poets-writers

Chibli Mallat

poet and writer

نتذكر "شاعر الأرز" شبلي ملاط

أعترف لشبلي بفضله لا علي فحسب بل على جميع من درسوا عليه. انه أستاذنا الأول: غرس في قلوبنا الشاعرية، أيقظ في نفوسنا الطموح، وفي كل أفق من وطنه زرع قطعة  من روحه! فهو أول من شق الطريق الى الأقطار العربية، وأول من حمل روح لبنان هدية اليها، ذوبها في قصائد راحت ترقص على نغماتها عرائس النيل ويسكر بخمرتها مردة البيان. وهو ما ذهب في رسالة أدبية الا عاد تخفق فوق رأسه ألوية النصر.

بشارة الخوري (الأخطل الصغير)

يعجبني في شعر شبلي ملاط شموخه. فكأن هذا العملاق جسدا  أبى الا أن تكون متطلعاته دوما  الى فوق. يبقى شبلي ملاط، في تاريخ أدبنا، صورة  عن قمم لبنان.

سعيد عقل

كان الأستاذ شبلي يمر في أروقة "الحكمة" كأنه في شموخه أحد أعمدتها، ليس بينه وبين السماء أكثر من شبر. وكان سيد المواقف في زمنه، تنوه به بيروت كلها مثلا  أعلى للشعراء، وينتشر شعره ملء الأفواه وعلى كل لسان. زعيم المجددين كان معلمي شبلي، وأثره واضح في توجيه الأدب.

مارون عبود

شعر شبلي ملاط يصح أن يقال فيه: عينه فراره، وسره استظها ره، وتعريفه تبليغه، وتحليته تسوغه، وروايته رواؤه، ونعته جلاؤه، والاجادة به نفس انشاده، والترنم بمدحه مجرد ايراده.

الأمير شكيب أرسلان

للعربية أفذاذ من الشعراء قلة، أنت أحدهم، فللبنان مفخرة انتمائك اليه.

خليل مطران

كسته الحماسة حلتها فتحكم في شأنها تحكم المالك بملكه. وقد يترقى بها في مدارج البلاغة حتى ليملك عليك اعجابك. تطرب له وهو على المنبر، وقد يرتفع بك حتى ليوشك أن يقودك الى ثورة.

الياس أبو شبكة

شاعر الأرز

ولد في بعبدا عام 1875، ونشأ في كنف شقيقه الأكبر القاضي الشاعر تامر ملاط (1856- 1914).
تابع دروسه في مدرسة "الحكمة" على عهد المطران يوسف الدبس.
انصرف منذ عام 1900 الى العمل الصحافي في جرائد عدة ("الأرز"، "النصير"، "الروضة"،...)، والى التدريس في مدرسة "الثلاثة أقمار" (من تلامذته فيها بشارة الخوري الأخطل الصغير) وفي مدرسة "الحكمة" (من تلامذته فيها: البطريرك بولس المعوشي، مارون عبود، أمين رزق، وديع عقل، لحد خاطر، ميشال زكور، أحمد تقي الدين، ...).
بين 1900 و 1905 أصدر مسرحيات عدة، منها "ألفرد الكبير ملك انكلترا"، "الذخيرة"،....
1908: أصدر جريدته "الوطن" فكانت منبرا  لنخبة الكتاب والأدباء.
1911: دخل الوظيفة العامة في متصرفية جبل لبنان.
1913: مثل أدباء لبنان وسوريا الى مهرجان خليل مطران في القاهرة.
1914-1918: رئيس "القلم العربي" أيام الحرب العالمية الأولى.
1916: تزوج من ماري الياس شكر الله، وله منها: شوقي ووجدي وجورج.
1924: تعين مديرا  لناحية الزوق وتوطدت علاقته الأدبية فيها مع الياس أبو شبكة.
1925: تعين مديرا  لناحية زغرتا وأعاد العلاقات التي ربطت شقيقه تامر بعائلة يوسف بك كرم.
1925: أصدر الجزء الأول من "ديوان الشقيقين" وفيه شعره القصصي ووقفاته الشعرية، وشعر شقيقه.
1927: مثل أدباء لبنان في مهرجان مبايعة أحمد شوقي بقصيدته "فم الميزاب" فلقب شاعر الأرز"، وكرمته بعدها الاسكندرية بمهرجان كبير ألقى فيه خليل مطران قصيدة في مديح الملاط.
1928: كرمه أدباء الشمال في اهدن تقديرا  لوقفته اللبنانية العالية في مهرجان شوقي.
1927 - 1947: مثل لبنان الى عدد من المهرجانات الأدبية في العراق والأردن وسوريا.
1952: أصدر الجزء الثاني من ديوانه، وفيه أيضا  بعض مسرحياته.
1953: اعتكف في بيته وانصرف الى القراءة والكتابة.
1961: غاب في 8 شباط عن 86 عاما ، وأقيم له مهرجان أدبي كبير في قصر الأونسكو نهاية ذاك العام.

الأستاذ ادمون رزق - عمي شبلي بك

شخصيته طبعت حداثتي، فلقائي به من أغلى ذكرياتي. في فرصة عيد الميلاد ورأس السنة من عام 1943، اصطحبني أبي الى مكتبه في جريدة "الحديث"، حيث كان يزوره اصدقاء وزملاء، أدباء وشعراء، صحافيون وسياسيون.

كم أعجبت، ذلك الصباح، عندما أطل رجل فارع القامة، مهيب الطلعة، شامخ الرأس، يعتمر الطربوش، مثل أبي الذي تلقاه بالعناق والترحاب قائلا  لي: "تعال سلم على عمك شبلي بك، معلمي في الخطابة والبيان وقرض الشعر". حنا علي ذلك العم الوقور، وغمرني سائلا  عن صفي ومدرستي؟

أخبرته أني أتهيأ لشهادة "السرتفيكا" في مدرسة "سيدة مشموشة"، وأني أحفظ له قصيدة "خولة بنت الأزور وأخوها ضرار". قال: أسمعني اياها. فأنشدته مطلعها وأبياتها المنشورة في كتابنا المدرسي. ربت كتفي وقبلني مستفهما  عن اسم معلمي، قلت انه الأب "نعمة الله حبيقة" الراهب اللبناني، لقبه "الشاعر المجهول"، وله قصيدة من وحي "معركة العلمين" مطلعها:

أنظروا الصحراء تزكو بلظاها بحر نار أرضها مثل سماها

فأبدى رضاه، وزودني بتحية اليه.

في الغد، فاجأني أبي، لدى عودته الى البيت، باعطائي "ديوان الملاط" للأخوين "تامر وشبلي" مع عبارة اهداء اعتز بها ما حييت: " الى الفتى النجيب ادمون نجل أخي الحبيب أمين رزق".

منذ ذلك الحين، تأسست محبة غامرة في قلب الولد الذي كنت، نحو كبير شعراء الأرز!

مع الأيام، تباركت "العمومة" حتى شملت العائلة كلها، فأمين رزق عم لشوقي ووجدي وجورج وابن عمتهم الشاعر المخول "رفيق البعيني"، الذين كانوا يترددون عليه في بعض السوانح.

مطلع الخمسينيات، بدأت تدريس العربية في "الحكمة" متابعا  دراسة الحقوق، وكان الأستاذ "جورج"، صغير الأنجال و"غرام" أبيه، يعلم مادتي الترجمة والتاريخ، وأشار الى أنه محام ومستشار قانوني، فكان من حظي أن توطدت علاقتي بأبناء عمي، أعلام القضاء والمحاماة، وفرسان الادارة والسياسة.

فجورج، أطال الله عمره، من رموز النزاهة والعدالة.

ووجدي من سادة البلاغة، متألق على المنابر وفي المحافل، وزيرا  ونقيبا  للمحامين، ثم أول رئيس للمجلس الدستوري، جمع صواب الخيار وجرأة القرار.

وشوقي من عناوين الجدارة في الادارة.

لقد تكون لدي اقتناع بأن "بيت الملاط" مسبعة لبنانية في بعبدا، لها زئرة الأسود وصبوة المتيمين، انجاز المتفوقين وابداع الملهمين، الى صلابة الوقفة وكرامة الموقف.

مساء الثامن من شباط 1961 وفى عمي شبلي بك نذره للأرز، فنعته بعبدا ولبنان بآهة ودمعة، لهما روعة ودوي.

في الغداة، يوم عيد مار مارون، كان له وداع وطني، فذرف قلمي عبرات حمراء ورفع الى العلاء ابتهالات وتراتيل، ومما قلت: "أمس كان فوق الضباب احتفال بوصول شاعر الأرز، وراحت النجمات المشوقات "يهزجن لعودته، وبالمناديل يلوحن... "اول ما عرج عليه، في السموات، مجلس لتامر، شقيق الروح، نجيها وصفيها، وقد "ضرب لشبلي، الى جواره، سرادق مرصع، تزينه أرزة خضراء، تتدلى من وسطها "عناقيد الشعر، ويطيب في ظلها الانشاد!"

ثم كان يوم مهرجانه، في العاشر من كانون الأول، ذلك العام، فعدت أفاخر به قائلا :

"ما التغريد، الصبيحة، الا رجع صداحه...
يا صاحب المهرجان، أبا القوافي! اليوم قطاف النجوم، من كروم السماء...
وطن الأرز، الذي أطلعك، يتيه بك على الاوطان، يستخفه الترنيم، ويهزه الطرب...
وأنت على هودج من رياحين، ضارب بين الأفلاك صعدا ، تحف بك ربات "الالهام...
مهرجانك، أي موعد للأدب، في بلادي؟... تنادى له أدباء العرب من كل قطر "وناد.
موسم الشعر في لبنان، ومنه، على العربية، بعض الأيادي...
وهو الأهازيج، على كل "بحر" يسير بها، في بلاد العرب، الرواية الصناجة والحادي !
شاعر البطولات، وأنت منها...
سقى جدثا ، بين الصنوبر، عند المنعطف، ندى  صباحي لا يكف وديمة مدرار!
وهمى، على الأخوين، في هدأة الخلود، من قوارير الطيب، عداد القوافي الحسان، في شعرهما الهتان !" ...

اليوم، بعد سبع وستين من مثولي بين يديه، انشادي أبياته، واحتضانه اياي، وخمسين لرحيله ومهرجانه، يسعدني أن تكون تلك "العمومة" قد أينعت وأثمرت، من الولد الى الحفدة، وحسبي منها ما بين "هيام وبهجت" من صافي المودة وأواصر الثقافة... ويشرفني أن أشارك في ذكراه، وصورته ماثلة أمام عيني، ممتلئا  من لبنانه لبنانية  ومالئا  لبنان ودنيا العرب، فخورا  بالأرومة والمحتد، مثال رجولة، على مناعة ثقة بالنفس، تأكيدا  لسلطة معنوية عابرة للأجيال.

لقد جسد شبلي الملاط عظمة  مولودة  ومتوارثة، ولسان حاله: عبث التعاظم، ونفخ الأوداج، انتحال الأدوار والسطو على المواقع. وحدها "الوقفة البكر" و"تضريب أعناق الملوك"، مواجهة "المتصرفين" والمتسلطين من المحظيين، صنيعة الفرمانات، وكل دعيً غاصب طماع، أو معتد باغ.

بلغت العزة بشبلي حد الاستهانة بالاضطهاد واحتقار المستكبرين علانية .

تقبل التضحيات، أبيا  على الضيم، حتى حداه الشمم وازدراء الطغاة، الى تهنئة صديقه "البك الجنبلاطي" بعزله من القائمقامية، متحديا  سلطة المتصرف في خطى شقيقه تامر. كان جبينه أعلى من "الباب العالي"، وعنفوانه أرفع من أعتاب السلاطين، ايمانه أكبر من حبة خردل، وطنيته أسمى من كل طائفية أو مذهبية وانسانيته أشمل من أية عنصرية. فقط بالعودة الى مدرسة الشهامة والشجاعة والمناقب التي مثلها، يتحقق النهوض اللبناني والعربي من حطة هذا الزمن.

فتحية  الى "مركز التراث اللبناني" في الجامعة اللبنانية الأميركية، وشكرا   لجوزف جبرا التزامه الحضاري، ولهنري زغيب اسهامه الفكري، لأننا أحوج ما نكون الى الاضاءة على مناهل العظمة في لبنان، حفظا  لذاكرة الوطن الرسالة وذخائر تاريخه.

المحامي عبد اللطيف فاخوري - وحدة التراث والوحدة الوطنية

من يقدم على ندوة في مثل هذه المجموعة المختارة، وليس تحت يده صحائف مكتوبة، كمن يدخل المعركة وليس في يده سلاح. وهبوها معركة لا ألقى أعداء فيها بل أصدقاء وأحباء.

اذا سمعتموني أقول "أنا قرأت" و"أنا سمعت"، فاغفروها لي: أعرف أن أثقل حكمة على الآذان ولو أخفها على اللسان: كلمة "أنا" وسبب لعنة ابليس أنه قال "أنا خير منه"، وأقوال "أنا" على أسلوب المازني وفكتور هوغو وغيرهم من الأدباء.

وحدة التراث

درس الملاط في مدرسة الحكمة فتمكن من أسرار اللغة العربية، وأدرك عهد اللغة الزاهر في بيروت، وآمن بأن هذه اللغة - لغة قحطان وعدنان وتغلب وغسان وتميم وقريش - اختزنت تراث العرب وحفظته عبر الأجيال، ووجد بأنها اتسعت لمطالب السماء، وغدت لغة لتلاوة التنزيل والأبانا والتراتيل في المساجد والكنائس والزوايا، وهي جريدة بأن يفخر بها أبناؤها كما افتخر بها الملاط.

تجلى في أدب الملاط وشعره ما في النفس العربية من شجاعة واباء واعتزاز بمآثر أبطال العرب المغامرين الثائرين. ومع تمتعه بفضيلة الصبر الطويل على المكاره، كان على استعداد دائم للمواجهة والتصدي ضد الظلم والتعسف والاحتكار والاستبداد، والسعي الى تخفيف الأذى عن المواطنين.

تجلى سعيه ونزوعه الى الملاحم في ما نظمه من قصائد طوال، كالتي أنشدها في 19/3/1921 وروى فيها معركة سيف بن ذي يزن الحميري الذي طاف البلاد طالبا  النجدة لاخراج الأجانب من اليمن. وقال فيها الملاط عن أبناء قحطان:

هم الملوك الألى شادوا عروبتهم على أساسين من عدل واحسان
وأطلقوا الناس أحرارا  بما اعتنقوا وصوبوا من تقاليد وأديان

وختمها بقول:

ما دام في وطني مثل ابن ذي يزن فالمجد مجدي والأوطان أوطاني

وأنشد في 30/1/ 1915 قصيدة "خولة بنت الأزور وأخوها ضرار"، وملخصها أن خالد بن الوليد، وهو على أبواب دمشق، بلغه أن صاحب حمص زاحف اليه، فأرسل لملاقاته الفارس المغوار ضرار بن الأزور الكندي الذي كان يخوض غمار القتال عاري الصدر، فاندفع الى القتال في معركة بيت لهيا حيث أسر. ولما علمت خولة بأسره خفت الى انقاذه.

بدأ الملاط بقوله:

أدموع خولة أم عقيق الوادي أيام نادى للجهاد مناد

وختمها بقوله:

قل للألى عزت بهم أوطانهم وتسودوا من طارف وتلاد
كونوا ضرارا  في الجهاد وخولة ان الجدود تعيش بالأحفاد

اعتز الملاط اللبناني الوطني العربي بتراث العرب فقال:

نحن عرب بدين تغلب دنا وسكنا لبنان دهرا  فدهرا
نحفظ الضاد والضيافة والعر ض ونبني بالشعر مجدا  وفخرا

وحق لنا أن نفاخر بأن لبنان أدى رسالته في منطق عربي سليم، ونردد ما قاله الملاط في وجه كل أجنبي:

أليس نحن من أدوا رسالتهم في منطق عربي غير متهم
عشنا كفافا  وما بعنا لنا قلما  من أجنبي ولا من أي محتكم
ومن تراث العرب استمد الملاط الوفاء ليحكي عهد فتاة قطعته لابن عمها ثم رضخت لارادة أبيها، فنظم قصيدة "بين الشام واليمن" قال في مطلعها:

رويدا  واصبري حتى يلينا فؤاد أبيك يا أم البنينا
لئن سعد الفتى في الحب حينا  فكم شقي الفتى في الحب حينا

واستعاد الملاط ظلم الأهل فتاة  ترغم على الزواج من عجوز غني، فنظم حكايتها في قصيدة "بين العرس والرمس"، ومما قال على لسانها:

يا أبي ليس بالملابس يشرى قلب هند لو كنت بالقلب أدرى
ان كوخا  بالحب يفضل قصرا  وسعيدا  بالحب يفضل كسرى

تحت ايوانه وظل البنود، جمع الملاط بين الشعر الغنائي والنفس الملحمي والقصيدة الحكاية، فنظم مسرحيات "شيرين الفارسية" و"عاشقة الطيار" و"على أطلال أورشليم".

وتجلى تذوقه الفن والموسيقى والغناء التراثي في عدة صور. نظم مسرحية "عروس ليالي الطرب" مثلت سنة 1903 على مسرح "زهرة سورية" في بيروت خصص دخلها لمساعدة الأولاد الفقراء. وبين فصولها أدوار من تلحين شكري السودا وغناء عبد الرحيم الصفح وحليم النحاس والممثلة حلو وأنشدها بعمر عشر سنوات اسمه اميل خضرا.

ذات يوم من سنة 1902 سمع الملاط منشدا  يغني القصيدة الشهيرة:

يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل الى حبك دلني

... وشطرها فجاء التشطير أرق من الأصل.

و نظم قصيدة "حرمتني المنام" لحنها متري المر قال فيها:

حرمتني المنام يا ناعس الجفون
وزادني هيام جمالك المصون
تجود بابتسام وتقطع الآمال
تجود بالسلام لا بالوصال

كما نظم عدة أناشيد منها "نشيد الاستقلال" و"نشيد الأرز" وفيه:

التاج والجلال والمجد والجمال
وروعة الخيال للأرز في لبنان

وأنشد للعلم:

علمي ولست بتارك علمي حتى يخضب جانبيه دمي

الوحدة الوطنية

أدرك الملاط باكرا  أهمية الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن، وآمن برابطة لبنان مع العالم العربي.

انتدبه الأدباء لتمثيلهم في مهرجان مبايعة أحمد شوقي بامارة الشعر فألقى قصيدة شهيرة أطلق عليه بعدها لقب "شاعر الأرز".

وانتدب الى احتفال تكريم خليل مطران في مصر فقال:
علمي ولست بتارك علمي حتى يخضب جانبيه دمي
فاذا مشت مصر مشى في اثرها غسان بالقرآن والانجيل

وأنشد في القدس:

أما فلسطين فالأرض التي شهدت فيها الوقائع أجيال فأجيال
وحسبها لصلاح الدين موقعة بمثلها معطف الاسلام يختال

أدرك الملاط أن الوطنية لا تتعارض والعروبة، وأن الوطنية لا تتناقض مع الايمان الحقيقي فقال:

اي فتية البلد الأشم ومرتجى غده ومذهب صيته المترامي
سيان ان صحت لنا وطنية ما جاء في الانجيل والاسلام

سنة 1924، في جمهور مسلمين ومسيحيين اجتمعوا أمام الجامع العمري الكبير، ألقى قصيدة "عيد المولد النبوي" ومطلعها:

لمن البلاد؟ أليس من أصحابها أنتم ونحن؟ فما لنا لا نهتدي
حتى متى لا نستفيق؟ وكلنا نحيا وندفن تحت جو أوحد؟
ودعوا التعصب انه الداء الذي يقضي عليكم بالهوان السرمدي
وابقوا على هذي العواطف وليكن كل من الأعياد عيد المولد

وختاما :

مثلنا، بعد الملاط وأقرانه وبعد ما وصلنا اليه مما نشكو منه، مثل مسافر انحدر من قمة الجبل الى الوادي العميق، فهده التعب وأضناه النعاس حتى غلبه النوم فما عاد يذكر القمة التي هبط منها ولا القمة المقابلة التي كان يقصدها، وظن أن مكانه في هذا الوادي، فسكن اليه، واستقر فيه، وقنع به، ولم يعد يدري ما وراء القمتين.

الدكتور سمير كبريت - شاعر المواقع والمواقف

بداءة  أتقدم بشكر واعتراف بالجميل واحترام وافر لمن أفاء علي بالانكباب على شعر شبلي الملاط وأدبه: العميد الدكتور أسعد ذيبان، الرئيس وجدي الملاط، الدكتور هيام الملاط، وفيهم أردد مفتخرا  ما قاله شبلي الملاط:

ما الشعر قربني منه وأكرمه عندي، ولكنها الأخلاق والشيم

قادتني الأيام الى الوقوف أمام أصحاب النهى النيرة أفكارها، وذوي الأفئدة الجياشة عواطفها، جاعلا  شمس المعارف تضيء رحاب هذا الصرح العلمي الجامعي حيث تفتخر الحروف والكلمات والعبارات، فشذاها العطر ينتشر عبقه في كل ناحية، مترنما  بشعر شبلي الملاط، منتشيا  بحلاوة العنفوان، متلذذا  بطعم العزة والكرامة، مفتخرا  بصلابة المواقف وحماسة المواقع وصمود شجر الأرز شعار وطننا لبنان الذي قال فيه شاعر الأرز شبلي الملاط في معرض الافتخار بالذات:

ومن عاش يستوحي من الأرز شعره فعندي لعمري أنه الشاعر الفحل

في هذا اللقاء العابق بشذا الذكريات الطيبة أرسل لكم عظيم مودتي، وحميم مشاعري، وجليل تقديري، وخالص تحياتي، مرحبا  بكم أجمل ترحيب، ملقيا  على مسامعكم سلاما  عطرا ، متمنيا  دوام اجتماع قلوبنا وعقولنا تحت ظلال رجال الكلمة، وما خطته أيديهم من بديع القول وجوامع الكلم.

لبنان معقل من معاقل الكلمة، ورسولها المعبر عن معانيها، وعما تخفيه من المشاعر، وتحض عليه من المواقف.

ولم يبق مجلس بين مجالس الأدب في الأقطار العربية خلوا  من شذا أدباء لبنان يعطرون أجواءها بطيب رائحة أجمل القول، وزكي نفس أعذب المعاني.
ان الأدباء، ناثرين وشعراء، في كل شعب وأمة، هم عنوانها المضيء، وممثلو تاريخها وأحوالها، وكاشفو سبل رقيها وتطورها.

ومن تبرع أنامله في تصفح شعر شبلي الملاط، وتقليب صفحات نتاجه الأدبي، تفاجئه أنوار أفكاره الساطعة، وفيها دعوات تمجيد للأخوة الانسانية والتضامن الشعبي والتلاقي الوطني بعيدا  عن كل تعصب قاتل وحقد دفين.

في شعر شبلي الملاط، تتقدم الحقيقة الموضوعية، وهو المشهور بصفات الصدق والاخلاص والتحلي بمكارم الأخلاق، فجعله ذلك صوت شعب لبنان، الناطق بهمومه ومآسيه، وأفراحه ومسراته، وطموحاته وتطلعاته.

تجاوز شبلي الملاط حدود الوطنية الى حدوده العربية، في سبق تاريخي لم يصل اليه مفكرو اليوم، حتى وصل الى عالم الانسانية الرحيب في دفاعه عن قضايا الحق. لذا ليس غريبا  أن نطلق على شبلي الملاط لقب "شاعر المواقع والمواقف"، هو الذي علا صوته دفاعا  عن وطنه لبنان:

يطلب البعض أن نكون عبيدا  وعلينا لهم يكون الولاء
لا وربي وتربة لبلادي قدستها من أهلها الشهداء
لا افتخار ولا حياة لقوم هم عبيد في أرضهم واماء
وقبيح بأهل كل بلاد أن يعيشوا بها وهم غرباء

ألم يصدح صوته مجلجلا  في الآفاق تمسكا  بعلم بلاده:

علمي ولست بتارك علمي حتى يخضب جانبيه دمي
أشقى الورى شعب بلا وطن وأذلهم قوم بلا علم

شبلي ملاط الشاعر الوطني

الشعراء ملوك الألسنة، وأمراء الكلام، ووزراء البيان، ونوب الحق عندما يدعى الرجال الرجال الى الدفاع عنه.

كان سبلي ملاط شاعرا  وطنيا  غنى وطنه لبنان وواجه الانحرافات وبيع الضمائر والوقوف أمام أبواب الاذلال، وكان شاعرا  عربيا  جابه ظلم ارادة الغرب أهل فلسطين، وكان شاعرا  انسانيا  دافع عن قضايا الحق والعدالة في بلاد البوسنه والهرسك.

هذه هي محاور المواقع والمواقف التي خاضها شبلي ملاط بالكلمة الحرة الجريئة على صفحات التاريخ، وبالصوت المدوي على منابر الحق والضمير، وبالصولات والجولات في ميادين حياة زخرت أيامها بالكوارث والفواجع.

وشبلي شقيق القاضي النزيه تامر الملاط الذي وقف في وجه المتصرف واصا باشا وصهره كوبليان في معرض الفساد والرشوة (وما أكثر النماذج المشابهة لهما في أيامنا الحاضرة)، وقال بيتين ما زال صداهما يتردد في الآفاق:

قالوا قضى واصا وواروه الثرى فأجبتهم وأنا الخبير بذاته
رنوا الفلوس على بلاط ضريحه وأنا الكفيل لكم برد حياته

تغنى شبلي ملاط بوطنه لبنان، ودعا الى نهضة الأوطان على أسس سليمة من الحرية والسيادة والاستقلال والحفاظ على الشرف والكرامة، فقال مفتخرا :

ألم نكن نحن من قوم اذا زأروا لأجل لبنان راعوا الأسد في الأجم
أليس نحن الألى أدوا رسالتهم في منطق عربي غير متهم
عشنا كفافا  وما بعنا لنا قلما  من أجنبي... ولا من أي محتكم
انا رضينا باملاق على شرف ولا الغنى عن طريق غير ذي شمم
لبنان... لبنان... واستقلاله أبدا  عندي وعندك كل المال والنعم
والأسرة، كالوطن في فكر شبلي ملاط، كانت محور اهتماماته ومصب أفكاره، زمن اختلت المقاييس الوطنية، فوضع لشباب لبنان دستورا  شعريا  يستوحي منه معاني العزة والشرف والبطولة، فقال لهم:

خذوا الآداب في الدنيا أساسا  وهاتوا الصدق أعمالا  وفاها
فان الصادق الوثني عندي ليفضل كاذبا  عبد الالها
وان نابت بلادكم العوادي وطاب البعض نفسا  في شقاها
فكونوا في خصومته رجالا  لها أقلامها... ولها شباها
وان دافعتم... كونوا جبالا  أسود الغاب تكمن في ذراها

واستمر سيل غضبه مندفعا  هادرا :

فلا تتعصبوا أبدا  لدين فكل تعصب يشقي ويردي
لكل دينه ولكل دين مصون كرامة تأبى التعدي

ثم ينادي هذا الشباب هاديا  اياه الى طريق الحق والصواب:

اي فتية البلد الأشم ومرتجى غده ومذهب صيته المترامي
سيان ان صحت لنا وطنية ما جاء في الانجيل والاسلام.