Salah Labaki

صلاح لبكي أنا الآخر

اميل كبا - صلاح لبكي أنا الآخر
محاضرة ألقيت في جامعة سيدة اللويزة
الخميس 22 نيسان 2004

"أنا الآخر"، بل "الآخر المتهيىء ليصبح اياي"...

منطلق صالح في خلدي للغوص على الملتبس المغلق من بواعث التعبير في أدب صلاح لبكي، فنفوز بما يوضح، وبما يغني عند كل مقاربة. ذلك أن الكتابة التي هي أرقى وسائل التواصل في "حضارة الضوء" التي منها أوهامنا المعاصرة... هذه الكتابة ان هي الا فعل ارتداء لجسد هو غيره المنظور المترائي في مرايا الحضور(1)، أو قل هي الأهبة لسكنى منزلة أو حالة ليس كمثلها الا ما يؤول اليه ماء وماء في هنيهة تلاحم، وما يعقبه التكاثر من ازالة للفوارق والتباينات (2).

لكن... هذه الكتابة، وقد تكرست في موروثاتنا النقدية فعل احياء، تبدو لي في الآن نفسه آلة موت، كالثقوب السوداء يقول فيها فلكيو المجرة، وهي البيضاء من زاوية الفن، الكتابة هذه... بنهم تبتلع، تفغر فاهاً بقضاء ما ورائي... فتلغي (3)، وما يعدلها غير عطش كيان يكتن زواتنا. وأيامنا، جراءه صبوة الى مصادر نور، كغرسة منزلية على مشارف الصحو، ارتقاباً لأمان وحبور، كما في تفسير لغريزة البقاء عند أساطين العلوم النفسية.

نعم. بنهم يبتلع الصنيع الفني الآخر، كل آخر، حدثاً وشخصاً من عالم الحضور، فبالغلبة المسالمة، الكتابة، تشك أنت الخالق، أعلامك بعيداً عن أرضك، في بلاد ليس لها وجود، وقد أوجدتها، وتبسط سلطانك في ما وراء اليومي المعيش على حمىً للخيال. تصطفيه عمقك الحيوي، انت المولود ليخترقك الزمن، وتربكك فكرته، الى اوان يهوي فيه بنصله على مكمن الاستطاعة في جسدك النابض، ويخنق الخفقات.
اذاً... ايها السادة، الكتابة / الاحياء بدعا وبالاجتراح. هي أنة اماتة أيضاً بالغاء، والغاية.. اسقاط تضاريس غير متشابهة في العيش، وفوراق التنوءات (5)، كمثل ما تتعادل المستويات في أوعية متصلة (6)، وفي الحالين تعاقب، الى أن يجف نسغ الغلبة الجميلة، وما تسع التجربة الفنية مزيد تشد وادامة.

وأعود الى صلاح لبكي، شاعرنا الذي منه جناي هذا السنوات (7) درساً، تحقيقاً، تعليقاً، فهرسة ومداخلات، أعود... لكن عودة لغير ترواد. فمقاربة العظيم بهذا المقدار خير محاولتها من طريق الدروب الموصولة بشرايينك لا من جادة ما تكون قد رسمته في وقت سابق، أو ما اختطه لك سواك (8). وأنى لنقادة أديب أن يكرر ما جرى له حتى في الواقعة الواحدة. وقت الحياة لا يمكنك ان تعيدها، وهي من المستحيل أن تستعاد!(9)

أيها الكرام...

هو العمل الفني في دائرة مسعىً من الذات الى الذات، كمثل قطرة من بحر، بها امكانية التشكل بل التهيوء لتصبح على مثاله صخباً. ملوحةً، وحتى أسراراً بصمت، أو في الأقل الداني من الكلام يستحضر العمل الفني الآخر ليصبح بمنى هذه الذات واشتهاداتها. فالأدب شعره والنثر. لا يجوز أن ينظر اليه كأنه اليد علقت في الفراغ، فهو الذي على القرطاس، والفكرة اتكأت الى واقع انساني، لها منه الجاذبية وشفافية المنى، بل الأدب هو الحلم قد أفلت من قفص الحضور اليومي للأشياء، وله أوبة اليه (10).

أقول هذا لأؤكد أن أدب صلاح لبكي من أقصاه الى أقصاه لا يعدو كونه مصالحةً مع الحياة. بل هو الدعوة مقنعة الى تغيير، وهو الحلم، وقود التحولات، خطوة في طريق الحرية، وهذه لا أفهمها الا استعماراً للكون. وطبعاً ليس بقدمين همجيتين، بل بالفكر الفاتح المجنح وتلاوين الخيال.

وآتيكم، بعد هذا التمهيد الضرورة، بسؤال:

ما المحطات الكبرى في حياة هذا الشاعر، وقد انطبعت بتأثيرها أناةً؟

وآتيكم بآخر أخير:

أين صدى هذه الأنا في الآخر داخل أدبه، وقد استدعاه الشاعر ليصبح اياه؟

أولاً المحطات الكبرى في حياة صلاح لبكي:

لا يأخذن أحد، اذا، العمل الفني بمعزل عن الصاحب، فلئن كان الأديب الشاعر، أو الأديب الناثر خلية مستقلة بمشاعره ورؤاه وخصوصيات صنيعه، وكمثل جزيرة جمال تحاصرها تخوم فاصلة كما في ادعاءات الألسنيين، دعاة الأنظمة الاحصائية في حضارة الرقم الكافر:

فانها، هذا الأديب، وهذا الصنيع، في عرفي، ولاسر أذيعه، ثمرة التنهد، بل الصعداء التي تلي الاعتكار على مستوى الشخص. بل آي توازن داخلي خارجي معاً في اثر اختلال. وما ذاك الا لأن الصنيع الفني على علاقة بأقرب هدف لصاحبه في الحياة، وارتباط أكثر من وثيق بأعمق وطر يخفيه (11).

فالمحدث الفني، شعره والنثر، عمارات مشهديةً، وملاحم، وروايات وأضراباً... هذه كلها ليست اصطناعاً للجمال وحسب بل نحو ما يروج، وهو ثابت في أسفارنا النقدية، بل هي ثمرة من ثمار النفس التي خلقت جميلة، وقدر لها ان تكون شجرة رواء، نظير غرسة الحقل، لأنها معطاء وجميلة فانها تتئم تشهيات وروائع. ويأتي جناها على مثالها في الندرة المرغوبة، وك "قدر مشترك" (12) بين المبدعين، كما في تعبير لأنطوان غطاس كرم، يمليها على الزمان سلالات بهاء.

فالنظر لا يعكس على الاطلاق حقيقة الرؤية السليمة. فالم يكن النظر نفسه مضاء بذاته. تقول العلوم البصرية، فعبثاً تقارب الصحو عينك أو تتوهج لك ملامح. أقول ذلك لأدل الى أن أدب صلاح لبكي مرتبط الى بعيد بعيد بحياته، والى أن على دارسه ان يسبر غور ما يقرأ في عالم حضوره واهتماماته، وليس في قطاع "الوهم الجميل" الذي اسمه ادبه.

فهو ابن جلا، سكن منذ ولادته بالاستحالة الواجبة التحقق، أو قل بوقفة العز التي على غير مثال. تباهياً بأب صحافي في ساوباولو البرازيل، مناضل يجاهر بالثورة على الطغيان العثماني، فمدير لناحية بسكنتا لبنان، فرئيس لأول مجلس نيابي في التاريخ اللبناني المعاصر (13).
وارتدى الفتى اهاب المغامرة الجميلة في مدارس الجبل المطلة على المحيط، والحكمة التلة المشرفة داخل جزيرة الخضرة، أشرفية زمانه، ليرسم الموقع على أديم نفسه أول معابر حنينه الى بعيد، ويسرع الحلم له عربة نار تجتاز به برودة الأيام المتشابهة، وصقيع المراحل.

ثم ما لبث الفتى اليافع أن اندرج في الحمأة السوداء بعد عز، عزماً تيتم بفقده أباه، فأمتد أفقياً في كل متجه، كغرسة حضراء بتر منها الرأس فراحت بوثوبها الحيوي L’élan vital تنبسط اغصاناً وظلالا. فمن انتماء الى الجمعية الخيرية البعبداتية، أولى خطواته في الشأن العام، الى جمعيتي متخرجي مدرسة الحكمة وعينطورة، الى حيز اطار يشعره بالألف في نقابة المحامين، فسعي في العمل الحزبي المرقاة الى كل تطلع منتمياً الى الحزب السوري القومي، فمطلقا اياه بعد أن صار نائباً عام 1937، فمرتداً عنه بانضوائه في الكتلة الوطنية، وتسلمه مقام أمين سرها العام، ومن ثم محاولته الأنضمام الى حزب الكتائب اللبنانية في رسالة خطية قيمة، آثره معها الشيخ بيار الجميل صديقاً للحزب لا عضواً عاملاً فيه (14).

هذه السيرة، مع ما واكبها من نضال سياسي في لجنة "التحرير الوطني" عام 1949، وترشح للنيابة ثلاث مرات في دورات 1943، و47، و51، ومساهمات في الصحافة اللبنانية في الوطن (15) والمغتربات، ونشاطات الندوة اللبنانية، وجمعية أهل القلم التي أسس وترأس.

هذه السيرة الغنية بالانتصارات والخيبات. سطرت في المديين اللبناني والعربي ملحمة كائن مشبع بالتجارب حقاً، لكنها تركت على رصيف العمر، في الوقت نفسه، انساناً "هو قلب قبل كل شيء". في نعت لميشال الأسمر (16)، بل هو انكسار في حاجة الى استرضاء، والاسترضاء شعر لا يعظم الا في البلدان الحرة، جبالاً تنهدت بالصباحات الطلقة (17)، والى عزاء... والعزاء كلمة حالمة تلقي به في دائرة ضوء سحرية، بعد ان أدغشت عليه الدنيا من كل مكان.

هي ذي المحطات الكبرى في حياة أديبنا، وقد انطبقت بها "أناه". أما ما أسفرت عنه عملاً بمقولة التشكل الجديد للوجود، أناساً أفكاراً وفراديس. من طريق اخضاع المترائي للرائي، وحاجة التصالح مع الحياة، فهو دعوة الى أن نسبر صدى أحداثه في كتبه.

ثانياً... صدى "أناه" في الآخر داخل أدبه.

أجدى ما يفي بغرض الاجابة تناول آثاره واحداً واحداً، مراعين الترتيب التاريخي لصدورها.

ف "أرجوحة القمر" الذي كتبه بين عامي 1928 و 1938، والمعروف في الأوساط النقدية بأنه ديوان غزل، هو في الحقيقة ثلاثة أقسام: قراءات للذات (9 قصائد). ثم الحب والغزل (13 قصيدة)، فالوطنيات (قصيدتان)، وقد برز فيه الشعر موضوعاً كبيراً، الى جانب الحب، كدواء لداء الوجود، وكذلك الطبيعة كصدى بشكل عام لما يخطر في نفس الشاعر، أو المتهيىء في شخصه ليدخل متمناه حباً وزمن بهاء أمثل.

ثم هناك "مواعيد" الصادر عام 1943، قال في قصائده جميل جبر انها "غير نشوة العاشق تهدهده أرجوحة القمر، تحمل ألم الجيل الساعي أبداً وراء جديد في غده يرضيه فيستقر! (18)

أما نحن فنراه ثلاثة أقسام، أيضاً، على غرار "أرجوحة القمر":

قراءات للذات، ثم في الحب والغزل، ثم في آخرين (19) وبرز فيه:

شيء من تاريخه الشخصي ابان عبور الأحداث على رقعته ككائن منتم الى موقع في الزمان والمكان: يقول في قصيدة "الانتظار":

جاء الهوى فنعمت منه بألف ليل مستجار
ولهوت حتى في فم الدنيا حديث عن خماري
ودعاني الصيت العريض فقلت ها انا من يباري؟
ومضيت أقتحم الصعاب اليه يحفزني نجاري
ورجعت مرفوع الجبين مكللاً بسنا وغار
أنا بانتظار مثلما أنا قبل أن بزغ اشتهاري
انا بانتظار غد يجيء ولا يراني بانتظار

ومن موضوعات "مواعيد" تجاذب حاصل بين النزعتين الروحية والمادية على نحو صراعي داخل أعماق الشاعر، ثم الحبيبة وعقيدة البطل التي تكتن كل شعره: الأولى تمده بشراهة الاستمرار وتخصب الأرض، والبطل يحفظ الفكر صافي الينبوع، فرداً وشعباً، أو يكون "مشبوب الخيال" يربي الآمال الكبار، صانعة الغد العظيم كما في قصيدة "لماذا"؟، أو يقول فقل ايمانه بأرضه زرعت ابداعاً وعبقريات كما في "موت الشاعر"(20)

الديوان الثالث هو "سأم"، وهو قصة شعرية أصدرها صلاح عام 1949، وبها التجسيد لسأم الفنان بل الانسان، كل انسان، من حياة لم تنله كل ما طلب، على عظيم ما نال. وهو، في عرفنا عمل شعري فلسفي البعد، تأملي اللهجة. فيه البحث داخل أعماق الكائن الآدمي عن سر وجعه، هو المكتفي اذ في شخصه بعض اله، وسبب نزوعه وهو المادة الطينية المرتمية حد كل مبهج مصمت للعين وللهوى.

لكن في "سأم"، أيضاً، خطرات وجدانيةً خاصةً بالشاعر: فهو يتخلى عن الصراع تارةً، أو يكتفي بالحب منقذاً، بل منتهىً خلاصياً، أو يصبو الى الوقفة الفريدة المتسامية التي ليس كمثلها عند احد، مع بقاء لذينك الاثنين في نهاية المطولة: واحداً لقناعة ووداعة هو آدم الشاعر، والآخر. للعلم، للمجد، للطموح متمثلاً بحواء/ الشاعر، أيضاً، لأنها في وجه آخر هي صلاح طالب السؤ. رجل السياسة والألق الاجتماعي (21).

أما مجموعته القصصية من "أعماق الجبل" حيث ثماني أساطير صدرت في الأربعينيات، فهي لا تختلف في مضمونها عن شعر صلاح لبكي وان كانت نثراً(22)، ورأينا أنها صحوة للذاكرة اللبنانية العامة بعين شاعر ووجدانه، فجاءت مزيجاً من وطنية وعبادة لأرض قدمها بأنها تليق بالانسان والآلهة. وقد برز فيها:

- مفهوم البطل: أدونيس "النغم التائه". والشعب المختار في "ملكرت"، و "الرصد" على سبيل المثال.
- والبعد الصوفي الايماني كما في "الشاعر والشيطان" و "الكلب المجنح" وقد عبر عنه في الأسطورة الأخيرة "بعل ترقد" بنزعة الفن المنقذ المتعبد، اذ كل خلاص في الأرض موضوعه، على ما يقول، دائماً ما هو "أبعد من الشمس وتلك النجوم".

يبقى "لبنان الشاعر" كتابه المحاضرات (23)، وديواناه الصادران بعد الممات "غرباء" و "حنين"؛

في الأول ينقل بالعين تسلق السلالم، وتوقل القمم محكوماً بالكبار الذين أتى على ذكرهم فيه (24)، مسيراً ب "القدر المشترك" الذي لف جيلاً من العمالقة، على ضفاف أنظارهم تولد براعم اليقظات الكبر في كل شأن من شؤون الحياة؛

وفي "غرباء" جماع قصائد المناسبات، وموضوعاته الغربة، وعقيدة البطل، ثم نفحات ايمانية هي مظهر لصراع النقيضين في حياته وأدبه، كالانزواء على طريقة المتصوفة، أو الألق الاجتماعي جاهاً وسؤددا (25)

أما "حنين" فمحوران اثنان: التأملات والغزليات، وجل ما يقال فيه أنه قصائد يوميات للشاعر، فيها الخيبة على مستوى الوجود بأسره، وفيها البدائل، دائماً البدائل: المرأة يتشهاها ربة من عل تستجيب لمثله، فتسكنها سكنى الايمان للقلوب، والشعراء المنقذ - دائماً الشعر المنقذ - يراه آسيه الطبيب. وفي الاثنين، المرأة والشعر، ما يضفي على "حنين" صلاح لبكي سمة المثالية، مغضياً الى حلول ايمانية نهائية، تنأى به عن السقوط في البكائية المريضة (26).

هذه العناوين وأفكارها داخل آثار صلاح... اجابة في خط بحثنا عن مقولة التشكل الجديد للوجود، أناساً... أفكاراً وفراديس، وذلك باخضاع المترائي لرائيه الذي هو الشاعر، وحاجة تصالحه مع الحياة (27)، ونسأل في تأمل أخير، ومعرض استخلاص، ما الذي يطفو على سطح ادراكنا الأول من تبلرات هذا الأدب وأفكاره الثوابت؟

في الحقيقة ثلاثة: توق الى المطلق، ثم الشعر المنقذ، فراحة الموت.

الأول: التوق الى المطلق هو مرادف المثالية القصوى في أدب صلاح لبكي بموضوعات الوطن، والشعب، والتاريخ، والأسطورة، والمعرفة، والمرأة، وفي كلها اشتهاداته بل مخالقات مجهورة، مقصودة لنسق حياة متروكة في واقع سيرورتها لمشيئة الأقدار. فتتوالى باهتةً في المعترك اليومي، ومن غير ألق (28)، فينسخ الشاعر بهذه المثالية ما شاهد وقيل، بغية احقاق قانون نفسه، ورؤيته الجديدة على مستوى الوجود، مبدلاً اياه بما يمليه عليه احساسه وصاحي تأملاته؛

وفي الثاني: الشعر المنقذ رئة حرية، بل منسرب آخر في منأى من جبرية فاجعة يتمظهر بها الوجود، واذا هو في العتمة المطبقة (29) نافدة فجرية الى بعيد، بها وعبرها تواصل مع الكائنات (30)، أو هو لصلاح الولادة الجديدة، له منها قصب الشبق يشعره بالرضا ان يتأمن له، مجيداً، قدر الفاتح العظيم.

أما الثالث...الموت (31) فمرد تردده بكثافة في شعر صلاح الى أنه في حقيقة مناه لا يبغي تواصلاً مع الكائنات، بل يريده هذا التواصل لكون نفسه في عطش هائل الى المطلق. مثلاً وفناً وانساناً، بوجد عباديً قل نظيره في شعرنا المعاصر، واذا بالاستحالة تنعكس أبداً حيرةً في أدبه، وعدم رضاً. يقول في قصيدة موت الطيور من ديوانه مواعيد

تنبت الطير الأماني فعلى كل شيء أمل منها مضاءً
للربيع الطلق من أنفاسها ذلك النبه وتلك الخيلاء
والضياء السمح لولا وجدها وتناديها لما شع الضياء
وتموت الطير لا يندبها نادب منتخب تحت السماء
تنتهي كالطيب لا نوح ولا مأتم حفل ولا رجع بكاء
تنتهي في أي أرض تنتهي وعلى أي أمانيها الثواء؟
أترى يستأثر اليم بها والصحارى أم يواريها الهواء؟
تنتهي... لا يعرف الناس ولا يسأل الناس متى طم القضاء
فكأن لم ترفع الصوت ولم تملا الأنفس بشراً ورجاء (32)

صلاح لبكي هنا، كحاله في أكثر من مقام داخل دواوينه، يشتكي الشعر الى الشعر، مقدراً في انهماره ثم انقطاعه ضرباً من عبثية الحياة. ما أشبه تمنيه الصمت بالموت انقطاعاً عن تنهد! لكأنه، والعصر الكافر لحصاره، والكلمة شقيقة النور لمرتع من ظلامه، لكأنه سينيك Sénique، حكيم روما، في مواجهة نيرون وطغيانه، يلغيه بقول.. احياءً لما تبقى من لهاثه التعب المحبط، صارخاً صرخته الباقية على الدهر:"كم رغبت في ألا أكون أعرف الكتابة!"
وكان ان صار الموت موتين مع صلاح، كما مع سينيك موتاً لنسيان واندثار، وآخر لا فارق كبيراً بينه وبين الخلود.

شكراً.
=================
(1) يقول اندره مالرو: "كل عمل خلق انما هو في الأصل كفاح صورة بالقوة ضد شكل يحاكى"
(2) فكم من أناس يقرأون ويدرسون، ليس في غاية ادراك للحقيقة، بل ليضيفوا فيكثروا "أنا هم" القاصرة.
(3) فالكشف في الفن هو، ككل اهتداء، يقول مالرو، قطع لكل علاقة سابقة بين انسان والعالم.
(4) A. Adler “Connaissance de l’homme” PhP N’90, 1976
(5) كأنما الانسان، في رأي لمالرو، يعلم ان العالم ليس على مستوى انساني. فيسعى لكي يصيره.
(6) في الفيزياء Vases Communicants، ومعربة الأدق "أوان مستطرقة".
(7) أقصد مجلدي في أدب صلاح لبكي: "المجموعة الشعرية" و"المجموعة النثرية"، تحقيقاً ودراسة، الصادرين في منشورات مكتبة صادر، سنة 1993.
(8) كم نادرة هي الوقفات التي يحافظ فيها على رغيف النقد طازجاً، عبقاً برائحة الأرض الثرة! وكم قلة هم أولئك الذين في فعلهم عشق الفصول ارتجالاً للريحان من غير نسق. وقلة من في فعلهم حدث غمامة... تسقط حمولتها طلقة رذاذ مداهمة على غير قبال!
(9) cf. H. Berysen “Le Rire”, P.U.F. 1977
(10) أنظر دراستنا "لبنان الشاعر" منشورات مكتبة صادر، 1993.
(11) والقصيدة، أياً تكن، هي لصاحبها محطة جهد انساني ليصنع الحياة، وما صنعتها الا بمعنى تفسيرها، تتوقف أنت عندها وقد تأتي بأحسن منها. راجع دراستنا "لبنان الشاعر". ع.س.
(12) قاله الأديب الناقد كرم في أدب النصف الأول من القرن العشرين، برعيل من أدباء نشأوا في غياب الظلم الحميدي، تستتبعه مآسي الحرب الكونية وتهب مع الربيع ريح المجاعة، وفي المذاق طعم الظلم. راجع دراستنا كتاب صلاح لبكي من اعماق الجيل، منشورات مكتبة صادر، 1993.
(13) راجع في هذه وسواها من توثيقيات الترجمة، مقدمات الكتب التي تضمنتها المجموعة الكاملة، النثرية والشعرية، ومداخلاتنا فيها. 
(14) راجع مجلة الحكمة س 5، 1955.
(15) في صورتي قصاصات ل "حصار الأيام" افتتاحية جريدة العمل تربو على ست سنوات، آلت الي بعد أن رماها الناشر، وهي في حقيقتها بقايا مقالات بعدما فرضت معظمها الفئران وأفسدها الاهمال في بيت الشاعر.
(16) راجع مجلة الحكمة ع.س.
(17) راجع كلمتنا في أحدى أمسياتنا الشعرية في كتاب يوبيل مدرسة الحكمة 125 سنة، الجزء الثاني، سنة 200، ص 433.
(18) راجع مجلة الحكمة، س 1956،6- 1957- عدد10.
(19) راجع دراستنا الكتاب في منشورات مكتبة صادر، 1993.
(20) وهي في رثاء رشيد أيوب.
(21) راجع دراستنا سأم في مجلد المجموعة الشعرية ع.س.
(22) يقول عبد اللطيف شراره. راجع دراستنا الكتاب في مجلد المجموعة النثرية،ع.س.
(23) هي ثمان القاها كرنيس لجمعية "أهل القلم" في ندوة الثقافة للجامعة العربية في مصر، يوم زارها في آذار 1945 (راجع دراستنا الكتاب في مجلد المجموعة النثرية،ع.س.)
(24) كجبران ونعيمة وبطرس البستاني وطه حسين وأبي شبكة وسعيد عقل وقيصر الجميل ومصطفى فروخ وسواهم.
(25) يقول عبد اللطيف شراره: ان صلاح كان سائراً دون ان يشعر. نحو حالات صوفية... تنتهي الى نوع خاص من الايمان بالله... وفي بعض لفتاته الشعرية ما يشير الى ان مستقبله انما كان مستقبل متصوف، منقطع الى العبادة (راجع مجلة الحكمة السنة الخامسة، العددان 1و2).
(26) راجع دراستنا الديوان في مجلد المجموعة الشعرية ع.س.
(27) بهذا المعنى يصبح كل عمل فني أثراً مدموغاً بطابع الخلق من خلال مزاج، على ما يقول اميل زولا
(28) يقول شارل مورغان ما معناه: للمطلق على الأدميين قدرة اغواء كبير، ليس بتناقضه مع وجودهم الذي في عهده المصادفة فحسب، بل بالاحساس الذي يحصنهم به في مواجهة الهشاشة، سمة الانسانية.
(29) الحقيقة لا توحد ولا انفراد حيث الشعر، في احساس اول.
(30) يراه هذا التواصل، الناقد جول لومتر، جوهر الشعر، ويكاد يناقض فيه طرح مالرو (راجع رقم 3 آنعاً)
(31) وكم ناداه صلاح في أكثر من ديوان! يقول في "كن ذلك الآسي" من ديوانه "حنين" "يا مسعفي كن ذلك الآسي/ وارفق بأحلامي واحساسي" (راجع القصيدة في دراستنا المجموعة الشعرية.ع.س.)
(32) راجع القصيدة كاملة في دراستنا المجموعة الشعرية،ع.س.
(33) قالها يوم وردة أمر نيرون بأن انتحر