poets-writers

Mahmoud Darwish

poet and writer

محمود درويش شاعر الأرض المحتلة

دِرَاسَة وإعدَاد حيدر توفيق بَيضُون
 
حالة الاحتضار الطويلة أرجعتنى إلى شارع فى ضواحى الطفولة
أدخلتنى بيوتاً
قلوباً
سنابل
منحتنى هويةْ
جعلتنى قضية
حالة الاحتضار الطويلة.

محمود درويش

مقدمة: محمود درويش الأغنية الخالدة

حين نتناول بالبحث شاعراً، شكّل على مدى عدة سنوات عطائه الشعرى والأدبى ، ظاهرة شعرية لافته للنظر ومدرسة إبداعية، جديرة بالتوقف أمامها ، فهذا يعنى أن البحث فى تفاصيله ينطوى على الكثير الكثير من الصعوبة وحذر الانزلاق.

ذلك لأن محمود درويش- الشاعر الذى لم يستقل من دمه بعد- معجزة شعرية، تجاوزت واقعها المكانى والزمانى لتنتقل إلى خلود الأغنية، وصفوف الشعراء العظماء النادرين كالعلماء العظماء .
فمنذ أن أخرجته الموهبة إلى ميدان الواقع، بكل ما فيه من مرارات وعذابات، وبكل ما حفلت به المرحلة من استحقاقات قاسية وخيبات أمل فى أحيان كثيرة فإن هذا الصوت الشعرى بقى متصاعداً فى تميزه ليشكل فى نهاية المطاف نقطة الانعطاف الكبرى فى حركة الشعر العالمى الملتزم والإنسانى الخالد.

لم يكتب درويش الشعر ليعيش ، كذلك لم يعش ليكتب ، بل كتب ليبقى موجوداً فى عصر التغييب القسرى، ومحاولات القطع بالجملة.

وفى الإطار الفنى لم يفهم درويش الشعر، من زاوية " العود" و " أدوات التطريب" ، بل كان وعيه المتقد للشعر على أنه السلاح المدافع عن حالة الإنسان العربى ووجوده الحضارى فى العمق، وبذلك شكل الشاعر ظاهرة تقدمية فريدة من نوعها، تؤطر الكلمة والبندقية فى خندق المواجهة الأمامى.

فعلى امتداد الزمانية والمكانية للصراع الوجودى بيننا وبين العدو الصهيونى، لم يكن درويش فى منأىً عن آلية وكيفية هذا الصراع، بل شارك فى كل فاصلة من فواصله وكل دقيقة من دقائقه، فكان يتساوق صعوداً مع المراحل ، يدفعه انتماء وطنى قومى وطنى قومى عالى المستوى ، وارتباط وثيق بالأرض وبالإنسان العربى وقضاياه شديد الحرارة .

فتحولت قصائده داخل الأرض المحتله سجّيلاً من حجارة الانتفاضة، جعلت العدو يبادر إلى نفيه، خارج الوطن/ الأم.

من هناك عاش درويش التجربة بضراوتها وعبوستها الكالحة لكنها لم تستطع ان تنتزع منه الإنسان المقاوم الذى جُبل فيه، فلم يتحول إلى رثّاء بكّاء، أو نازح أقعده الشوق والحنين عن مواصلة الشوط ، بل راح يطور نفسه وثقافته وشعره قدماً، والذى صار من اللزام أن يدخل فى المعركة ضد عدو كان أول أهدافه ، قتل الروح المعنوية عند الإنسان العربى وتجميد دوره الدم فى عروقه فكانت قصائده التى تلتهب بالنضال وتبشر بالثورة الشاملة ومفاتيح العودة.

وخلال فترة النفى هذه أصبح درويش شاعر المناضلين الأشداء، وصوت فلسطين فى الصميم ، عبر ماأوتى من موهبة عمل على صقلها من أجل أرضه. فكانت قصائده فى تصاعد ومكانته فى ازدياد .
تعامل مع الحياة والفن بإخلاص ملتزم إلى حدود التضحية فكان الشاعر الألمعى الذى وصل مرحلة العالمية من أوسع أبوابها وربما تصبح جائزة نوبل فى الآداب قاب قوسين وأدنى منه، تقديراً لعطاءاته المتنوعه فى ذروة المد الشعرى والثورى.

وإيماناً منا بشاعريته الفذة وإشراقاته واستشراقاته فى عالم الشعر ، كان لابد لنا هذه الوقفة القصيرة مع الشاعر، ومحطاته الأدبية ، ليفيد منها القارئ على امتدادات وطننا الكبير، وليقف على أعظم الشعر والفكر العربى.

محمود درويش: سيرته الذاتية ومحطاته الشعرية

فى13 آذار(مارس) من عام1941، ولد محمود درويش فى قرية صغيرة وادعة، تقع مسافة 9 كيلو مترات شرقى عكا، تدعى ( البروة) ، القرية التى يكتب التاريخ أنها قاومت الاحتلال فى بواكيره ، بعدد سكانها الذى لا يتجاوز الألفى نسمة ، وتلالها الصخرية التى تتموضع فوقها.

يحدها من الجنوب وادى الحلزون الذى تصب مياهه فى نهر "النعامين" وقد سمّاها الصليبيون الذين استوطنوا لمئين من السنوات الأرض المقدسة، "بروت".
ويذكر المؤرخون لأدب الرحلات أن هذه القرية قد مرّ بها الرحالة ناصر خسرو وذلك أواسط القرن الخامس الهجرى/ الحادى عشر الميلادى.

تميزت البروة مع عدد من القرى العربية بمقاومتها العنيدة للأحتلال الغاصب، حيث إن اليهود عندما دخلوها فى العام 1948 تجمع أهاليها مع عرب القرى المجاورة وحرروها من الاحتلال"الإسرائيلى" ليعود هذا الاحتلال بدوره إلى اغتصابها بعد أسبوع. وللقضاء على أية جيوب أو أثر للمقاومة؛ عمد المحتلون الصهاينة إلى هدمها ، قاضين على كل أمل لأصحابها الحقيقيين، فى العودة.
بالنظر إلى أنها كانت تتميز بخصوبة أرضها وجودة مزروعاتها المتنوعة حبوباً وخضروات وزيتوناً.

وفى تلك الحقبة الكالحة من التاريخ العربى الحديث لجأ سكانها الذين تفرقوا زرافات ووحداناً، منهم إلى القرى المجاورة التى استطاعت أن تنجو من أيدى اليهود ومنهم إلى خارج الأرض المحتلة، إلى سورياولبنان.
ومن أولى المفارقات وأغربها أن سكانها اليوم يدخلونها بتصريح من " السلطات الإسرائيلية" ليعملوا أجراء أو عمال بناء فيها ، وهم الذين يعرفون فيها كل ذرة تراب وكل شجرة زيتون وكل نسمة هواء ، ولو استنطقت القرية لأخبرت فى الحال العجب العجاب.

ولم يزل محمود درويش يحن إلى دفء تلك القرية ووداعتها حيث كانت الشاهدة الأولى على فاتحة سنيه. وعن قصتها مع الاحتلال ونهاية مرحلة الطفولة الحقيقية للشاعر فيها يقول ملقياً مزيداً من الضوء على أرجاء المكان الأول :" أذكر نفسى وقد كان عمرى ست سنوات كنت أقيم فى قرية جميلة وهادئة هى قرية البروة الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أمامها سهل عكا ، وكنت ابناً لأسرة متوسطة الحال عاشت الزراعة.

وعندما بلغت السابعة توقفت ألعاب الطفولة ، وإنى أذكر كيف حدث ذلك . فى إحدى الليالى الصيفية التى اعتاد القرويون فيها أن يناموا على سطوح المنازل . أيقظتنى أمى من نومى فجأة فوجدت نفسى أعدو، مع مئات من سكان القرية فى الغابة ، كان الرصاص يتطاير فوق رؤوسنا ولم أفهم مايجرى حتى وصلت مع أحد أقاربى الضائعين فى كل الجهات إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين، تساءلت بسذاجة : أين أنا؟ وسمعت للمرة الأولى كلمة لبنان".

من هنا ، وفى إطار تقويمه لحياته، يعتبر محمود درويش ومنذ ذلك اليوم أن الطفولة الخالية من المتاعب- انتهت: " وأحسست فجأة أنى أنتمى إلى الكبار ، توقفت مطالبى وفرضت علىّ المتاعب منذ تلك الأيام التى عشت فيها فى لبنان"

وفى الإطار عينه، وفى هذه المرحلة بالذات تتفتح أمامه نافذة إلى عالم جديد، يستمع فيه لأول مرة إلى كلمات جديدة : " الوطن" ، " الحرب" ، " الأخبار " ،" اللاجئون"، " الجيش " ، "الحدود" ، وهو ما سيكون له تأثير حتماً فى المستقبل من حيث أن الشاعر بدأ يدرس ويفهم ويتعرف ، على وضع جديد حرمه طفولته.

ومن القرية اللبنانية التى لا يذكر الكاتب اسمها فى لقاء لمجلة الوطن العربى فى باريس /1986.

وبعد أكثر من سنة على حياة " اللجوء" يذكر عودته مع أقاربه إلى فلسطين ، وهنا لابد أن نذكر أن ثمة مفردة جديدة قد دخلت قاموس الشاعر/ الطفل ، وهى كلمة " البيت" ويذكر أنه لم ينم تلك الليلة من شدة الفرح ، فالعودة إلى البيت تعنى له " نهاية الجبنة الصفراء – الوجبة الأساسية التى كانت توزعها وكالة الغوث". وتعنى نهاية " تحرش الأولاد اللبنانين " الذين يشتمونه بكلمة "لاجئ" المهينة.
ولكن العودة إلى القرية ( البروة) منبع الأحلام- أفاق الطفولة لم تنم ، لينتقل فى الحين إلى لاجئ فى بلاده بقرية "دير الأسد".

وفى مقارنة للشاعر بين اللجوئين خارج وداخل الوطن، يذكر الشاعر وهو الذى تذوق طعم الاثنين معاً، أن الثانى/ داخل الوطن كان الأقسى والأصعب. لأن النفى خارج الوطن ، وما يتعلق به من الأشواق والانتظارات، والتلهف للقاء الأحبة والأصدقاء والسمّار ورفاق الطفولة، له ما يبرره.

أما النفى داخل الوطن فإنه لا مبرر له. ونحن إذ نتفق مع الشاعر فى هذه المقارنة نجزم أنها كانت من العوامل التى كونت شخصية محمود درويش الشاعر.

وفى تجربته الأولى بعد العودة إلى وطنه والقرية الجديدة دير الأسد ، كان فى الصف الثانى وقد عانى خلال ذلك الأمرّين ، لكن عزاءه الوحيد آنئذٍ كان محبة المدير والأساتذة الذين كانوا يخبئونه فى غرفة ضيقة لكى لا تعتبره "السلطات الإسرائيلية" " متسللاً" وهى كلمة أخرى أضيفت إلى قاموس الشاعر الخاص .

وفى اعترافه بصعوبة تلك المرحلة حيث أنه لا يزال محروماً حتى الآن من الجنسية فى وطنه ، يتحدث الشاعر أنه طالع كثير الأدب العربى وقلّد الشعر الجاهلى فى محاولاته الشعرية الأولى، إضافة إلى أنه كان فى تلك الفترة موهوباً بالرسم، لدرجة أنه كان يتطور كرسام أكثر من تطوره كشاعر . ولكن توقفه عن الرسم، يعود إلى أن والده لم يكن يملك من المال ما يتيح له إمكانية أن يشترى له ما يحتاجه من أدوات . فدفاتر الكتابة بالكاد استطاع تزويده بها. عندها حاول التعويض بكتابة الشعر التى لا تتطلب نفقات.

وعن التركيز الداخلى لأسرته الصغيرة التى عاشت فى البروة ثم انتقلت إلى قرية"الجديدة" فيما بعد ليعمل محمود مدرساً ، يتحدث أنه كان الابن الثانى لإسرة تتكون من ثمانية أبناء ، خمسة أولاد وثلاث بنات والابن الأكبر فى هذه الأسرة هو " أحمد" وكان هو الآخر مهتماً بالأدب وعنه أخذ محمود درويش بدايات اهتمامه الأدبية. كما تجدر الملاحظة إلى أن شقيقه الثالث"زكى" هو كاتب قصة من الكتاب المعدودين فى الأرض المحتلة.

أما أبواه فهو سليم درويش الفلاح البسيط الذى لا يملك شيئاً أما الأم فهى من قرية الدامون وكان والدها أديب البقاعى عمدة الدامون، فقد كانت سيدة فلسطينية لا تقرأ ولا تكتب.
وعن علاقته بهذه الأم وهى ملاحظ جديرة بالذكر أيضاً. يقول : " علاقتى بأمى فى الطفولة كانت ملتبسة، كان عندى عقدة أن أمى تكرهنى لأنها كانت دائماً تعاقبنى وتعتبرنى المسؤول عن أى شغب فى البيت وفى الحارة ، وتقول لى (يا حلس يا ملس).

وبقيت هذه العقدة إلى أن سجن لأول مرة حيث كان عمره 14 سنة. من هنا تغيرت طبيعة فهمة ونظرته للأمور وصار يفهم سبب العقوبة.

وفى أوصافها يقول : كانت جميلة ، وهى مازالت حية، جميلة وشعرها أحمر طويل يغطيها كلها، وعيناها زرقاوان لكنها قاسية لاتعبر عن عواطفها إلا فى الجنازات . وأنا لم أر أمى فى أى عرس . كانت تذهب إلى الجنازات. وفوجئت مرة أنها تنشد الأغانى الشعبية وأكتشفت أيضاً أنها تؤلف بكائيات.

وملاحظ أيضاً، أن محمود درويش أصبح فيما بعد الابن المدلل فجأة لأنه المطارد والبعيد.

دخل السجون الإسرائيلية أكثر من مرة . كانت المرة الأولى سنة 1961 وكان قد انتقل من قرية" الجديدة " ليعيش وحده فى مدينة حيفا سنة 1960 وكان اعتقال البوليس " الإسرائيلى" له بدون سبب فى مسكنه.
وجاء السجن الثانى لمحمود درويش سنة 1965 بسبب أنه سافر إلى القدس من حيفا بدون تصريح حيث ينبغى لكل عربى أن يحمل تصريحاً خاصاً إذا أراد ان ينتقل من مكان إلى آخر . وكرت السبحة فى الاعتقالات.

فقد سجن عندما عقد الطلاب العرب فى الجامعة العربية أمسية شعرية ألقى خلالها قصيدته الطويلة: " نشيد الرجال" التى نشرها فى ديوانه الثالث / عاشق من فلسطين.

وما بين 1965-1967 سجن الشاعر عندما حامت حوله" شبهة" تعاطيه النشاط المعادى "لإسرائيل" وهنا يذكر أن محامى الدفاع حاول أن يقول أنه يعتذر باسم محمود درويش عن المخالفة التى ارتكبها، وبعد أنه لن يكرر ذلك، سأل القاضى محمود درويش عن رأيه، فأجاب :" بأن المحامى يعبر عن وجهة نظره ولكننى لاأعترف بما يقول ولن أردد هذا القول أو أؤيده أبداً" . وكان حكم المحكمة الصهيونية لهذا الموقف النضالى الرائع غرامة مالية تقدر بمائتى "ليرة إسرائيلية".

وذاع اسم محمود درويش كشخصية عربية نضالية ضد الاحتلال ؛ ففى عشية العدوان الإسرائيلى المبيَّت على البلاد العربية فى 4 حزيران 1967 ، أصدر رئيس أركان جيش العدو آنذاك إسحاق رابين أوامره باعتقال كل المثقفين العرب ، غير أن محمود درويش كان قد اختفى ؛ والهدف كما يبدو من اختفائه كان الإشراف على صدورجريدة " الاتحاد" العربية بعد أن اعتقل محروروها. وبالفعل تم فى 5 حزيران موعد صدورها.
وبعد تحدد نتائج معركة1967 والهزيمة التى حلت بالعرب، عاد محمود درويش إلى بيته ليودع السجن بدون محاكمة فى (الدامون). وعن تلك المرحلة يقول درويش : "إن السجن كان أرحم من الخارج لأن الوضع كان مؤلماً بعد الهزيمة العربية "

وفى سنة 1969 اعتقل محمود درويش للمرة الخامسة فى سجن (الجملة) بعد أن نسف الفدائيون عدة بيوت فى حيفا، ومن هنا أصبح الشاعر عرضه للإعتقال بعد أى تدبيرصهيونى مما أدى إلى نفيه خارج الوطن.
حيث تنقل بين العواصم العربية والأجنبية واستقر به المقام أخيراً فى بيروت التى لم يتركها إلا فى أعقاب "الاجتياح الاسرائيلى" لها عام 1982 وكاد خروجه من بيروت أن يودى بحياته إذا تعرض أثر ذلك لنوبة قلبية حادة ، وفى بيروت ، عاصمة الفكر والشعر ،غنَّى محمود درويش أجمل ما يقال للعشاق والمناضلين. وهو المجنون عشقاً فى تراب الوطن والمناضل عبر كل حرف فى كلمته.

رحل عنا محمود درويش يوم السبت 9 آب 2008 بعد 67 عاما من حياة دأب ينتقل فيها من قمة إلى أخرى أعلى منها، دون كلل أو ملل. كان إنسانا جميلا، قبل أن يكون متنبي عصرنا الحديث، يرى ما لا نراه، في الحياة والسياسة وحتى في الناس، ويعبر عن كل هذه الأمور بلغة وكأنها وجدت ليكتبها. وحين قرر أن يخوض غمار هذه العملية الجراحية الأخيرة اعتقدنا أنه سيهزم الموت، كما هزمه في مرات سابقة، لكنه، بعينه الثاقبة، رأى على ما يبدو شبحه "قادما من بعيد".

محطات محمود درويش الشعرية

1960-1986

من خلال تجربته الغنية الفصول مع الشعر ، الذى استقاه من وحى مشاهداته ومعايشاته للواقع الأليم الذى يعصف بأرضه المحتله، وتنوع مشارب ثقافته. نلمح خصائص درويش المتنامية تطوراً ، إذ تميز الشاعر عن أترابه من شعراء الأرض المحتلة، بغزارة الإنتاج وبساطة العبارة وشمولية المضمون، وعمق الفكرة، وهى خصائص لم يتفرد بها عن إخوانه الشعراء الفلسطينين المنفيين داخل الوطن أمثال سميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهما ، بل خصائص ميزته فى مسيرة حركة الحداثة الشعرية أيضاً والتى يعد درويش الآن من أهم رموزها وأعلامها لدرجة أن هذا الشاعر الذى كان فى بداياته يلبس معاطف غيره من الشعراء الكبار ويقلدهم فى سننهم الشعرية التى اختطّوها ، أصبح الأن من كبار الشعراء المقّلدين حتى من قبل الشعراء الذين قلّدهم وخرج من معاطفهم ، إنه صاحب المدرسة الكبيرة التى عاشت الالتزام فى كل شئ . عاشته فى ذرة التراب ، فى الورود ، فى المرأة ، فى الأرض، فى عرق الكادحين ودم الشهداء ، تتداخل فلسطين بالمرأة والمرأة بالوطن ، والزمان بالمكان ووحده شعر درويش المرآة التى تنقل الأشياء بحرارة ، وتعكس مفهوم الوطن والأرض والتراب بمعانيه القدسية.

/ فلسطين معشوقته النهائية /

فليس فى شعر درويش أغراض مفصلة كما هى الحال فى شعرنا التقليدى ، إذ ثمة غزل ونسيب ورثاء ومديح وحنين. كل غرضه مستقل على حده . بل نجد الأغراض المتمازجة فى قصيدة هى نسيج وحدها . فالمرأة تخرج من بعدها الجسدى ، لتكون الرمز الأوسع لمعانى الوطن ، الحرية، الهدف، ، المنتهى.

ففى قصيدته ( محاولة رقم 7) كما فى قصائد كثيرة نعثر على هذه الخصيصة كما فى قوله:

لماذا نحاولُ؟ هذا السفرْ
وقدجرّدتنى من البحر عيناكِ
واشتعل الرمل فينا...
لما نحاولُ؟
والكلماتُ التى لم نقلْها
تشردّنا...
وكل البلاد مرايا
وكل المرايا حجرْ

فالمعنى الأتم للمرأة عبر تناوله من زاوية الوطن ، كذلك فإن الوطن فى مفهوم درويش كما سيمر معنا، ليس مجرد مساحة إنه الموت عشقاً وجنوناً فيه.
من هنا نستوضح بجلاء العلاقه الجدلية بين المرأة وفلسطين عند محمود درويش.

ولنقرأ هذه القصيدة (موت أخر وأحبّك) وفيها يتجلى عشق درويش اللامتناهى لأرض أجداده:

وما كانت سيدة الأرض يوماً
لأن الحروب تلامس خصرَك سربَ حمامْ
وتنشرين على موته أفقاً من سلامْ
وما كنت ألعب فى الرمل لهواً
لأن الرّذاد يكسّرنى حين تعلن عيناكِ
... أن الدروب إلى شهداء المدينة.
... مقفرة من يديكِ
وما كان حباً
وما كان يوماًً
وما كنتُ
وما كنتِ
إنى أجدّد يوماً مضى
لأحبّك يوماً
وأمضى...

فالحدود ملغاة إذاً بين إمراة درويش وفلسطين ، ونحن فى هذه القصيدة لسنا إزاء إمرأة من النوع العادى إنها على مقاس الوطن ، وتنسحب على مساحات الخريطة الفلسطينية ، فهى المزنرة بالحروب الكثيفة من كل ناحية وصوب والمتماسه بالتمام مع الموت الذى يهم بها وتهم به. وإن كنا فى القصيدة السابقة ( محاولة رقم7) نلاحظ فيها أثراً لامرأة درويش ، فإن فلسطين هى إمرأته ومخاطبته فى هذه القصيدة.

... إن الدروب إلى شهداء المدينة مقفرة
... من يديكِ.

إذاً أصبح درويش ظاهرة مميزة فى حركة الحداثة الشعرية العربية ، وقد توصل إلى مرحلة جعلته فى مصاف الشعراء العالميين وأحد المرشحين لنيل جائزة نوبل العالمية فى الآداب حيث أختط طريقه فى مسيرة الشعر. وأكثر من ذلك حين أطلق نبوءته أنه أصبح فى ما بعد مدينة الشعراء كما فى قوله فى قصيدته " مديح الظل العالى ""

عمًّ تبحث يا فتى فى زورق الأوديسة المكسور؟
- عن جيش يهاجمنى فأهزمه وأسألُ هل أصير مدينة الشعراء يوماً ؟
فهو بالفعل مدينة الشعراء على امتداد الشارع العربى الطويل .

من هنا ينبغى أن نركن بالبحث لتلخيص المراحل التى اجتازها درويش ومرّ بها شعره وذلك حسب التدرج الزمنى.