Articles

Art in the press

سهيل ادريس لأسكندر داغر - من كتاب فرسان القلم في لبنان

دخلت الحياة الأدبية من باب الصحافة

رحيل الدكتور سهيل ادريس (1925-2008) عن دنيانا كان له الصدى المؤلم لدى الأدباء والشعراء في لبنان ودنيا العرب، باعتباره المبدع الذي ترك فراغا ً في ميدان الكتابة الروائية والقصصية والنقدية، وفي مجال الحركة الأدبية التي ساهم في دفعها خطوات واسعة الى الأمام، على مدى أكثر من نصف قرن وهنا صفحات من حياة سهيل ادريس.

كيف الدخول الى عالم سهيل ادريس؟

هذا هو السؤال الذي قفز الى ذهني عندما قررت الكتابة عنه بعد رحيله عن دنيانا الفانية التي "لا رجاء فيها" كما كان يقول مارون عبود!

كيف الدخول الى هذا العالم المتشعب، والمتحرك في كل اتجاه؟ هل أدخل من باب الصحافة، أو من باب الأدب، أو من باب الترجمة، أو من باب النشر، أو من أبواب أخرى؟ ولأن لكل حكاية بداية، اذا ً،من هناك سأبدأ.

اشكالية السيرة الذاتية

في سنة 2002 أصدر الدكتور سهيل ادريس الجزء الأول من كتاب "ذكريات الأدب والحب"، ولعله الكتاب الأخير الذي كتبه قبل أن يرحل. وهو عبارة عن سيرة ذاتية، خاصة وعامة، ولست أدري ما اذا كان قد كتب الجزء الثاني من هذه الذكريات التي مزج فيها السرد الروائي بروح الفكاهة.

لقد حاول سهيل ادريس في هذا الكتاب، أن يتجاوز الأسلوب التقليدي الذي اعتمده معظم الكتاب العرب الذين سبقوه في هذا الميدان، حيث نجد أن سيرهم الذاتية خالية من الصدق، وهمهم الوحيد، هو تلميع صورهم أمام الناس والتاريخ! وأضرب مثالا ً على ذلك، السيرة الذاتية التي كتبها الروائي الراحل توفيق يوسف عواد في كتابه "حصاد العمر"، حيث ظهرت أحداث ووقائع واختفاء أخرى!

من هنا أستطيع القول أن كتاب "ذكريات الأدب والحب "تميز بالصراحة المتناهية، والجرأة التي تخطت "المعقول" في بعض الأحيان، وخصوصا ً عندما تطرق المؤلف الى جانب من جوانب الحياة الخاصة لوالده. ولكن ما دام أنه قرر أن يخوض في هذا الميدان الأدبي الذي يفترض بصاحبه أن يقول الحقيقة، كل الحقيقة، أكانت معه أو ضده، لذلك فهو لم يتورع عن قولها، والا كان من الأفضل ألا يكتب سيرة غير مطابقة للواقع.

ولكن، هل استطاع سهيل ادريس أن يتخلص من عقدة تلميع الصورة؟ وقول الحقيقة حول أصله وفصله؟ ام أنه سقط في الكمين نفسه، الذي سقط فيه جبران خليل جبران مثلا ً، عندما أخذ يكتب في رسائله المتبادلة مع صديقته ماري هاسكل، بأن والده خليل جبران كان من أبرز شخصيات بلدته بشري ومن أغناهم وكان بوده أن يذهب ابنه جبران الى "البوليتكنيك" في باريس، بدلا ً من أن يمارس الكتابة والرسم، وبأنه ظل يعيش بين الخيل والخدم وبقي له ثراؤه حتى النهاية؟! والى ما هنالك من الحكايات الخرافية التي كان يرويها لماري هاسكل، لأسباب وأسباب!

في أرض الأجداد

وبدوره، يروي سهيل ادريس في سيرته، بأن "اصل عائلة ادريس - كما يقال - من المغرب، ككثير من الأسر اللبنانية التي هاجرت منذ مئات السنين من المغرب واستوطنت البلاد العربية. ويقال كذلك أن أجدادي ينتمون الى الأدارسة الذين أقاموا دولة لهم في المغرب الأقصى في القرن الثامن، وبنوا مدينة فاس، ويرجعون بنسبهم البعيد الى الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه".

وهنا، يستدرك فيقول بأسلوبه الساخر: "والحق اني لم أهتم يوما ً بما يسمى شجرة العائلة، ولم أتساءل أكنت في أصلي من الشرفاء أم من الدهماء، لأني نشأت على الايمان "أن الفتى من قال هأنذا / ليس من قال كان أبي". على ما علمونا منذ نعومة أظفارنا.

"بيد أني حين بلغني أن للأدارسة وقفا ً في مدينة فاس، دفعني الفضول، وكنت مع زوجتي في زيارة المغرب عام 1984، للتوجه الى فاس، علني يصيبني من هذا الوقف رذاذ. وتبين لي هناك أن الوقف في المقام الادريسي ضئيل هزيل، يتنازعه الكثيرون، فآثرت الهرب...خشية ان أطالب بما لست أعلمه من ضرائب قديمة!

"وأتممنا تجوالنا في دروب فاس الضيقة التي لا تدخلها السيارات. وفي طريق العودة، أدركتنا عربة نقل يجرها بغل في زقاق ضيق حشرت فيه زوجتي فأصيبت بخدوش في جانب عنقها وكتفها، وسمعتها تتمتم، وهي تتوجع قائلة: "...أنت وأجدادك!".

يقول سهيل ادريس: "كان أبي، على ما يروي الأقرباء، من أغنياء التجار في منطقة المرفأ بالعاصمة، حيث كان يدير مع عمي تجارة: "مال قبان". ولكنه كان يتجاوز الكرم والأريحية الى الاسراف والتبذير. ويروون أنه دعا الى عرسه الراقصة بديعة مصابني. وانه اهدى عروسه عقدا ً من اللؤلؤ باهظ الثمن. كما أهدى الى القريبات من فتيات الأسرة بتلك المناسبة، عقودا ذهبية. وظلت الفراح في البيت قائمة طوال اسبوع، والمائدة مبسوطة بالطعام والحلوى لكل مهنىء من الزوار. ولعل هذه السعة من الانفاق كانت على سبيل التعويض من انه تزوج وهو في زهاء الاربعين من عمره بعروسه التي لم تكن تتجاوز الخامسة عشرة.

"وأمي، سهيلة غندور، هي من أسرة تعد من أسر بيروت البورجوازية التي منها عائلات الداعوق وبيهم والشيخ وفتح الله وسواها. وقد هاجرت من المغرب في موجات متتالية، وتوزعت بين ثغور المتوسط وبلدان الجزيرة العربية".

في ميدان الصحافة

وسارت الأيام...

يقول سهيل ادريس في كتاب سيرته الذاتية: "دخلت الحياة الأدبية من باب الصحافة".

عمل في مقتبل حياته في الصحافة، بدأ محررا ً في جريدة "بيروت" لصاحبها محيي الدين النصولي، وفي "بيروت المساء" لصاحبها عبد الله المشنوق، ومن ثم، محررا ً في مجلة "الصياد" لصاحبها سعيد فريحه، وفي "الجديد" لصاحبها توفيق يوسف عواد، وفي مجلة "الجمهور" لصاحبها ميشال أبو شهلا. وربما كانت تجربته في "الصياد" ومع الكاتب الساخر سعيد فريحه، هي التجربة المهمة في حياته الصحافية، ولذلك فانه يعيرها اهتمامه البالغ في سيرته، اذ انه يروي تفاصيلها بشكل لافت، فيقول: "فقد تلقيت ذات يوم، من عام 1943، رسالة من المرحوم سعيد فريحه، رئيس تحرير مجلة "الصياد". يدعوني فيها الى زيارته، بعد أن حدثه عني "صديق الطرفين" كما قال، في معرض البحث عن "محرر نشيط".

"وحين قابلت سعيد فريحه في مكتبه، وكان آنذاك في منطقة "العازارية" سألته عن طبيعة عملي في التحرير:

فأجابني بلاد تحرر:

- من كله!
- سألت: أي باب في المجلة؟
- قال: جميع الأبواب!
- أردت أن اعترض، فقلت: ولكن...
- قاطعني قائلا ً: لا "لكن" ولا "ان" ولا "لعل"!
- فضحكت. وتابع سعيد فريحه:
- تطرق جميع الأبواب... الى ان يفتح الله عليك بأحدها
فتدخل!
- وضحكت مرة أخرى، ثم سارعت أقول:
- موافق...فلنجرب!
- قال عظيم!
-وأضاف بعد لحظات:
- أما الراتب، فنتفق عليه بعد التجربة؟

- فاستحييت أن اسأله عن مدة التجربة، بالرغم من ان أسرتي كانت في مسيس الحاجة الى مشاركتي في نفقاتها. واحتللت في اليوم التالي غرفة صغيرة في مكتب "الصياد" كانت تطل على بيوت قديمة في"العازارية". وجلست وراء مكتبي، والزهو يملأ نفسي، وطلبت فنجانا ً من القهوة، وبسمة من سخرية ترتسم على شفتي: "قال بعد التجربة... قال!".

قصة ثقيلة الدم!

وتابع قائلا ً: وفي ظهيرة ذلك اليوم نفسه، قدمت لسعيد فريحه قصة قصيرة كنت كتبتها منذ أيام، فنظر الى عنوانها ثم قال بسرعة:

لا احب القصص!
أصبت بالذهول، غير أني تمالكت نفسي وتساءلت:
ولكن كل ما تكتبه في "الجعبة"، يا أستاذ سعيد، هو من القصص!
قال بكل هدوء:
ولكنها غير شكل!
ثم استدرك يقول:

ومع ذلك، سأقرأ القصة الآن، تفضل بالجلوس. جلست وأنا أرتعش. وفيما هو يقرأ القصة، تذكرت ما أعرفه عن سعيد فريحه من أنه رجل أمي لم يدخل مدرسة، وانه كان حلاقا ً، ثم بائع صحف...على ما روى في "جعبته"... في حين أني تعلمت في الكليات، وبدأت دراسة الحقوق في الجامعة، وان كنت فشلت في الامتحان الشفهي تلك السنة. وها هو الآن يخضعني لامتحان خاص ولا أدري اذا...

قطع علي صاحب "الصياد"، حبل التفكير حين مد يده بالقصة يعيدها لي قائلا ً:
ثقيلة الدم... وان كانت جميلة اللغة!
وبالرغم من شعوري بأنه "جرح وداوى" بهذا الحكم، فقد قلت معترضا ً:
القصة اما ان تكون جميلة، او رديئة... اما ثقل الدم...
قاطعني بقوله:
لا تزعل يا أستاذ... اذا قلت لك ان ثقل الدم هو من الرداءة!

الخطوات الأولى

قبل أن ينخرط سهيل ادريس في ميدان الصحافة، ويكتب في المجلات والجرائد التي ذكرتها، بادر الى نشر مقالاته وقصصه القصيرة في أكثر من مجلة وجريدة... وقال لي ذات مرة، في سياق حوار اجريته معه، بأن أول مقال كتبه، كان في مجلة "المكشوف" لصاحبها الشيخ فؤاد حبيش، سنة 1939، وكان المقال عن رسالة الغفران، وقد نشر في صفحة لائقة، مما جعله يعيش لحظات من الفرح، وخصوصا ً عندما ندرك أن "المكشوف" كانت في زمانها تستقطب كبار أدباء وشعراء لبنان.

ومن ثم، أخذ ينشر في مجلة "الأديب" اللبنانية لصاحبها ألبير أديب، ومجلة "الرسالة" المصرية لصاحبها احمد حسن الزيات، و"الأمالي" اللبنانية.

اللافت، وبالرغم من أن العلاقات بين فريحه وادريس، كانت تتسم بالمد والجزر، وبعض المماحكات الظريفة، أن مجلة "الصياد" محطة مهمة وأساسية في حياة سهيل ادريس الصحافية والأدبية، ففيها تعرف الى عدد من الكتاب والأدباء الذين كانوا يتعاونون مع صاحب المجلة، ووجد منهم التشجيع والرضى، وكان فيهم خليل تقي الدين وتوفيق يوسف عواد وعبد السلام العجيلي وشكيب الجابري وسواهم ممن أسهموا بعد ذلك في مجلته "الاداب".

وفي مكتب "الصياد" ايضا ً، كان يجتمع الى رجال السياسة الذين كانوا يترددون على سعيد فريحه، ومنهم الزعيم رياض الصلح الذي كان يكن له اعجابا ً كبيرا ً، والمير مجيد ارسلان الذي كان يعلق دائما ً مسدسه الى جنبه، ولا يني يفتل شاربيه ويضرب بنطاله بخيزرانته، ويفاجأ أبدا ً بصوته "الرفيع" الرقيق الذي لم يكن يتناسب مع ضخامة جسمه.

لم يتردد سهيل ادريس من الاعتراف بعصامية الصحافي سعيد فريحه، الذي مهد الطريق أمامه الى الصحافة الأدبية التي يسرت له أن يصدر مجلة "الآداب" سنة 1953.

ويعترف ادريس، بأنه استفاد من جو مجلة "الصياد" الذي كان حافلا ً بالمعارك السياسية النقدية. فتعمق لديه حس المناقشة، وربما المماحكة، مما عرفه القراء في كتاباته التي نشرت في "الأديب" البيروتية "والصباح" السورية، و"بيروت المساء" التي شارك في تحرير صفحاتها الأدبية منذ انشائها.

وعلى ذكر مجلة "الصباح" يقول سهيل ادريس، بأن رئيس تحرير هذه المجلة الدمشقية عبد الغني العطري "كان معجبا ً بكتاباتي الى حد انه لم يتردد حين ارسلت له ما كنت أظن أنه قصيدة، فنشرها في الصفحة الأولى مرحبا ً بي كشاعر، كما قال. ولكن بعض الأدباء كتبوا يهاجمون القصيدة ويقولون أنها ليست من الشعر في شيء، فعدلت عن نظم الشعر، وتبت منه توبة نصوحا ً".

أفهم من ذلك، بأنه هجر الشعر ولجأ الى القصة القصيرة، ومن ثم، الى الرواية.

عبرابنة الجيران

مثل العديد من الكتاب، دخل سهيل ادريس الى عالم الكتابة، من خلال قصة عاطفية عاشها مع ابنة الجيران، وهو في سن المراهقة... ومن وحي هذه العاطفة التي كان يكنها لتلك الفتاة، كتب روايته الأولى دون أن ينشرها، وحسبما قال لي، فهو ما زال يحتفظ بمسوداتها، وهي بعنوان "أشعة الفؤاد"

كانت البداية مع القصة القصيرة، وأول مجموعة أصدرها بعنوان "أشواق" في سنة 1947، ومن ثم، توالت مجموعاته القصصية التي بلغ عددها ست مجموعات، هي: اشواق (1947) – نيران وثلوج (1948) - كلهن نساء (1949) – الدمع المر (1956) – رحماك يا دمشق (1965) - العراء (1973).

ومثل كل كاتب ناشىء، أصدر مجموعته القصصية الأولى "أشواق" على نفقته الخاصة. وقد تفاوت استقبال المجموعة لدى النقاد بين التجريح والمديح. غير أن ما لقيه من ثناء شجعه على المضي في كتابة القصة.

وكان الناقد المصري الشهير أنور المعداوي، من اول الذين تناولوا هذه المجموعة بالنقد في مجلة "العالم العربي"، ثم أصدر هذا النقد في كتابه "نماذج فنية في الأدب والنقد"، ويقول سهيل ادريس في هذا الصدد: "وقد سجل المعداوي عددا ً من المآخذ على قصص هذه المجموعة، أقررته على كثير منها، ولكنني رأيته "ظالما ً" في ما أخذه على قصتي "أشواق"، و"تذكار ثورة".

وفي مجلة "الرسالة" المصرية، كتب أنور المعداوي أيضا ً، عن مجموعة "كلهن نساء" بأنها "عمل فني جدير بالتهنئة". وكذلك كتب عن "نيران وثلوج".

وفاء لأنور المعداوي

يشير الدكتور سهيل ادريس في كتابه "ذكريات الأدب والحب"، بأن المعداوي كان أحد كبار اصدقائه، وتعود الصداقة بينهما الى فترة مبكرة من الأربعينات، اذ كان من أوائل من تنبهوا الى رحلته في ميدان الأدب، واهتم بها وحاول جهده ان يساعده وأن ياخذ بيده في طريق الكتابة الأدبية. ثم قدم له مساعدة ثمينة جدا ً حين سافر الى باريس لاعداد شهادة الدكتوراه التي عالج فيها موضوع "الرواية العربية الحديثة من 1900 الى 1950 والتاثيرات الأجنبية فيها". ويعترف سهيل ادريس، بأنه لو لم يستجب المعداوي لكل ما كان يطلبه منه من كتب ومراجع لكان عجز عن انجاز هذه الرسالة التي استغرق اعدادها ثلاث سنوات (1949-1952).

هذه الاعترافات ان دلت على شيء، فانما تدل على الوفاء، وعلى الصدق في كتابة السيرة، عكس ما كتبه توفيق يوسف عواد مثلا ً - الذي أعود اليه مرة ثانية - في سيرته الذاتية، عن أول من مد له يد العون وفتح له صفحات مجلته "العرائس" واعني هنا، الأديب والصحافي عبد الله حشيمه، الذي لم يذكره في كتابه "حصاد العمر" الا بشكل عابر، وعبر القليل القليل من السطور. وقد حدثني عبد الله حشيمه مطولا ً عن توفيق يوسف عواد الذي كان يتردد اليه في مكتب "العرائس" في بلدة بكفيا القريبة من بحر صاف، مسقط رأس عواد الذي كان يعاون صاحب المجلة في كتابة عناوين المشتركين في "العرائس"، وفي لصق طوابع البريد عليها. وكان عبد الله حشيمه يمده بالقصص القصيرة التي تنشرها المجلات الفرنسية، لكي يترجمها الى العربية تمهيدا ً لنشرها في المجلة، وقد استعان بها بعدئذ، في قصصه. لقد ضرب توفيق يوسف عواد عرض الحائط بكل هذه الحقائق وتجاهلها بشكل كامل!

الأحلام الكبيرة

بعد عودته من باريس، حاملا ً معه شهادة الدكتوراه في الأدب، من جامعة السوربون، أخذت الأحلام الكبيرة تراود خياله، وأكثر ما كان يشغل باله، كتابة رواية من وحي تجربته الباريسية، وانشاء مجلة أدبية مغايرة، وتأسيس دار للنشر تواكب الحركة الأدبية الحديثة في لبنان ودنيا العرب والعالم.

في مطلع الخمسينات، كانت الرواية العربية الحديثة، في أول عهدها في الابداع. وفي تلك الفترة من الزمن، برز اسم الدكتور سهيل ادريس كمؤلف روائي وقصصي بعدما أصدر العديد من المجموعات القصصية، ومن ثم رواية "الحي اللاتيني"، التي أثارت اهتمام النقاد والقراء، فكان هناك شبه اجتماع على أنها حدث مهم في تاريخ الرواية العربية الحديثة وفي حينه، فازت "الحي اللاتيني" باحدى جوائز "جمعية أهل القلم" في لبنان لأحسن رواية.

لقد سار سهيل ادريس في رواية "الحي اللاتيني" على خطى العديد من كتاب الرواية في العالم العربي، ومنهم: توفيق الحكيم في روايته "عصفور من الشرق"، وطه حسين في روايته: "أديب"، ويحيى حقي في "قنديل ام هاشم"، والطيب صالح في "موسم الهجرة الى الشمال" وقبلهم أحمد فارس الشدياق في كتابه "تخليص الابريز في تلخيص باريز"، وكذلك رفاعة رافع الطهطاوي، الخ... جميعهم رحلوا الى الغرب، ومعظمهم الى باريس، بحثا ً عن المعرفة والحب والحرية والحياة الجديدة... بحثا ً عن سمات الحضارة الغربية وصولا ً الى مدى تفاعلها مع الحضارة الشرقية، بعيدا ً عن مقولة كيبلينغ "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"!

بعد روايته الأولى الصادرة سنة 1953 وفيها رأى باريس بكل ما فيها، بعين طالب شاب من الشرق، هو سهيل ادريس نفسه، صدرت روايته الثانية "الخندق الغميق" سنة 1958 حيث الصراع من أجل الصراع من أجل التقدم والتحرر، ومن ثم، صدرت روايته الثالثة والأخيرة "اصابعنا التي تحترق" الشاهدة على التحولات السياسية والاجتماعية...

كتب سهيل ادريس أيضا ً، مسرحية بعنوان "الشهداء"، وأخرى بعنوان "زهرة من دم".

وقد خصص مساحة واسعة من حياته للترجمات، ونقل الى العربية عددا ً من روائع النتاج العالمي ومن أبرزها مؤلفات لجان بول سارتر، والبير كامو وروجيه غارودي، وسيمون دو بوفوار، وريجيس دوبريه، وسواهم...

وانشغل كذلك في وضع معاجم عدة.

وله كتاب بعنوان "في معترك القومية والحرية"، وآخر بعنوان "مواقف وقضايا أدبية"، اضافة الى انشاء مجلة "الآداب"، ومن ثم، "دار الآداب للنشر".

مجلة "الآداب"

في أحد لقاءاتي مع الدكتور سهيل ادريس ركزت على مجلة "الآداب" التي  أنشأها في سنة 1953 بالاشتراك مع الكاتبين منير البعلبكي، وبهيج عثمان، وما لبث أن استقل بها عن شريكيه في سنة 1956.

قبل "الآداب" شهد لبنان مجلات أدبية مهمة، أذكر منها: "المكشوف" للشيخ فؤاد حبيش، و "الأديب" للشاعر ألبير أديب، و"الطريق" لمؤسسها المهندس انطوان ثابت و"الف ليلة وليلة" للروائي والصحافي كرم ملحم كرم، و"الأجيال" و"الحكمة"، و"الرسالة" و"الثقافة الوطنية" وغيرها... جميع هذه المجلات الأدبية احتجبت، وصارت ملكا ً للتاريخ!

بعد مرور نصف قرن على تأسيس مجلة "الآداب"، عبر لي صاحبها عن شعوره، قائلا ً: "لم أكن أتصور، أو اتوقع، أن تستطيع "الآداب" الاستمرار في الصدور طوال هذه المدة، حين قررت تأسيسها سنة 1953، ولكن حماسي للأدب ولمحاولة جعل الفنون الأدبية في خدمة المجتمع العربي هو الذي يكمن وراء استمرار هذه المجلة، لا سيما وأن الواقع العربي يتردى من سيء الى  أسوأ وانه مطلوب من المبدعين العرب أن يسهموا في وقف هذا الانحدار الذي يتم بصورة خاصة على أيدي السياسيين ومحترفي السياسة".

يومها قلت له: هل جاءت "الآداب" لتحل مكان "الأديب"؟

ومما قاله لي: "لم يخطر ببالي أن أجعل "الآداب" تحل محل اية مجلة أخرى، ولا سيما مجلة "الأديب" التي كنت أكتب فيها وأمدها بانتاجي بين الحين والحين".

الى أن قال : "فالأفضل أن نقول، أن "الآداب" أتت تكمل "الأديب".

واجه قدره بصبر

بعد ذلك كله، توقف سهيل ادريس في منتصف الطريق، وانسحب من الميدان، وقد شرح لي هذا الأمر، بقوله: "الحقيقة، ان لتضاؤل انتاجي، سواء في الرواية أو في القصة القصيرة، أو الترجمة، أو النقد، أسبابا ً موضوعية، تعود أول ما تعود، الى نوع من الأسى الشديد الذي تملكني بعد هزيمة 1967. فقد أخذني شيء من اليأس، أو التشاؤم، من دور الأديب في الحياة العربية. وكانت هزيمة 67، ضربة لكل الآمال التي كان يعلقها المثقف العربي على استشراف مستقبل يتجاوز الهزائم والنكسات".

ومنذ ذلك الحين انصرف الدكتور سهيل ادريس، الى وضع المعاجم، "الى عمل كنت أطلب منه ان استغرق في ما يمكن ان يخفف لدي هذا الاحساس بالهزيمة..."

وفي نهاية ذلك اللقاء الطويل، سألته: اذا ً، هذا الانقطاع ليس معناه نوعا ً من الهروب؟

اجاب: "ليس هروبا ً، لا نستطيع ان نهرب من قدرنا، انه قدر، وينبغي في كثير من الأحيان، ان نواجهه بصبر".