Articles

Art in the press

People of Arab heritage (Arabic)

أهل العربية والتراث - نادي متخرجي الجامعة الأميركية 31 آذار 2006 - نديم نعيمه

لعل أبرز ما شغل العرب والفكر العربي خلال القرنين الماضيين، وما زال يشغلهم حتى الساعة، هو ظاهرة المدنية الغربية وحضارتها المعاصرة في مقابل ما هم عليه من واقع متخلف نتيجة قرون مما درجنا على تسميته عصور الانحطاط.

ليس من باب الكشف عن جديد القول ان دولة الخلافة كانت قد بدأت منذ القرن الثامن الميلادي تلعب دور الريادة الحضارية في كل باب من أبواب العيش والمعرفة نسبة الى عالم ذلك الزمان. ففي حين كانت أوروبا، بعد سقوط روما، وريثة الحضارة الاغريقية القائمة أساسا ً على العقل، ترزح تحت ما يسمى عصور الظلمة، كانت تلك الحضارة الاغريقية العقلية عينها تتحرك نحو حقبة يناعها وتألقها على يد الدولة العربية الفتية الطالعة، فلا تلبث بغداد، بعد أن تسنى للعربية امتصاص كافة علوم الروم والاغريق واستيعابها، أن تصبح روما الشرق وعاصمة المعارف الانسانية كافة وبلا منازع. ولعل ما يحاول كتاب الفهرست لأبن النديم أن يجدوله مما نقلته العربية اليها من موروثات الأمم المتقدمة وتبنته وبنت عليه، لا يمثل، على ضخامته، الا النزر اليسير مما ظل موزعا ً في تراث تلك اللغة دون أن يتم له احصاء.

أما ولع العرب والمسلمين في دولة الخلافة بالمعارف الدخيلة على أنواعها ومنابعها، وانشغالهم بها، فأشهر من أن يقام عليهما دليل. بل لعل أبعد المرويات ايحاء بذلك، وان على طرافة، ما أورده الفهرست عن المأمون في باب تعليل الشغف الهائل الذي كان للعرب والمسلمين يومها بعلوم المتقدمين. لقد كان من هذا الخليفة أن تجلى له أرسطو في المنام فاذا به، وهو من هو في دولة الاسلام والمسلمين، يقول عن نفسه في حضرة الفيلسوف الاغريقي:"كأني بين يديه قد ملئت له هيبة" وتوجه الخليفة، بعد أن امتلك روعة، الى الفيلسوف ليسأله: "ما الحسن"، وليأتيه جواب الحكيم بأن الحسن "هو ما حسن في العقل".

ليس غريبا ً أن يتجاوز المأمون جميع علوم الأقدمين العظمى التي استحدثتها الفلسفة، من فيزيقية وميتفيزيقية ومنطقية وسياسية وأخلاقية وفلكية ورياضية وغيرها يعتبر أرسطو منها في الأساس، ليسأل الحكيم عن "الحسن"، ذلك أن المنحى العقلي في دولة الخلافة زمن المأمون كان قد بلغ أوجه، وكان في رأس قضايا العصر الفكرية موضوع "التحسين والتقبيح" أو الخير والشر، هل هما نصيان تعليميان لا يعرفان الا عن طريق الوحي، أم أن العقل البشري قادر على تبينهما وتحديدهما لأنهما خاصتان قائمتان في طبيعة الأشياء وخاضعتان بالتالي للبحث والاستقصاء وبالتالي للتحليل وللتحريم. وكان للفكر المعتزلي الذي يعد المأمون من أبرز المروجين له، قد توصل الى القول بأن العقل قادر على ادراك الحق وضرورة السير بمقتضاه، وادراك الشر وضرورة الابتعاد عنه، مما يجعل الانسان في المطلق مسؤولا ً أمام الله ومحاسبا، سواء أعرف دينا ً أو لم يعرف، وأن الدين بالتالي هو "زيادة لطف من الباري تعالى".

هكذا سرى العقل والنهج العقلي في كافة مفاصل الحضارة العربية والاسلامية، حتى أن الذين اختاروا أن يكونوا في علومهم، أيا ً تكن تلك العلوم، ضد العقل والمحصلات العقلية، والغزالي أسطع الأمثلة على ذلك، انما توسلوا العقل والنهج العقلي لتبرير مواقفهم الرافضة ودعمها واثباتها. وكان أن تحقق في ظل الحضارة العربية والاسلامية، في مرحلة يناعها نتيجة كل ذلك، ما يمكن أن يسمى "وحدة المعرفة البشرية واشتراكيتها" على امتداد التاريخ، بغض النظر عن الانتماء اللغوي أو العرقي أو الديني لتلك المعرفة. كأن يذهب الكندي ابن القرن الثامن مثلا ً في احدى رسائله، وهو أحد عباقرة العربية المحسوبين عالميا ً، الى أن المعارف الحقية كما وصلتنا، انما هي نتيجة تضافر الجهود الانسانية على امتداد تاريخها، قبسا ً يضاف الى قبس حتى صارت الى ما هي اليوم بين أيدينا. يقول: "وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق، من أين أتى، وان أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فانه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق، ولا التصغير بقائله ولا بالآتي به، ولا أحد يبخس بالحق بل كل يشرفه الحق".

قد لا يكون غريبا ً، في ضوء أحكام التاريخ وطبائع الأشياء، أن يحل ببغداد القرن الثالث عشر تماما ً ما حل برصيفتها، روما قبل ذلك بثمانية قرون. كلتاهما كانت العاصمة الحضارية الفريدة لعصرها والموئل الأبرز لمدنيته والمصهر المعرفي لما سبقها من حضارات. وكلتاهما بالتمام كانت الضحية للغزو البربري الهابط اليها من الشمال. وكما قيض لاحقا ً لعلوم روما التي توزعتها امبراطوريتها شرقا ً وغربا ً أن تحظى بملاذ في العربية وتجد بعد سقوط عاصمتها، من يتعهدها ويبني عليها، كذلك كان لعلوم بغداد – راس الحواضر العربية العامرة بالمعارف شرقا ً وغربا ً، أن تغادر غربا ً بعد سقوط عاصمتها فتجد ملاذا ً في لاتينية أواخر القرون الوسطى، وتسهم بعدئذ من هناك في البعث الأوروبي أو ما درجنا على تسميته بالنهضة وكما أدى انهيار روما القرن الخامس الى دخول الغرب اللاتيني عصور الظلمة التي بدأت تستضيء خلال القرون الوسطى مع الاحتكاك بالعربية، وما كانت تحمله من تراثات الأمم السالفة وعلى رأسها الاغريق، كذلك تسبب انهيار بغداد القرن الثالث عشر الى دخول العربية عصور انحطاطها وصولا ً مع العصر العثماني وطغيان العثمنة ابتداء من مطلع القرن السادس عشر، الى عصور رقادها الثقيل الذي لم يقيض له أن يتململ ويصحو الا على وقع جلبة الغرب الحديث في حملاته على الشرق العتيق.

بين رقاد العربية وغيابها شبه الكامل عن الفعل الحضاري، وبين المد الاستعماري الغربي الذي تعد حملة نابليون على مصر، عند منقلب القرن الثامن عشر، أبرز طلائعه العسكرية، قرون طويلة كان الغرب خلالها، وقد تسلم الأمانة الحضارية منذ سقوط بغداد، قد مر بمراحل البعث والتنوير والثورة الصناعية انتهاء الى المدنية القائمة.

لعله كان من المتوقع لأهل العربية، وقد وصلت الحضارة المعاصرة بعلومها الحديثة الى أعتابهم، أن يعيدوا معها سيرة اموييهم وعباسييهم، مع علوم الاسكندرية وحران وجنديسابور ومرو وسائر تراثات الفرس والروم واليونان، فينفتحوا عليها ويتبنوها ويبنوا فيها وعليها جديدا ً يعرفون به ويعرف بهم ويورثونه الآخرين، وذلك على الأقل انطلاقا ً من قناعة بأن هذه العلوم والمعارف هي في الأساس معارفهم وعلومهم هم، وهي الآن تعود اليهم بعد أن طورها سواهم أثناء غفلتهم الطويلة فاوصلها الى حيث هي اليوم والى حيث كانت حتما ً ستصل على أيديهم لو قيض لحضارتهم أن تستمر على طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني الذي كانت تسير عليه، فلا تدخل بحكم أحداث التاريخ ما دخلته من انحطاط تبعه سبات. والملفت أن مثل هذه القناعة بدأت تتكون حتى عند بعض نهضويينا الباكرين. كان يقول المعلم بطرس البستاني في خطبة له في بيروت هي "خطبة في أدب العرب" ويعود تاريخها الى سنة 1859: "فلتبشر بنو سام لأن أولاد عمهم بني يافث قد بدأوا يرجعون لهم ما أخذوه منهم، مطبوعا ً وعلى ظهره اكتشافاتهم المتأخرة نظير فائدة عن مدة أربعماية سنة".

ان شيئا ً من هذا المتوقع لم يتم، وذلك أمر يعود لا الى طبيعة المعارف الغربية نفسها، بل الى طبيعة ذلك التلاقي غير المتكافىء بل الاستعماري بين أهل العربية والغرب الحديث: فلا "أبناء سام" كانوا في وضع يمكنهم من أن يتعاملوا مع المعارف الغربية القادمة اليهم على أنها بضاعتهم ردت اليهم مع الفائدة، ولا الغربيون من "أبناء يافث" كانوا آتين بمعارفهم الى أبناء عمهم في المشرق، اعترافا ً بحق وعرفانا ً لجميل. ففي حين أطل أمويو العربية وعباسيوها على علوم عصرهم المتاحة من موقع القوة والثقة بالنفس والاطمئنان الى رسوخ الهوية فاستطاعوا أن يؤهلوها، وجد أهل العربية المحدثون أنفسهم، وهم في كنف امبراطورية عثمانية سائبة، أمام اجتياح عاصف لا طاقة لهم على الوقوف في وجهه، وبين أيدي غزاة بدوا غرباء بالتمام لغة ودينا ً وتاريخا ً وطرائق عيش.

كان من الطبيعي جدا ً أن يكون الشغل الشاغل لمسلمي العربية المحدثين الأوائل، وقد اتضح لهم تخلف حاضرهم وضياعهم وضعفهم الفاضح، أمام الغرب الاستعماري الحديث، التطلع الى مبدأ تماسك يشد هويتهم المهددة، وأن يجري البحث عن ذلك المبدأ، لا في حاضر الأمة المهان، بل في ماضيها المجيد. هكذا انطلقت الدعوة منذ القرن التاسع عشر الذي بلغ فيه المد الاستعماري ذروته في دنيا العرب، الى التمسك بالاسلام "عروة وثقى" كفيلة بتحقيق الوقوف في وجه ذلك المد. أما الاسلام المقصود في هذه "العروة الوثقى" كما تدعو اليه دورية الامام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، التي بهذا الاسم، فهو اسلام السلف الصالح، الذي كان من شأنه في صفائه البكر، كما يقول مفكرو النهضة، أن تسبب في ايجاد أمة كانت الأقوى والأعز في العالم، وفي بعث حضارة كانت من أهم الحضارات في التاريخ ان لم يكن أهمها على الاطلاق. أما أن مسلمي اليوم قد بلغوا هذا القدر من الضعف الاذلال، فلأن المسلمين قد تسببوا لقرون طويلة بالانحراف عن دينهم والأخذ بما يتجافى مع طبيعة الاسلام من بدع وخزافات وأضاليل. أن يجتاح الغرب اليوم بعلومه وآلياته عالم الاسلام لا يعني أن الغرب قوي، بل أن العالم الاسلامي ليس اسلاميا ً بما فيه الكفاية، ذلك أن الاسلام الحقيقي، على حد مقولة محمد عبده الشهيرة التي ما زالت في أساس الفكر الاسلامي حتى اليوم، هو "دين العقل والعلم والمدنية". هذا ما أثبته الاسلام في ماضيه، كما شهد تاريخ المدنية الاسلامية العظمى، وهذا ما هو كفيل بتحقيقه في حاضره اذا عرف حاضر المسلمين كيف يكون صادق الولاء لمسيرة الماضي.

هذا المنطق الذي روج له القرن التاسع عشر كرد فعل على هجمة المدنية الغربية، ما زال يلقى صداه، وربما على تزايد، في الأوساط الاسلامية حتى الحاضر. فالتوجه العام في هذه الأوساط، وان لم يكن نابعا ً مباشرة من دعوات "العروة الوثقى" وتعاليم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما من اسلاميي أوائل النهضة، فهو على الأقل لا ينظر ايجابا ً الى أي توجه يقول بخلاف هذه الدعوات وهذه التعاليم أو يقوم بنقدها. الا أن الملاحظ في هذا المنطق، أو هذا التعليم أنه قد مضى عليه اليوم ما يقارب القرنين، هما عمر ما يسمى عندنا "النهضة"، كان مسلمو العربية على امتدادهما يزدادون اسلامية، فيما الشقة بينهم وبين علوم العصر وتكنولوجيا الحداثة، أو بينهم وبين المدنية المعاصرة وحضارتها، تزداد اتساعا ً. حتى أن العالم العربي في تصنيف الأمم المتحدة للشعوب من حيث مواقعها في مدرج التطور يقع، نسبة الى عدد سكانه، بعيدا ً في القسم السفلي من القائمة.

أهو الخطأ في الاسلام اذن، كما يمكن أن يستنتج من واقع اسلاميي العربية في ما يسمى عصر النهضة، أم أن السبب في تخلف الأمة يجب التماسه في مطرح آخر؟

كان متوقعا ً وعاديا ً وطبيعيا ً أن يلجأ مسلمو العربية، وقد أتاهم المد الاستعماري الماحق من جهة غرب مسيحي من حيث معتقدة الديني، الى الاعتصام باسلامهم كمبدأ تماسك وكمرتكز لهوية. وقد حقق الاسلام في هذا الباب أقصى وأكمل ما يمكن أن يتوقع منه. فمجتمعات مسلمي العربية ظلت، من حيث لغتها ودينها، كما هي باقية، متماسكة لم تخترق ولم تزيف ولم يقو عليها دخيل. أما المفارقة الحقة والاشكالية الأم التي هي من توجهات مسلمي العربية في الصميم، فأن يتوقع من الاسلام كدين سماوي أن يكون، بالنسبة الى مسلمي العربية أو أي مسلمين آخرين، الباب المفضي بهم الى مدنية حديثة يبرزون فيها وحضارة معاصرة يشاركون في صنعها وتوجيهها، وكلتا المدنية والحضارة هاتين قائمة، كما لا يمكن الا أن تقوم، على العقل التجريبي والفصل القاطع في الحقل المعرفي، وفي كل ما يمت الى حياة الانسان، بين الديني والمدني أو بين العلم الالهي والعلم الانساني. هذا الفصل في الشأن المعرفي هو الذي يزور عنه مسلمو العربية المحدثون منذ تعاملهم مع هذه المدنية المعتبرة غريبة، ويدعون في المقابل الى سلوك طريق ديني اسلامي نحوها.

الا أن المدهش حقا هو أن أول داعية الى مثل هذا الفصل الذي يزور عنه مسلمو العربية اليوم، والذي هو من مقومات العقل العلمي الحديث، لم يكن غربيا ً ولا حديثا ً ولا مسيحيا أوروبيا ً أو أميركيا ً، ولا داعية تميز حضاري، بل كان عربيا مسلما من عندنا كاد، يوم استفاقت عليه أوروبا أواخر القرون الوسطى ومطلع الرينيسانس، أن يطوب عندهم قديسا ً. انه ابن رشد أحد كبار القرن الثاني عشر، الذي يذهب في كتابه "فصل المقال" الى أن الدين، ويعني به الاسلام، قد نزل من أجل جميع الناس وتوجه بخطابه اليهم جميعا ً بلا استثناء. الا أن الناس متفاوتو الفطر، فقيهم الألمعي العبقري وفيهم البسيط الساذج، كما أن فيهم من يتدرج نزولا ً أو صعودا ً على الخط الواصل بين الاثنين. ولما كانت غاية الدين أن يفيد من كلامه كل من هؤلاء، كائنة ما كانت مرتبته الاداركية، فقد جاءت لغته من النوع التمثيلي الايحائي القابل لأن يفهم على غير مستوى واحد بحيث تكون لكل مستوى عبرته وفائدته. لذلك كانت غاية الدين ايصال العبرة الأخلاقية للناس وليس الحقيقة الوضعية. ذلك أن الحقيقة الوضعية تقتضي لغة محددة صارمة في دلالاتها بحيث لا تقبل التأويل على غير الوجه الواحد المقصود والدلالة الواحدة التي لا يمكن أن تلتبس بها دلالة أخرى.

ان تكن العبرة الأخلاقية غاية الدين الذي يتوسل الى الناس الرسل والأنبياء، فالحقيقة الوضعية هي غاية المعرفة الحقانية البشرية التي يتعهدها، لا الرسل والأنبياء بل العلماء والفلاسفة.

هكذا يتوصل ابن رشد، وهو في جملة طائفة أخرى من علماء المسلمين وفلاسفتهم، الى الفصل بين نوعين اثنين من المعرفة، واحدة دينية الهية همها الأول والأخير النفاذ الى القلب البشري وارشاده الى السبيل الذي يفضي به كمخلوق الهي الى مرضاة الله، وواحدة أخرى بشرية، همها الأول النفاذ الى مكنون المخلوقات للتعرف الى مقوماتها بوسائل المعرفة المتيسرة للانسان، والخروج من كل ذلك بالأدلة الاقناعية الملزمة التي فيها وحدها مرضاة العقل.

بين اذن، بما لا يقبل الشك، أن مسلمي العربية ليسوا كما هو متوهم، اما مدنيتين أو حضارتين، اثنتين، واحدة اسلامية هي لنا، وأخرى غربية هي لسوانا، ومشكلتنا معها أنها تنتمي الى دين غير ديننا والى تاريخ ثقافي ونهج معرفي غير تاريخنا ونهجنا. نحن، كما أصبح واضحا ً، أمام مدنية واحدة هي المدنية المعاصرة التي يعتبر ما يسمى المدنية العربية الاسلامية العظمى، عاملا ً أساسيا ً مكونا ً من عواملها التاريخية. ان مسلمي العربية لا يستشعرون اليوم لحمة كينونية معها، وهذا مرده في الأساس لا الى انها غربية وأنهم غير قادرين على التصالح معها، بل الى كونهم غير متصالحين حقا ً مع مدنيتهم هم ومع مخزون معارفهم اياها ومع تاريخ اسلامهم الحضاري. اذ يستحيل على من يتبنى الفارابي مثلا أن يكون غريبا ً عن "هوايتهيد"، أو من يفخر بابن الهيثم والبيروني وابن سينا أن يكون مستوحشا ً في "كايب كانافيرال"، أو"مايوكلينيكس" أو "مختبرات كافنديش". أو من يكبر المعري ألا يهتز "لدانتيه"أو "لميلتون"، أو من يأنس لأبن خلدون ألا يعلي من شأن "غيبون" و"طوينبي"، أو من يستعظم الغزالي ألا يعجب "بهيوم" و"كانط" أو من ينتمي الى حضارة ابن رشد أن يكون غريبا ً عن الفكر العلماني، وهكذا استطرادا ً الى كل فرد من هؤلاء الذين قامت على أكتافهم هذه الحضارة العربية الاسلامية العظمى في التاريخ، والتي هي بطاقة هويتنا الوحيدة الى دخول العصر. فنحن لو أجزنا لأنفسنا تصور رجالات هذه الحضارة العربية الاسلامية عائدين اليوم مجددا ً الى الحياة، أليس أنهم بدافع هاجسهم المعرفي سينطلقون لا الى بغداد أو دمشق أو مكة أو القاهرة أو غيرها من العواصم العربية والاسلامية، بل الى هذه أو تلك من المؤسسات ذات الاختصاص، وذلك لأنه ليس في العالم العربي والاسلامي مؤسسة واحدة تستطيع اكمالهم، وترضي طموحهم المعرفي وتعمل على تطوير ما ماتوا عنه في التاريخ وكانوا يتمنون لو يطول بهم العمر من أجل اكماله.

أن يتصالح مسلمو العربية حقا ً مع موروثهم الحضاري هو السبيل الوحيد الى تصالحهم مع العصر، والى سلوكهم الطريق الأوحد المؤدي بهم الى المشاركة في صناعته وصناعة المستقبل.