التجربة الشخصية في خوض حالة المشاعر عبر الفنون التشكيلية
التجربة الشخصية في خوض حالة المشاعر عبر الفنون التشكيلية
فوضى، غضب، شوق، هروب من الواقع ثم اليه، هذه ليست مشاعر، هذه هي أدواتي الشخصية أمام مساحة اللوحة البيضاء التي تنظر الي بتحدّ في كل مرة تراني بها، تراها تسألني هل تتجرئين؟
هكذا يبدأ الحوار اللوني بيني وبين اللوحة التشكيلية التي تطرح نفسها بين يديّ، وهو ليس بجديد بل بدأ منذ العام 1999 حين انتسبت الى معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية بعد اصرار على ذلك، وكنت قد بدأت دراستي في كلية العلوم الاقتصادية وادارة الأعمال.
موسيقى فيفالدي، الفصول الأربعة، هكذا تبدأ أول لمسة للونٍ ما، يختاره الشعور المرافق للحالة الآنيّة التي أعيشها. أطرح اللون على اللوحة، ألمسه بيدي دون استعمال أي أداة للرسم، فاذ به ينساب عليها ويسيطر، يأتي لون آخر يواجهه ويحاوره، وهنا يبدأ المشهد ويبدأ الغوص في عملية اللاوعي البشري والانفصال عن العالم الخارجي يرافقه حالة جسدية هي انعكاس لشعور ما زال غير مفهوم، ألامس اللون فتارة أقسو عليه وأبدأ بتجريح الحامل بالأصابع أو الأظافر وتارة أهدأ فألامسه بحنان وانسيابية، وأحياناً أخرى أرفضه فألقى عليه لوناً آخر.
أحمر متلاشٍ عند ضوء بعيد، أخضر مضيء في صراع مع أبيض أو أصفر، أسود مهيمن على جزء كبير يصمد في وجهه اللون الأبيض أو الأحمر... هذه هي كلماتي التي أريد التعبير بها، ربما تنقطع عني لغة اللسان فأواجه الصمت بالحركة واللون. انا لا أختار المفردات التعبيرية في لوحاتي، بل أعيشها في حالة اللاوعي. لا أوجّه عملي ولا أخطط له، بل أتكلم بلغة الألوان وأتواصل مع حالة من الشعور لا أستطيع الكلام عنها فأرسمها، قد تكون خفايا النفس والهروب من الواقع أحياناً، وقد تكون تعلقاً به أحياناً أخرى. صحيح أنني أعطّل مادة العقل عند عملي ولكن التنفيذ الفني التشكيلي ليس دون خبرة تراكمية فنية نشأت بعد المرور بعدة تجارب ودراسات على مدى السنين انطبعت في ذاكرة اللاوعي فأصبحت جزءاً مني.
يستمرّ عزف الموسيقى ويستمرّ الحوار بيني وبين سائر الألوان أجرّدها من الأشكال أحررها من هذا الاطار الضيق الذي فُرض عليها في بعض الأزمنة، أستكمل ما أريد بها من مساحات، وهنا تأتي الاشكالية الكبرى، متى تنتهي اللوحة؟ متى أغسل يديّ من كل هذه الألوان التي كدّستها وأقف كمن يشاهد اللوحة لأول مرة؟ متى أضع اسمي على طرفها وأقول لها لقد خرجتِ مني وأنا انتهيت منك؟ متى تسدل الستارة وينتهي العرض وتتعطل لغة الكلام؟ انها كمن يتسابق في الوصول الى القمة يرافقه تسارع في دقات القلب وشعور بالحماس الى رؤية المجهول. انه الشعور بالاكتفاء الذاتي، لقد تكلّمت وأفضيت أقوالي دون أن ينازعني أحد، دون قيود، دون مجتمع، دون خوف. انها الحياة كما أريدها، نظرتي الخاصة، وجودي وأنانيتي، التي لا أستطيع النظر اليها مباشرة بعد الانتهاء منها، لقد كبّدتني العناء في ولادتها، فلتدعني أرتاح قليلاً ثم أعود لأتأملها، علّني أعرف نفسي.
هي عودة إلى ينابيع الروح، إلى النشأة الأولى التي تحمل الخير، إلى أفراح الحياة، دعوة إلى النفاذ نحو العالم الداخلي الذي جُبل بالحب والدفء والحنان. لطالما كنا أرواحاً مسالمة تهيم في غياهب السماوات، هبطنا فحلّ في الأرض دمار وحروب فهل تخلّى الإنسان عن حب الحياة؟ أما آن لدعوة السلام أن تنتشر منطلقة من القلب؟ أما آن لهذا الجسد أن يستكين؟ هنيئاً لمن امتلك في ذاته أجنحة طائر يطلقه متى يشاء، يلملم أطياف السعادة ينهل من ينابيع السلام ، يحاور ذاته، يبسط أجنحته وسع الفضاء، ثم يعود إلى دفء قلب احتضنه، فيرحل الألم وتُمحى الحدود.