Maroun Abboud

الموقف الايماني، في أدب مارون عبدو القصصي - دراسة وتحليل

تأليف الدكتور ايلي ميخائيل قطرميز

خواطر حول قصة "دايم دايم" لمارون عبود بعنوان "التدين بين الايمان والسحر" للدكتور كوستي بندلي
راجعه وقدم له قدس الأب الدكتور جورج مسوح رئيس مكتب الحوار المسيحي الاسلامي في جامعة البلمند

تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع م.م.

ينجح الدكتور ايلي قطرميز في دخول عالم الأديب الكبير مارون عبود الديني. فبحوثه المنشورة في هذا الكتاب، تشهد لقدرة المؤلف على تحليل أقاصيص عبود ذات الصلة بالأبعاد الدينية، ثم نقدها واستخلاص العبر منها. كما تشهد هذه البحوث لثقابة النظر التي يتمتع بها كاتبها، ولموضوعيته ودقته العلمية والمنهجية في مقاربته لموضوعه.

صحيح أن مارون عبود ليس كاتبا ً دينيا ً، بل هو كاتب استطاع أن ينقل لقارئه أحوال القرية اللبنانية، المسيحية المارونية في جبل لبنان تحديدا ً، بما فيها الأحوال الدينية في قالب أدبي فريد، يسع كل قارىء للغة الضاد ان يفقهه بسهولة. وانه لمن الطبيعي أن تحضر في أقاصيص مارون عبود شخصية رجل الدين الى جانب الشخصيات الأخرى التي يتكون منها المجتمع القروي، وقد أدى بعض الكهنة دورا ً محوريا ً في بعض الأقاصيص. ولا يتوانى عبود عن تقديم صورة واقعية عن أحوال هؤلاء، فبعضهم فاسد ومحب للمال وجشع، غير ان بعضهم الآخر تليق بهم القداسة وحسن السلوك والأخلاق الحميدة.

كما أنه لمن الطبيعي أيضا ً أن تحضر العادات القروية، كالاحتفالات بالأعياد والمناسبات الدينية، والمعتقدات الدينية الشعبية كالخرافات، وما يتصل بها من تشويه للفهم الديني السليم. وهنا يقدم عبود مواد غنية تساعد عالم الاجتماع الديني في دراسة الأحوال الدينية للمجتمع القروي الماروني. ولم يغفل ايلي قطرميز عن مقاربة هذه المواد كما ينبغي لعالم الاجتماع الديني، فنجح في توليف النتائج التي توصل اليها بدقة غير متناهية.

لا يتوانى ايلي قطرميز عن العودة دائما ً بقارئه الى تبيان الازدواجية في سلوك المسيحيين ما بين القول والفعل. فيرينا أن مجموعة من الأقاصيص تفضح تصرفات الكهنة والمؤمنين، وبخاصة حين يتعلق الأمر بالمال. ولا يتردد قطرميز، وهو لا يجانب الصواب، في تسمية مواقف عبود في أقاصيصه ب"المواقف النبوية"، ويعني بها كشف الانحرافات، والنقد الصارم ازاء من يقبضون على المفتاح، ولا يدعون الداخلين يدخلون، والغضب العارم ضد الرياء الديني، وضد الذين يقولون ولا يفعلون، والذين يفتخرون بمسيحيتهم، لكن حياتهم تناقض تعاليم الانجيل...

هذه المواقف النبوية تظهر في أقاصيص عدة، كما، على سبيل المثال، في قصة "فارس آغا". فايلي قطرميز يستنتج أن شخصيات هذه القصة، لا يهمهم سوى ذواتهم ومنافعهم الشخصية. فهم يصلون المسبحة ويشاركون في القداس، ويعلقون صور القديسين والصلبان على جدران المنازل، ولكنهم يستغلون أهل القرية الفقراء، ويقيمون الدعاوى بعضهم ضد بعض، ويسعون في خراب بيوت الآخرين. لهذا "ينبههم الخوري حنا صادق الى أن الصلاة وحدها لا تنفع، ان لم تقترن بمحبة الناس". من هنا تحضر الدعوة الى التكافل الاجتماعي الذي هو في أساس الدعوة المسيحية، ف"الايمان من دون أعمال باطل".

لا تقتصر المواقف النبوية على الموضوعات الفردية، بل تطال أيضا ً سلوك القادة الكنسيين، والكنيسة في بعدها الأرضي والمؤسساتي. فقصة "الأرملة مارينا" لافتة جدا ً، وتعبر عن ذهنية مؤسساتية تفضل على البشر. فالخوري يوسف مسرح هو "نموذج الانسان المهتم بأن يكون الوقف غنيا ً، بالطرق الشرعية وغير الشرعية على السواء"، وان على حساب الفقراء والمحتاجين. لذلك ليس غريبا ً أن يغتصب الخوري مسرح العديد من العقارات، ليضمها الى وقف السيدة، ومنها عقار الأرملة مارينا التي تحاول أن تستعيده، لكنها تفشل فشلا ً ذريعا ً. والأمرذاته بالنسبة الى عقار سركيس الكريدي الذي مات محروقا ً، لأنه كان يزعج الخوري مسرح، ويطالبه باسترداد عقار أبيه وجده الذي اغتصبه الخوري المذكور وضمه الى أملاك السيدة.

كتاب ايلي قطرميز "الموقف الايماني في أدب مارون عبود القصصي" يأتي في أوانه. فما يعرضه عبود في أقاصيصه عن أحوال المسيحيين الدينية ما زال حاضرا ً في أيامنا، وربما قد زاد استفحاله. فالمؤسسات الدينية، أو جلها، غائبة عن الاهتمام بالقضايا الاجتماعية التي تشغل بال الناس وتقض مضاجعهم. الأوقاف تسرح فيها الأفاعي والعقارب، فيما يهاجر أبناء الكنيسة للتفتيش عن رزقهم في بلاد المهاجر والشتات. الهوة ساحقة ما بين النظري والعملي، ما بين القول والفعل، ما بين الكلام والسلوك. الأصولية تتنامى، وتتنامى معها المظاهر الفارغة من أي معنى ً أو مضمون. الايمان بالغيبيات وبالخوارق التي لا مقاصد لها، وبالشعوذات تحتل مكان العقل والحس السليم للايمان. لذلك، أقاصيص مارون عبود لم يفت عليها الزمن، بل هي راهنة وامتدت من القرى لتجتاح المدن. مدننا أضحت قرى ً بدلا ً من أن تتمدن قرانا وأريافنا.

الصوت النبوي، كما بين ايلي قطرميز في كتابه هذا، ليس حكرا ً على الأدب الديني. فاذا كان دور الصوت النبوي ينوجز في اعلان مشيئة الله والتذكير يمقتضيات الانجيل، فالأدب والشعر والرسم والموسيقى وسائر الفنون هي ميادين يسعنا أن نبحث فيها عن القول الالهي، للآن وهنا. وهذا ما تفضل به علينا قلم ايلي قطرميز محمودا ً وممدوحا ً. هو أيضا ً أضحى صوتا ً نبويا ً.

الأب جورج مسوح - عاليه 12 تشرين الأول 2011

من الأسئلة المشروعة: لماذا هذا الكتاب؟ وما هو هدفه؟

لقد ظهرت في السنوات الأخيرة، مجموعة من الدراسات، تناولت أدب مارون عبود من مختلف وجوهه، وعالجت جوانب متعددة منه، وحاولت ابراز الظروف المتنوعة التي رافقت ولادته، وما ميزه عن غيره من الانتاج الأدبي من حيث الغزارة في العطاء، والبساطة في التعبير، والعمق في التفكير، وتنوع الموضوعات التي تناولها، والالتزام بالقضايا الاجتماعية التي عالجها... ولكننا لاحظنا أن هذه الدراسات قد أغفلت ناحية مهمة في أدب مارون عبود، وخاصة في قصصه، وهي الناحية الايمانية، وبالرغم من اهتمام مارون عبود الكبير بهذه القضية الخطيرة في حياة أبناء المجتمع اللبناني الذي وصفه الكاتب من مختلف وجوهه، وأعطى البعد الايماني، وما يرافقه من انحرافات، مساحة واسعة جدا في انتاجه الغزير، ولا سيما في قصصه.

من هنا، كانت الحاجة الى هذه الدراسة والى تحليل المواقف المتنوعة التي كان مارون عبود يتخذها ازاء كل منها.

والحقيقة، أنني وجدت نفسي منعاطفا مع معظم هذه المواقف، ورأيت أن من واجبي أن أعرضها، وأوضح ما غمض منها، وأحلل المواقف الاجتماعية والدوافع النفسية التي تساهم في هذه الانحرافات، وتسيء بالتالي الى المجتمع أبلغ اساءة. مارون عبود كاتب ملتزم، وهذه الدراسة مساهمة متواضعة للوصول الى الغايات التي قصدها مارون عبود، وهي برأيي تبغي الوصول الى الحقيقة، والى الايمان المستقيم، الذي يبني المجتمع ولا يستغله أو ينحرف به الى عبادة أشكال متنوعة من الأصنام.

والله ولي التوفيق
د. ايلي ميخائيل قطرميز