Articles

Art in the press

المسرح الحديث في لبنان ودوره في نهضة الستينات - هنري زغيب

لقاؤنا اليوم لمناسبتين: الأولى احتفاء ً بمنير أبو دبس، والأخرى احتفاء ً بمرور خمسين سنة على تأسيسه "مدرسة المسرح الحديث"، وكان بين أول الملتحقين بها صديقنا الفنان الكبير أنطوان كرباج والدكتور أسعد خير الله. الأول واصل طريقه ممثلا ً راسخا ً في ذاكرة الفن المسرحي اللبناني، والأخير ترك المسرح منذ المطالع واتجه صوب الأكاديميا، فتخصص في ألمانيا ودرس فيها وهو اليوم من كبار أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت.

الكلام مع المؤسس، حديث كاهن اغريقي، صامت كثيرا ً وفاعل كثيرا ً، كان له تأثير ضالع في الحركة المسرحية اللبنانية. من هنا عنوان هذه الندوة: "تجربة المسرح الحديث ودوره في نهضة الستينات". ولو لا منير أبو دبس وزملاؤه الكبار و "مدرسة المسرح الحديث" لما كان المسرح اللبناني بلغ القمة التي بلغها. صحيح أن بين الأعمال المسرحية اللبنانية ما هو هابط، لكن الأعمال الهابطة تبقى من الزبد، والأعمال الرصينة تبقى حبوب اللؤلؤ التي لا تعترف بالزبد ولا يجرفها الموج.

منير أبو دبس سيروي لنا تجربته في تلك المطالع من 1960 تعاونا ً مع لجنة مهرجانات بعلبك الدولية.

منير أبو دبس - زمن التأسيس

كنت أعمل في باريس مع التلفزيون الفرنسي، حين التقيت يوما ً رينيه أوري، أحد مؤسسي تلفزيون لبنان، فطلب مني أن أجيء الى لبنان ثلاثة أشهر، في مهمة تقنية تساعد على ايجاد مصورين ومخرجين للتلفزيون اللبناني الجديد.

جئت الى لبنان وتعرفت الى بعض الرفاق، منهم أنطوان ولطيفة ملتقى وناظم جبران وعارف الريس، وأخذنا نعرض كل أسبوع عملا ً مسرحيا ً مباشرا ً في التلفزيون، ولم يكن تسجيل الفيديو معروفا ً بعد.

من تلك الأعمال مسرحية "ما كبث" لشكسبير، كانت لها أصداء في الوسط الفني والصحافي.

بعد أسابيع من عودتي الى باريس، اتصل بي عاصي الرحباني وبعض أعضاء لجنة مهرجانات بعلبك طالبين مني العودة الى لبنان مستشارا ً لهذه اللجنة التي تحضر المهرجانات السنوية.

جئت في زيارة استطلاعية الى لبنان فالتقيت رئيسة اللجنة سلوى السعيد وسألتني عن طبيعة عملي في باريس. أجبتها أنني أعمل هناك في المسرح وفي التلفزيون. أردفت: "ما الذي تطلبه كي تبقى في لبنان"؟ فأجبتها: "أريد أن أفتح مدرسة للمسرح". وافقت اللجنة واتفقت معها أن تعطيني مكانا ً للتمرين وميزانية ً أتصرف بها .

عدت الى باريس أياما ً قليلة لأنهي أعمالي هناك، ورجعت الى بيروت فتمكنت خلال شهرين من تأسيس "مدرسة المسرح الحديث". من أوائل الرفاق الذين التحقوا: أنطوان كرباج، أسعد خير الله، أنطوان ولطيفة ملتقى، ميشال نبعة، ناظم جبران، نبيه أبو الحسن، ريمون جبارة، جوزف بو نصار، ليلى ضو (زوجة أنسي الحاج لاحقا ً)، منير سمعان، أحمد بدير، رمزي داغر، منير معاصري، صبحي أيوب، رضى خوري، وآخرون.

كانت لنا في المدرسة أهداف عدة: أولها تكوين الممثل، ثانيها تكوين الفرقة، ثالثها اطلاع الجمهور على مقاييس مسرحية جديدة أبرزها اختيار النصوص واختيار الأماكن.

أما النصوص فكانت دائما ً من تلك العلامات الفارقة في تاريخ المسرح: المسرح اليوناني، المسرح الايليزابيتي الشكسبيري، المسرح الرومنطيقي، ثم المسرح الحديث. هكذا قدمنا في تلك المطالع مسرحية "سوفوكل"، ومسرحيتين من شكسبير، و"فاوست" لغوته، ومسرحية لايونسكو وأخرى لدورنمات، وسواها...

أما الأماكن فاخترناها في مواقع أثرية كنا أول من قدم عليها أعمال المسرحية: قلعة جبيل، قلعة صيدا، قلعة طرابلس، دير القمر، دير القلعة (بيت مري).

وكان في نيتنا أن نحيي كل سنة عيدا ً للمسرح في هذه الأماكن، طوال آب أو أيلول من كل صيف فيقبل الناس على هذه الأماكن يشاهدون نصا ً أساسيا ً من نصوص المسرح العالمي.

وكانت الفكرة أن كل الفكر والفن يخص كل سكان الأرض. فليس للثقافة حدود جغرافية، ولا يحق لأحد أن يحرم أحدا ً من نهل الثقافة. فمن الضروري أن يعرف الانسان ما مر قبله من روائع الأعمال.

وكان لنا هدف رئيسي آخر: أن يصبح في لبنان والمنطقة تأليف نصوص مسرحية فلا يقتصر عملنا على ترجمة النصوص العالمية (بعضها ترجمها لنا أدونيس، وبعضها الآخر أنسي الحاج). لذا أجرينا مع لجنة مهرجانات بعلبك مسابقة ً ذات جائزة لأفضل نص مسرحيً كي نقدمه. وهكذا كان. فاز بالجائزة أنطوان معلوف في مسرحيته "الازميل" فقدمناها في ال"وست هول" (الجامعة الأميركية)، ثم في مهرجانات بعلبك. وكنا نود أن تتواصل هذه المسابقة سنويا ً كي نربح نصوصا ً لبنانية ً موضوعة، لكن المسابقة توقفت في ما بعد.

من الأسف أن ليس عندنا في لبنان مساع لمواصلة حمل الشعلة عندما تشتعل الشعلة، فتتوقف المشاريع عند غياب منشئيها. أهمية لقائنا اليوم أنه استعادة لزمن ذهبيً من المسرح اللبناني.

أخذ علي بعض النقاد لجوئي الى استعمال القناع. والحال أنني أستعمله لأبعد الممثل عن تعبيره الذاتي فيصبح تعبيره غيريا ً يطال الخيال العام. ظاهرة القناع معروفة منذ اليونان في المسرح الاغريقي، حيث البطل خاسر دائما ً حين يصطدم بالقدر. لذا أعتمد القناع كي أفصل ذات الممثل عن صدمة القدر.

أنطوان كرباج - تجربتي في زمن المطالع

طويلة قصتي مع المسرح منذ تلك المطالع. قبل أن أعرف ما هو المسرح، كنت في التاسعة من عمري حين أخذت خلال العطلة الصيفية في الضيعة أجمع أولاد الجيران وأولاد خالتي وعمي فنكتب تمثيليات ونروح نمثلها. لاحقا ً، حين انتسبت الى معهد الآداب الشرقية في الجامعة اليسوعية كي أدرس التاريخ فيما أزاول التدريس، علمت أن في الجامعة مسرحا ً مقفلا ً، فمر في بالي أن نجتمع فنختار عملا ً كلاسيكيا ً نقدمه فلا يبقى المسرح مقفلا ً. عرضت الفكرة لزميلي أمين زيدان وكان عائدا ً حديثا ً من باريس، فقال لي: "لا يكفي أن تكون تحب المسرح لتعتلي خشبته وتسرح فوقها. المسرح علم. سأعرفك الى مخرج جاء من باريس حديثا ً وأسس معهدا ً للتمثيل في بيروت". وهكذا كان. فتعرفت الى أستاذنا منير أبو دبس سنة 1961.

صدمني منير أبو دبس في ذلك اللقاء الأول. رأيته صاحب وجه أبيض لا تعبير عليه، كلامه مسترخ خفيض الصوت فلم أعرف، حين صافحني بكل برودة، اذا كان يرحب بي أم يرفضني. كان صفحة ً بيضاء لا أستطيع أن أقرأ عليها شيئا ً.

ترددت في بادىء الأمر أن ألتحق ب "مدرسة المسرح الحديث" مع أنني مؤمن بأنها ثقافة عامة لا تدرسها المدارس والجامعات، وقد تزيد على ثقافتي آفاقا ً جديدة. أول درس حضرته لم أستطع أن أبقى فيه أكثر من خمس دقائق. رحت أضحك في سري على هؤلاء الواقفين تحت شلالات من الضوء، كأنهم غائبون كليا ً عن العالم الخارجي، وغارقون في عالمهم الخاص. على أنني واصلت متابعة الدروس العملية، والنظرية عن نشوء المسرح. بعد نحو عشرة دروس أيقنت أن الأمر جدي ، واذا أردت الانصراف اليه علي أن أستسلم لما فيه، وأعترف أنني كنت جاهلا ً ويجب أن أتعلم من جديد.

وقفاتي الأولى على المسرح كانت مربكة. فأنا في طبيعتي خجول، وكنت أظن من حولي يضحكون علي أو يسخرون مني. كان صوتي ضعيفا ً وضئيلا ً، فكنت أتمرن في البيت على اطلاق صوتي ساعات عدة ً في اليوم، واطلعت على أبحاث ودراسات أبرزها دراسات هندية فهمت منها أن الصوت عملية تنفس وتحكم بالتنفس. أخذت في البيت (عين الرمانة) أجري تمارين لاطلاق الصوت فأتمدد على ظهري وأضع على معدتي جسما ً ثقيلا ً وأطلق صوتي، وكلما زدت الوزن أزيد من اطلاق صوتي، فراج في الحي الشعبي الذي كنت أسكنه أنني مجنون فقدت عقلي. كان في البناية المقابلة ضابط في الجيش دوامه ليلي وينام في النهار. ذات يوم وأنا أتمرن فاتحا ً صوتي على أعلاه، أخذ يصرخ من شرفة بيته وأنا لا أسمعه، فرماني بتنكة الزريعة التي هبطت قريبة من رأسي، ولو أصابتني لقتلتني. حتى أمي كان تهج من ذاك التمرين وتهددني بأن الناس يقولون عني انني مجنون. على أنني واصلت تلك التمارين وتعمقت أكثر فأكثر بما كنا نتعلمه مع منير أبو دبس.
ذات يوم، قبل نهاية السنة، كنت أترجم المونولوغ الأخير ل"أوتلو" قبل أن يدخل على دسدمونة. وعرضت أن أتقدم للامتحان بتمثيل هذا المونولوغ. استدعاني الأستاذ منير وسألني: "من أنت؟ ومن أين أتيت؟"، فأجبته: " أنا ملتحق عندك في المدرسة"، قال لي: " ولكني لا أراك"، فأجبته: "أنا أحضر جميع الدروس". قال: " لكنني لا أراك على المسرح"، فأخبرته أنني خجول ولا أزال أعمل على صوتي. تطلع بي في نظرة حازمة جعلتني أشعر كأنني أتيت ذنبا ً، وأكمل: "أنت اليوم لفتني اليك، لأنك أديت المونولوغ بشكل ممتاز". أعطاني ذلك دفعا ً من الثقة بنفسي.

في تلك الأثناء وصلت دعوة من فولوبيليس في المغرب لتقديمنا مسرحية "أوديب ملكا ً" هناك. كان دوري فيها أن أمثل الكورنثي. وبعد عودتنا من المغرب كان منير يتهيأ لتأسيس مهرجان جبيل المسرحي بمسرحية "ماكبث" لشكسبير، من ترجمة أنطوان ملتقى الذي كثيرا ً ما كان على المسرح يعلمنا طريقة تمثيل أعمال شكسبير. عند توزيع الأدوار أسند الي منير دور "ماكبث"، ففاجأني الأمر لأن أنطوان هو من ترجم النص وكان يرغب في تمثيل دور "ماكبث". أصر منير على الأمر فغادر أنطوان ولطيفة المدرسة غضبا ً والتحق بهما في ما بعد الزميل ريمون جبارة.

على أن تلك الفرقة أكملت، وكانت علامة ً مميزة ً في المسرح اللبناني، لا لأنها كانت الوحيدة عهدئذ، بل لأنها كانت نواة ً لفرق لاحقة. فأنطوان ملتقى غادرها وأسس "حلقة المسرح اللبناني"، ثم قام ريمون جبارة وبرج فازليان وجلال خوري وأندريه جدعون بتأسيس "فرقة المسرح الحر"، ولاحقا ً أسس روجيه عساف ونضال الأشقر "محترف بيروت للمسرح". هكذا أصبحت في بيروت فرق مسرحية تتنافس وتتفاعل فخلقت الحركة المسرحية اللبنانية في الستينات حتى منتصف السبعينات حين وقعت الحرب فانهار كل ذلك النشاط المسرحي.

عند خروج أنطوان ملتقى من الفرقة ومعه أخذ ترجمته ل"ماكبث"، أصبح منير أبو دبس بدون نص. اقترحت عليه أن أترجم "ماكبث". استكبر الأمر كأنما لم يكن يؤمن أنني أستطيع الدخول الى عالم شكسبير. لم أجب، وانصرفت الى البيت فعملت ثلاثة أيام متتالية على ترجمة مسرحية"ماكبث"، وأعطيتها لمكتب مختص طبعت لي فيه احدى السكرتيرات النص المترجم. قبل أن أتجرأ وأقدمه للأستاذ منير، وخوفا ً من أن يرده الي ولا يقرأه، مرغت الأوراق بالتراب كي تبدو معتقة وقديمة، وقدمتها اليه على أنني وجدته في مكتبتي ولا أعرف من ترجمه. قرأ النص فاتصل بي يسألني عن المترجم، قلت له: "لا أعرف من هو، فالنص موجود في مكتبتي من زمان". انطلت عليه الحيلة، وقدمنا المسرحية في جبيل، فيما قدمها أنطوان ملتقى بترجمته في راشانا بدعوة من الأخوة بصبوص. وصدرت الصحف في ذلك الصيف (1961) تقارن بين "ماكبث" منير أبو دبس و"ماكبث" أنطوان ملتقى.

سنة 1963 أراد منير أن يقدم مسرحية "الذباب" لجان بول سارتر، فسألني مجددا ً عن مترجم نص "ماكبث"، عندئذ تشجعت وقلت له انني أنا مترجمه. قال لي: "نحن أمام مناخ من التحدي. أيمكنك أن تترجم مسرحية "الذباب" لسارتر؟"، أجبته ب "نعم". وترجمتها وقدمناها كما قدمها أنطوان ملتقى بترجمته في رشانا، وعادت الصحافة تقارن من جديد، فكانت تلك المقارنات سببا ً مهما ً للتفاعل أسهم في تفعيل نهضة الحركة المسرحية في الستينات.

بعد ذلك كرت السبحة، فترجمت "أنتيغون" لجان أنوي، ثم "قصة للقصر" لفرانز كافكا.

في "مدرسة المسرح الحديث" تلقينا تربية مسرحية صحيحة بدءا ً من احترام الوقت. كان منير يأتي بنا الى التمارين في التاسعة صباح الأحد. ومن يتأخر عن الموعد ينهره بأنه سرق من وقت زملائه وقتهم الثمين. صار احترام الوقت هاجسنا.

سنة 1967، وقعت حرب حزيران فكان تاريخا ً فاصلا ً في عالمنا المسرحي. أحسسنا بالأرض تزلزل من تحت أقدامنا فجئنا الى منير نقول له: "لا يمكننا أن نكمل بالأعمال المترجمة عن المسرح العالمي، ولا المواصلة بتمثيل نصوص في الفصحى التي هي أنيقة لكننا نريد أن نمثل بلغة الناس". رد الأستاذ منير بأن اللغة المحكية ليست مشذبة ولا تصلح للمسرح. أجبنا: "علينا نحن أن نشذبها كي تصبح صالحة ً للمسرح ونمثلها ". لم يقتنع فتركنا الفرقة، أنا وميشال نبعة، وكان أول ما قدمناه معا ً "الدكتاتور" لعصام محفوظ، فلاقت رواجا ً كبيرا ً.

سنة 1968 حضرني عاصي الرحباني في مسرحية "الملك يموت" لايونسكو، فدعاني الى سهرة في بيته مع الأستاذ منير والنحات ميشال بصبوص. سألني عاصي: "من أين أنت؟" فقلت له: "من ضيعة صغيرة في سفح صنين تدعى زبوغا"، فأجابني عاصي: "اذا أنت ابن ضيعة ومجذر في الأرض وتتعاطى القرادي. تعال معنا لأننا نبحث عن أحد مثلك".

هكذا بدأت مسيرتي مع المسرح الرحباني.

الدكتور أسعد خير الله - ذكرياتي في مسرح بعلبك

بعد كلام منير أبو دبس وأنطوان كرباج يصعب علي الكلام حول التجربة العامة.

أنا واكبت المسرح أربع سنوات، منذ 1959 حتى سفري الى ألمانيا للتخصص عام 1963. سمعت ب"مدرسة المسرح الحديث" فانتسبت اليها مع المتحلقين حول منير. كنا متعطشين الى شيء آخر غير الذي ألفناه في المدارس ومع أساتذتنا، وكان المسرح بالنسبة الينا حركات وأصواتا ً وصراخا ً وميلودراما.

لقائي الأول بمنير كان غريبا ً. دخلت عليه كأنه راهب أو شيخ طريقة. تساءلت ماذا جئت أفعل هنا؟ غير أن الوقت جعلني أتأقلم مع المدرسة، وبدأت أشعر بأنني فعلا ً أدخل الى ذاتي الداخلية، وهو ما لم أكن اختبرته في ما لعبته من مسرحيات قبلذاك. جاء منير فعلمنا شيئا ً جديدا ً، بثلاثيته: اعداد الممثل، اعداد الفرقة، اعداد الجمهور.

كان منير يشدد أولا ً على النظام، ثم على اللياقة الجسدية. علمنا أن في أجسادنا طاقة ً لم نكن نعرفها، وبعدما كنا نظن المسرح مجموعة حركات علمنا منير عدم الحركة، وفق مقدرة فنية اكتسبها من دراسته المسرح الكلاسيكي في السوربون. تثقفنا في "مدرسة المسرح الحديث" نظريا ً وعمليا ً، وتعلمنا كيف نكون جوانيين قبل أن نعبر خارجيا ً، عبر عناصر عدة أبرزها التنفس من البطن لا من الرئتين، وهي تمارين كنا نقوم بها في المسرح حتى يطول نفسنا ونحن نتكلم، فلا نبتر الجملة في منتصفها كي نتنفس. ثم علمنا الصمت: كيف نقف صامتين على المسرح، وندير ظهرنا للجمهور، ونسيطر على الصوت كي نمسك الجمهور ولو أننا ندير له ظهرنا. وتعلمنا كيف نسيطر على حركات الوجه. وذات يوم كنا ذاهبين الى اللقلوق ومنيرو أنطوان ملتقى يجلسان في آخر مقعد من الباص. أخذ منير يضع القبعة على وجه أنطوان ويقول له: "حين أنزع القبعة عن وجهك أريد منك تعابير خوف"، وحين ينزع القبعة عن وجه أنطوان يكون على وجه أنطوان تعابير خوف. وتكرر التمرين على تعابير الحزن والفرح والسعادة والغضب والسخرية وما اليها. كانت تلك لعبة ً لكنها كانت تمرينا ً جديا ً للسيطرة على حركات الوجه وقسمات التعبير.

وتعلمنا من منير عن ستانسلافسكي أن التمثيل يأتي من الداخل ولا علاقة له بالحركات الخارجية. من هنا تدخلنا الشخصية الى أعماقنا كي نحيا معها ونحياها بشيء من التصوف. وغالبا ً ما كان منير، في بداية التمارين، يقول لنا "اعملوا الفراغ"، وعلمنا كيف نفرغ ذاتنا من مشاعرنا وعواطفنا كي تسكننا شخصية الدور فنقترب أكثر من معرفة تقمصها. عندئذ تكون الشخصية هي التي تحركنا من دون أن نعي ذلك، كأنها تدخل في لاوعينا.

وتعلمنا على منير أن المسرح حيز مقدس، وأن الضربات الثلاث قبل ارتفاع الستارة تمهيد لهذا الفضاء المقدس يقطعنا عن الفضاء الخارجي ويدخلنا الى ذواتنا الداخلية.

مع تكوين الفرقة أصبحت الفضاءات الداخلية مشتركة ً في ما بيننا، تماما ً مثل الأوركسترا يقودها منير ولا يسمع بأي نشاز يصدر عن أحد منا.

رحلتنا الى المغرب كانت نوعا ً من معمودية الدم بالنسبة الينا. كنا نمثل ليلا ً في الهواء الطلق ولم يكن بيننا تواصل، ومع ذلك نجحت مسرحية "أوديب ملكا ً".

لكنها أيضا ً كانت المفترق: آخر مسرحية للفرقة الأولى قبل أن نعود الى بيروت ويتفرق الأعضاء.