Said Akl

تحية "الجريدة" الى شاعر العصر في عيد ميلاده المئوي سعيد عقل الشاعر الملك - جورج سكاف

في الرابع من تموز الجاري احتفل لبنان بالعيد المئوي للشاعر الكبير سعيد عقل، فأقيم بهذه المناسبة قداسا ً احتفاليا ً في بكركي، برئاسة غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، وأعلن رئيس جامعة سيدة اللويزة، التي قدم لها سعيد عقل كل آثاره، برنامج الاحتفالات بالسنة اليوبيلية المئوية.

"الجريدة" التي تعتز بأن تاريخها حافل بما أغناها به سعيد عقل، طوال عقود، من مقالات يومية، وما خصها من قصائد في مناسبات كبرى، يسعدها اليوم أن تشاركه فرحة العيد بتحية خاصة، مع تمنياتها بأن تبقى اشراقة وجهه مشعة لسنين عديدة.

سعيد عقل لا يحده حد. لا في مكان ولا في زمان. انه الشاعر الشاعر، لا يرضى بأن يكون الأكبر أو أمير الشعر! انه المعلم، وكل مبدع خلاق يرى أنه تلميذ له.

طبع جيلا ً كاملا ً بطابعه الخاص، وصار لبنان معه دولة عظمى، بل بلدا ً عظيما ً، أعظم من أي بلد في العالم، في ارثه الفكري والثقافي والحضاري والسياسي.

أما الحكم، والدولة؟ فلسعيد عقل دولته، وليس للدولة شأن بها. وما من حكم تطلع اليه أو أحس بوجوده.

لبنانه العظيم، كما يراه، كان من قبل أن تكون دولة لبنان الكبير، منذ قيام أول مملكة في صيدون وابحار أول أسطول من جبيل، وانعقاد أول مجلس حكم في صور... لبنانه العظيم هو ذاك اللبنان الذي أنشده أول مزمور من المزامير، وتغنى به نشيد الأناشيد، ونزل فيه كل اله ليعلق أجمل الهة على هذه الأرض.

من عظماء لبنان الحديث يرى البطريرك الحويك الذي أعاد، الى لبنان، كما في عهد فخر الدين، مدنه الأربع الكبرى التي هي، من بين سبع، صنعت تاريخ لبنان العظيم. وسعيد عقل ليس من الذين أخذوا بنشوة الاستقلال، لأنه ما استشعر يوما ً بأن الانتداب السياسي والاحتلال العسكري، وهبوب موجات عاتية على لبنان من حزبيات طارئة، صهيونية أو عروبية، ودخول حركات استعمارية غربية أو شيوعية شرقية، قد نالت من جوهر خلوده أي منال، فاندحرت كلها وذهبت هباء ً منثورا ً، وغبارا ً بين أقدام التاريخ الجبار، في مساره الثابت .. وبقي لبنان.

بقي لبنانه البلد الوحيد في المنطقة، على فرادة في الاستقلالية تحافظ على الخصوصية في تمايزها، كما تقبل وتفهم، بل وتدافع عن خصوصية الغير وتمايزه. بلد الحرية والديموقراطية، من قبل أن تأخذ الحرية معانيها الحديثة، وتأخذ الديموقراطية مفاهيمها الشعبية.

واذا كان لبنان قد استفرد مرات، واستضعف واعتدي عليه مرارا ً، بل واستهدف في كيانه من قبل الطامعين، فقد انهار مستضعفوه جميعهم على صخرة صموده... بقي هو وزالوا جميعا ً... سعيد عقل لا يرى في كل ما حل بلبنان من نكبات، الا أضغاث أحلام. يقول: انه ليس هناك أكثر من ثلاثماية لبناني، من ضعاف النفوس، يعبدون السلطة، ويبيعون أنفسهم لأي سلطوي يمنحهم السلطة، أو لأي طاغوت مال، يعتاشون من فضلاته. بينما لبنانه العاصي على الدهر، هو لبنان كل اللبنانيين، من كل المناطق وكل الملل، الذين لا يباعون ولا يشرون، هؤلاء الذين لا يخضعون لأي سلطان جائر ولا يستسلمون أمام أي طاغية. فوصف الرئيس شارل حلو هذا اللبنان بأنه لبنان سعيد عقل، وسعيد عقل بأنه رئيس لبنان، والجمهورية هي جمهورية سعيد عقل.

منذ بداياته، وهو يتصف بالمعلم. أدرك، وهو بعد تلميذ، أنه يتميز على رفاقة بالحساب، فأتقن لغة الأرقام. وتميز عليهم بالشعر، فصار عالما ً في اللغة، وصانعا ً بارعا ً في تركيب الألفاظ وتركيب الكلمات، وفي ابتكار ونحت التعابير التي تكثف المعاني، في جمالية مدهشة وتميز عليهم في اكتشاف قوة الصغر في الحجم، فالصغير لا يمكنه أن يقوى بالحجم أو بالعدد، بل بالقيمة والتمايز. وراح ينقب في تاريخ هذا البلد الصغير، لبنان، عن سر عظمته في بناء الحضارة العالمية، انطلاقا ً من أبجدية جبيل التي أعطت كل أبجديات العالم أصولها، الى هندسة معمارية في بعلبك، لا تزال معجزة، تتحدى كل الهندسات المعمارية الحديثة الى هندسة الفكر التي لا تزال تكشف صحائفها المحفورة، عما تكتنزه من أساطير وملاحم، ومن تعابير عن اختلاجات القلب، الى الارتقاء في التفكير من انشغالات الحياة وهواجسها، الى سمو الروحانيات... وأعمال فنية راقية ورائعة، من كل لون، تبلغ الماورائيات، لاستكشاف الاله الخالق، وخلود الروح... والتعبد دوما ً للاله... أي اله.
سعيد عقل المعلم منذ أيام الكلية الشرقية في زحلة. وهي ليست أية مدرسة، وقد خرجت كبار الكتاب والشعراء، وحرصت على ألا تكتفي بالمنهج التربوي العادي، فأضافت اليه درسا ً مميزاً في تذوق الأدب والشعر. وكان نجم سعيد عقل، ابن زحلة، بدأ يسطع في سماء الشعر، بشبابه الثوري، ومؤلفاته المسرحية التي تضاهي أعمال المؤلفين العالميين، وقد نال على "بنت يفتاح" جائزة، وأحدث مع "قدموس" و"المجدلية" ثورة في الفهم السياسي لبلد يبعث ماضيه القديم، ليبني دولته الحديثة. وفي الفهم الشعري لأدب عربي خارج من الانحطاط، ينطلق في عالم تتنازعه السريالية والوجودية، ويتأرجح بين الكلاسيكية والحداثة... فاعتبرت الكلية الشرقية أنه من دواعي الفخر لها أن يكون الشاعر الشاب سعيد عقل أستاذ تدريس هذا المنهج في فن تذوق الأدب والشعر للصفوف الثانوية والعليا، وكان درسه هو المحبب الينا جميعا ً، لأنه يخرجنا من المنهج التربوي الرتيب، ولأن سعيد عقل يحلق فيه، ويحملنا الى نشوة ادراك الجمال، مما لا يستطيعه أحد سواه.

ظل سعيد عقل، بعد سنوات عديدة على أيام الشرقية، وفي شبابه التسعيني، يتحدث في برء الجمال، ويقول ما قاله بالأمس، قبل ستين سنة، بذات نبرة الصوت الصافي، وبريق العينين اللتين تلتمعان كبرا ً، وبغرة شعر ثائر، وقد زادته هيبة ببياضها الناصع...

انه شاعر العصر، ومفكر العصر ومعلم العصر. تجد أثره في كل بيت شعر، وتؤرخ المناسبات الكبرى بوقفته على المنبر... في كل جامعة أو مدرسة، هو المحاضر أو من تلقى المحاضرات عنه، وفي كل صحيفة لمقاله الصدر، وعنه ومعه، تكتب الأحاديث والدراسات.

صار هو الشاعر والشعر معا ً.
يردد قول فيلسوف كبير، بأنه عندما يزول كل شيء من الدنيا يبقى الشعر.

الشعر لديه هو بديهة... هو لقية فكر الى لقية تركيب: اللقية أولا ً تفاجىء، والمفاجأة ثانيا ً تلذ، وثالثا ً تغني. والتركيب، بحد ذاته، لقية. الشعر أن يلذك ويفاجئك ويغنيك ويثقفك، حتى الغزل عنده فكر. في كل قصيدة لعبة خلق.

شعره نحت ورقص.

يشرح ثورته الشعرية بأنها تقوم على استنفاد شبه مطلق للتركيب، واستيعاب للفكر. لذلك يجد نفسه، كشاعر، أنه ابن لبنان العظمة، ابن الجمال، كما هو ابن العلم واللاهوت. ويبلغ به التعظيم بلبنان حد جعله أحد أهم بلدان العالم. ففي هذا البلد الصغير العظيم، والبلدان الصغيرة لا بد لها من أن تكون عظيمة، لتستطيع أن تظل موجودة وفاعلة، في لعبة الأمم. ان سبع مدن منه أعطت البشرية ستة عطاءات، كونت أوروبا الحضارة، وأكثر الفضائل الانسانية التي هي فضائل فينيقية.

أما عظمة لبنان عند سعيد عقل، فهي في سر تفرده عن الشرق في الابداع، في مختلف الحقول: في السياسة وفي الاقتصاد، في الأدب والفكر، وفي الفنون كافة، وقد تعمقوا في قضايا المعرفة، فبلغوا قضايا جوهرية للفكر كماهية الحرية مثلا ً. لبنان سعيد عقل لا يمكن أن يجمع في كتاب تاريخ أو كتاب جغرافيا، هو عالم في شخص اسمه سعيد عقل:

من هو سعيد عقل؟..
أنا ابن الدهور، ابن لبنان وعي الخليقة بي

من أين جاء؟
ولدت سريري ضفة النهر، فالنهر تآخى وعمري مثلما الورد والشهر

أهله؟..
أهلي ويغلون، يغدو الموت لعبتهم اذا تطلع صوب السفح عدوان
من حفنة وشذا أرز كفايتهم زنودهم ان تقل الأرض أوطان

قلمه؟
سيف على البطل أم شيماتك الحرم يا شعر خلد، وسيف ذلك القلم
شعر الرجولة أنت، أنت نبعته بك ارتوت أمة، منك انتشت أمم

لبنانه؟
جبالنا هي نحن الريح تضربها نقوى وما يعط قصف الرعد نختزن

سعيد عقل: هو قدموس، هو لبنان ان حكى،
واذا أحب فكأس لخمر، وأجراس من الياسمين،
ورندلة مجدلية وبنت يفتاح.

من علياء تسعينه، ظل سعيد عقل واقفا ً فوق ذرى لبنان كملك، يعطي بسخاء عقله وصفاء قلبه، وبتطلعات روح شابة. يفكر بلبنان الغد، فيضع للأجيال الآتية، برامج في حجم عملقة لبنان، ليكون محجا ً للعالم، اذا تعولم ثقافيا ً وحضاريا ً... ومن عطائه الفكري والشعري يوزع الجوائز على كلمات ملكات تحكي عن لبنان، أو على عمل يغني لبنان...

في عيده المئوي يظل الحلم للبنان، والاحتفالات بسنة مئويته برنامج حلم كبير بعملقة لبنان.