Mahmoud Darwish

ملخص بيادرمحمود درويش الشعرى وأهم مراحله التطورية

ملخص بيادرمحمود درويش الشعرى وأهم مراحله التطورية

رغم تشعب درويش وعناء البحث فى إنتاجه الشعرى ، ورغم قلة المحاولات التى جرت لدراسة درويش الدراسة الموضوعية المتقدمه ، حيث يبقى ما تناوله النقاد فى شعر درويش مقصراً بحق ، فهناك النقاد الذى تعرضوا لجانب واحد من جوانب عديدة أو تعرضوا لدراسة قصيدة فقط من ضمن قصائده الطويلة، بالإضافة إلى أن بعض الدراسات كانت تنطلق من زاوية وحيدة فى معالجة قصيدة درويش ، كتلك المحاولة التى قدمها الناقد العربى أفنان القاسم إسم فى كتابة ( مسألة الشعر والملحمة الدرويشية-محمود درويش فى مديح الظل العالى) وهى دراسة سوسيو بنيوية تبقى ككل الدراسات- البنيوية قاصرة عن إدراك المعنى الذى تشير إليه القصيدة أو محاولة استكناه أبعادها.

وتجدر الملاحظة إلى أن ثمة دراستين قيمتين تحققتا للناقد العربى شاكر النابلسى فى كتابه (مجنون التراب - دراسة فى شعر وفكر محمود درويش الطبعة الأولى 1987- المؤسسة العربية للدراسات والنشر) . والناقد رجاء النقاش فى كتابه ( محمود درويش – المؤسسة العربية للدراسات والنشر).

وهناك عدد من النقاد العرب الذين كتبوا عنه فى المجلات والدوريات رالعربية منهم محمد لطفى اليوسفى ( التونسى) واعتدال عثمان ( المصرية) وإلياس الخورى( اللبنانى) وغيرهم.

ونستطيع بالشكل الذى تتحقق فيه الإفادة لمحبى درويش وجمهوره . أن نلخص بيادره بدءاً من ديوانه الأول ( عصافير بلا أجنحة-1960) إلى ديوانه الأخير (ورد أقل-1986)

1- المرحلة الأولى

وهى مرحلة كان فيها الشاعر متمثلاً شعر غيره من الشعراء وفى هذه المرحلة صدر ديوانه ( عصافير بلا أجنحة-1960) والذى قال النقاد عنه آنذاك أنه متأثر أشد التأثر بشعر نزار قبانى. والأصح ما قاله رجاء النقاش أن الشاعر " لم يكن متأثراً بنزار بقدر ما كان يقلده " وهى مسألة يؤكدها درويش فى إحدى المقابلات التى أجريت معه ، وفيها تحدث عن بداياته بالقول : " لقد خرجت من معطف نزار قبانى " فيما يصلح رداً على تهمة " تأثر كثير من شعراء الحداثة العربية بالشعر الأجنبى" كشعر ت. س إليوت الأميركى وإديث سيوتيل الإنكليزية وأشعار الفرنسيين مالار مية ورامبو، والشاعر الأمريكى إدغار ألن بو.

2- المرحلة الثانية
وتتمثل هذه المرحلة بديوان ( أوراق الزيتون- 1964) وفيها يظهر للعيان اتساع مخزون درويش من المقروءات الشعرية.
إذ نلاحظ فى هذه المرحلة متأثراً ليس بشاعر بل بمدرسة شعرية متلاحمة. وفى مجموع قصائده فى هذا الديوان ( أوراق الزيتون) يبدو الشاعر متأثراً بالخطوط العريضة لشعراء المهجر ، الذين فرضوا إيقاعهم على الشعر العربى وبالتالى تجربتهم الأدبية على العالم العربى . رغم أن الحياة المهجرية لاتقاس بالقرون ، كما فى التجربة الأندلسية الأدبية ماضياً ، بل بالسنوات. فكانت هناك الرابطة القلمية فى أميركا الشمالية وعميدها جبران خليل جبران والرابطة الأندلسية فى أميركا الجنوبية ورئيسها أمين الريحانى. ولكن التأثير الأكبر فى هذه الفترة كان لأصحاب المدرسة الرومانسية الناضجة على الشاعر . ولا سيما الشاعران على محمود طه وإبراهيم ناجى.
ويبدو ذلك فى شكل القصيدة الذى انتقل من العمود الشعرى والقافية الموحدة إلى اعتماد التوزيعات فى الأسطر الشعرية واعتماد القوافى المنوعة. وعلى مستوى المضمون الالتفات لموضوع الإنسان بشكل عام والطبيعة والعواطف الإنسانية ومثال ذلك قصيدته (حنين إلى الضوء):

ماذا يثير الناس لو سرنا على ضوء النهارْ
وحملت عنك حقيبة اليد... والمظلّهْ
وأخذت ثغرك عند زاوية الجدارْ
وقطفت قبلهْ!
عيناك!
أحلم أن أرى عينيك يوماً تنعسان
فأرى هدوء البحر عند شروق شمسٍ

ويلاحظ أن شعر درويش فى هذه المرحلة قد اتسم بالنضوج وركن للتطور فهو يبدو أكثر ورقة وأقل مباشرة وابتعد فيه الشاعر عن الخطابة والصوت الصاخب المرتفع ، وإن كان فى شعره هذا نوع من الثورة ، فإنها تبقى ثورة هادئه فقط وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية وتنظيمها فى مجتمعاتنا الشرقية المحافظة. فليس مألوفاً أن تحمل عن فتاتك حقيبة يدها والمظلة، كما ليس مستساغاً أن تأخذ منها قبلة وسط الشارع وفى وضوح النهار ، والشاعر إذ يطرق هذا الباب إنما يريدأن يبدأ الثورة على المستوى الاجتماعى أولاً وهذا الباب طرقته المدرسة الرومانسية العربية الحديثة على أيدى شعراء استلهموا الثقافات الغربية ، وأرادوا إسقاطها ولكن بعد تطويرها وتهذيبها بما يتناسب والحاضر العربى. فهناك فرق شاسع بين الشاعر الرومانسى الإنكليزى (شيلى) وأهم قصائده (أنشودة إلى الريح الغربية) والشاعر العربى إبراهيم ناجى. كما وهناك فرق أيضاً بين الشاعر الفرنسى لامارتين وقصيدته ( البحيرة) وبين الشاعر على محمود طه.

وفى حديثه على هذه المرحلة التى مرّ بها محمود درويش وحياته الفنية آنئذٍ فإنه يطلق على تسمية " الثورى الحالم" وبالفعل فإن أغلب قصائده فيها تأخذ منحى الهدوء وليس "الكفاح المسلح" أو الخط الصراعى ضد المحتل الصهيونى. ولعل ذلك عائد إلى أن المقاومة الفلسطينية المنظمة لم تعلن فى تلك الفترة ولم تشق طريقها إلى النور فكانت ثورة الشاعر على الأوضاع التى يعانيها العربى فى الأرض المحتلة سواء كانت هذه الأوضاع معنوية ( قمع-إرهاب – إعتقال) أو مادية (فقر- بطالة) تاخذ تعبيراً هو بشكل عام أشبه " بالحلم الغامض المبهم" وهذا شأن جميع الشعراء الرمانسيين الذين أسلفنا ذكرهم والذين كان يقرأ لهم الشاعر ويتأثر بهم فى تلك المرحلة من حياته.

ومن ذلك على سبيل المثال قوله:

يا أجمل الوحوش! يا صديقى
مابيننا سوى النفاق 
والخوف من متاعب الطريق 
والبحر من أمامنا 
والغاب من ورائنا
فكيف نفترق
( الرباط)

فهو فى هذه القصيدة، ما يزال يحلم بالواقع الجديد ويرفض الواقع المعيوش . رغم أننا نلمح عناصر الواقع الجديد الذى يجب السير عليه. ولكن العنصر الغنائى الثورى الحالم ما يزال يلف قصائد درويش فى هذه المرحلة. وحتى فى أهم قصائده فى تلك الفترة(بطاقة هوية) والتى كانت بمثابة الهوية التى دخل بواسطتها درويش عالم الشعراء العرب المعاصرين:

سجّلْ أنا عربى
ورقم بطاقتى خمسون ألفْ
وأطفالى ثمانية
وتاسعهم سيأتى بعد صيفْ
فهل تغضبْ؟
سجل!
أنا عربى
وأعمل مع رفاق الكدح فى محجرْ
وأطفالى ثمانية
أسلّ لهم رغيف الخبز
والأثواب والدفترْ
من الصخر...
ولاأتوسل الصدقات من بابِكْ
ولاأصغرْ
أمام بلاطِ أعتابكْ
فهل تغضبْ؟

إنه يُصارع المحتل بتأكيده على الهوية العربية ويحاول استلهام الشخصية التاريخية للإنسان العربى التى تتميز بالعمل والكدح والكبرياء إنها مقارعة تذكرنا فى الغالب بالخط الشعرى القديم (الفخر) والتحدى وتعداد المناقبية التى يتسم بها قومه.

سجل! 
انا عربى
أنا اسم بلا لقب
صبور فى بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة الغضب
جذورى...
قبل ميلاد الزمن رستْ
وقبل تفتُّحِ الحقبِ
وقبل السرور والزيتون
وقبل ترعرع العشبِ
أبى.... من أسرة المحراث
لا من سادةٍ نجبِ 
وجدى كان فلاحاً
بلا حسبٍ..... ولا نسبِ
يعلمنى شموخ الشمسِ قبل قراءة الكتب 
وبيتى كوخ ناطورٍ
من الأعواد والقصبِ
فهل ترضيك منزلتى؟
إسم بلا لقبِ

ومن الملاحظ أن (بطاقة هوية) توحى بشكل عميق بالمستوى الشعرى الذى وصل إليه الشاعر إذا أن القصيدة تمثل حقيقة النقطة الفاصلة بين المرحلتين الأوليين اللتين كان فيهما الشاعر متأثراً وبين المراحل الناضجه التى انتقل فيها درويش إلى التأثير وترك البصمات الواضحة فى الشعر العربى الحديث ، ومن ناحية أخرى تنامى الوعى والشعور الوطنى والقومى فيها وهى من أعظم ما قيل فى موضوع الانتماء إلى الأرض.

3- المرحلة الثالثة
وهذه المرحلة وفى السياق التطورى لشعر درويش تمتد من العام 1966-إلى العام 1970 وفيها أخرج درويش إلى النور أربعة دواوين ، هى ( عاشق من فلسطين- 1966) و (آخر الليل-1967) و ( العصافير تموت فى الجليل – 1970)و(حبيبتى تنهض من نومها- 1970) وتعتبر هذه المرجلة الأخيرة من شعر درويش داخل الأرض المحتلة.
وخلالها استطاع درويش النهوض بشعره إلى مستويات رفيعة ، حيث تشهد تغيراً فى الأسلوب وطريقة التعبير الفنى ، والمدلولات الرائعة، وظهر إلى حد بعيد ( الفضاء الميثولوجى) فى شعر درويش من حيث الاعتماد على الأساطير القديمة ولا سيما أساطير الخصب والولادة فى الشرق القديم ( كأساطير تموزوأدونيس فى بلاد ما بين النهرين وسوريا وأزوريس فى مصر)

وتجدر الملاحظة إلى أن ثمة قصيدة تموزية قد نشأت على أيدى شعراء عرب حديثيين أمثال بدر شاكر السياب ، وخليل حاوى وأدونيس وعبد الوهاب البياتى وجبرا إبراهيم جبرا وأنسى الحاج وكمال خير بك وغيرهم كثير من الشعراء التموزيين الذين استلهموا هذه الأسطورة القديمة (أسطورة تموزا أو أدونيس ) نتيجة المرحلة التاريخية التى سيطر فيها القحط على الحياة العربية فاجتمع الشعراء على صفحات المجلات وخصوصاً ( مجلة شعر ) التى أسسها الشاعر اللبنانى يوسف الخال ليستصرخوا (تموز الجديد) كى ينبعث فى المفازة العربية ، مع العلم أن القصيدة التموزية قد بلغت أشكالاً متطورة ففى مرحلتها الأولى كان اعتمادها على المباشرة تماماً وسرد الأساطير من الناحية التاريخية كما هى ، وهذا نلمحه بشكل كثيف فى شعر رائد الحداثة بدر شاكر السياب . ولكننا نصل إلى مجموعة من الشعراء لنرى الخطاب التموزى يأخذ شكل إيحاءات ودلالات وصل فيها الشاعر محمود درويش نفسه قمة الإبداع ، وخاصة فى قصيدته الأرض التى تعتبر فى المرحلة الرابعة.

وفى شهر آذار ينخفض البحر عن أرضنا.
المستطيلة ، مثل حصانٍ على وتر الجنس .
وفى شهر آذار ينتفض الجنس
فى شجر الساحل العربى 
وهذا ربيعى الطليعىّ
هذا ربيعى النهائى 
فى شهر آذار زوجت الأرض أشجارها

وتعتبر هذه القصيدة قمة ما وصلت إليه القصيدة التموزية إذ إن استعماله لكلمة "آذار" إغناء لمناخ اسطورة البعث والتجدد بطريقة اللمح الصورى واللامباشرة فى التعبير.

وفى هذه المرحلة لم يجد أمامه من جماليات شعرية يتمثلها سوى هذه المجموعة من شعراء الشعر العربى المعاصر، وإلى حد ما يبدو أن الشاعر قد ابتدأ باختطاط طريقته وأسلوبه المميزين . ومن هذه المرحلة قصيدته ( الورد والقاموس-1967).

وليكنْ
لابدّ لى...
لا بدّ للشاعر من نخب جديد
وأناشيد جديدة 
إننى أحمل مفتاح الساطير وآثار البعيد
وأنا أجتاز سرداباً من البخور .
والفلفل والصيف القديم
ينبت الورد على ساعد فلاّح، وفى قبضة عاملْ
ينبت الورد على جرح مقاتل 
وعلى جبهة صخر.
ومن هذه المرحلة أيضاً ( يوميات جرح فلسطينى-1970).
عالِمُ الآثار مشغول بتحليل الحجارةْ
إنه يبحث عن عينيه فى ردم الأساطير
لكى يثبت أنى:
عابر فى الدرب لاعينيْن لى؟
لا حرفَ فى سفر الحضارهْ
وأنا أزرع أشجارى على مهلى
وعن حبى أغنى

4- المرحلة الرابعة 
وهى الأكثر غنى وتميزاً من المراحل التى سبقتها والمراحل التى لحقتها ، فبعد خروج الشاعر من الأراضى المحتلة وبداية الرحلة " خارج الوطن" حيث أن الشاعر الذى فقد الوطن الآن حقيقة ، وتعرف على دلالته، وما الذى يعنيه ؟ وبعد أن جرب إلى درجة الممارسة ، الاغتراب والتنقل من عاصمة إلى أخرى ومن بلد إلى سواه ، أصبح الوطن بالنسبة إليه كالهاجس ، وأصبح كل ما يدور على جنبات الأرض المحتلة شغله الشاغل ، الأمر الذى شحنه ثورة وحماساً ليكون إنتاجه الشعرى زاداً ورافداً للبندقية ، التى انطلقت تجابه الاحتلال الإسرائيلى على كل جبهة من أرضنا العربية، ومن ناحية أخرى لتأكيد ذاته المتعلقة فى الأرض. وبذلك يكون شعره الذى يتوجه فيه إلى فلسطين ، النافذه الغائبة عن عيون المحتل الذى أغلق عليه نوافذه الأثيرة داخل الوطن، وجثم على كل نسمة هواء يستنشقها.
ففى بيروت عاصمة الحرية، وجد درويش ملاذه، ومن على أرصفتها وشواطئها وعلى مقاعد مقاهيها كتب درويش أعذب ما يكون من قصائد للعشاق والثوار ، ومن مناخات بيروت وملتقياتها الأدبية، وصحافتها الحرة ازدادت ثروة درويش الشعرية ومكتسباته الأدبية، فطلع على العالم العربى والعالم ، بآفاق جديدة ورؤى جديدة ، فلم تخالج درويش رعشة البكاء على الوطن ، ولم تجرفه لواعج الحنين السطحية ، بل توضحت أمامه معالم طريق جديد ، إنه الشاعر الملتزم الآن والمناضل بالكلمة، ولا سيما أن لكلمة درويش الوقع المؤثر ، لما تتمتع به من المزايا الجمالية ، ولما تحتويه من عناصر الإثارة ، ومع قصائده تعلمت فلسطين بأكملها قراءة الشعر ، الشعر الذى يسطر ملاحم فى عصر الإرهاب الصهيونى والديماغوجية السافرة.

وفى هذه المرحلة، التى نلمس فيها ، اتساع تجربة درويش الشعرية ، نراه يعيش الرؤية المركبة ويصبح الشكل التركيبى حتمياً للتعبير عن التجربة .

ويمثل هذه المرحلة ديوانه ( أحبك أو لا أحبك -1972) ومن أجمل قصائده ( مزامير) و (سرحان يشرب القهوة فى الكفيتريا) وكذلك ديواناه ( محاولة رقم 7- 1973) و تلك صورتها وهذا انتحار العاشق-1975).
وفى هذه المرحلة نرى الشاعر قد اقترب كثيراً من صياغة مفرداته الخاصة واكتشاف لغة الشعر الحديث ، حيث أن للغة ينابيع يجب تفجيرها إلى حد بعيد عن تقعرات النحو ومقاييس اللغة التقليدية، فالثورة فى الشعر تبدأ أولاً من اللغة، التى يستمد منها النص حيويته ويصبح حقيقاً القول إنه لا يجوز أن نقول إننا بإزاء شاعر عظيم بالقدر الذى نقول فيه إننا أمام نص عظيم ، فالشاعر كل الشاعر هو الذى ما زال يحاول كتابة القصيدة واكتشاف القصيدة. ومن هنا أيضاً كانت ثورة الشاعر يوسف الخال فى الحداثة الشعرية، فهو عندما أوقف إصدار مجلة شعر فى ربيع عام 1964، قال فى حينها إن " حركة الحداثة الشعرية ما تزال لليوم تصطدم بالجدار اللغوى". وربما كان هذا ما يقف وراء تأخر شعراء عرب كانوا فى المقدمة وسطع نجمهم فى سماء الحداثة العربية فى انطلاقتها ثم عندما لم يتسع أفق اللغة عندهم تراجعوا ، وأصبحوا فى حالة نسيان إن لم نقل إهمال.

ومن أجواء هذه المرحلة ومن قصيدته ( مزامير) نقتطف هذه المقاطع للتعرف على الشكل الشعرى التركيبى لدى درويش:

أحبّك ، أو لاأحبّك..
أذهبُ، أترك خلفى عناوين قابلة للضياع .
وأنتظر العائدين ، وهم يعرفون مواعيد 
موتى ويأتون
كأنك لم تولدى بعد ، لم نفترق بعد. لم تصرعينى وفوق سطوح الزوابع كل كلام جميل وكل لقاء وداع. وما بيننا غير هذا اللقاء، وما بيننا غير هذا الوداع.
أحبّك أو لا أحبك ...
يهرب منى جبينى ، وأشعر أنك لا شئ
أو كل شئ
وانك قابلة للضياع

فها هنا تتقابل الاحتمالات وكل احتمال له حظه من التحقيق ، وكل احتمال نقيض الآخر ، وعبر تناقض الأضداد يكون النمو ، أحبك # لاأحبك

أنك لا شئ # أو كل شئ
وما بيننا غير هذا اللقاء # ما بييننا غير هذا الوداع

ولكنه عبر حشد هذه الأضداد فى القصيدة يريد أن يشير باتجاه واحد وبالتالى أن يحدد هدفاً واحداً . فلكى يشعر أنها كل شئ يفترض ماذا لو كنت لا شئ ، وحين يصرح أنه يحبها ، يعكس المقابل .

فتصبح لا أحبك = أحبك
أنك لا شئ = كل شئ

ونلاحظ فى هذه المرحلة تأثر درويش بمنهج ت.س إليوت النقدى ( الموضوعى) كأنك لم تولدى بعد لم نفترق بعد . لم تصرعينى.

ويتجلى منهج إليوت النقدى بحشد أكبر طاقه مشعة ومؤثرة من التعبير، لتصبح معادلة الطاقة الانفعالية الأدبية.
على ان قصيدة (سرحان يشرب القهوة فى الكفيتيريا) أدل قصائد درويش عن هذه المرحلة ، أو بالتحديد هى القصيدة التى مكنت درويش من التصاعد فى خط بيانى وصولاً إلى المرحلة الخامسة وأجمل قصائده على الإطلاق ( أحمد الزعتر والأرض) . ومن سرحان يشرب القهوة فى الكفيتيريا نقتطف:

يجيئون،
أبوابنا البحر ، فاجأنا مطر ، لاإله سوى الله.
فاجأنا مطرٌ ورصاص 
هنا الأرض سجّة ، والحقائب غربة! 
يجيئون ، فلتترجلْ كواكبُ تأتى بلا موعدٍ.
والظهور التى استندت للخناجر مضطرة للسقوط وماذا حدثْ؟
أنت لا تعرف اليوم . لا لون . لا شكلَ. لا صوتَ. لا طعمَ.
لا شكل... يولد سرحان. يكبر سرحان،
يشرب خمراً ويسكر . يرسم قاتله ، ويمزّق صورته ، ثم يقتله حين يأخذ شكلاً أخيراً.
ويرتاح سرحان.
سرحان ! هل أنت قاتل؟

ويكتب سرحان شيئاً على كمّ معطفه ، ثم تهرب ذاكرة من ملف الجريمة ... تهرب... تأخذ منقار طائرْ
وتأكل حبة قمح. بمرج بن عامرْ
وسرحان متهم بالسكوت ، وسرحان قاتل .

فكم هى جميلة إيحاءات القصيدة حيث اتخذت شخصية سرحان بشارة سرحان المتهم باغتيال روبرت كندى شقيق الرئيس الأميركى جون كندى. رمزاً للتأكيد على تهديف الإنسان العربى الفلسطينى ومعرفة أعدائه الحقيقيين.
والمكان لبنان حيث توجد المقاومة الفلسطينية.

فالعدو يجئ من البحر عبر زوارقه ليستكشف أهدافاً ويعاين مواقع ، ويبدأ بقذف رصاصه ، من البحر ، فالبحر حامل المطر هو البحر حامل الرصاص ، وكم هى جميلة عبارة " لا إله سوى الله" التى يوظفها الشاعر لإظهار المفارقه بين نعمة الإله ونقمة الأعداء مستفيداً من المعنى الدارج لها لتصبح ذات دلالة على أننا نلمح ولو بشكل غير واضح تأثير إليزت فى قصيدته ( الأرض الخراب-The waste land) عبر أسطر هذه القصيدة، " والظهور التى استندت للخناجر مضطرة للسقوط" ، " لا لون لا شكل . لا صوت. لا طعم ". فهذه هى أرض إليوت التى باتت تستحق اللعنة.

" يولد سرحان يكبر سرحان" فليس ثمة محطات بين ذلك جديرة بالاهتمام، " يشرب خمراً ويسكر" دليل على عدم مواجهة المشكلة فالخمر للهروب،" يرسم قاتله ويمزق صورته ثم يقتله " دليل العجز " ويرتاح سرحان".
بالإضافة إلى ذلك فإننا نلاحظ عنصرى اللمح فى اللغة والتكثيف.
كما ونلاحظ الصورة المركبة والغنية والدلالات:
ورائحة البن جغرافيا
ورائحة البن يد
ورائحة البن صوت ينادى
ورائحة البن ناى تزغرد فيه مياه 
المزاريب. ينكمش الماء يوماً
ويبقى الصدى.

5- المرحلة الخامسة
هى مرحلة الغنائية الملحمية التى ابتدأت بديوان ( أعراس 1977) وامتدت حتى ديوان (ورد أقل -1986) وتخللها ديواناً (حصار لمدائح البحر -1984) و (هى أغنية ...هى أغنية – 1986).وفيها وصل الشاعر نقطة انعطافة المهمة لا على المستوى الفلسطينى بل على المستوى العربى ومنه إلى المستوى العالمى . ولا سيما فى ديوانه أعراس وبالتخصيص فى ( أحمد الزعتر وقصيدة الأرض ، وقصيدة الخبز) فهى مرحلة هامة جداً بالنسبة إلى نضوج الشاعر وامتلاء مخزونه من التجارب والاطلاعات والمثاقفات.

فقد أصبح الشعر عالم درويش الأول ، بقطع النظر عن الهم السياسى أو "أيديولوجيةالخطاب الشعرى" التى أصبحت تقوم بدل المباشرة على التماسك والعضوية والآنسياب على عكس"الوضع العربى الراهن".

إضافة إلى تفجر مخزون الشاعر الثقافى الذى يوغل فى العمق إلى الماضى السحيق، وتوظيف الرموز والأساطير فى صورة أخاذة وبنى متلاحمة متآلفلة فيما بينها مما خولها أن تكون حقيقة قصائد ملحمية.

وفى هذه المرحلة نلاحظ فى شعر درويش اللجوء إلى القصائد الطويلة ذات البناء الشعرى المسرحى. وإن كان الناقد محمد اليوسفى فى كتابه ( فى بنية الشعر العربى المعاصر) يرى أن "النفس الخطابى فى هذه القصائد الطويلة يحيط البناء الدرامى ويسطحه فتصبح المقاطع انفعالية ويرتد درويش من جديد إلى الرومانسية التى تركها منذ خمس عشرة سنة"

ولكننا وإن سلمنا مع وجهة نظر الناقد المذكورة إلا أننا لا نوافقه على التعسفية التى أطلقها بحق الشاعر حيث أن القصيدة الحديثة يختلط فيها الزمن التاريخى المتواصل بالزمن الأسطورى الطقوسى المتحول والزمان بالمكان ، وعلى أساس ثقافة الشاعر ومناهضتة للعدو اليهودى الذى يتخذ التوراه والتلمود دستوره الوجودى ، فإنه فى ذلك يكون قد حول الصراع على مستويات كافة فليس الصراع بيننا وبين اليهود بالسلاح بل وبالثقافة أيضاً ، وهو يلجأ إلى أن يكون شعره توراه فلسطينية تنظّم الردود وتكون بمثابة انقلاب على التوراة وهذا ما قد يلقى صداد عند المثقفين اليهود الذين ولا شك لا تأخذ خرافات التوراه الموهومة بألبابهم.

وبالإضافة إلى ذلك ، فإن طبيعة العصر المختلفة عموماً والمتشابكة تستلزم إلى حد كبير الخروج من أسر المشهد الواحد والاحتمال الواحد ولغة الخطاب المتبعة، من هنا فقد كانت قصائد درويش ملاحم عصرية خالدة.
على أننا يجب أن نلاحظ مسألة هامة وهى أن درويش وبعد الاجتياح الإسرائيلى لبيروت وخروج المقاومة الفلسطينية منها، يمكن أن ثمة تراجعاً قد حدث له ، فأصبحت الرؤية لديه تميل بإتجاه الذات ، ويمكن أن يكون السبب مرده إلى طبيعة الفترة التى مرت بها المقاومة الفلسطينية ، والمطب الآخر الذى وقعت فيه الثورة.
وهو يعلن ذلك فى قصيدته مديح الظل العالى حيث يقول:

كم مرّهْ تتفتح الزهرهْ
وكم مرّهْ ستسافر " الثوره".

فأصبحنا نجد لدى درويش فى قصائده الطويله ، التمدد الكمى فى البناء ، حيث التكرار والاستطراد المتكلف ، فى بعض الصور إلى الدرجة التى عاد الشاعر يجتر فيها نفسه من جديد. وعلى العموم فإن بداية المرحلة الخامسة كانت وقتها نقطة الانعطاف كما أسلفنا فى مسيرة درويش الشعرية.

فبعد اكتمال الأساطير التى بناها من " الاستعارات الفذة والجمل المفعمة بالحيوية" أصبح الشاعر فى هذه المرحلة وخاصة فى أواخرها يحس بصلابة الأحجار ، رغم فوران الزلازل تحتها.

والحقيقة أن ديوانه ( هى أغنية ... هى أغنية ) إعلان بأن درويش قد أحرق أساطيره القديمة عندما أراد أن يبنى أسطورة جديدة من أشلاء أساطيره القديمة وبهذا يطل طائر الفينيق متأهباً للولادة".

6- المرحلة السادسة
وهى مرحلة يمثلها ديوانه ( ورد أقل 1986) وهى الفترة التى فتر فيها حماس محمود درويش ، وتغيرت فيها علاقته بالشعر . ففى السابق وبعد خروجه من الأرض المحتلة لم يسحب منديله ويبكى ولم يقتل أعصابه ليكون إنساناً عادياً يعيش ضمن دائرة " الروتين" بل كان يعتقد أن الشعر بإمكانه أن يغير العالم ، والشعر على رأى النقاد فمه ملئ بالمستقبل والشعراء على رأى تشيلى مشرعو العالم غير المعترف بهم.

فأصبح شعر محمود درويش ممعناً بالذاتية والبكاء والحزن وعاد درويش شاعراً غنائياً ولم يعد شاعر التروبادر" كما كان فى السبعينات.

ولكننا نلحظ اهتمامات درويش فى هذه المرحلة الحزينة بقصيدة النثر على " اعتبار أن قصيدة النثر واقع يجب التعامل معه بابتهاج وآفتتان" كما يقول الشاعر فى لقاء مع مجلة الوطن العربى / باريس فى 17/6/1986. وإيماناً من الشاعر بضرورة " التعايش بين كل أشكال التعبير الأدبى والشعرى".