Articles

Art in the press

رجوع الحبيب جبران خليل جبران -  المعرض ايار – آب 1922 ص 23.

ما جاء الليل حتى انهزمت الاعداء وفي ظهورهم بضع السيوف ووخز الرماح، فعاد الظافرون حاملين ألوية الفخر، منشدين اهازيج النصر، على توقيع حوافر خيولهم المتساقطة كالمطارق على حصباء الوادي.
اشرفوا على الجبة وقد طلع القمر من وراء فم الميزاب، فظهرت تلك الصخور الباسقة متشامخة مع نفوس القوم نحو العلاء، وبانت غابة الارز بين تلك البطاح، كأنها وسام مجد اثيل علقته الاجيال الغابرة على صدر لبنان.

ظلوا سائرين، واشعة القمر تتلمّع على اسلحتهم والكهوف البعيدة تتقلّد تهاليلهم، حتى اذا ما بلغوا جبهة العقبة اوقفهم صهيل فرس واقف بين الصخور الرمادية كأنه قدَّ منها، فاقتربوا اليه مستطلعين، واذا بجثة هامدة مرتمية على اديم التراب المجبول بنجيع الدماء. فصرخ زعيم القوم قائلاً " اروني سيف الرجل فاعرف صاحبه".
فترجّل بعض الفرسان واحاطوا بالمصروع مستفسرين. وبعد هنية التفت احدهم نحو الزعيم وقال بصوت اجش " لقد عانقت اصابعه الباردة قبضة السيف بشدة فمن العار ان انزعه".
وقال آخر " لقد لبس السيف غمداً من الدماء فاختفى فولاذه".

وقال آخر " لقد تجمّدت الدماء على الكف والقبضة، واوثقت الشفرة بالزند فصيرتهما عضواً واحداً".

فترجّل الزعيم، واقترب من القتيل قائلاً " اسندوا رأسه ودعوا اشعة القمر ترينا وجهه". ففعلوا مسرعين، وبان وجه المصروع من وراء نقاب الموت، ظاهرة عليه ملامح البطش والبأس والتجلد، وجه فارس قوي يتكلم بلا نطق عن شدة رجوليته، وجه متأسف فرح، وجه من لقي وجه العدو عابساً، وقابل الموت باسماً، وجه بطل لبناني حضر موقعة ذلك النهار ورأى طلائع الاستظهار، ولكنه لم يبق لينشد مع رفاقه اهازيج النصر. ولما زاحوا كوفيته، ومسحوا غبار المعمعة عن وجهه المصفر ذعر الزعيم صرخ متوجعاً " هذا ابن الصعبي فيا للخسارة !".

فردد القوم هذا الاسم متأوهين ثم جمدوا في اماكنهم كأن قلوبهم السكرى بخمرة النصر قد فاجأها الصحو فرأت ان خسارة هذا البطل هي اجسم من مجد التغلب وعز الانتصار. ومثل تماثيل قد اوقفهم هول المشهد وايبس السنتهم فسكتوا وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الابطال فالبكاء والنحيب حريّ بالنساء والصراخ والعويل خليق بالاطفال ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقاراً- ذلك السكوت الذي يقبض على القلوب القوية مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة، ذلك السكوت الذي يترفّع عن الدموع فيزيد بترفعه البلية هولاً وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال الى اعماق اللجة، ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة وان لم تجىء كان هو نفسه اشد فعلاً منها.

خلعوا اثواب الفتى المصروع ليروا اين وضع الموت يده فبانت كلوم الشفار في صدره كأنها افواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال فاقترب الزعيم وجثا مستفحصاً فوجد دون سواه منديلاً مطرزاً بخيوط الذهب مربوطاً حول زنده فتأمله سراً وعرف اليد التي غزلت حريره والاصابع التي حاكت خيوطه فستره بالاثواب وتراجع قليلاً الى الوراء حاجباً وجهه المنقبض بيده المرتعشة- تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رؤوس الاعداء قد ضعفت وارتجفت وصارت تمسح الدموع لانها لامست حواشي منديل عقدت اطرافه محبوبة حول زند فتى جاء ليشهد يوم الكريهة مدفوعاً ببسالته فصرع وسوف يرجع اليها محمولاً على اكف رفاقه.
وبينما زعيم القوم تتراوح نفسه بين مظالم الموت وخفايا الحب قال احد الواقفين " تعالوا نحفر له قبراً تحت تلك السنديانة فتشرب اصولها من دمه وتتغّذى فروعها من بقاياه فتزيد قوة وتصير خالدة وتكون له رمزاً فتمثل لهذه الطلول بطشه وبأسه".

فقال آخر " لنحمله الى غابة الارز ونقبره بقرب الكنيسة فتظل عظامه محفورة بظل الصليب الى آخر الدهر".

وقال آخر " اقبروه ههنا حيث جبل التراب بدمائه واتركوا سيفه في يمينه واغرسوا رمحه بجانبه وانحروا حصانه على قبره ودعوا اسلحته تؤنسه في هذه الوحدة".
وقال آخر " لا تلحدوا سيفاً مضرجاً بدم الاعداء ولا تنحروا مهراً يخوض المنايا ولا تتركوا في الوعر سلاحاً تعود هزّ الاكفّ وعزم السواعد بل احملوها الى ذويه لانها خير ميراث".
وقال آخر " تعالوا نجثو حوله مصلين صلاة الناصري فتغفر له السماء وتبارك انتصارنا".

وقال آخر " لنرفعه على الاكتاف جاعلين له نعشاً من الرماح والتروس فنطوف به في هذا الوادي ناشدين اهازيج النصر فيشاهد اشلاء الاعداء وتبتسم شفاه جراحه قبل ان يخرسها تراب القبر".
وقال آخر" تعالوا نعليه سرج جواده ونسنده بجماجم القتلى ونقلده رمحه وندخله الاحياء ظافراً فهو لم يستسلم الى المنية الا بعد ان حملها من ارواح الاعداء حملاً ثقيلاً".
وقال آخر " تعالوا نودعه لحف هذا الجبل فيكون له صدى الكهوف نديماً وخرير السواقي مؤنساً فترتاح عظامه في برية يكون فيها وطىء اقدام الليالي خفيف الوقع".

وقال آخر " لا تغادروه ههنا ففي البرية وحشة مملّة ووحدة قاسية بل تعالوا ننقله الى جبانة القرية فيكون له من ارواح جدودنا رفاقاً يناجونه في سكينة الليل ويقصون عليه اخبار حروبهم واحاديث امجادهم".

فتقدم الزعيم اذذاك الى وسط رجاله واسكتهم ثم قال متنهداً " لا تزعجوه بذكرى الحروب ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة فوق رؤوسنا اخبار السيوف والرماح بل هلمّوا نحمله ببطء وهدوء الى مسقط رأسه ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقّب قدومه، نفس حبيبة تنتظر رجوعه من بين الاسنّة فلنعيده اليها كيلا تحرم نظرة من وجهه وقبلة من جبينه".

حملوه على المناكب مطاطيء الرؤوس خاشعي العيون ومشوا ببطء محزن يتبعهم فرسه الكئيب يجر مقوده على الارض ويصهل من وقت الى آخر فتجيبه الكهوف بصداها كأن للكهوف افئدة تشعر من البهيم بشدة الضيم والاسى.
بين اضلع ذلك الوادي حيث اشعة القمر تسترق خطواتها سار موكب النصر وراء مركب الموت وقد مشى امامها طيف الحب جاراً اجنحته المكسورة.