Articles

Art in the press

حنا نمر (1900- 1964)

بقلم: نعيم يزبك عضو المجلس الثقافي في بلاد جبيل

من اجمل جوانب الحياة أن يحيا الانسان محبا ً مضحيا ً، المحبة والتضحية اقنوما الحياة الجوهرية وبيت قصيدها. ولقد عاش فقيدنا الكبير واستاذنا العلامة مربي الجيل حنا ديب نمر محبا ً مضحيا ً، الكلمة على لسانه وفي شق قلمه فلذة من قلبه ونفحة من روحه. وجد فيه طلابه الكثر ابا ً حنونا ً يربى ويبني ويسلح بالكلمة التي تحيي مبتعدا ً عن حشو الاذهان بالحرف الذي يميت، وكأني بأمير الشعراء قد عناه بقوله:

قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيت أشرف او أجل من الذي يبني وينشىء انفا ً وعقولا

كما وجد فيه معلمو اللغة والبيان والادب مرجعا ً عميقا ً واسع الاطلاع، يركن اليه ويوثق به، بل دائرة معارف ومعجما ً حيا ً ملما ً بكل شاردة وواردة وناقدا ً ذواقة يقوم الالسنة والاقلام.

ابصر فقيدنا الكبير حنا ديب نمر النور في قرية شيخان من اعمال بلاد جبيل سنة 1900 وتوفي في التاسع من ايار سنة 1964. والده ديب نمر ووالدته الماظ صدقه. هاجر ابوه الى اميركا اللاتينية مثل الوف اللبنانيين الذين هاجروا سعيا ً وراء المعاش واسباب الحياة، وتعذرت عليه العودة عندما نشبت الحرب العالمية الاولى وسدت منافذ البحر، وخلال هذه الحرب المشؤومة ماتت والدته وشقيقتاه وهما اكبر منه وظل وحده حيا ً، يكابد مرارة العيش في تلك السنوات العجاف التي جعلت من الجبل بعد زهوه واخضراره مقبرة ً يخيم عليها شبح الموت وصحراء قاحلة تسرح في جنباتها ارتال الجراد فتقضي على الاخضر واليابس. في هذا الجو الخانق شق الفقيد طريقه تاركا ً على جوانبها واشواكها فلذا ً حمراء متناثرة من دم قلبه وماء عينيه. ولم تحل هذه الصعوبات على ثقلها بين حنا نمر وطلب المعرفة وفي اعماقه صوت صارخ يدعوه الى اكتناز العلم مهما كانت الموانع. تابع دراسته في مدرسة القرية على يد معلمه المرحوم اسد شبخاتي والد الاديب المعروف سمير شيخاني وكم لهذا الأسد من زأرات مدويات في مجال نشر المعرفة في قريته شيخان وسائر قرى القرنة المباركة حاملة مشعل الثقافة ومنجبة الادباء والشعراء في بلاد جبيل، وعندما خفتت الاصوات وبحت الحناجر وتحطمت الاقلام والمنابر بسبب نشوب الحرب، ظل حنا نمر يتابع الدراسة على نفسه التواقة الى المعرفة الجائعة الى العلم قبل الرغيف. ثم تيسر له – والله يفتح ابواب الفرج بوجه المدين المجتهدين – أن يلتحق بالمدرسة الاميركية في طرابلس حيث تفتحت مواهبه وتجلت عبقريته.

رأى وهو في السادسة عشرة من عمره الظلم النازل ببني قومه من العثمانيين فشارك قدر طاقته في حركة المقاومة ضد الاحتلال التركي والدعوة الى التحرر، فاحيل الى المجلس العرفي في عاليه وسجن بانتظار المحاكمة عدة شهور في قبو مظلم بارد، وأصيب بالحمى في سجنه الرهيب، حيث تجمعت عليه الويلات المهلكات الثلاث: الجوع والبرد والمرض. ولكن العناية الالهية كتبت له الحياة واخرجته من سجنه ليكون فيما بعد مصباح هداية وتثقيف للكثيرين من مواطنيه. ان هذه الفترة العصبية من حياته قد طبعت شعوره وتفكيره بطابع انساني عميق، فيه ما فيه من انتفاضة أبية على الظلم وتمرد هادىء رصين، على ما التوى من اساليب الاحكام والحكام. وضع تحت هذا التأثير سنة 1924 مسرحيته المعروفة باسم "ظلم الاتراك" أو "شهداء الوطن" وقد مثلت اكثر من مرة في بلاد جبيل والبترون وحمص وغيرها وهي مسرحية وطنية استقلالية تظهر عنف المقاومة اللبنانية والعربية للحكم العثماني البائد، وتعبر عن شعور اللبنانيين والعرب جميعا ً نحو الاستقلال.

زاول رسالة التدريس – لا أقول "مهنة" لان حنا نمر سار في مجال نشر الحق والمعرفة على خطى المعلم الالهي رسولا ً مترفعا ً زاهدا ً لا ممتهنا ً متكسبا ً تاجرا ً، حمل عبء الرسالة منذ عام 1920 في مدرسة دير النورية والبربارة وغرزوز وحامات ودوما وسواها. ثم بدأ منذ عام 1927 بتدريس الادب العربي والفلسفة في المعاهد اللبنانية والسورية الكبرى ومنها معهد الاخوة المريميين في جونيه. كلية الثلاثة الاقمار،كلية حمص الوطنية الانجيلية، كلية طرطوس في طرطوس، كلية الآباء العازاريين والكلية الكاثوليكية والكلية الأميركية في دمشق. الكلية الارثوذكسية والمدرسة الحربية في حمص. واخيرا ً في مدرسة المنصف الاهلية او مدرسة المعلم أديب نسبة لصاحبها اديب فياض العامل بايمان ونشاط على نشر انوار المعرفة وبذور العلم في محيطه.

وقد اتخذ الاستاذ حنا نمر منبر الصحافة الى جانب منبر التدريس وسيلة شريفة لنشر افكاره ومعلوماته وآرائه القيمة البناءة، فكان مثال الصحافي الجريء الذي لا تلين له قناة ولا يهادن او يساوم في سبيل الذود عن حق مهضوم او كرامة معرضة للامتهان. رئس تحرير جريدة حمص من سنة 1930 حتى 1933، ونشر كتابات ومقالات وابحاث مختلفة الاتجاهات والاغراض اللغوية والعلمية والسياسية والادبية في كثير من الصحف والمجلات العربية منها: جريدة حمص، الانشاء مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق، الطريق، الاخبار، التمدن الاسلامي، الشرق، التلغراف، الشمس، العروس، الاحرار، صوت الاحرار، منارة الشرق، نشرة المؤتمر الوطني اللبناني، المعارف، الصباح، الجمهور وغيرها.

مؤلفاته المطبوعة كثيرة منها: الطرائف وهي ثلاث عشرة دراسة في الادب العربي. دراسات في الادب والفن، الداروينية، مختصر تاريخ سوريا، الانسان والجماعة، الادباء العشرة، الوجيز في الأدب العربي وقد اعتمد تدريسه رسميا ً في سوريا، النابغة الذبياني دراسة نقدية تحليلية في الادب والشعر والفن، برنامج الباكالوريا اللبنانية، الفرزدق، اساطير اغريقية، وتجدر الاشارة الى أن معظم مؤلفاته الادبية وضعت وفق منهج الباكالوريا اللبنانية والسورية واعتمد تدريسها رسميا ً. وهو احد واضعي منهج الباكالوريا السورية وكان عضوا ً دائما ً في لجان امتحاناتها منذ سنة 1929.

أما مخطوطاته فكثيرة ايضا ً منها: ملحمة شعرية تزيد على الف بيت أطلق عليها اسم "قصة الخلق" وهي في رأي استاذنا الكبير نسيب عازار رئيس المجلس الثقافي ملحمة فريدة في الادب العربي لأنها رؤيا شاملة تريد ان توحد التجربة الانسانية وقد أفرغ عليها معنى كونيا ً لا يقل أهمية عن المعنى الذي قصد اليه جيمس جويس في روايته الشهيرة بوليسيس، وملحمة شعرية ثانية عاجلته المنية قبل أن يتمها موضوعها الحرب العالمية الثانية، ديوان شعر تتناول قصائده موضوعات متعددة متنوعة، كتاب الحيوان، المتنبي شكسبير العرب. دراسات ادبية تتناول شعراء وادباء كثيرين منذ العصر الجاهلي حتى عصر النهضة، ترجمات بتصرف لبعض روايات شكسبير، كتب علمية طبيعية مختلفة، كتب مدرسية، مئات المقالات العلمية والادبية والفلسفية والنقدية وغيرها. مقالات كثيرة في انتقاد مغالط الكتاب وعثرات الاقلام، وله الى جانب هذا الانتاج الخصب نشاطات ادبية وعلمية جمة ابرزها مشاركات ثقافية علمية في اكثر فروع العلم ومناقشات لغوية مع مشاهير الكتاب امثال: الشيخ عبد القادر المغربي وعباس محمود العقاد وكرم ملحم كرم والاب انستاس الكرملي والامير مصطفى الشهابي وأدوار مرقص وغيرهم.

انتخب عدة سنوات في مجلس نقابة معلمي المدارس الخاصة في لبنان واسهم في وضع تشريعات المعلم، وهو من ابرز مؤسسي الرابطة الثقافية في بلاد جبيل التي عرفت فيما بعد باسم المجلس الثقافي، هذا المجلس الذي ظل قائما ً ومحتفظا ً بمقوماته كمؤسسة ثقافية كبرى بعد ان قوضت الاحداث الدامية التي عصفت بلبنان كثيرا ً من المؤسسات الثقافية وغيرها. ذلك بفضل رئيسه منذ تأسيسه شيخ ادباء لبنان الاستاذ نسيب عازار الذي خلد ذكرى ادباء بلاد جبيل الراحلين وحفظ آثارهم القيمة من الضياع.

يعتبر حنا نمر بحق احد كبار الادباء واللغويين والمفكرين والشعراء العرب، ورائدا ً في النقد الموضوعي المعاصر، استشف الحداثة في الشعر والفن منذ سنة 1922، قبل أن تعرف نهضتنا الادبية هذا النحو.

يقول نسيب عازار انه عالج النقد العربي على اصول الحداثة قبل ان تعرف هذه المدارس العالم العربي.

قال فيه العلامة الشيخ عبد الله العلايلي انه قمة في الادب والتعليم، وقال رئيف خوري والأب طانيوس منعم وغيرهما انه اختط نهجا ً جديدا ً في الدراسة الادبية، وتدريس الادب العربي وبرز أبا لأجيال لبنانية وعربية كاملة. ويرى كثيرون من الادباء والمفكرين أن بعض مؤلفاته تضعه في مصاف العباقرة اللبنانيين المعاصرين ولا سيما ابحاثه الفلسفية والعلمية وملحمته الشعرية "قصة الخلق".

ولا بد من الاشارة الى ان ابرز آثار حنا نمر ابناؤه الناسجون على منواله والضاربون بمعوله في حقل الكلمة والقلم وفي طليعتهم ابنه الاستاذ نسيب نمر الصحافي الجريء اللامع والاديب الموهوب المبدع.

عندما غاب عنا وجهه الحبيب المهيب، شعر مجلسنا الثقافي بالخسارة الجسيمة. مجالس الانس والسمر والاجتماعات الاخوانية الممتعة كئيبة خرساء بعد غيابه، فقد كان رحمه الله بلبل هذه المجالس ومرجعها الموثوق به وواسطة عقدها بحلاوة لسانه وطيب شمائله وخفة روحه وعمق تفكيره، عمق على بساطة فلا تقعر ولا تصنع ولا كبرياء ولا تبجج، يتحلى بصفات العالم البحاثة الآخذ من كل علم بنصيب. كثيرا ً ما كنت استعيد وانا بحضرته خيال الجاحظ وابن الاثير وابن خالويه واحمد أمين وغير هؤلاء من عمالقة الفكر العربي عبر عصوره. حيي مهذب، جريء في قول الحق، مؤمن راسخ الايمان بالله ولبنان والقيم الانسانية المثلى. ولطالما سمعته يردد من نظمه البيت التالي:

ولبنان كالله لا بد منه ومن فرضه واجبا ً للوجود

قدرنا الله جميعا ً على نشر أعماله الكاملة وفاء لهذا المفكر العميق والناقد الرائد وخدمة للفكر العربي المعاصر.

نعيم يزبك

حنا نمر الشاعر الملحمي والمربي والأديب
بقلم الدكتور ميشال سليمان

بكر الى المعرفة بكور الزاجر.

لم تثنه عن الطواف عبر سهوبها والسهول، رياح تهب سموما ً حينا ً وتهب رخية حينا ً آخر، وما ديمومة الغز في مجال الطواف الكبير، سوى نبضة في قلبه الشغوف بحب الاكتناز.

نهد الى الأدب العربي يستجلي كوامنه، فاذا هي لديه بدائع مما جاد بها صوب العقول، ويرنق تربة ً خيل ان الجدب من طبيعتها، وهي ليست كذلك، فالقعود عن السمو غريب عن مناخها، وهي التي اعطت بسخاء عميم لا يعرف النفاد.

وكان الى هذا: الزارع.

قبل الاصباح، حمل محاريثه والمعاول، ودرج في الحقول يعمل فيها كدا ً واجتهادا ً. فاذا التربة تورق على يديه المعروقتين، مذ تفتح في ارحامها الخصب الهاجع. وقل بعد، هو المعلم حنا نمر، احد اللبنانيين الاوائل في هذا القرن الذين وطنوا العزم على ولوج دنيا السديم الأدبي، ليكتشفوا في اعتمالاتها نوى مضيئة، وذرات حاملة، على مثلها رامزة برواسخ هي من البناء دعائمه، ومعالم مما ترسمته شوامخ الجدران على مرامي الشواقيل.

ويوم عرفته، عرفت الوداعة تسعى في الناس، على أنفة تضارع برأسها رأس صنين.

عرفت انحناء السنابل، آن تضيق بالحب الذهب، على رحابتها...

عرفت النظرات المليئة بالملاحظ، تغيم لتخرج من عوالم الفكر، مثقلة بما يطيب الخاطر، ويضفي عليه من الوضوح ما يجعله في حيز العقل، صنو عباءة متينة النسج مما كان يطيب للكبار الكبار، ارتدأوه على خيلاء...

وليس بخيلاء الزيف المقتعد مقاعد غيره، بل الاصالة حين تعرب عن نفسها، وياتيك من مطارح البث مارج من لدنها يحبب اليك المرقى الجلل، وان تناهت به شوارد الجنان.

عرف الشعر:

أرزة ربنا ... تزحم الجوزاء، عرفه: آدم... الانسان... العدل... السلام. عرفه: ثورة يعيش بها الضعفاء..." ...
وكانت ملحمة الخلق.

أرادها بعيدة عن التعقيد، سهلة ممتنعة، وتفنن في قصولها تفننا ً نسيق السبك لا يند عن الاصول. كأني به أراد التعليم والفلسفة لا الشعر لذاته، بوصفه مبدأ الطرب الاعلى بما يبث ويتشاكى، ليخرج الاحساس من دائرة الفكر الى حيز التصور، وهو الذي عالج في مؤلفات عديدة، أصول الشعر العربي، أشكاله والمضامين، وخرج منها جميعا ً بالمعجب المثال، كقوله بابن الرومي: من مزاياه طول النفس واستنفاد المعنى الى أبعد حد، فهو لا يجعل من قصيدته وحدة تامة، وانما هو أميل الى الشعر الوجداني... قصيدته اجزاء تربط بينها وحدة التفكير، وأقسام تتجمع فيها المعاني المتشابهة... ولا يسف، ولا تظهر عليه آثار التعب والاجهاد، كأنه جواد كريم يجود كلما طال شوطه ".

كانت فكرة الاصول في الاشياء آخذة بمجامع تفكيره، وقد اولاها الكثير من تنقيبه حتى استقر على الجذور.

فاذا الداروينية و"الميتشورينية" عنده، سلم النقيض، يدلف عبر درجاته الى الأعماق ليستخرج من الكوامن بذور المعرفة الحبلى بخلاياها العصية على من ألفوا المعطى المألوف، اذ كان دأبه الأول والأخير، خلخلة الثابت في العقول، وتقديم الحقيقة المجردة التي لا تحول بتحويل موضوعيتها، قلت: حقيقتها، حقيقة قوانينها.

ولم تبهره البدع الموفية بأهلها الى ضلال،
فغرضه الاسمى تمثل بأصول تقصيب الاحجار...

وليذهب بها البناؤون ما طابت لهم مذاهب الرصف في أشكال البناء. وحسبه أنه من حرفة الادب الذي احترف، انه كتب في الجاحظ وكأنه يكتب عن نفسه: "وكان معلما ً ماهرا ً نافعا ً، وأول ما يحتاج اليه المعلم، أسلوب سهل مريح، فيتعلم الطالب دون ان يشعر بوطأة العلم وجفافه، ويستفيد دون أن يرهق عقله، ويتعب أعصابه" وكان من أبرز مزاياه "المزج بين العلم والأدب".

حنا نمر المعلم.

كان كلما التقيته، أو جاءني قاصدا ً، حفل الجو يالاساطين ممن كان يستحضرهم، على بسطة من دواني النثر، وغرائب الشعر، على مثلها مما يخالج الفكر من شؤون الاجتماع، وأذكر فيما أذكر، حديثا ً لنا، ما زالت أطرافه تتنازعني على ترجيع حميم. وقلت: ما أحوج ما نحن فيه من أمور دنيانا؟

قال: سلام وفير على عيش كريم، يتيح لنا البحث عن كيفيات تصح للتفكير والاعراب عنه، صحتها في حصحصة الحرية وارتفادها.

قلت: الوطن الذي يشكل اعتزازنا واعزازنا، ما ترى في نهجه المائل والقابل؟

قال: انه محط ألوهة، وموئل جمال، وآيته المثلى ليستمر، الا يكون للعنف اليه سبيل...

لكأني به يتكلم اليوم، فيما السحب السود تنذر بضياع الوطن، لكنه لن يضيع.

الا طابت ذكراه في ما علم وأسهم. ان جيلا ً من الكبار العارفين، تمرس بالتفكير والتعبير على يديه.

الدكتور ميشال سليمان