Articles

Art in the press

تباين الاذواق في التصوير- بقلم المصور اليدوي قيصر الجميل

المعرض العدد الخامس والثلاثون شباط- نيسان 1932 ص 11

ليس من الهينات معالجة موضوع حر كالتصوير لا قاعدة له ولا رابط. فلكل ذوقه ولكل عقليته، وليس من المستغرب ان يرضى الانسان بذوقه وعقليته.

التصوير انشودة ملونة صامتة تتأثر بها العين وتتغلغل هذه التأثيرات الى العقل او الشعور وتنقلها اليد الى المادة، فاذا لم يشعر الرسام ولم يتأثر بموضوعه ويمتزج به خرج رسمه بليداً بائخاً خالياً من معاني الحياة وروعتها. اما الاتقان المادي في هذا العمل اذا ما خلا من هذه النسمات فهو اشبه بالانشاء المرصوف او الشعر المستقيم الوزن الركيك المعنى، فمن لم يكن مشبع الدماغ والروح من موضوعه الذي يريد ان يحدثك عنه أشبعك حتماً كلاماً فارغاً وحديثاً بلا لذة ولا فائدة. ومن حظ البشرية ان الفنان الحقيقي الملهم كان في كل عصر ومصر يذيب دماغه ويفني نور عينيه في سبيل تهذيب فنه ورقيه ليتمكن بواسطته من تهذيب شعور الناس واذواقهم.

ان فيدياس كان يكتب تاريخ البشرية في كل رأس ينحته، فلو لم يكن له من الذكاء والقوة بمقدار ما للبشرية لما تمكن من حصر تاريخها في كل رأس. وقد ساعد الحظ فيدياس ان البلاد اليونانية كانت راتعة في بحبوحة من العيش متعبدة للجمال منفتحة اعينها للنور فتمكنت ان تقرأ هذه اللغة العلوية، اقول لغة لان الفن لغة مستقلة يمكن لكل ذي عينين ناظرتين التأثر بها ولكنه لا يفهمها قبل درسها درساً طويلاً دقيقاً. قلت ان لكل ذوقه وعقليته وكل يبني حكمه على الاشياء بحسب هذا الذوق وهذه العقلية، فقد يصعب اتفاقنا على صورة فنية بسبب هذا التفاوت في الذوق والعقلية هذا من جهة الفن الروحي العالي. اما الفن المادي أي نوع التصوير وطريقته فهذه يمكن درسها وفهمها والحكم بها حكماً صحيحاً مصيباً في الغالب، اقول في الغالب، لان الاصطلاحات الاساسية لهذا الفن اكثر من ان تحصى فكيف بالاصطلاحات الفرعية؟

كان يعتقد الناس مثلاً بسيادة رافايل على جميع المصورين وطالت هذه السيادة الى اوائل الجيل التاسع عشر عندما بدأ بعض عظام الفنانين بدرس آثاره كرجل عظيم وليس كإله، عندئذ دالت دولته ونزل عن الكرسي الملون وعد بعدل أعظم illustrateur فهل نتشبث بالرأي الاول وننقض الثاني ام العكس بالعكس، لا اعلم. يتساءل الناس لماذا لا يعرف فنان ولا يشهر قبل موته فالجواب سهل واضح: مهما بلغ ذكاء العامة فهو لا يصل بسهولة الى فهم اناس اعلى من المستوى فلذا يقوم بشر لهم من النعومة والجاذبية والاحساس ما يقربهم من ذلك الفنان فيبدأ الميل الشخصي ثم يتطور الى وحدة نفسية، فيتفاهم الاثنان بلغة مستقلة مبهمة تنجلي رويداً فيما بينهما، ينقلها هو بدوره الى لغة سهلة وينشرها على الناس فتنتشر. تسمع الناس في المعارض الفنية تتناقش بالالوان وتعالجها فيقول واحد ان الوان هذا المصور ضاحكة تبهرني واما الوان ذاك فهي قاتمة لا زهوة فيها ولا رونق، فيعاكسه آخر، ويحبذ هذا ما استهجن ذاك، وعلى النظريتين أجيب: كلاهما مصيب بالوانه وكلاهما يعبر عن نفسيته، ان الفنان التعس الذي لم يذق من الحياة سوى المرائر لا يمكنه ان يطربك بالوان زاهية مفرحة واذا فعل كان كمن يرقص في المآتم فلا هو يضحكك ولا يبكيك، وبالعكس من بسمت له الحياة وعاش بين الراح والدغدغة أمطرك الالوان زهوراً وغنى لك ما طال كيفه. نحن لا نأمل اليوم بنهضة فنية في بلادنا، فالفن رفيق اليسر، رفيق الاستقلال، رفيق القوة، فلما ضعفت دولة الاشوريين امحى فنها ولما تضعضعت دولة الفراعنة تضعضع فنها ولما انكسرت شوكة الفرس مات فنها وهكذا قل عن اليونان التي لم تزل الى اليوم تغذي دماغ العالم من آثارها، وعن النهضة الايطالية التي بعثت الفن من المدافن واشعلت الثورة الفكرية في الغرب كله، فهي قد هدأت اليوم وخمدت جذوتها. مما يروى عن فلاسكز المصور الاسباني الذي يحمل لقب اعظم مصور اوجده التاريخ، انه بينما كان يرسم صورة ملك اسبانيا ( وكان وقتئذ مصور القصر) سعى الوشاة به وافهموا الملك بواسطة اعوانهم بان الاخير رسام لا يجيد سوى تصوير الرؤوس. وكان الملك يحب مصوره ويحترمه كثيراً فجاء يوما يداعبه ويروي له الروايات الى ان وصل الى الوشاية فأجاب فلاسكز مليكه ببساطة وثقة: مولاي ان اعدائي يغالون كثيراً بمدحي فانا لا اعتقد بوجود مصور يجيد تصوير الرؤوس، مع ان الصور التي تركها فلاسكز عن الملك فيليب الرابع هي دروس في التاريخ والاخلاق كتبت بابلغ لغة واجمل تعبير.

جمعني مجلس ببعض النواب فسألني احد الاصدقاء عن الفن ورأيي في الفن فاردت ان أبين سامعي الكبير منافع الفن وضرورته ولكن النائب الكريم قطع علي الكلام بقوله: ما أفضى بالك! الحق معه، مسكين معذور مشغول فكره.

قيصر الجميل