Articles

Art in the press

تضارب النزاعات الادبية - في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني

الأتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث – انيس الخوري المقدسي - 1952

الرابطة العثمانية - ظلت تركيا الى عهد قريب سيدة الامم العربية من الناحية السياسية، وظلت عاصمتها الاستانة مقر سلطنة مترامية الاطراف، وخلافة دينية واسعة النفوذ.

وبرغم ما بلغته في اواخر عهدها من فساد اداري واختلال اقتصادي، وبرغم الدعايات الواسعة التي كانت تقوم بها الدول الاوروبية، واخصها روسيا القيصرية وبريطانيا وفرنسا والمانيا والنمسا، لا ترى في الشرق العربي منذ ايام ابراهيم باشا المصري حتى اواخر القرن التاسع عشر حركة جدية للانفصال عن السلطنة العثمانية والاستقلال بكيان سياسي منظم. ولم يكن لقطر عربي من الاسباب الممهدة لظهور ادب قومي عربي النزعة ما كان لمصر في القرن التاسع عشر فهي اسبق البلدان العربية الى انشاء وحدة ادارية ذاتية، بل هي اول مكان بعثت فيه الروح العربية الاستقلالية، كما يستدل من سياسة ابراهيم باشا التي كانت ترمي الى فصل بعض الاقطار العربية عن جسم السلطنة وتأسيس مملكة عربية كبيرة. كان ابراهيم باشا يحلم بالاستقلال حينما صرح للبارون بوالكونت بقوله "ما انا بتركي بل انا ابن مصر ان شمسها قد غيرت دمي فجعلتني عربيا ً قحا ً" وقد سارت مصر بعده بخطى ثابتة في ذلك السبيل ومع كل ذلك ظل الادب العربي فيها عثماني الروح. والذي يراجع نفثات الادباء المصريين في القرن الاخير كابي النصر علي، والشيخ علي اللبثي، وسامي باشا البارودي، وعبد الله نديم وسواهم يتجلى له ما نقصد اليه.

وسبب ذلك، على ما يظهر، ما كان للخلافة ودعاتها من تأثير في نفوس المسلمين. فكان سلطان تركيا الممثل الاكبر لعظمة الشرق والاسلام. واذا سمعنا الشيخ الليثي شاعر الخديوي لسماعيل يقول في السلطان عبد العزيز (على الطريقة الشعرية في ذلك العهد)

دع ذكر كسرى وقصر ان اردت ثنا عن قيصر الروم حيث النفع ومفقود
واشرح مآثر من سارت بسيرته ركائب الجود تحدوها الصنايد
ملك الملوك الذي من يمن دولته ظل العدالة في الآفاق ممدود

فانما قوله انموذج لما كان يقال في العرش العثماني وخلافة الاسلام. وقد ظلت الروح العثمانية شديدة البروز في مصر حتى حدث ما حدث بعد الحرب العالمية الاولى من سقوط الخلافة وانقلاب السلطنة العثمانية الى دولة تركية صرفة. وكان قادة الحركة الادبية على اتصال بمقر الخلافة. تغمرهم النعم السلطانية كعلي ابي النصر المتوفى سنة 1880 وعبد الله فكري 1889 وعبد الله نديم 1986 وابراهيم المويلحي 1906 ومصطفى كامل 1908 ثم المتأخرون عن هؤلاء بالوفاة كاحمد شوقي وحافظ ابراهيم واسماعيل صبري واحمد نسيم ومصطفى الرافعي وسواهم.

وشوقي على ما يظهر هو اعظم من تغنى شعريا ً بمحامد الخلافة وتعظيم رجالها. فن له في ذلك قصائد سائرة. ومن اشهرها ما نظمه في وقائع الحرب العثمانية اليونانية سنة 1897 وكان في التاسعة والعشرين من عمره كقوله في بائيته العصماء (صدى الحرب) يخاطب السلطان:

بسيفك يعلو الحق والحق اغلب وينصر دين الله ايان تضرب
وما السيف الا آية الملك في الورى ولا الامر الا للذي يتغلب
ومنها في وصف معركة ملونا وبأس الاتراك الظافرين:

فهل من "ملونا" موقف ومسامع ومن جبليها منبر لي فاخطب
فاسأل حصنيها العجيبين في الورى ومدخلها الأعصى الذي هو أعجب
واستشهد الاطواد شمساء والذرى بواذخ تلوي بالنجوم وتجذب
هل البأس الا بأسهم وثباتهم ام العزم الا عزمهم والتلبب
أم الدين الا ما رأت من جهادهم أم الملك الا ما اعزوا وهيبوا

والحق يقال ان هذه القصيدة هي فيض من العواطف العثمانية. وكذلك كان كثير من شعر شوقي. فقد نشأ على حب العثمانيين وظل من اكبر الدعاة لهم. ومن أراد ان يتحقق عثمانية هذا الشاعر الكبير فليراجع من قصائده ما يلي:

تحية الترك ومطلعها:

بحمد الله رب العالمينا وحمدك يا اميرالمؤمنينا

ضيف امير المؤمنين:

رضي المسامون والاسلام فرع عثمان دم فداك الدوام

نجاة امير المؤمنين:

هنيئا ً امير المؤمنين فانما نجاتك للدين الحنيف نجاة

الاسطول العثماني:

هز اللواء بعزك الاسلام وعنت لقائم سيفك الايام

في سبيل الهلال الاحمر:

يا قوم عثمان والدنيا مداولة تعاونوا بينكم يا قوم عثمانا ً

في سبيل الهلال الاحمر:

جبريل هلل في السماء وكبر واكتب ثواب المحسنين وسطر

الاندلس الجديدة:
يا اخت اندلس عليك سلام هوت الخلافة عنك والاسلام

تحية للترك:

الدهر يقظان والايام لم تنم فما رقادكم يا اشرف الامم

رثاء الخلافة:

عادت اغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الافراح

فمن قراءة هذه القصائد وسواها يتبين لك ما كان للخلافة العثمانية من مقام في نفوس المصريين.

اما في الادب المنثور فاكثر ما ترى ذلك في خطب السيد عبد الله نديم ومقالاته ثم في الحركة الوطنية التي قام بها مصطفى كامل وفي كتابات السيد توفيق البكري ومن امثلته قول الاول في خطاب.

"هذي يدي في يد من اضعها؟ ضعها في يد وطنك واعقد خنصرك على محبة امير المؤمنين الخليفة الاعظم والا فقطعها خير من وضعها في يد اجنبي يستميلك اليه بوعود كاذبة وحيل واهية لتكون عونه الاكبر على ضياع حقوقك واذلال اخوانك ونزع سلطة اميرك وسلطانك" وهذه الروح بارزة في كثير من اقوال هذا الخطيب.

وكان مصطفى كامل (وهو زعيم الحركة الوطنية قبل الحرب الكبرى) يرى ان مصلحة مصر مرتبطة بمصلحة الاسلام على العموم. فكان كما قال زيدان "شديد المدافعة عنه كثير السعي في نصرته. وقد كان يخدم مصلحة الدولة العثمانية من طرق كثيرة فانعم عليه السلطان بالرتب والالقاب" ومن قرأ خطبه تحقق صدق عثمانيته. ومن امثلة ذلك قوله من خطاب القاه على المصريين في باريس سنة 1895.

"حقا ً ان سياسة التقرب من الدولة العلية لاحكم السياسات وأرشدها. فضلا ً عن الاسباب العظيمة الداعية لهذا التقرب فان العدو واحد. ولا يليق بنا ان نكون في فشل وشقاق في وقت يعمل فيه اعداؤنا على تجزئة دولتنا. ولا غرو ان كنا نتألم لآلام الدولة العلية فما نحن لا ابناؤها المستظلون بظلها الوريف المجتمعون حول رايتها"... الى ان يقول "وقصارى القول ان الراية العثمانية هي الراية الوحيدة التي يجب ان نجتمع حولها. ولا تتحقق وحدتنا بغير الاتحاد والائتلاف فلنتحد قلبا ً ولسانا ً ولنكن يدا ً واحدة في خدمة الاوطان واسعادها. ولنقل اليوم جميعا ً من صميم افئدتنا ليحي جلالة السلطان عبد الحميد وليحي العباس ولتحي العثمانية ومصر".

واننا نترك للتحقيق التاريخي البت في هل كان مصطفى كامل يستخدم الدعوة العثمانية مناوأة للاحتلال الانكليزي في مصر او كان يستخدم مناوأة الاحتلال اداة لخدمة الخلافة. على ان الذي لا شبهة فيه ان كلتا العثمانية والمصرية بارزتان في حياته وادبه، وانه كان من اكبر الدعاة في مصر بل في الشرق لتوطيد دعائم الجامعة العثمانية في ظل الخلافة الاسلامية.

وقد نشأ قبله اثنان كان لهما يد طولى في هذه الدعوة واحيائها في الادب العربي. الاول احمد فارس الشدياق 1887 وهو لبناني الاصل لكنه اتم علومه في مصر وعمل فيها فتولى كتابة الوقائع المصرية. ثم جال في اوروبا وقام فيها بضع عشرة سنة. وبعد ذلك ام تونس حيث اعتنق الاسلام ثم طلب الى الاستانة وهناك انشأ الجوائب وكانت واسعة الانتشار في العالم الاسلامي وفيها يجد الباحث كثيرا ً من القصائد والمقالات التي تدور على عظمة الدولة ومدح سلاطينها ورجالها. كقوله من قصيدة في عبد العزيز.
للدولة العليا على ومآثر يشدو بها يوم الفخار الآثر
ساست ممالك ليس يعلم حدها ولغاتها الا العليم القادر
سر حيث شئت من البلاد فلا ترى الا النعيم وما اشتهاه الناظر

والثاني جمال الدين الافغاني 1314 ه ويتصل نسبه بآل البيت. كان زعيما ً اسلاميا ً كبيرا ً. وقد اضطرته الاحوال السياسة ان يفارق بلاد الافغان ويقصد الاستانة فاستقبل هناك بحفاوة واقام بها مدة. ثم ام مصر وكان فيها محجة العلماء والمفكرين.ولجمال الدين خطط وتعاليم سياسية ويؤخذ منها "ان الغرض الذي كان يصوب نحوه اعماله والمحور الذي كانت تدور عليه آماله توحيد كلمة الاسلام وجمع شتات المسلمين في حوزة دولة اسلامية تحت ظل الخلافة العظمى".


ونحن اذا قلنا ان الادب المصري كان متشبعا ً بروح التشيع للخلافة والجامعة العثمانية فحكمنا يتناول المصريين الاصليين ولا سيما المسلمين منهم. اما نزلاء مصر من السوريين واللبنانيين والعراقيين فكانوا فئتين متطرفتين، فئة تجاري المصريين في عثمانيتهم وفئة تنكر عليهم هذا الاندفاع نحو تركيا.

ومن الفئة الاولى سليم تقلا مؤسس جريدة الاهرام. واليك بعض ما كتبه سنة 1899 في "الوطنية العثمانية" قال:

"ان في ممالكها المحروسة عناصر عديدة بين تركية وعربية وارمنية ويونانية وغيرها وكذلك مذاهب مختلفة. ولكنها تجمعها كلها جامعة واحدة وطنية هي الجامعة العثمانية وهي دون استثناء تخضع لجلالة سلطانها وتصدع بامره وتنصاع لاحكامه. وهذه الجامعة كانت وتكون الحصن الحصين للرعية دون اطماع الدول، وما وراء العبث بها الا الخسران والضياع. واذا تبين هذا، وهو الحق الصراح، كان ابن مصر وابن الحجاز والعراق والشام اخوة ً لام هي دولتهم، وأب هو جلالة السلطان".

وتتجلى هذه النزعة العثمانية أيضا ً في شعر خليل مطران. وفي أدب مطران وسيرته ما يدل على مجاراته الوطنيين المصريين في آمالهم ونزعاتهم. فلا نستغرب ان نسمعه يقول في قصيدته " فتاة الجبل الاسود" وكان قد نظمها قبيل استقلال ذلك الجبل:

طغت امة الجبل الاسود على حكم فاتحها الأيد
ومنها – و ما الترك الا فحول الحروب رضيعو لظاها من المولد
اذا لقحوها الدماء فلا نتاج سوى الفخر والسؤدد
سواء على المجد ايا ً تكن عواقب مسعاهم تحمد

وتظل هذه الحماسة العثمانية فيه الى زمن متأخر كما نرى في القصائد التي يذكر فيها حرب طرابلس الغرب وبعثات الهلال الاحمر ففي هذه وما يماثلها يظهر ميله العثماني وتشيعه لوطنيي مصر.

ويمثل الفئة الثانية المناوئة للسياسة العثمانية او الحميدية سليم سركيس صاحب جريدة المشير فهو شديد التهجم على هذه السياسة وعلى دعاتها. ومما يبين لك ذلك مقالة له موضوعها "هل مصر عثمانية" قال فيها:
"لم اجد في حياتي ولا قرأت في مطالعاتي عن امة تريد الانتقال من نور الاستقلال الى ظلمات العبودية الا هذا القسم من الامة المصرية الذين يريدون التمسك بأذيال العرش العثماني" ومن شعره قوله:

نرجو صلاح الترك قد خابت امانينا الكواذب
هي دولة ظلمت وليس العدل عن ظلم بذاهب
فانشد معي قولا ً ترد ده المشارق والمغارب
ليس العجيبة فقدها بل عيشها احدى العجائب

ومثل سركيس كثيرون ممن بلغ بهم اليأس هذا الحد من كره الادارة التركية على ان بين هاتين الفئتين فئة ثالثة تتوسطهما وتتصل بكليتهما. وهي فئة المعتدلين الذين لم يعمهم التغرض عن سيئات تركيا - ومنهم من هجرها طلبا ً لحرية الفكر - وكان مع ذلك كله يحرص على بقاء الجامعة العثمانية. نذكر منهم فرح انطون فقد اصدر في الاسكندرية سنة 1897 مجلته (الجامعة العثمانية). ومن اسمها يتضح مذهبه السياسي. وخلاصته ان الامم الشرقية يجب ان تتحالف تحالفا ً متينا ً جدا ً حتى تستطيع ان تسير مع التيار الغربي فلا يدوسها ولا يستطيع ان يهتضمها. فهو منذ بدء حياته القلمية يدعو الى جامعة شرقية واسعة. ومن اقواله في العدد الاول من مجلته مشيرا ً الى المدارس الاجنبية - "فلننشأن ايها العثمانيون بازاء تلك المدارس مدارس جديدة يكون اساس تعليمها حب الوطن والامة وتعليم ما هو الوطن وما هي الامة. لنؤسس مدارس جديدة ندخل اليها طرق التعليم الحديثة ووسائل التربية الحديثة. وندخل اليها قبل ذلك عناصر الامة كلها فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروسا ً واحدة ومبادىء واحدة حتى تكون بعد خروجها من حياة المدرسة الى حياة الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة فان هذا هو السبيل الى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم والهدم".

وقد علق على ذلك الشيخ رشيد رضا صاحب المنار الاسلامي بقوله "فشكرا ًلك ايها الكاتب الفاضل، ونجح الله تعالى الجامعة العثمانية بمبادئك الصحيحة، ومما لاريب فيه ان الشيخ المذكور كان من دعاة العثمانية وكذلك الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد وغيرها من رجال العلم والدين.

ومن المعتدلين الناظرين الى الامور بعين الروية جرجي زيدان منشىء الهلال فهو من طلاب الاصلاح السياسي ولكنه لم يكن مناوئا ً للعثمانية. والذي يطالع اعداد مجلته ولا سيما في السنين الاولى يراه عطوفا ً على الدولة ولعله كان يرى كما كان يرى اديب اسحق واصحاب المقطم وامثالهم ان الرابطة العثمانية لازمة للشرقيين وان طلب لاصلاح لا يعني القضاء عليها او استبدال رابطة اخرى بها.

واذا صح ان نعد ولي الدين يكن نزيلا ً في مصر لنشأته في الاستانة واعتباره اياها وطنه الاصلي فهو من ابرز المنتمين الى هذه الفئة الوسطى. بل هو يجمع في نفسه تطرف الفئتين الاوليين - شدة النقمة على السلطان عبد الحميد، وشدة العصبية للوطن التركي. فلما كان في مصر ورأى بعض الجرائد الانكليزية والعربية تتحامل على العنصر التركي نسي نقمته على السلطان وحكومته وقام يدافع عن الاتراك غير مبال بمعاداة كمثير من خلانه الاحرار. وهو القائل "لوطني مني حياتي وكل ما كان دونها على أن أعيش عثمانياً وأموت عثمانيا ً" ومن اقواله في وطنه العثماني:

ويخلد لليالي فيك حبي واخلاصي الذي في الناس شاعا
وفي مرثاته لادهم باشا بطل الحرب اليونانية يقول:

وبلاد الفتى تعزعليه وعظام الآباء فيها عظام
وعهود الصبا عهود غوال وغرام الوفي ذاك الغرام

وكيف التفت الى ولي الدين تجده في ادبه ذلك العثماني المخلص الذي يكره الاستبداد ولكنه يحب الوطن، يمدح اللوردج كرومر لحمايته الاحرارفي مصر ولكنه ينقض على مشايعي غلادستون المتحاملين على تركيا والاتراك. حتى في ايام محنته ونفيه الى سيواس لا يذكر بلاده الا بالخير فيقول.

ايها الركب سر فان امامي لبعادا ً مرا ً وعيشا ً امرا ً
غربة هذه وقد كنت ادري أن سأرمى بها لدن كنت حرا ً
فالفحي يا رواسي الارض نارا ً وأفيضي فدافد الارض بحرا
وانفحي يا ريح الشمال سموما ً واقذفي يا سوائر الافق صخرا
انا ارضى بذا لحب بلادي وارى في سبيلها الموت فخرا

واذا ذكر الخلافة العثمانية ومجدها الماضي وكيف اصبحت في ايام عبد الحميد قرن ذلك بدموع الاسى على الوطن فقال:

خلافة قد مضى عنها خلائفها من آل عثمان من سادوا ومن شادوا
ابقوا بها المجد للاخلاف بعدهم بعدهم والمجد يبقيه للاخلاف امجاد
حتى انتهت لامير في تسلطه يخشى مظالمه عاد وشداد
يا ويلنا انما نبكي لنا وطنا ً يبكيه في الترب آباء واجداد

وفي ديوانه باب خاص بالسياسات تجد فيه شواهد كثيرة على نزعته الحرة ونقمته على سوء الادارة واستبداد العرش. واولى وطنياته قصيدة "نشتاق حرية فيؤيسنا". ومنها:

ايا وطنا ً قد جرى الفساد به متى يرينا اصلاحك الزمن
دفنت حيا ً وما دنا اجل ما ضر لو دافنوك قد دفنوا
دماء ابنائك الكرام جرت بحرا ً فاشلاؤهم لها سفن

ومثلها "الوطن يشكو اهله" "وزفرة من زفراتي"

قالها عندما نفي الى سيواس 1902 وفيها يقول:
عداة الحق قد ربحوا واهل الحق قد خسروا
ونحن امامنا وطن نراه اليوم يحتضر
فيا افق التهب حزنا ً وجد بالدمع يا مطر

فولي الدين مهما يكن موقفه من الادارة الحميدية عثماني مخلص شديد التعلق بالجامعة العثمانية ولعله يفوق سائر الاصلاحيين في ذلك.

وما يصدق على المهاجرين العثمانيين في مصر يصدق عليهم في سائر المهاجر الا انه لما كان اكثرهم هناك من السوريين واللبنانيين النازحين من بلادهم اما رهبة من الاستبداد واما رغبة ً في طلب العلى، ولما كانوا بعيدين عن تأثير الدعايات العثمانية خلافا ً لحال اخوانهم في وادي النيل، فقلما ترى منهم من يعطف على الجامعة العثمانية او يهتم ببقائها. على انك قد تجد منهم من تهزه العصبية الشرقية أحيانا ً فتظهر العثمانية في شعره او نثره ولكن ذلك قليل اذا قيس بسواه.

واذا خرجنا من مصر الى سائر الاقطار العربية ولا سيما سوريا ولبنان والعراق فمن الطبيعي أن نجد معظم الادب السياسي فيها متلبسا ً بملابس المجاملة او التزلف الى السلطان ورجال دولته.

ولا ينكر ان من الشعراء في هذه الاقطار من كان صادق العقيدة العثمانية اما لتأثيرها الديني في نفسه واما لاسباب اخرى. على ان الرهبة من الاستبداد او الرغبة في جر المغانم كانتا قبل العهد الدستوري من اهم الدواعي الى شيوع النزعة العثمانية في الادب العربي. وليس على طالب الحقيقة الا ان يراجع دواوين الشعراء في ذلك العهد كبطرس كرامه وعبد الباقي العمري، وناصيف اليازجي، وعبد الغفار الاخرس، وفارس الشدياق، ويوسف الاسير، وابراهيم الاحدب. ثم محمد حسن الحموي، ومحيي الدين الخياط، والباروني، وعبد الحميد الرافعي، ومن عاصرهم. فانه يجد في جميعها ما يماثل قول اليازجي الكبير في السلطان عبد العزيز.

خليفة الله ظل في خليقته ظلت به تتقى الدنيا وتستتر
لا ترتضي غيره الدنيا لها ملكا ً لو كان جبريل يأتيها او الخضر
مقلد فوق اثواب مضاعفة من خشية الله سيفا ً صاغه القدر
اذا طلبنا من الباري لنا وطرا ً فليس الا بقاه عندنا وطر

أو قول عبد الحميد الرافعي من قصيدة في ابي الهدى الصيادي شيخ السلطان عبد الحميد

سألوا يا سعد أين المبتغى قلت حيث الشمس في برج الاسد
حيث لي من آل طه سادة ملأوا الدنيا بأنوار المدد
ودنوا من ملجأ الملك لدى مقعد الصدق ومرقى المعتمد
فرد ذا الدهر حميد الخلفا دام في حفظ من الفرد الصمد

وباب مديح العظماء في ادب ذلك العهد واسع، بل هو أوسع الابواب الشعرية. وكثير منه شخصي لا علاقة له خاصة بالاحوال السياسية. على ان منه ما يتعلق بالسياسة الداخلية او الخارجية. فدراسته من هذا القبيل مفيدة للباحث. ومن أمثلة ذلك قصيدة رفعت سنة 1902 الى مظفر باشا متصرف لبنان عند توليه الحكم يحاول فيها الشاعر ان يعتبر عن أماني اللبنانيين المهاجرين فيصف حال الجبل في ذلك الحين وأحوال المهاجرين ثم يلتفت الى المتصرف الجديد فيحذره من تدخل القناصل في ادارته. ويطلب الى نواب الاقضية (اعضاء مجلس الادارة) ان ينشطوا الى ما فيه خير البلاد وان يمحوا سيئات الماضي في هذا العهد الجديد. ويختمها راجيا ً من المتصرف ألا تكون وعوده كوعود اسلافه كلاما ً في كلام فيقول:

امظفر الجبل الذي ضمنت لنا اقواله يمنا ً يعز مثاله
كم حاكم ابدى لاول حكمه وعدا ً فكان وفاءه اخلاله
حاشاك اخلاف الوعود فانت من شرف المبادىء والوفاء خلاله
تركوا لنا التاريخ مسودا ً فكن ممن تخلد بالجميل فعاله
ولو رجعنا قليلا ً الى الوراء وراجعنا مثلا ً مدائح ناصيف اليازجي وخليل الخوري في فؤاد باشا لقرأنا في خلال سطورها كثيرا ً عن حوادث السنة الستين في سوريا ولبنان وقس على ذلك كثيرا ً من شعر المديح المتعلق بحوادث سياسية اثارت خواطر الناس في مختلف الاقطار العربية.

البوادر الثورية الاصلاحية: راينا فيما سبق ان "العثمانية" كانت قبل الدستور بارزة في الشعر المصري عموما ً. وفي كثير من الشعر العراقي والسوري واللبناني. على ان الشعر العربي لم يكن كله كذلك. فقد كان في الشرق العربي كما اسلفنا احرار يهاجمون الفساد ويحملون على السياسة الغاشمة التي كانت تدفع البلاد الى هوة الانحطاط. وابرز ما نرى ذلك في عهد مدحت باشا ابي الاحرار العثمانيين. فانه لما تولى ولاية سورية ظهر في بيروت ودمشق حركة ادبية ترمي الى احياء الشعور القومي والتظلم من ضغط الاستانة. ولا ندري تماما ً سر تلك الحركة اكان مبعثها كما يقول البعض مدحت باشا نفسه طمعا ً بجعل سوريا كمصر والجلوس على اريكة الحكم فيها. ام لان وجود ذلك الحاكم النزوع الى الاصلاح انشأ في سوريا (كما انشأ من قبل في العراق) جوا ً ادبيا ً حرا ً استطاع به اباة الضيم ومرهفو الاحساس ان يبثوا بعض خوالجهم ويفرجوا عن كربتهم. ذلك ما نتركه للتحقيق التاريخي.

واقتضت السياسة نقل مدحت سنة 1880 الى ازمير ثم محاكمته بتهمة قتل السلطان عبد العزيز فتخلص عبد الحميد منه، وبوقت قصير استطاع ان يبطش برجال الحرية والدستور وان يرجع بالبلاد الى عهد الاستبداد المطلق. فهو بعد ان بدأ حكمه 1876 باعلان الدستور وبمجاراة والده عبد المجيد في طلب الاصلاح نكص على عقبيه وعاد كما يقول روحي الخالدي "الى سياسة جده السلطان محمود خان في استعمال الجبر والاستبداد معتقدا ً ان الشعوب التي وضعها الله تحت يدي جلالته لا يمكن تسييرها الا بالقوة".

فخمدت في ايامه الروح الاصلاحية داخل البلاد لكن بعض الاحرارمن الترك والعرب حملوها الى الخارج وهناك نمت وترعرعت فكانت من العوامل الفعالة في انقلاب الحكومة الحميدية. وفي هؤلاء الاحرار المهاجرين يقول المشير "هم اخواننا في الانسانية، ورفاقنا في الحرية. علموا ان المجد لا ينال الا على جسر من التعب. فهم يتعبون في السعي وراء خدمة بلادهم وارجاع مجد مملكتهم الذي انحط الى دركات الخمول باهمال الامام الذي جار في احكامه والاعوان الذين صاروا بلية ً على الامة"... الى ان يقول .. "وقد انضم اليهم بعض ادباء سوريا ومصر وهرب البعض منهم من عالم الجور والظلم الى فضاء الحرية والامن فانتشروا في باريز وسويسرا وانكلترا وأميركا وأنشأوا الجرائد" الخ.

فظهر من هؤلاء المهاجرين طبقة من حاملي شعلة الادب وأكثرهم الآن في عالم الارواح منهم فتح الله مراش - رزق الله حسون - عبد الرحمن الكواكبي - خليل غانم - محمد قدري - لويس صابونجي - امين مجيد ارسلان - حبيب سلموني - خليل سعادة - سليم سركيس - نجيب الحداد - ولي الدين يكن. ولا يزال حياً من هذه الطبقة فارس نمر (الدكتور نمر باشا).

و من أراد الاطلاع على بنات افكارهم فليرجع الى مؤلفاتهم (واكثرها معروف) او الى صحفهم كالمشير والمقطم ولسان العرب ومرآة الاحوال والمجلة وتركيا الفتاة والنحلة والشورى وضياء الخافقين ورجع الصدى وكشف النقاب وسواها وكلهم كما يصرح الدكتور يعقوب صروف قد اتحدوا على التنديد بالادارة السيئة الضاربة أطنبها في بلادهم.

على انهم في ذلك متفاوتون. فمنهم المشدد ومنهم المعتدل. ومنهم من بلغ به فرط التشاؤم حد اليأس بالاصلاح فصار لا يرى اصلاحا ً الا بهدم كيان الدولة او وقوعها تحت مراقبة الاجانب. واقدم ما راينا من هذا القبيل قصيدة لرزق الله حسون نظمها في الحرب الروسية العثمانية واستيلاء الروس على القرص ومنها:

كم حروب للروس دارت على الترك رحاها فغادرتها طحينا
علم الروس يخفق اليوم فوق القرص ولى الاتراك في الغابرينا
هكذا هكذا تدور على الباغي الدوائر ويهلك المجرمونا
ما عليهم لو عاملونا بحسنى وتساو او انهم انصفونا

قال الدكتور فارس نمر باشا من خطبة له في النهضة الدستورية مشيراً الى فتح الله مراش ورزق الله حسون - "فهذان الحران الحلبيان اللذان فاقا الاقران بحب الحرية كما فاقا الاقران بمعانيهما السحرية ومبانيهما العسجدية قضيا ردحا ً من الزمن يرسلان شعاع الحرية الى ابناء سوريا من قلب اعظم عاصمتين اشتهرتا في اوروبا بالحرية والنظامات الدستورية (اي لندن وباريس) ولكنهما مزجا بلاغتهما بعلقم التفريق بين الترك والعرب فأصابا بايقاظ النفوس لطلب الحرية واخطآ بتمزيق الجامعة العثمانية".

ويستدل من شعر حسون انه لجأ الى روسيا حينا ً. ومدح قيصرها بقصيدة جعل القسم الاول منها وصف ً لفساد الاحوال في تركيا فقال:

جلت الشآم وغسانا ً وعجت على فينيقيا وكيليكيا كمعتمر
واذراعات وبلقاء وتدمر في صحراء خالية كالبحر من شجر
اذ لم اجد غير امصار مقلبة ورسم ابنية تبكي على الزمر
وقفت انعي خراب الملك من مدن في الحصر والوصف يعيي المرء بالحصر

وهو يعزو ذلك الخراب الى سوء ادارة السلطان ورجال دولته ثم يقول بعد ابيات:

لهفي ولهف بني الاحرار كلهم على التساوي بانصاف مدى العمر
ومنها: حتى دخلت بلاد الروس ملتجئا ً بالمستجار محب الله والبشر

ومن هنا يتقدم الى وصف ما وجده في روسيا من عدل وامن ويقابله بسوء الحال في تركيا فتؤلمه المقابلة ويصيح من قلب متحسر.

وان تذكرت اوطاني بكيت دما ً من مهجة طفحت جريا ً بمنهمر

ومثل حسون في النقمة على الادارة التركية وحب التخلص منها عدد من الادباء (وجلهم من مسيحي سوريا ولبنان) وقد سبقت الاشارة الى احدهم سليم سركيس. وهو من الذين برزوا في هذا المضمار وله في ذلك كثير من القصائد والمقالات. منها قصيدة موضوعها "ثلاث حبات" وضعها على لسان ارمني يموت جوعا ً وقصيدة نفير سوريا التي مطلعها.

يا اهل سوريا القساور من كل مفخور وفاخر
افترتضون ضغارة ً لم يرضها في الناس صاغر

وله قصيدة اخرى مر ذكرها في كلامنا على موقف السوريين من الدعاية العثمانية في مصر وهي شديدة الوطأة وكذلك اكثر شعره ونثره.ويكفي ان نقول انه صاحب جريدة المشير التي اشتهرت بعدائها للدولة العثمانية ولا سيما لسياسة عبد الحميد.

والذي يراجع الجرائد الحرة التي كانت في ذلك لعهد تصدر خارج تركيا او في جو بعيد عن السيطرة التركية يجد ما لا يستطاع حصره هنا من نفثات الكتاب والشعراء الذين كانوا يحملون على عبد الحميد ويناوئون سياسته. وقد كان لتلك النفثات تأثير ملموس في النفسية العربية بل هو الخميرة التي خمرتها وهيأتها للنهضة القومية التي تلت ذلك العهد.

واذا كان السوريون واللبنانيون قد اضطروا قبل الدستور الى هجر تركيا، ولم يستطيعوا الجهر برغائبهم الا خارجها. فمن الانصاف ان نذكر هنا ان الشعر الاصلاحي فيالعراق كان يسمع احيانا ًحتى في عقر البلاد. وابرز دعته هناك اثنان – جميل الزهاوي ومعروف الرصافي. فلكليهما ما يستوقف النظر من الحملات العنيفة على سوء الادارة. ولقد يستغرب الانسان هذا العنف وصبر اولي الامر عليه دون عقاب مميت. ولكنه الواقع كما يتبين لمن يطالع قصائدهما القديمة وهما في عنفوان الشباب والقوة. فمن ذلك قصيدة للزهاوي قالها في الاستانة (حوالي سنة 1897) وهي كما سترى من اشد ما هوجمت به ادارة ذلك العهد وقد كان عقابه النفي من الاستانة الى وطنه بغداد. ومطلعها

ألا فانتبه للأمر حتام تغفل اما علمتك الحال ما كنت تجهل
اغث بلدا ً منها نشأت فقد عدت عليها عواد للدمار تعجل
ومنها - وما رابني الا غررة فتية تؤمل اصلاحا ًولا تتأمل
تؤمل اصلاحا ً وترجو سعادة ً الا باطل ماترتجي وتؤمل
وما هي الا دولة همجية تسوس بما يقضي هواها وتعمل
فترفع بالاعزاز من كان جاهلا ً وتخفض بالاذلال من كان يعقل
ومنها - لقد عبثت بالشعب اطماع ظالم يحمله من جوره ما يحمل
فياويح قوم فوضوا امر نفسهم الى ملك عن فعله ليس يسأل

وهي طويلة واكثرها على هذا النسق ومثلها قصيدته "الصارخة" وهي مخمسة يصف فيها حكومة عبد الحميد ونشرها يومئذ في المقتطف ومن نفثاته قوله من قصيدة يخاطب السلطان.

ان الرعية اغنام يحد لهم ولاتك المستبدون السكاكينا
يا عدل ان التفاتا ً منك يسعدنا يا عدل ان ابتساما ً منك يكفينا
ما جاءنا الشر الا من تهاوننا وعمنا الظلم الا من تغتضينا
لا بد من فك ما قد شد من عقد كف الا سار بأيدينا بايدينا
ان الذين استحبوا قتل انفسهم فرا ًمن الضيم ما كانو مجانينا

وقوله يصف حال وطنه

ألا رعى الله اوطانا ً لنا انتهكت محبوبة السهل والوديان والكثب
قد أضرم الجور ناراً في جوانبها واهلها بين نفاخ ومحتطب

وعلى هذا المنوال ينسج في كثير من شعره السياسي القديم. وكجرأته جرأة زميله الرصافي ولا سيما ان يؤم الاستانة ويشغل منصبا ً علميا ًفيها. ومنقصائده الجريئة مخمس طويل موضوعه "ايقاظ الرقود" جاء فيه:

حكومة شعبنا جارت وصارت علينا تستبد بما اشارت
فلا أحداً دعته ولا استشارت وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الجلود
اقول وليس بعض القول جدا ً لسلطان تجبر واستبدا ً
تعدى في الامور وما استعدا ألا يا ايها الملك المفدى
ومن لولاه لم نك في الوجود
انم عن ان تسوس الملك طرفا اقم ما تشتهي زمرا ً وعزفا
اطل نكر الرعية خل عرفا سم البلدان مهما شئت خسفا
وارسل من تشاء الى اللحود

وتتجلى لنا هذه الجرأة ايضا ً في قصيدته "رقية الصريع" التي مطلعها

يا عدل طال الانتظار فعجل يا عدل ضاق الصبر عنك فأقبل
ومنها: كيف القرار على امور حكومة حادت بهن عن الطريق الا مثل

ومن هنا يأخذ بوصف فساد الادارة واستبداد الخليفة مناديا ً بسقوط الحكومة الفردية ووجوب استبدالها بنظام جمهوري او دستوري. ثم يقول غير هياب:

حتام نبقى لعبة ً لحكومة دامت تجرعنا نقيع الخنطل
تنحو بنا طرق البوار تحيفا ً وتسومنا سوء العذاب الاهول
ما بالنا منها نخاف القتل ان قمنا أما سنموت ان لم نقتل؟

وفي ديوانه الاول المطبوع سنة 1910 كثير من هذه الحملات العنيفة نظم بعضها في العهد الاستبدادي وبعضها في عهد الدستور. وقد صدق محيي الدين الخياط اذ قال فيه "من هؤلاء الافذاذ الذين فطروا على عدم الاستخذاء للضيم والتجافي عن مضاجع الذل وعدم الاستنامة للحوادث. وقد كان يقرع قومه في اشد ايام الاستبداد بمثل قوله" :

عجيب لقوم يخضعون لدولة يسوسهم في الموبقات عميدها
واعجب من ذ انم يرهبونها واموالها منهم ومنهم جنودها

وهذان البيتان من قصيدة موضوعها "تنبيه النيام" وهي خمسة وثلاثون بيتا ً وكلها تنقد بمثل هذه النيران النفسية.

ومن الاحرار عبد المحسن الكاظمي الذي اضطر الى هجر العراق وهو في العشرين من عمره هربا ً من اضطهاد السلطات التركية.

وقد كان في البلاد العربية العثمانية غير من ذكرنا من اصحاب الوجدان الحر والنزعة الثورية ولكنهم قلما كانوا يجرؤون على الجهر بما تكنه صدورهم لحرص قلم المراقبة ان لا ينشر في الصحف او الكتب الا ما يوافق مصلحة الحكومة ويشيد بذكر رجالها. فاجروا اقلامهم في غير الاصلاح السياسي وبلغوا في ذلك كما سنرى بعد شأوا ً يذكر.

النعرة الشرقية في الادب الحديث ظهر لنا فيا لعواطف الشعرية العربية السابقة لعهد الدستور مجريان رئيسيان - المجرى العثماني (او الدعوة للعرش العثماني ورجاله) والمجرى الاصلاحي (او الحمل على ذلك العرش ودعاته). وظهر لنا أيضا ً ان للأخير فرعين فرع المتطرفين الداعين الى هدم الكيان العثماني. وفرع المعتدلين القائلين بوجوب الانقلاب مع المحافظة على الجامعة العثمانية. والذي يلوح لنا ان هؤلاء هم الاكثرية بين الاصلاحيين وقد كان هدفهم تجديد السلطنة ورفع مستواها لتكون وطنا ً حرا ً خليقا ً بأن يحب ويفاخر به. فالشرق والغرب عندهم لا يجتمعان ولا ينجي الشرقيين من برائن الاستعمار أو يحفظ كيانهم الشرقي الا العرش العثماني اذا قام على اسس الحضارة الجديدة ومن الطبيعي ان يكون المسلمون عموما ً أعطف على الدولة العثمانية وفيها خلافتهم ومجدهم. يدلك على ذلك ما اظهروه في الحروب التي خاضتها قبل الدستور وبعده كحرب روسيا سنة 1878 والحرب اليونانية 1897 وحرب طرابلس 1911 وحرب البلقان 1913. بل وفي الحروب التي لم تخضها ولم يكن لها فيها مصلحة مباشرة كحرب روسيا واليابان (1904 - 1905)

ففي هذه الحرب كان العالم الاسلامي العربي بجانب اليابان لا لسبب الا لان اليابان دولة شرقية ثم هي تحارب روسيا عدوة تركيا التاريخية. وقد اثارت هذه الحرب من العواطف الشعرية فيادبنا ما لا يجوز لباحث الاغضاء عنه. فمن ذلك قصيدة مشهورة لحافظ ابراهيم مطلعها: "لا تلم كفي اذا السيف نبا" وفيها يقول مادحا ً امبرطور اليبان (الميكادو) ووطنية شعبه:

هكذا الميكاد قد علمنا ان نرى الاوطان اما ً وأبا
ملك يكفيك منه انه نهض الشرق فهز المغربا

وكذلك قوله من قصيدة موضوعها "الانقسام آفة الشعب"

فانفضو النوم وجدوا للعلى فالعلى وقف على من لم ينم
وانظروا اليابان في الشرق وقد ركزت اعلامها فوق الامم
حاربوا الجهل وكانوا قبلنا في دجى عميائه حتى انهزم
فاسألوا عنها الثريا لا الثرى انها تحتل ابراج الهمم

وقوله من قصيدة "أساحة للموت أم محشر" يشير الى ما نال الشرق من انتصار اليابان.

تسوءنا الحرب وان أصبحت تدعو رجال الشرق أن يفخروا
أتى على الشرقي حين اذا ما ذكر الاحياء لا يذكر
حتى أعاد الصفر ايامه فانتصف الاسود والاسمر

ولعل قائلا ً يقول ان شعر حافظ في الحرب الروسية اليابانية بل شعر مصر عموما ً انما هو لما في نفوسهم من العطف على العثمانية لا لنعرة شرقية تستفزهم الى تحدي الغربيين. فنقول ان اليابان كانت يومئذ حليفة بريطانيا. وفي الاشادة بمحامدها نوع من الدعاية لبريطانيا. ومع كل ذلك لم يمتنع حافظ زملاؤه وهم من محاربي النفوذ البريطاني في مصر عن ان يستسلموا لعواطفهم الشرقية ويظهروا عطفهم على دولة شرقية برغم ما يربطها من الصداقة بمحتلي مصر.

واذا القينا نظرة ً على غير مصر وجدنا ان الشعراء حتى الاحرار الناقمين على السلطة الحميدية يضربون على هذا الوتر الشرقي كما فعل الرصافي في قصيدته "معركة تسوشيما" اذ قال:

سعروها في البحر حربا ً ضروسا ً تأكل المال نارها والنفوسا
يوم طوغو دهى بأسطوله الروس قتالا ً وكان يوما ً عبوسا
فحداها بوارجا ً تملأ البحر وقارا ً طورا ً وطورا ً بوسا
فكسوهم من الهوان لبوسا ً وسقوهم من المنون كؤوسا
هكذا شيدوا بناء المعالي هكذا احسنوا لها التأسيسا
وللشاعر اللبناني امين ناصر الدين في الحرب الروسية اليابانية قصيدة موضوعها "الياباني ومعشوقته" جعل سداها ولحمتها شجاعة اليابان وحميتهم الوطنية وظفرهم الباهر ومن ذلك ما وضعه على لسان المجاهد الياباني:

هجمنا على ميناء "ارثور"ه هجمة ترد ابن عام وهو بالخوف اشيب
ببيض يلوح النصر ايان جردت وسمر لها بين القلوب تقلب
وكنا اذا انهل الرصاص كأننا من الغيد بالتفاح نرمى فنطرب
وعدنا وهاتيك القلاع بأسرها مهدمة قد حل منها المركب
وقائعنا في البحر كانت عجيبة ً ولكنها في لجة البحر اعجب

وهنا يصف معركة تسوشيما وانتصار طوغو ثم يقول:

ورجعت الاقطار صوت انتصارنا ففي الشرق هزاج وفي الغرب ندب

وقد اصاب الشاعر فان الشرق الادنى العربي او قل العثماني عرته هزة وطنية عامة على اثر انتصار اليابان وقد رددها الادب العربي عدة سنين بعد تلك الحرب. وكان كلما اراد انهاض الامم الشرقية ذكرها باليابان ونهضتها كقول كاتب هذه السطور سنة 1911 من قصيدة موضوعها الحياة الجديدة فيالمشرقين:

معاذ الله ان نبقى نياما يحيط بنا الظلام لا ظلاما
ارى النيران تضطرم اضطراما وآسيا تهب من الهجود
ونجم المجد في اليابان يسطع تخر لهم كواكبهم وتخضع
اضاء على الملا الشرقي اجمع وافهم جمعهم معنى الوجود

ولو اردنا تعداد القصائد والمقالات التي اثارتها هذه الحرب او ذكرياتها لضاقت الصفحات الكثيرة. وليس غرضنا من الاشارة اليها وضرب الامثلة عليها الا اثبات حقيقة قد تضيع في مطاوي الايام، او تذهب بذهاب الذين عرفوها بالاختبار وهي ان النهضة اليابانية التي بلغت اوجها في حرب 1904- 1905 قد حركت عواطف الوطنيين في مصر والشام والعراق فظهر ذلك في ادبهم المنظوم والمنثور، وكن من الاسباب الممهدة لذلك الانقاذ الوطني الذي عقب اعلان الدستور العثماني فعزز الروح الشرقية في جميع الاقطار العربية.

عوامل اقليمية: بقي علينا في هذا المقام ان نوجه النظر الى حوادث سياسية تركت في الادب صبغتها الخاصة. وهي كثيرة ومتفاوتة الاثر على ان اهمها اثنان وهما:
1- حركة السنة الستين (1860) في البلاد السورية وما عقبها من استقلال لبنان الداخلي. ولهذه الحركة في الادب العربي ظاهرتان كبيرتان - الاولى تأصيل لحزازات الدينية بين ابناء سوريا - تلك الحزازات التي كانت ولا تزال من اهم بواعث الشقاق في الشرق. والثانية انفصال لبنان عن السلطنة العثمانية بكيان سياسي خاص مضمون من الدول العظمى فصار اللبناني يشعر بكرامته الذاتية ويتذوق حلاوة الاستقلال.
وفي تينك الظاهرتين تكون في نفسه ذلك الشعور الاقليمي المناوىء لحركة الوحدة العربية كما سيجيء.
ومن يراجع دواوين الادباء اللبنانيين في هذه الخمسين السنة الاخيرة يرى شيوع ذلك الشعور برغم جميع الوسائل التي كانت تستخدم لاضعافه. ولا ينكر ان بعض اللبنانيين قد اخذ بعد الحرب العالمية الاولى ينزع نزعة وطنية عامة، اما تحت اسم القومية السورية واما تحت اسم الوحدة العربية، ولكن الشعور القديم الموروث عن آبائهم والمستمد من استقلال لبنان بعد السنة الستين لا يزال قويا ً، وسيظل الادب اللبناني مصطبغا ًبه مدة طويلة من الزمن.
2- الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882. وهو من الحوادث الاقليمية الكبرى التي تكاد لخطورتها ان توضع في مصاف العوامل العامة. ولا نتعرض هنا للبحث في اسباب الاحتلال او النظر في مساوئه وحسناته فذلك من خصائص التاريخ. ولكننا نقرر ان هذا الاحتلال كان مبعثا ً لادب مصري عنيف، وكان له صدى لا يزال يتردد في انحاء لبلدان العربية.
وبرغم تضارب الآراء فيه فاننا نرى ان اكثر الشعراء والخطباء في مصر كانوا ينظرون الى الاحتلال نظر العداء وينادون بالاستقلال والدستور. وقد ادى ذلك الى احياء الشعور الوطني فيها ثم الى تدرجها في مراتب الاستقلال حتى بلغت ما بلغته في هذا العهد.
ولما كان هذا الادب المصري الوطني شديد الارتباط بما نشأ منه بعد الدستور فسنتركه الآن على ان نعود اليه مفصلا ً في مقام آخر.

ومن هذه العوامل الاقليمية - حوادث ارمينية، وحوران، واليمن وكثير من حوادث العراق المحلية. ولما كانت غايتنا هنا وصف الاتجاهات العاطفية العامة فاننا نقف عند هذا الحد من الكلام على الشعر قبل الدستور تاركين العوامل المحلية لمن يحب التخصص فيها.