكيت ان ابا عمرو السيباني قال: لولا ما اخذ فيه ابو نواس من الارفاث لاحتججت بشعره لأنه كان يحكم القول ولا يخلطه. ولابن الاعرابي وابي عبيدة وابن خالويه شهادة كهذه الشهادة. وذا علمت ان الرواة وعلماء اللغة لم يكونوا يحتجون بما بعد العصر الاموي علمت منزلة شاعرنا في نفوسهم.

وقد نقل عن العتابي قوله: والله لو ادرك هذا الخبيث الجاهلية لما فضلت عليه احدا . ولكي تعرف شيئا  عن نفسية اللغويين في ذلك العصر ونظرهم الى المحدثين ننقل لك عن الحصري القصة التالية.

كان ابو عبد الله محمد بن زياد الاعرابي يطعن على ابي نواس ويعيب شعره ويضعفه ويستلينه. فجمعه مع بعض رواة شعر ابي نواس فجلس، والشيخ لا يعرفه. فقال له صاحب ابي نواس اتعرف اعزك الله احسن من هذا، وانشده شعرا . فقال لا والله. فلمن هو؟ قال الذي يقول

رسم الكرى بين الجفون محيل عفى عليه بكا  عليك طويل 
يا ناظرا  ما اقلعت نظراته حتى تشحط بينهن قتيل

فطرب الشيخ وقال: ويحك لمن هذا؟ فوالله ما سمعت اجود منه لقديم ولا لمحدث؟ فقال لا اخبرك او تكتبه، فكتبه. فقال الذي يقول

ركب تساقوا على الاكوار بينهم كاس الكرى فانتشى المسقي والساقي 
ساروا فلم يقطعوا عقدا  لراحلة حتى اناخوا اليكم قبل اشراق 
من كل جائلة الطرفين ناجية مشتاقة حملت اوصال مشتاق

فقال لمن هذا، وكتبه. فقال للذي تذمه وتعيب شعره ابي علي الحكمي. فقال الشيخ اكتم علي، فوالله لا اعود لذلك أبدا 

وهذه اقصة اذا صحت تدل على تعصب "الأعرابيين" (اي الميالين الى شعر الاعراب)" على المحدثين كابي نواس واضرابه.

وكان اسحق بن ابراهيم الموصلي يتعصب على ابي نواس ويقول: هو يخطىء وكان اسحق في كل احواله ينصر الاوائل، فكنت انشده جيد قول ابي نواس، فلم يحفل به، لما في نفسه. فانشدته

وخيمة ناطور برأس منيفة تهم يدا من رامها بزليل

فكان على امره. فقلت: والله لو كانت لبعض اعراب هذيل لجعلتها افضل شيء سمعته قط.

والغريب ان ما اصاب ابا نواس من تعصب اسحق اصاب اسحق نفسه من تعصب اهل اللغة. وهذا التعصب تجده في كل عصر وفي كل جيل.

فمن كل ما ذكر يؤخذ ان ابا نواس كان من كبار اهل اللغة، وما منعهم من الاحتجاج بقوله الا ارفاثه وانه من المحدثين. وقد وصف اسلوبه الفني بالسلاسلة وبعده عن التكلف. قال محمد بن داود الجراح كان ابو نواس اجود الناس بديهة وارقهم حاشية، لسنا  بالشعر يقوله في كل حال، والردي. من شعره ما حفظ عنه في سكره. ومثل ذلك قول ابن رشيق "لم يكن يؤثر التصنع ولا يراه فضيلة لما فيه من الكلفة وانما يجيء بالشعر على سجيته. وقد انحى ابن عبد ربه على المبرد باللائمة لسوء ما اختاره من شعر ابي نواس، وقال قلما يأتي له بيت ضعيف لرقة فطنته، وسبوطة بنيته، وعذوبة الفاظه. وكل اشعاره الخمريات بديعة لا نظير لها. ونقل ما ذكره الجاحظ في كتاب الموالي من ان ابا نواس اقدر الناس على الشعر واطبعهم فيه. على ان ابن شرف القيرواني يخالف من تقدم ويصف شعر ابي نواس بالضعف وانه نافق عند العوام كاسد عند النقاد.

ومع ما في اقوال هؤلاء العلماء مما يهمنا في درس شاعرنا لا نستطيع ان نعتمد عليها كل الاعتماد، لانهم كثيرا  ما يكيلون الكلام جزافا ، وكثيرا  ما يدفعهم الى القول نكتة في شعر او جمال رصف في عبارة. ولسنا نرى اراءهم - على صحة الكثير منها مستندة الى دراسة نقدية يصح قبولها. فلا بد اذن من الرجوع الى ديوان الشاعر والتحقيق فيه. وقد ظهر لنا منه ان ابا نواس يقف في شعره موقفين متناقضين - موقف المقلد وموقف المجدد. ففي فئة من قصائده يسير على سنن القدماء، حتى كانه احدهم. وفي فئة اخرى ينزع الى التجدد، فينكر الاساليب القديمة، ويذمها ويحاول القضاء عليها. ولنتقدم الى تأييد ذلك بادلة من ديوانه.

الموقف الاول

وفيه (كما ترى في اكثر شعره المدحي والرثائي) يتكلف الاسلوب الاعرابي، فيقف في مدحه على الطلول، ويركب النياق، ويقطع الهواجل، ويأتي بمتوعر الالفاظ، مما يدل على سعة معرفته باوابد اللغة وانه متأثر من محفوظاته الواسعة. وربما كان موقفه هذا هو الذي حمل الشيباني وسواه من علماء اللغة على التنويه بمقدرته اللغوية واحلاله المحل الرفيع بين اربابها. قال من قصيدة يمدح الرشيد:

يا حبذا سفوان من متربع ولربما جمع الهوى سفوان 
واذا مررت على الديار مسلما  فلغير دار اميمة الهجران
انا نسبنا والمناسب ظنة حتى رميت بنا وانت حصان
لما نزعت عن الغواية والصبا وخدت بي الشدنية المذعان
سبط مشافرها دقيق خطمها وكأن سائر خلقها بنيان 
واحتازها لون جرى في جلدها يقق كقرطاس الوليد هجان

ثم يصل على هذه الناقة الى الممدوح ويعدد فضائله

وله من قصيدة يمدح الامين

اقول والعيس تعر وري الفلاة بنا صعر الاعنة من مثنى ووحدان
لذات لوث عفرناة عذافرة كأن تضبيرها تضبير بنيان
يا ناق لاتسألي او تبلغي ملكا  تقبيل راحته والركن سيان

وقال يمدح العباس بن عبد الله بن ابي جعفر المنصور من قصيدة مطلعها - "ايها المنتاب من عفره"

ذا ومغبر مخارمة تحسر الابصار عن قطره
لا ترى عين البصير به ما خلا الاجال من بقره 
خاض بي لجيه ذو جرز يفعم الفضلين من ضفره
يكتسي عثنونه زبدا  فنصيلاه الى نحره
ثم يعتم الحجاج به كاعتمام الفوف في عشره
كل حاجاتي تناولها وهو لم تنقص قوى أشره 
ثم أدناني الى ملك يامن الجاني لدى حجره

ومثل ذلك ارجوزته في الفضل بن الربيع واولها "وبلدة فيها زور"

وهي طويلة يصف ركوبه ورحيله الى الممدوح في عدة أبيات. منها

عسفتها على خطر وغور من الغرر 
ببازل حين فطر يهزه جن الاشر
لا متشك من سدر ولا قريب من خور
كأنه بعد الضمر وبعدما جال الضفر 
وانمج في فحسر جأب رباع المثغر

وكلها على هذا المنوال

فانت ترى في كل هذه القصائد محاكاته للشعراء الاعراب من وصف ناقة او فرس يركبها توصلا  الى اميره. وربما كان يقصد ذلك أحيانا  تعزيزا  لمركزه الادبي بين ادباء ذلك العصر. قال ابن رشيق بعد ان ذكر ان المولد كان يتكلف ذلك ليجري على سنن الاقدمين "وقد صنع ابن المعتز وابو نواس قبله، ومرت معهما في تلك الطرايق ما هو مشهور في اشعارهم

ويظهر ذلك في رثائه لاستاذه خلف الاحمر، ولروايته ابي البيداء الرباحي. فمن مرثاته للاول

لا تئل العصم في الهضاب ولا شغواء تغزو فرخين في لجف
تحنو بجؤشوشها على ضرم كقعدة المنحني من الخرف
ولا شبوب باتت تؤرقه النثرة منها بوابل قصف
غدا، كوقف الهلوك، ينهفت القطقط عن منبتيه والكتف

وفي مرثاته لابي البيداء يقول

هل مخطىء حتفه عفر بشاهقة رعى باخيافها شتا  وطباقا 
او لقوة ام انهيمين في لجف شبيهتيها شفا خطم وآماقا 
او ذو شياه اغن الصوت ارقه وبل سرى ما خض الودقين غيداقا 
او ذو نحائض اشباه اذا نسقت مناسجا  وثنت ملطا  وأطباقا  
شتون حتى اذا ما صفن ذكرها من منهل موردا  فاشتقن واشتاقا 
يؤم عينا بها زرقاء طامية يرى عليها لجين الماء أطراقا  
زار الحمام ابا البيداء مخترما  ولم يغادر له في الناس مطراقا

الى آخر هذه الأبيات وهذا الكلام الاعرابي القح. تأمل ذكره في الرثاء للعفر ترعى الشت والطباق، واللقوة ام الانهيمين في لجف عال، والوبل الغيداق الماخض الودقين والشغرا. تحنو بجؤشوشها على ضرم، والشبوب (الثور) ينهفت القطقط عن كتفه، فترى ان شاعرنا الظريف خرج هنا عن "حضارته البغدادية" الى خشونة البداوة، ولم يكتف بمجاراة الاولين في الفاظهم بل أخذ اخذهم في تشابيههم وصورهم الشعرية. ولا نرى تعليلا  منطقيا  لذلك الا ان نقول ان ابا نواس، على ميله الى الاسلوب الحضري الجديد وعلى كرهه الاعراب وحياتهم، لم يتحرر حالا  من اسلوبهم اما لشدة ما علق في ذهنه من محفوظات الشعر القديم، لو ليثبت للرواة واللغويين مقدرته في اللغة. والذي يطالع ديوانه بتدقيق ويعارض ذلك باراء العلماء فيه يرى متانة النظم وحسن الصناعة في مدائحه ومراثيه، ولكنه لا يراه هناك ذا شخصية شعرية مستقلة - في هذا الموقف من شعره يظهر لنا الشاعر مقيدا  بقيود الزمان خاضعا  لاحكام العادة سائرا   في مجرى "التقليد" العام. وانما ابو نواس ابو نواس في موقفة الثاني.

الموقف الثاني

وهو مجلى عواطفه الطبيعية ووجدانه الحقيقي. واكثر ما يكون ذلك في مجالس اللهو والسرور. وقد صدق اذ قال عن نفسه: "لا اكاد اقول شعرا  جيدا  حتى تكون نفسي طيبة واكون في بستان مؤنق وعلى حال ارتضيها من صلة او وصل او وعد بصلة. وقد قلت وانا على غير هذه الحال ابياتا  لا ارضاها.

فالشاعر الذي يجيء بالوصف الشائق والظرف الساحر، فيجري الكلام من قلمه بلا كلفة ولا تصنع، انما يتجلى لنا عندما يجاري طبيعته، كما يتجلى ابو نواس في خمرياته وملاهيه. هنا يترك التحذلق والتنطس ويرسل عواطفه عبارات رائقة كقوله

اترك الاطلال لاتعبأ بها انها من كل بؤس دانيه 
واشرب الخمر على تحريمها انما دنياك دار فانيه 
من عقار من رآها قال لي صيدت الشمس لنا في باطيه

وقوله

وخمار أنخت اليه رحلي اناخة قاطن والليل داج 
فقلت له اسقني صهباء صرفا  اذا مزجت توقد كالسراج 
فقال فان عندي بنت عشر فقلت له مقالة من يناجي 
اذقنيها لاعلم ذاك منها فابرز قهوة  ذات ارتجاج 
كأن بنان ممسكها اشيمت خضابا  حين تلمع في الزجاج

فشاعرنا في هذا الموقف يخرج عن الطريقة القديمة طريقة الوقوف على الطلول وقطع المفاوز وتجشم الاهوال توصلا  الى مدح المقصود، وعلى ذلك قوله

صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم

ولما سجنه الخليفة على اشتهاره بالخمر واخذ عليه ان لا يذكرها في شعره قال

أعر شعرك الاطلال والمنزل القفرا فقد طالما ازرى به نعتك الخمرا
دعاني الى نعت الطلول مسلط تضيق ذراعي ان ارد له امرا 
فسمعاً امير المؤمنين وطاعة  وان كنت قد جشمتني مركبا  وعرا"

فهو يجاهر بان وصفه الاطلال والقفر انما هو من خشية الامام والا فهو عنده فراغ وجهل"

ولم يكن ابو نواس على علو كعبه في وصف الخمر ومجالسها نسيج وحده في ذلك. فقد تقدمه في الجاهلية والاسلام من وصف الخمر واحوال شاربيها. نذكر منهم الاعشى وعدي بن يزيد، ثم الاخطل والوليد بن يزيد. والذي يراجع اشعار الوليد يرى بينها وبين اشعار ابي نواس من اوجه الشبه ما يحملنا على الحكم بان شاعرنا تأثر بطريقة الوليد. بل قد ذهب ابو الفرج الاصفهاني الى ابعد من ذلك، فقال "انه سلخ معاني الوليد فجعلها في شعره وكررها في عدة مواضع". ولتبيان ما نذهب اليه من تأثر ابي نواس بطريقة الوليد ننقل للاخير الابيات التالية، ونترك للقارى. مقابلتها بالشعر النواسي، وهي على حد قول الاصفهاني تنبىء عن نفسها. قال

اصدع شجي الهموم بالطرب وانعم على الدهر بابنة العنب 
واستقبل العيش في غضارته لا تقف منه آثار معتقب 
من قهوة زانها تقادمها فهي عجوز تعلو على الحقب 
اشهى الى الشرب يوم جلوتها من الفتاة الكريمة النسب 
فقد تجلت ورق جوهرها حتى تبدت في منظر عجب 
فهي بغير المزاج من شرر وهي لدى المزج سائل الذهب
وللوليد اشعار كثيرة في الخمر والغزل تتلمس فيها روح شاعرنا وطبقته من مولدي العصر العباسي.

ومع انصراف ابي نواس للعبث النسائي والغلماني لا نجد له في ذلك من جمال الشعر ما يضارع شعره الخمري: فغزله، على عذوبته احيانا  وظرفه، متخنث ضعيف. ولعله في الغزل الغلماني اصدق عاطفة منه في النسائي، على انه في كليهما لا يجلو لنا غير الغرائز الحيوانية السفلى التي تنم عن تحرق شهواني يصل الى درجة الاسفاف احيانا . وشتان ما بينه في ذلك وبين كبار شعراء الغزل من عذريين وغير عذريين. ففي اشعار هؤلاء. قد تجد ما يثير فيك عواطف النفس، ويريك جمال الحب، ويصور لك المرأة تصويرا  يروقك او يستهويك. اما في غزل شاعرنا النواسي فلا ترى غير جوار متهتكات، وغلمان فاسدين، واوصاف تدل على ما بلغه بعض القوم يومئذ من الانحطاط الاجتماعي.

اما خمرياته فيرغم ما يشوبها احيانا  من سوء المجون- تدل على خفة روح عرف بها ابو نواس في عصره. وقد وصفه بعض معاصريه بقوله "بانه كان اظرف الناس منطقا . مليح الكلمة حسن الاشارة فصيح اللسان عذب الالفاظ حلو الشماثل". حتى قيل ولم يكن شاعر في عصره الا وهو يحسده لميل الناس اليه وشهوتهم معاشرته. ويقرن هذه الخفة الروحية بجمال فني يستهوي القارى.، ويستثير فيه حاسة الطرب والاعجاب.

اتبعه الى حانة وانظر كيف يدخلها مع رفاقه خفية. (والحانات عادة في ضاحية منزوية واصحابها من اليهود والنصارى). ها هو يلاطف صاحبتها، وقد تكون من اسمج النساء، فيداعبها ويسترق منها قبلة او يربت على ظهرها، وفي يده الدنانير يضعها امامها، ويستخفها الى تقديم افضل الخمور المعتقة. ثم انظر كيف يقودك معه الى قبو قديم تحت الحانة فيريك نسيج العنكبوت على الدنان، ثم يريك الخمار وقد ضرب بالمبزل بعضها فخرجت الخمر صهباء مشرقة تطرد الظلام.

فجاء بها زيتية ذهبية فلم نستطع دون السجود لها صبرا

ولست اشك ان الشاعر يصف حوادث واقعية في غراته الخمرية، وان اكن اميل الى الاعتقاد انه احيانا  يخترع الحديث ابهاجاً لزملاته. وفي كلتا الحالين ترى شعر ابي نواس الحقيقي وترى تدفق شعوره الصريح. واليك تلخيص خمرية اخرى توضح من نقصد اليه.

وليلة مظلمة قصدت ورفاقا  لي الى بيت خمار، فاخذنا نسير من زقاق الى زقاق حتى وصلنا اليه وقد هجع هو واهل بيته. قرعنا الباب فاستيقظ مذعورا  وتوجس شرا  من ادلاجنا في مثل تلك الساعة فلم يشأ ان يجيبنا بل:

تناوم خوفا  ان تكون سعاية وعاوده بعد الرقاد وجيب 
ولما دعونا باسمه طار خوفه وايقن ان الرجل منه خصيب 
وبادر نحو الباب سعيا  ملبيا  له طرب بالزائرين عجيب

ثم فتحه هاشا  منحنيا  امامنا، وهو يقول مرحبا  بالكرام. وجاء بالمصباح فقلنا له اسرع لم يبق من الليل الا بقية قليلة. هات لنا خمرك الطيبة

فابدى لنا صهباء ثم شبابها لها مرح في كاسها ووثوب 
فلما اجتلاها للندامى بدا لها نسيم عبير ساطع ولهيب

ثم جاءت جارية بيدها مزهر فاخذت تغني لنا ونحن نشرب. وما زلنا على هذي الحال: كاس تذهب وكاس تجيء، حتى غنت لنا "سرى البرق غريبا  فحن غريب" ففاضت مدامع العشاق منا وامسينا بين مسرور بنشوة الخمر وباك من شدة الهوى، حتى لاح الصباح:

وقد غابت الشعرى العبور واقبلت نجوم الثريا بالصباح تؤوب

ولنسمعه يقص علينا بلسانه الخاص حديث زيارة اخرى الى بعض هذه الحانات، ويصف لنا الخمار وامرأته وميزانها الغشوم وخمرها المعتقة، وكيف حمل الخمر الى رفاق كانوا ينتظرونه في بستان، فاقاموا ردحا  من الزمن يمتعون النفس بين الرياحين بعيدين من اعين الرقباء والحاسدين. قال:

اذا خطرت منك الهموم فداوها بكأسك حتى لا تكون هموم

الى قوله

فشمرت اثوابي وهروات مسرعا  وقلبي من شوق يكاد يهيم 
الى بيت خمار افاد زحامه له ثروة والوجه منه بهيم 
وفي بيته زق ودن ودورق وباطية تروي الفتى وتنيم 
ودهقانة ميزانها نصب عينها وميزانها للمشترين غشوم
فاعطيتها صفرا  وقبلت رأسها على انني فيما اتيت مليم 
وقلت لها هزي الدنان قديمة  فقالت نعم اني بذاك زعيم

وبعد ان تحضر له الخمر من قبو قديم عتقت فيه يقول

فرحب بها من زورق قد كتمتها ومن اين للمسك الزكي كثوم 
الى فتية نادمتهم فحمدتهم وما في ندامي ما علمت لئيم
فمتعت نفسي والندامى بشربها فهذا شقاء مر بي ونعيم 
لعمري لئن لم يغفر الله ذنبها فان عذابي في الحساب أليم

ولو سألت نفسك ما الذي يستحقك في حديث كهذا - حديث الخمر والعبث والمجون الصعب عليك الجواب، ولكنه في الحقيقة مستتر في تضاعيف الابيات - هو هذه الخفة الروحية في الشاعر- هذا الظرف الادبي الذي كان يحببه الى الناس. ولو انه كان غير ذلك، لو كان سمج الروح واللسان، لاستثقلته ولا شمأزت نفسك من استماع احاديثه.