Antoine Kazan

أنطون قازان في مهاب الشعر - د. فوزي عطوي

أنطون قازان في مهاب الشعر - د. فوزي عطوي

"المحاضرة التي ألقيت في جامعة اللويزة - زوق مصبح ليلة الثلاثاء الواقع فيه 16 آذار 2004"

لست أخشى على أنطون قازان من مقاربتي أدبه، ولكنني أخشى على نفسي من مقاربة ترك لي فيها الخيار، فكانت الحيرة الحقة أولى تجليات العقاب الذي يناله زاعم أنه المقتدر على حبس أمواج يم خضم بين أهداب صدفة لن تنم، في حال من الأحوال، الا عن اللؤلؤ المنظوم والمنثور، وقد تمادى به الفرح حتى غمر ظلمة الأيام الماضية، وأرخى على الأيام الآتية معاطف السناء والضياء، فنمنمة العطر والسحر في ثنايا بوجه العبقري!

ولطالما تعثرت، حينا  بعد حين، بعقبات كأداء حاولت عبثا ، أن تحول دون ايفائي ما علي للصداقات من رصيد مدني، لكن للصداقات سعفتها تمرغ بها انف اليام الحرون، وفي سياقها يد لأفي وصديقي المحامي شوقي قازان اذكرها واشكرها، اذ كان قد خصني، يوم صدرت المجموعة الكاملة لأعمال انطون قازان، بنسخة أنيقة شقيقة احسبها تليق بالغائب الحبيب الذي ما شهدت عليه، على تمادي ألمه الدفين، جسدا  ودمعا ، الا الصباحة والملاحة، وما تبدت لي طلعته، مقيما  بيننا وغائبا  عنا، الى ذلك المشرق الذي لا يليه غروب، الا وهو سخي فصاحة في القول، ورجاحة في العقل، ناهيك تلك العاطفة الندية المشبوبة، المنسابة من قلبه الى كل القلوب من حوله، وكأنها العبق الشذي، يخالجك حيث انت، ولا بنتظر منك اذنا بالولوج الى أعماق كيانك!

وحين أبلغت انني شريك أخي وزميلي الكبير الاستاذ العميد الدكتور انيس مسلم في احياء ذكرى انطون قازان، أديبا ، توجست أن أقع في التكرار بعد قول فصل، يقطع به الزميل العميد.

لكنني، وأنا أقلب "المجموعة الكاملة" توقفت أمام ظاهرة كنت ألمسها تماما ، من قبل، فاذا هي في تجليها الصانع، تؤكد لي أن الرجل الذي كان متعدد المواهب والمهارات، على صعيد المحاماة والدراسات الحقوقية، وعلى صعيد الخطابة والنقد الأدبي، كان قبل كل شيء، وبعد كل شيء شاعرا  بامتياز، حتى لتكاد تدرك، دون ان يوقع امسه تحت ما يخط بنانه المشبوب، انك بازاء أدب قثازاني أصيل لا تنساق سلاسته، ولا أناقته ولا بلاغته ولا غور أعماقه ولا شأو أبعاد، لغير انطون قازان.

ولعلي أحاذر، بكل صدق، مجاملة  لم تكن تستهوي انطون قازان، ان انا قررت منذ البداية ان أولى مزاياه كانت تلك المنهجية الدقيقة التي لا يضيرها أنها توجت قطعة قليلة الاسطر، أو واكبت بحثا  رحب الجنبات، فما تكاد تبدأ بقراءة خطاب له أو تقديم أو مقال أو بحث أدبي حتى تشدك السطور الى صدرها. فلا تتركها انت أو قل لا تتركك الا وقد ترديتما شما  وضما  وتساقي كؤوس من سماحة الأرواح!

لقد كتب انطون قازان شعرا ، وكتب عن الشعر والشعراء، وكتب عنه حملة الأقلام وخصوه نثرا  وشعرا ، بفيض من الأطايب مترقرقة  كالنائم النثوى، متهادية  مفعمة  بذلك الهدوء المطمئن على صفحات البحيرات.

وأبدأ فيما كتبه عن الشعر، فأراه نجي حداثة لا قرض بالتنكر للأصالة، وهو اذ يسأل عن رأيه في الشعر الحديث؟ يرى أنه انطلاق وقلق، وأما الراسخ الرأي فهو انتظار وهو يصر على توافر النعم في الشعر "اما النغم فأحب أجزاء الشعر وألصقها بحقيقته، انه صلة الشاعر بالعلى"، ويرى ان القضية لها قضية شعر تزييني، دائما  للمستوى الشعري حرمة هي للقديم وللجديد معا ، فاما ان نحافظ عليه والا فنثرا .

ولا شك عندي في أن انطون قازان، في ديبلوماسية نقده، لم يخف عن الراغبين في كتابة الشعر، بغير أدوات فنية أو بغير موهبة. أن أفضل ما يفعلونه هو الاقلاع عن الالتصاق بالشعر المزور عنهم والاتجاه الى النثر، فكم من ناثر شاعرا . وما أنا بذاهب الى أبعد من انطون قازان نفسه، ومن جبران خليل جبران، ومن أمين نخله، ومن يونس سلامة وسواهم من شعرائنا الذين وهبوا القدرة الى جانب الشعر على كتابة نثر فيه من الشاعرية ما ليس في الكثير من قصائد التفعيلات المنظومة التي لا تهز لنا كيانا ، وانما قد تشعرنا بالغثيان لكثرة ما فيها من غثاء! 
ولطالما ردد أنطون قازان تلاوة فعل ايمان بالحب والفرح، اقنومين أساسيين من أقانيم الشعر، ومن معنا ترحيبه بشعر سعيد عقل، وايليا ابي ماضي وسواهما من الشعراء القادرين على زرع الابتسامة حتى في قلوب الحزانى، وتعريض بتلك السوداوية المفتعلة الآتية الينا من خارج التراث العربي، كما فعل بالنسبة ان بعض ما كتبه ادونيس (علي احمد سويد) ورشيد أيوب من شعر، وكما فعل في حذر من تمادي العتمة في انتشارها على يد المزعوم شعرا  حديثا ، فقال: على انه يخشى من تمادي العتمة في انتشارها، فهي تخيم أكثر فأكثر: (الاشياء الميتة، والرماد، والمقابر، والجيف والتراب، والغبار والخراب والهدم، والجوع، والموت) كادت تستأثر بالشعر الحديث، حتى أن الحب وجدته الدائمة، يكاد يغيب عن هذه الحركة، اللهم الاه في نواحيه المظلمة، ومن أسباب ذلك اتصال وثيق بالتيارات الغربية، ولا سيما الفرنسية المعاصرة التي يكاد يختصر وجودها الشعري بموضوعي الحب المظلم والموت.

ولم يكتف انطون قازان بهذا القدر، بل عمد كما يفعل الصائغ الخبير بالجواهر، الى الحديث المطول عن الغناء وكيف لا يفعل، وهو يعلم، وكلنا يعلم، ان أرقى شعارنا كان الشعر الغنائي، ولطالما ذكر بأنه في حديث الغناء المغنين ما يذكر الشعراء بخاصة الفرح في الأدب، تلك الخاصة التي دعا اليها أمين الريحاني في كتابه "انتم الشعراء"، وجاء سعيد عقل يقدم الدليل في "رندلىً" على أنه الفرح في الشعر يغني كالألم! (المجموعة الكاملة، ص 16).

ولعلي أدلل على مدى ولوع انطون قازان بالفرح والبسمة والطرفة، من خلال وقفته الحيية والممتعة في آن أمام ما كان يروى عن الخليفة "الواثق" الذي كان اذا شرب، رقد في موضعه ومن كان معه. فحدث ذات ليلة أن جميع جلسائه انصرفوا الا واحدا  تراقد. فلما خلا المجلس، كتب الى جارية الواثق رقعة  جاء فيها:

اني رأيتك في المنام ضجيعتي مسترشفا  من ريق فيك البارد 
وكأن كفك في يدي وكأننا بتنا جميعا  في فراش واحد، 
ثم انتهيت، ومنكباك كلاهما في راحتي وتحت خدك ساعدي 
فقطعت يومي كله متراقدا  لأراك في نومي، ولست براقد!

فأجابته الجارية - المغنية على ظهر الرقعة:

خيرا  رأيت، وكل ما أملته ستناله مني، برغم الحاسد 
وتبينت بين خلاخلي ودمالجي وتحل بين مراشفي ونواهدي 
ونكون أنعم عاشقين تعاطيا  ملح الحديث بلا مخافة راصد.

وعندما كان أنطون قازان يكتب عن شاعر او يقدم لشاعر، كان يتجاوز التعريف والتحليل الى اثارة قضايا أدبية وشعرية كبرى، كما فعل في كتاباته الكثيرة عن شاعرنا الأكبر الاستاذ سعيد عقل.

وكما فعل فيما كتبه عن الياس ابي شبكة شاعر "غلواء" وكذلك الأمر بالنسبة الى الأخطل الصغير، وايليا أبي ماضي، وأبي العلاء المعري، والشاعر القروي، وصلاح لبكي، ونعمة قازان، وأمين نخلة، وجورج غريب، وشبلي الملاط، وعبد الله غانم، ومحمد علي الحوماني، وعبد الكريم شمس الدين، وععمر ابو ريشة، ونقولا فياض، وحافظ جميل).

قلت، منذ البدايات، ان أنطون قازان كتب الشعر، وقد انتظمت قصائده في الجزء الرابع من "المجموعة الكاملة"، وجاء هذا بمثابة اللؤلؤة الحيية الحجم، الناهدة مبنى ومعنى بما تلفعت به من مطارف الجمال، وان يكن معظم ما فيه من قصائد قد فرض على الشاعر فرضا ، كما يهمس سعيد عقل في مقدمته، وانها لايماءة بارعة من شاعرنا الكبير الى مدى العنت الذي يعاينه الشاعر، يوم تكون مشاركته مفروضة عليه بفعل المناسبة الطارئة، وان يكن المطلوب أساسا ، حتى في شعر المناسبات، ان يرفع الكلام الظرفي المتسلل بخفر، الى مستوى الشعر الشعر، كما فعل أبو الطيب المتنبي الذي أنستنا حكمه ووجدانياته اطار المناسبات التي قيلت فيها قصائده.

ومع هذا لا يفوت سعيد عقل ان يبدي اعجابه بأنطون الشاعر المقل: "يا قلما سيقرأ مستلهما ، اذ على هذه القلائل المشرقات جرى المداد يقول ما لم يقل، واستيقظت الطبيعة من اجل طلع ما مر زهره ببال، ولا ورسه على غصون حلم" (المجموعة ج 4 – ص 70)

ألم يقل سعيد عقل، مخاطبا  أنطون قازان، في يوم ذكراه في مهرجان الأونيسكو:

نصف شعري كان كي تقرأه لا تباعد، أو هو القفر الجديب! 
ألم يقل له ايضا :

يا شقيق الديم انهالت على جبل فهو بما تهوى خصيب.

لكن الانصاف يحتم تجاوز شعر المناسبات، لدى انطون قازان، الى تلك الوجدانيات الراقية التي تجلوه لنا، وقد دان بدين الحبيب الواحد، حتى لقد أخذ عليه الناس أنه يجد الخطى في طريق "الحب الضيق". ألم يقل قصيدته "أنا ان ذكرت" (المجموعة- ج4- ص 29):

مهلا  جنون الحب، حسبك انني الاك في دنياي لا أتعشق 
أنا ان ذكرت سواك، لم أذكر رهوى، أخلصت حتى قيل: حب ضيق 
فتح الفؤآد على هواك مع الصبا وعليه، يا وحي اليراعة يغلق!

ولا يخفي أنطون قازان حنين ذكرياته الى أيام ماضيه (ج4- ص 36):

ذكرت في عزلتي أيام ماضينا لا الحب باق، ولا عهد المحبين 
يا حبذا زمن الأحلام من زمن تحيا العيون له لوعادها حينا ! 
ان قلت دنيا، فحب كان يجمعنا أو قلت عمر، فليل من ليالينا 
أمر الحي بعد الهجر اسأله: هل مات فيه الهوى أم هجعة فينا! 
نغفو على خمرة الساقي ونشوتها ونستفيق على اغفاء ساقينا!

وبعد

تعود الى خاطري تلك المهرجانات التي انعقدت على ذكرى أنطون قازان في قصر الأونيسكو، وفي معهد الرسل، وفي مركز توفيق طبارة بدعوة من "الأوديسة" ورائدها الصديق الشاعر الكبير هنري زغيب، والتي شرفت بالمشاركة في بعضها، وما زلت أذكر اشارة النصر التي اعلاها لي سعيد عقل وهو يرحب ألطف الترحيب بقولي في انطون قازان:

يا نافح الشعر أحلاما  مجنحة  ورافد النثر ضوءا  يشعل القمر! 
ان بحت بالشجو صيرت المنى غررا  أوهمت بالحب وزعت السنا دررا 
فللأنامل سحر ليس يعرفه من لم يداعب، على انغامك الوترا 
حديثك الحلو لم يبرح خواطرنا نشتاق ما بان من نجواه واستترا 
ان قيل: من فارس الفصحى وحارسها؟ تلفت الهدب صوب "الذوق" وانكسرا

وتحية لروح انطون قازان، في يوم ذكراه، 
وتحية لجامعة سيدة اللويزة - صرح الوفاء للقيم العلى، 
وشكرا  لكم من القلب.