poets-writers

Antoine Kazan

poet and writer

انطون قازان - د. منصور عيد

"يا بائع الورد تنادي على الورد وتغضب اذا اتاك الشاري، فان فاتك ربحه ما فاتك ريحه".

هذا الكلام قاله أنطون قازان، واحد من زمن الأناقة الأدبية وفسحات الابداع، أطل صائغا  تأشيرة الدخول الى عالم الجمال: الكلمة. أطل على مشارفنا الأخيرة من القرن المنصرم، حاملا  في جعبته الأدبية جدلا  راقيا  بين أرباب النخبة: هل الأدب تفنن وابداع جماليات فحسب، أم هو تظهير لمعاناة واقعية والتزام؟ ونحن بين الآثنين نبحث عن الهروب الأبدي الى عالم الافتتان والجمال.

ويبقى بعد كل جدل حضاري سؤال هو: أين الخلود؟ والجواب في جانب منه هنا، الآن. نكرم الخالدين باستذكار انسانهم في جوهر ذاته، واستذكار وجودهم الكلي في أعمالهم. ونقول عن أنطون قازان الانسان المبدع: لقد جعل الأدب الأنيق بمستوى خلقيته المثالية، ونقاوة حضوره، ورفعة مكانته. كان حضوره، هنا، في زمن العطاءات الكبرى، وكان له حضوره في مصر، في الأهرام، وحضوره مكرما لدى ملك المغرب. وقد أغنى ثقافته من أغوار مناهل الفكر العربي، متعمقا  بنهج البلاغة للامام علي، غائصا  حتى الدر في الأعماق. نسمعه يقول مستلهما الجمال من ابداع أمين نخله: "المفكرة الريفية تداوى بها البشاعة". فهل هناك أناقة نقدية أرفع من ذلك؟ اذا، ولا عجب أن يقول سعيد عقل، بأنطون قازان، وهما ينتميان الى مدرسة واحدة، مدرسة الفن للفن.

يقول:

نصف شعري كان كي تقرأه لا تكابر أو هو القفر الجديب

أيها الصدقاء، حقي بالكلام عن انطون قازان يضيق أمام حق الباحثين المتعمقين الدكتور أنيس مسلم، والدكتور فوزي عطوي، وهما صديقان، لم يبخلا على الأدب وعلى منابره بأعمالهما ودراساتهما. فشكرا ، وتقديرا  للوقت الذي صرفاه، ولمشاركتهما في اغناء هذا اللقاء.

أنطون قازان - د. أنيس مسلم - جامعة سيدة اللويزة 16 آذار 2004

العودة الى أنطون قازان عودة الى الأصالة، وحد الى تراث لنا عظيم، ورفقة هذا الظريف الولع بصياغة النفائس، تريح البال من همومه، وتنشط الهمة، وتنعش القلب؛ أما قراءته الممتعة فتزيل ستائر الزمن، وتنسج من خيوط الغياب حضورا   فيه نكهة الأبدية.

فشكرا  لجامعة سيدة اللويزة على نبل بادرتها، هي السباقة أبدا  الى الوفاء، وهنيئا  لها تعرف كيف تعكف على لملمة كنوزنا المبعثرة، وكيف تحتفل بالأدب الراقي، وترفع، عاليا ، ألوية المبدعين.

أيها السيدات والسادة

ان ما أحمله اليكم الساعة من جنىً، قليل من كثير أنطون قازان، حالفني الحظ فجمتعته باقات من حدائقه الزاخرة بالطيب، وأشياء الجمال، وغمرا  من خصب حقوله وقد أشرقت فيها السنابل الشقر ثريات.

فالذي يذهب الى أنطون قازان، ويخلو به، ينادمه، ينصت له، ويستمع الى درره، يخرج من صومعته وهو أكثر اطمئنانا  الى عافية اللغة وعبقريتها، وأشمل نظرة   الى شؤون الفكر والأدب، وسلامة مسيرتهما ، وأشد تعلقا  بلبنان، واعمق ايمانا  بالله أرحم الراحمين.

فبين أنطون قازان وعصره تعاط موصول الأواصر، فقد لبى دعوته دون توان؛ وكان يغسل عينيه، كل صباح بضياء كسروان لتبقيا متعافيتين، قادرتين على اكتشاف الجمال، ونقل أبهى نماذجه الى قرائه.

ولكم نحن مدينون له باظهار المحاسن المخبوءة في الشعر والرواية والمقالة والخطبة؛ فقد كانت له، على مدى عقود ، نظرات ثاقبة في الانتاج الأدبي، ووقفات ناقد حاذق سلط فيها الأضواء الكاشفة على أعمال أغنت المكتبة العربية، ولولا قلمه الملهم، لبقيت طويلا ، في الظل، أو اندثرت.

وقل أن نجد أديبا  لبنانيا  عايش الحركة الأدبية، في الثلث الثاني من القرن الماضي، كأنطون قازان. فقد شارك في أبرز النشاطات، خطيبا  ومحاضرا  وباحثا ، وممهدا  لغير كتاب، وناقدا  من طراز خاص، تميز بذهن يقظ، وطواعية نادرة، وأناقة قل مثيلها؛ وفضله الكبير ليس في كونه سلط الأنظار على أهم الأعمال الأدبية والفنية وحسب، بل أيضا  في كونه أرخ مرحلة  من أسطع المراحل في الأدب اللبناني المعاصر.

كان أنطون قازان، الشاعر والكاتب والمحامي، أنطون قازان الرفيق، اللطيف، الشفيف النفس؛ فلا أقنعة ولا محاباة، ولا مجال لأية مساومة. طوية طاهرة لا أثر فيها لزغل او سوء نية. فالصدق، في هذا الرجل، لم يكن مثله الأعلى، بل جزءا  من كيانه؛ فكأن أدبه جاء استجابة  لا شعورية  لنداء جان بول سارتر الداعي في "الكائن والعدم" الى "أن نكون ما نحن، ففي هذا نبلغ جوهر الكينونة".

فالمعضلة، ليست في أن يمسي الأديب مشهورا  أو معروفا ، بعد زمن من السهر والجهد، ونشر الأعمال الأدبية، بقدر ما هي في امكانية تحقيق الذات، وممارسة ملكة، أو المطالبة بحق أو تنمية موهبة بحرية. ولقد دفعت هذه المعضلة المستمرة أدباء ومفكرين كبارا  الى مقاربتها، والتركيز على أبرز عناصرها، كل من زاويته الخاصة: جورج بتاي في معالجته المستحيل، وجعله محوريا في معظم أعماله؛ وألآن رنيه في الأمور التي لا يمكن اتخاذ القرارات الحاسمة بشأنها؛ وصموئيل بيكت في اغفال أسماء الناس والأشياء المتعذرة تسميتهم؛ ورولان بارت في الحياد والمحايد واشكاليات الكتابة.

وانطون قازان من أدبائنا الكبار الذين أعدوا القارىء لنبذ الرداءة، والجد وراء الاجادة؛ وكانت يده على الانتاج الأدبي في الستينات والسبعينات، أندى من كل يد عرفتها تلك الحقبة. فالفكر والشعر رافقا كتاباته، فتحولت كلماته من مجرد تعبير لتغدو تصورا  كالضوء واللون والرائحة، على نحو ما ذهب اليه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في تأملاته الرائعة في شعر فريديريك هولدرن، اذا اعتبرهما (الفكر والشعر) جزءا  لا يتجزأ من كينونة الشاعر.

ولعل نضارة قلبه، وطهارة روحه حمتا تواضعه من لوثة الكبرياء، ومسكنة التشوق، فبقي عمره مساويا  لذاته، هو المبدع الذي تألقت أعماله في سماء الأدب كما الثريات في ليالي السهر والسمر والمنادمة في كروم زحلة العالية؛ لهذا، ما اجمع القراء، في لبنان على محبة أديب كما أجمعوا على محبته، وقد قرنوا بالثقة والاحترام.

لقد عرف أنطون قازان، مثل زميليه بول فاليري وبول كلوديل، لحظات الافتتان القصوى في الابداع، فاخترق ظهر المرآة؛ كما في الحلم، ليولد انسانا  سويا   على تخوم المطلق.

أيها السيدات والسادة

ان نحن تناولنا الأديب في أنطون قازان أطل علينا الفنان المبدع والصوفي الورع، واللبناني الكبير ناصع الجبهة، وصاحب الهمة العالية، المصلح الفذ ذو القدرة على استنهاض العزائم، ورفع المعنويات انسان الذوق المرهف، المستقيم، الوفي الأمين.

هذه الصفات جميعها، ليست كرما  مني، كما يمكن أن يتبادر الى الأذهان، بل استخلصتها من قراءتي المتأنية مجموعته الكاملة، وترصدي بضع كلمات توالت في الجزء الثاني من المجموعة اعتبرتها بمثابة مفاتيح لأبواب نلج منها الى جنة أدبه الراقي. فقد احتلت، في احصاءات أجريتها، كلمتا الابداع والخلق الفني المرتبة الأولى اذ وردتا 166 مرةً، واذا أضفت اليهما عبارتي الجمال والحسن وصل الرقم الى 218، وجاءت في المرتبة الثانية كلمة الله 97، وحلت في المرتبة الثالثة كلمة لبنان 94، وفي المرتبة الرابعة كلمتا النهوض والترقي 72، وفي المرتبة الخامسة كلمتا العنفوان وعزة النفس 45، واخيرا  كلمتا المعرفة والعلم 24. وردت هذه العبارات في خمسين عنوانا ، بلغ مجموع صفحاتها مائتين وعشرين صفحة.

فأنطون قازان الفنان المبدع، حبره من دم قلبه؛ يكتب وهو يتأمل؛ ان وصف بحث عن المحاسن في الناس، وتجاوز البشاعات، وما يمت اليها بصلة؛ وان قارب كتابا  ، نظر اليه بعين العالم المدرك مشقة الخلق، محاولا  استكشاف جمالات محتوياته، وتسليط الضوء على الجديد الذي يحمله الى القراء، كل ذلك بأسوب رشيق، متين، مشرق، أرستقراطي الملامح على نزعة عقلانية بينه.

وكما كبار المحامين، كان أنيق العبارة، فصيحا  بليغا ، سيدا  في المنطق؛ تشبثه بالحق وحرصه على الحرية لم يكن يوازيهما سواء أكتب ام ترافع امام المحاكم، غير نصرة العدل، والدفاع عن كرامة الانسان وحقوقه الأساسية.

كمغامر فينيقي أبحر في الأدب، حمل قلمه، نشر شراعه وانطلق. راد المجهول ما بين الموانىء والأفاق القصية، وعرف قيمة المنارات في بلوغ السلام، ومحاج السلامة. اصطاد اللؤلؤ كأمهر غطاسي اليمن السعيد، فجاءت قصائده ومقالاته أوسمة  على الصدور، وقلائد من زمرد في عنق الأدب اللبناني.

لقد برع في البحث عن الجمال حتى ليخاله القارىء حصاد الخير في المواسم؛ لا تفوت قلمه الغض مناسبة جني. سباق هو، في مواسم الوفاء، لا يجارى في تسليط الأضواء على الفضائل وفي الوفاء؛ تلبيه الخواطر أيما تلبية، وتستجيب اللغة رغبته في برء الطرف كأنها تكافىء ما عاناه لتحقيقها.

ولأن البسمة فجر الجمال "فقد غدت للمصلحين سبيل بلوغ" و "ان شعبا  ضرب العبوس عليه لشعب ولا رجية... وان أمة  تفاكهت أرق الله حسنها وداوى باللطف آفاتها وبلغها ما في نفسها.".

كاد الطريق الى الجديد والحديث والطريف في الأدب اللبناني، في فترة منورة من تاريخ لبنان يمر، حكما ، بما يمهد له أو يقدمه أنطون قازان؛ فاذا فوت القاىء غيث هذا القلم البهي فاتته أغمار من الأعمال الأدبية المباركة.

كان أنطون قازان المؤمن بالله، صوفيا  من نوع فريد نادر؛ يكتب وكأنه يصلي؛ بل كانت كتاباته صلاته اليومية؛ لا يفوت طقوسها، ولا يتأخر عن مواعيدها؛ فكأني به، وهو الضليع في تاريخ الآداب والعلوم العربية، يضع في الممارسة هذه المقولة الاسلامية القديمة: "ان حبر العلماء أعز لدى الله من دم الشهداء". هو القائل في مقدمة كتاب عبد الكريم شمس الدين: "أنت الزارع يا الله" والمتسائل المدرك "أليس الأدب أن تعطي ما تعاني، وأن تعطي ساعة أنت تعاني؟"

كنبي  كان يحضر ساعة يستدعيه الحضور، والى حيث يدعوه فيقول كلمته ويغادر؛ وفي حضوره كما في غيابه كانت كلمته تشرق كالعنبر، وتبوح، كزهر الليمون في سواحلنا، بحنينها الأبدي الى الله.

أما أنطون قازان اللبناني الكبير، فحدث عنه ولا حرج. تكاد لا تخلو مقالة من ايحاءاته أو تنأى جملة عن عبير ياسمينه وفله أو تغفل الاشارة الى واحدة من خصائصة؛ ففي كلام له من الاغتراب اللبناني وردت كلمة لبنان عشر مرات؛ وفي تقديمه سعيد عقل في "الذوق" مجد لبنان، كما لا أحد، قال: "هذا المتعبد للبنان لا يملك شبر أرض من لبنان... على أنه كولي الوقف، لا يملك شيئا  ويملك كل شيء؛ له الخواطر من لبنان، وله القلوب من لبنان".

وفي مقالة كتبها في كانون الأول 1967 عن أمين تقي الدين أشاد بالأمين، اللبناني المثال الذي "كرمت عليه نفسه فهانت لديه الدنيا... خلق ليغني لبنان، وهو اللبناني الذي "كرمت عليه نفسه فهانت لديه الدنيا... خلق ليغني لبنان، وهو اللبناني الذي عاش أمير خلق بقليل زاد". حتى"لتحار في أيهما المتكلم" على حد تعبير اميل كبا في مقدمة الجزء الثالث من المجموعة الكاملة: "هو أم كل حبة من تراب ارضنا ألقت حمولة طيبها، وطيبتها عند رصيف عينيه".

وانطون قازان المؤمن، المبدع، قيثارة لبنان، ورسام محاسنه، وطرف أهله، كان، الى كل هذا، رجل الارادة الواعية، والضمير الحي، ورجل النظام الذي يتقن الغوص في أعماق الناس والأشياء؛ مصلحا  من طراز فريد وافر الخفر، يعرف كيف تستنهض الهمم، وكيف تزال الأغشية عين العيون، وكيف تمهد السبل للانطلاق صوب القمم. لنسمعه يتكلم في تقديم بطرس ديب "حفيد الدفعة الراجحة" المحاضر عن "رسالة لبنان" يضيق النهار عليه مضروبا  بليله، فالأربع والعشرون قليلة... وقف أمام ضميره، وآمن أن لكل مشكلة حلولا . فهو ساع دوما  على أشواك المبهم، يقتحم الصعاب بشمول نظر وثقة بلوغ".

وبعد، ان أدب هذا المتنكر لذاته حتى الحياء الريفي، الذاهب في غيريته الى الأبعاد في النفس البشرية، غني بالأفكار والمشاعر والمعارف، وكأنه جماعة في رجل فرد راق، في خصوصيته وشموليته، وبهجه المميز؛ وهو مثل السماء يستحيل على الناظر اليها بعينيه أن يرى العمد التي تقوم عليها.

تقرأه فتضيء شمس، ويهل غيث، وتندى لواعج جففها العطش.

ويا أخي أنطون، كلما أبعدنا الزمان عنك، حملنا الشوق اليك، وردتنا الأصالة الى روي عذب لا يزال يتدفق من فيض ينابيعك.