Maroun Abboud

الفكاهة والسخرية في أدب مارون عبود - سيمون بطيش

الفكاهة والسخرية في أدب مارون عبود - سيمون بطيش – دار مارون عبود – مقتطف من كتاب

مقدمة

ليس أدعى الى تقدير المعرفة من نشرها. وكتاب "الفكاهة والسخرية في أدب مارون عبود" للاستاذ سيمون بطيش وجد لدى "دار مارون عبود" أيما ترحيب، ليس لانه يعالج موضوعا ً يخص مؤلفات والدي، حامل اسم الدار وحسب، بل لما يمتاز به من عمق في التحليل ووضوح في القصد وطلاوة في التعبير.

ووفاء للحقيقة، أوضح ما اشار اليه مؤلف الكتاب مرارا ً، - والايضاح هنا ليس للتبرير قط ما هو استخلاص لواقع عشته مع مارون عبود عن كثب - ان الفكاهة والسخرية في حياته وأدبه لم تكونا غاية بل وسيلة اصلاح، وهما فضلا عن ذلك منزهتان عن أي مأرب شخصي وان قستا في أحيان كثيرة.

وعلى نهج مارون عبود في تشجيع الادباء الشباب، تسير "الدار" ناشرة الاعمال الخلاقة، مرحبة بالابداع الذي هو وحده ميزان التطور ومفتاح المستقبل الثقافي في لبنان والعالم العربي.

نظير مارون عبود

تمهيد

هذا الكتاب كان منذ أربع سنوات عماد دراسة أكاديمية تحمل عنوان "الفكاهة والسخرية في أدب مارون عبود"، تقدمت بها، باشراف الدكتور أسعد نصر الله السكاف، لنيل شهادة الكفاءة في اللغة العربية وآدابها من كلية التربية في الجامعة اللبنانية (الفرع الثاني).

ونزولا ً عند رغبة الاستاذ نظير مارون عبود في نشر المباحث التي تتناول مؤلفات والده بالتحليل في شتى الموضوعات، قصدا الى الوفاء للقلم والمعرفة، وتمكينا ً لجميع دراسي الادب ومتذوقيه من الاطلاع على نوعية خاصة من التفاعل بين مارون عبود وأحوال زمانه. دفعت دراستي الى المطبعة لتمكين القراء من الاطلاع على الفكاهة والسخرية اللتين ميزتا جميع مؤلفات مارون عبود.

واذا دفعك الفضول الى السؤال: لماذا مارون عبود وفي هذا الموضوع؟ فاليك الجواب:

- ان مارون عبود مقلع بنفسه من مقالع الجبل اللبناني، جسد في ادبه الجدلية الخلاقة التي قامت بين الانسان اللبناني والعالم، وعرف القراء في العالم العربي الى ميزات شعبه الفريدة، كما اسقط من حياة ذلك الشعب بذور الضعف، وأبقى على اللهيب التاريخي الحضاري الذي نستنير بهديه في شق طريق الاستمرار والمستقبل. هذا الاعتبار، أو قل هذا الاحساس بأهمية الرجل على الصعيد الوطني كان من جملة العوامل الرئيسة التي دفعتني الى دخول محرابه الادبي باحثا ً.

– ان مارون عبود مثل في نقده التطبيقي عصرا ً بكامله، وذلك بشهادة الكثيرين من ادباء تلك الحقبة. وان رجلا ً تجاوزت مؤلفاته الخمسين، وقد توزعت في انواع ادبية مختلفة، أطل في النقدية منها على معظم النشاطات الفنية في العالم العربي، لجدير بالدرس. هذا المنطلق، أو بالاحرى هذا العقل الذي كرس غالبية جهوده للأدب وتقدمه، كان احد الحوافز التي حملتني الى عوالمه المبدعة دارسا.

– ان مارون عبود، الذي تحفل مؤلفاته بالدعوات الملحة الى تكريم احمد فارس الشدياق وسواه من كبار الادباء، لحري بالتكريم هو أيضا ً، وليست النصب والتماثيل التذكارية أشد دلالة على الوفاء لفضله من الدراسات التي تعالج آثاره.

– ان الفكاهة والسخرية تطبعان معظم مؤلفاته، فهما ليستا نزوة عابرة بل خاصة رئيسة من خصائص ابداعه، وهما فضلا عن ذلك محملتان بأبعاد قد لا تؤتي ثمارها في اطار الوعظ والارشاد.

– أخيرا ً أود أن أبين الوجه المشرق في الادب العربي، خاصة ان ما يتعلمه الطالب في المرحلة الثانوية يقدم له فكرة خاطئة وهي أن الادب العربي يمتاز بالعبوس والهزال لان كثرته نشأت في ظلال القصور والبلاطات.

ها أنا أضع بين يديك ايها القارىء ثمرة معايشتي مؤلفات مارون عبود، فعسى ان تجد فيها ما يفيد ويمتع.

سيمون غنطوس بطيش
كفردبيان 8-2-1983

الفصل الثاني
الفكاهة والسخرية في أدب مارون عبود

فكاهة مارون عبود وسخريته على ضوء شخصيته:

اذا كان الانسان يقوم بسيرته، فان هذا التقويم يبقى ناقصا ً ما لم تربط الاعمال بجذورها، بتاريخها، بجوهرها وبمعدنها الخام. أعني بكل هذه المنابع، الشخصية الانسانية التي تشتق منها الافعال وتنحدر أنماط السلوك. وربط النشاطات الفكرية والعملية بالشخصية ضرورة حتمية لمعرفة مدى حرية الانسان وانسجامه مع ذاته وقناعاته. لهذا الغرض قال سقراط "أعرف نفسك"، اذ ان المصالحة مع الذات تنفي كل ازدواجية وتحقق الحرية بأكمل أبعادها.

من هذه الزاوية لا يسعنا ان نبادر الى ادب مارون عبود محللين،متفحصين اسباب ابداعه في مجالي الفكاهة والسخرية دون ان نتوقف عند أهم ملامح شخصيته والعوامل المؤثرة فيها.

لا شك في ان للطبع شأنا ً كبيرا ً في تكوين الشخصية، ومارون عبود من هذا الجانب، ميال الى الانعتاق الفطري والشعور بالفرادة. وهذا ما حدا جوزف باسيلا الى القول مغاليا: "الوقار ليس في طبعه وطبعه كل شيء فيه". والمقصود بهذه المغالاة التركيز على مدى انسياق مارون مع طبعه وليس اقصاء او نفي سائر العوامل الاخرى المكونة شخصيته، ذلك انه حلق بجبلته الفطرية البريئة من الوقار المزيف المتجلبب بالعبوس والتقطيب، والمغموسة بالوقار الانساني الفذ على مرح وخفة روح. فالنكتة تستجيب له دون عناء، والطرفة تأتيه مستسلمة منقادة، كذلك السخرية تنساب من طبعه عفوية، وان جارحة في بعض الاحيان. على أية حال فان مفهوم مارون عبود نفسه للظرف لا يتعدى هذا الاطار، اذ يعد القارىء في كتابه "مجددون وجترون" بأنه سيريه عندما يصل الى قصيدة "أم موسى" لأمين نخله، ان الظرف طبع لا تطبع".

ومن كان مفطورا ً على الشموخ والأنفة لا يضن بالتصريح والصدق ولو أديا به الى أوخم العواقب. وقد بلغ من الجرأة في مكاشفة نفسه والمجتمع انه قال: "أما ان اكذب على نفسي وعلى الناس، اما ان اقول للخصي: ما أفحلك. وللقزم: ما أطولك. وللمكرفح: يا غصن البان يا عمري. فلساني لا يطاوعني وضحى لمني يضيء لي سبيل الاخلاص للذرية".

ولئن كان الطبع منشأ الظرف، فمما لا ريب فيه ان التطبع يشارك بدوره في صنع الفكاهة والسخرية، ويسهم في توجيهها الى غاياتها. فبعض المؤثرات الخارجية تزاوج الطبيعة الانسانية وتشذ بها، ومن ثم تواكبها في نشاطاتها. وقد فعلت البيئة الطبيعية فعلها في شخصية مارون عبود وغذت طبعه المتمرد بأنسام الحرية في القرية اللبنانية وزادته خميرة، وقد عشق صمود الجبال وجبروت الصخور ورسوخ الاودية فاغتنى قوة وصبرا وعنادا.

وضاعفت عناده مؤثرات مادية اجتماعية، فعكف على نفسه يرسم طريق الحاضر والمستقبل بيديه، فتميز تحت تأثير هذه العوامل الفاعلة في طبعه الشموخ فعلا قاسيا ً، بالعصامية والاعتماد على الذات لانه ممن "بنوا منازلهم بكد ايمانهم ولم يتسلقوا على رفات احد، ولم يستجدوا ر فد أحد".

وقد عرك الحياة وخبرها بمؤسساتها، بشرائعها، بوظائفها وبعقليات مجتمعاتها، ولاقى فيها صعوبات جمة، لكنه لم يستسلم لها، انما اتخذ جانب الايجابية في معظم مواقفه منها فعمل وصبر واعتمد على ذاته. فمجابهته الحياة تمت على حد قول أسعد السكاف "بأقانيم ثلاثة متحدة في جوهر واحد هو العصامية التي ميزت شخصية مارون عبود". ولاجل تبيث هذه العصامية كانت السخرية في حياته وأدبه.

ويستدل من مؤلفاته ان ثمة مؤثرات تربوية بيتية ربما اسهمت في تزكية ميله الى النقد الذي طغى على تفكيره حتى شمل كل ميادين الحياة فضلا ً عن ذاته. ولعله تأثر بجده الخوري الذي كثيرا ً ما عاودته ذكراه،وهو يصفه بأنه "لم يلن لهم (لأهل بيته)، ومات لا يعرف الهوادة، كأنما كان يعتقد ان الغلطة تفسد الصلاة، فما كان يحابي احدا حتى الكهنة". وحفيده مارون على شاكلته، لم يخادع نفسه ولم يداهن احدا، فكانت سخريته صدى لشخصيته الثائرة على براقع المجتمع وأقنعته، في عصر كثرت فيه الوجوه المستعارة وشاع فيه التدليس. وربما قبس سخريته المرة عن ابيه، وهو القائل في وصف طرق تأديبه صغيرا ً: "كان له (لأبيه) أداتان يسبكني بواسطتهما في قالب الناس: قضيب ولسان أمر من القضيب".

هذا يدلنا على ان والده تلمس فيه، منذ حداثنه، علامات التمرد على "قالب الناس"، أي على بداهاتهم التي أفرزها التفاهم الاجتماعي العام وشكلت قواعد المألوف في المجتمع، فعالجه بالقضيب واللسان اللاذعين لتليين طبعه، ولكنه لم يوفق على ما يبدو، لأن مارون يحدثنا عن نفسه يوم كان في مدرسة الحكمة فيقول: "كنت أهجو بلا رحمة ولا شفقة الخوارنة والعوام، التلاميذ والاساتذة. أكتب هنا وهناك، في الروضة والنصير والمنار والحقيقة والمشرق، ولم أعف المقتطف من هجوم". الطريقة التربوية التقليدية القائمة على الضرب والتأنيب القاسيين لم تجد اذا ً، وربما خلقت في نفس الفتى ردة فعل قوية جعلته اكثر انسجاما ً مع قناعاته الذاتية وأكثر استعدادا ً لحشر الناس في قالبه هو. فثورته، كما يتنفس بها أسلوبه التعبيري، كانت جامحة لا هدف لها محددا ً، كأنما تريد نسف المجتمع بكامل قيمه ومؤسساته، لانها تتعارض مع مثل تنطوي عليها شخصية مارون وتتلخص بالصدق. ولما كانت مقاومة المجتمع بقيم تزعزع بداهاته مهمة فردية يستعصي عليها الافلاح، فقد اتخذت طابعا ً عنيفا ً غير مستغرب ظهوره في مرحلة الشباب. وهذا الطابع يتجلى في الهجو الفاقد الروع الذي يتطلب له منفدا ً ولا يوفر وسيلة ممكنة للنفاذ الا يستخدمها ارضاء لعدم الرضى، بل لهذه الثورة الملتهبة في شخصية مارون الرافضة.

كل هذه العوامل وجهت شخصية مارون عبود صوب المرح والسخرية، لكنها لم تصقلها كما صقلتها ثقافته. كان مغرما ً بالمطالعة يملأ بها ما نسميه فراغا ً، ولا شك في انها وتقدم السن، أنضجا رفضه وحولاه من الهجو الى الاناة، من التهجم الى النقد ومن السلبية الى الايجابية في اكثر المواقف. وقد تأثر بأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الذي يصفه اسعد السكاف بأنه "نجم القطب الذي هدى مارون سواء السبيل في متاهة النقد الأدبي".

وفي هذا التأثر يضيف : "ولعل اعجاب مارون بالجاحظ، هو الذي حبب اليه الثقافة والادمان على المطالعة والتحصيل. وهذا ما جعل تشابها واضحا ً بين مارون والجاحظ، وهذا ما جعل معظم معاصريه يلقبونه جاحظ القرن العشرين". أما حسيب عبد الساتر فيشير الى أوجه التأثر ودرجته قائلا ً ان مارون "... متأثر بالجاحظ استطرادا ً ونكاتا ً ولونا ً محليا ً تأثرا ً رغبه حتى في المنام".

عدا الجاحظ، تأثر مارون عبود بأحمد فارس الشدياق تأثرا ً كبيرا ً فلقبه بصقر لبنان وخصه بكتاب من خيرة الكتب التي طرقت ادبه (ومما قاله فيه : "ان احمد فارس كنز ضخم وختوم كقبره، يمر به الناس ولا يعرفونه، وهو العارف بكل شيء". ويضيف: "ان احمد فارس كجبل لبنان، في كل قرنة من قرانيه معنى خاص، وفي كل واد من أوديته صورة جديدة، فعليك به كله، فهو للقديم متجر وللجديد مكسب"

ان كنا نكتفي بهذين العلمين اللذين أعجب بهما مارون، فهذا لا يعني اننا تتغافل عن كثيرين من الادباء الذين قرأ لهم وتأثر بهم، ولكننا نفضل الايجاز بالقول ان ثقافة مارون واسعة باتساع البحر، فاغرف منها ما تشاء وقدر ما تشاء فهي لا تنضب، وهي فضلا ً عن ذلك مطعمة بثقافة اجنبية تدل عليها مكتبته التي تحتوي " على 4000 كتاب عربي لكبار المؤلفين، و 10000 كتاب باللغات الأجنبية". ويكفي ان تعلم انه عرب بعض الروايات الفرنسية، ونصح الأدباء الشباب بالكتب الأجنبية اذ فيها "فيتامين" غير موجود بكثرة في كتبنا العربية، حاشا المعربة منها، وما أخذه الشعراء ونسبوه لأنفسهم" ، لتدرك مدى الاطلاع الذي أغنى فكر مارون عبود.

و باختصار، تميز مارون عبود بطبع يعشق التفرد والحرية والجرأة في مصارحة الذات والمجتمع. وقد رفدت هذا الطبع الفذ روافد تربوية وأخرى اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية توجتها الثقافة، فعملت كلها على تعميق روح النقد في فكره وضميره ووجدانه.

وان كانت الفكاهة والسخرية قد وجدتا في شخصيته الداخلية ارضا خصبة ومناخا ً ملائما ً للنمو والاثمار، فقد هيأت لهما ايضا ً شخصيته الخارجية، وبها اكتمل التوازن بين ما هو فطري، ونفسي ومظهري فيه، وراح كل يغذي الآخر في خط هو النقد الذاتي الانطباعي الساخر. والواقع ان مارون "لم يكن ذا شكل جميل متناسق، انما كثيرا ً ما اشار الى دمامة شكله، وقصر قامته، في احاديثه وكتاباته. كثيرا ً ما تناول شكله بالسخرية والتهكم". ولعل افضل ما يجسد التقاء الملامح الفطرية والنفسية والكلية الآنفة قوله: "ضايقني فضولهم (الناس) منذ تحركت في ذلك الزندان (رحم أمه)، فتهافتوا على والدتي ساعة عرفوا ان عددهم سيزداد واحدا ً. هذا يدلي برأي طبي ورثة عن جد جده، وتلك تنشر نصائحها وارشاداتها الصحية. وهكذا توطدت العلاقات بيني وبين أصحاب المروءة وصاحباتها. ارسلوا الي نجدة تلو نجدة قبل تشريفي هذه الدنيا، ليحفظوا حياتي الغالية، فلا أذهب طرحا ً وتخسر الانسانية واحدا ً، ليته لم يكن... ولو عرفت ان نساء القرية في انتظاري واني سأعرض عليهن واحدة واحدة لهربت. ولكن أين المفر؟ ما ارسلت اول صرخة حتى وقعت علي عيونهن وامتدت الي أيديهن. كل واحدة تحاول ان تستلم الحجر الاسود".

ثم يضيف ساخرا ً من احدى النساء اللواتي لم يعجبهن شكله: "كأني انا افرغت نفسي في القالب الذي لم يعجبها". في هذه النبذة تتبين احساسين يعتملان في صدر المؤلف ويوضحان السخرية المبكية المضحكمة: احساس درامي علته مجتمع يتحكم به التقليد ينتظر المولود بشغف، يقينا بأن الطفل لن يكون ابن أبويه وحدهما بكل سيكون حتما ً ابن ما هو سائد. وخوف الناس، الذين يتهكم الكاتب على مفهومهم للمروءة الهادفة الى الاحتواء، على حياته التي يغارون عليها لمصلحتهم، حتى قبل ان يبصر النور، قاده الى التمني العدمي تحت وطأة الاحساس بمرارة السجن. ولهذا الاحساس أهمية خاصة لأنه يطرح مسألة الحرية في غلالة من التهكم. فمارون عبود يسخر من انسانية مقيدة بسلاسل العادات المجتمعية، عنوانها التأهب الدائم للاستعباد. ولو جاز لنا ان نكمل ما أحجم الكاتب عن ذكر سببه لقلنا: ليته لم يكن كي لا يضاف رقم الى هذا المجتمع الذي يستعبد نفسه ويظن ان الانسانية في ما يفعل. ولما كانت الولادة حتمية، ولو في مجتمع هذي مفاهيمه، فقد تحول مارون عبود، ببراعة فائقة، من الاحساس الدرامي الى الاحساس بالمرح الذي يخفي خيبة الامل والشعور بالصدمة. فلأن "من خلق علق" فلا بد من السخر ولو من الذات، ولا حرج، لكنه سخر ممزوج بالمرح والظرف، وهذان الاخيران يلطفان الظلم ويخرجان الامر الواقع اخراجا ً تفؤلياً. فالحجر الاسود هنا كناية عن لون بشرته الشديد السمرة، ولا يدل على معناه الحقيقي، الذي يحصره في اطار الحج اليه. ولعله من المفيد ان نشير الى ان الكلمة تنقلب مضحكة عندما نفهمها بمعناها الحقيقي بينما هي مستعملة بمعنى مجازي.

هذا القالب البشع مظهر من مظاهر التفرد الذي تميز به مارون، وقد دعاه الى السخرية لحماية ذاته وقناعاته وحريته التي لا يعيرها المجتمع كبير اهتمام اجمالا ً بل يكتفي من الانسان بشكله المرئي. هذه البشاعة وعدم التناسق سوف يسكبه بعبقرية الرسام الكاريكاتوري على وجوه معظم شخصياته القصصية التي يندر ان تلاقي واحدة منها متصفة بالجمال الفتان.

هذي هي ابرز الملامح في شخصية مارون عبود - الداخلية و الخارجية - وكلها تحوي بذور الطرافة والسخرية اللتين أبصرتا النور منذ حداثته، ورافقتاه في حياته وأدبه حتى موته. الا ان هذه الملامح جميعها قد تفاعلت في شخصية مارون عبود المتكاملة تفاعلا حيا، فأمزجت معالمه المزاجية والنفسية والشكلية وتخمرت فيه متفاعلة مع واقع عصرها تفاعلا من نوع خاص، ومن ثم تجلت في ادبه وحياته ظرفا ً ناعما ً وسخرية بناءة.

وقبل ان تتناول مؤلفاته بالبحث عن الفكاهة والسخرية، حسبنا نظرة عجلى الى بعض عناوينها، فنرى ان: "مجددون ومجترون"، "دمقس وأرجوان"، "جدد وعدماء"، "نقدات عابر"، "الاكليروس في لبنان"،""من الجراب"، "أشباح ورموز"، "حبر على ورق"، عناوين تندفأ بحرارة السخرية ومرارة التهكم كما أن "أقزام جبابرة"، "وجوه وحكايات"، "احاديث القرية"، "فارس آغا"، "الامير الاحمر"، عناوين تختبىء فيها انسام الفكاهة وعبير المرح. كل هذا في مختبر مارون عبود الذي يضع الامور على المحك ويدرك أبعادها وخفاياها على الطائر. هذه العناوين لا تخص مؤلفات مارون عبود وشخصيته فحسب، بل يمكن اعتبارها عناوين في فهرس الحياة اللبنانية، وموجزا للنشاط الادبي في العالم العربي في عصر المؤلف. وما كانت هذه العناوين لتتصدر كتبه لو لم تكن أوجه الحياة آنذاك تقض عليه مضجعه وتحمله على وضع الامور في نصابها بلين حينا ً وبقسوة أحيانا . وأولى المسائل التي أدخلها مختبره وأخضعها للمعاينة والفحص الدقيق ثم ضخمها بذوقه هي مسألة الهيئات والأشكال.

محاور انفكاهة والسخرية في أدب مارون عبود:

1- في محور الهيئات والاشكال:

الواقع ان مارون عبود نظر الى الهيئات والاشكال بعين كأنما ركبت فيها عدسة خاصة؛ فلا تكاد تفلت منها صورة حتى تنال نصيبها من التحوير الظريف. فهو من هذه الناحية صياد ماهر يصطاد الاشكال على الطائر دون ان يقتلها، ليشارك في صنعها محققا ً بذلك حريته ومرضيا ً طبعه، ثم يطلق سراحها خفيفة الجناحين مزقزقة. فالمرئيات التي تنعكس على حدقته لا تغفو فيها مطمئنة، بل تقلقها ضجة واقعة في ما وراء العين، هي ضجة الحياة في نفس ابن عين كفاع. هذه الحياة تترصد ابدا ً بعفوية كل ما يحدث فيها اصطكاكا ً، حتى اذا قبضت عليه بحكم جدلية الذات والموضوع عركت اذنه دون ايلامه، تحببا، وهي بهذا تكرس خلقه من جديد كأنها صانع اباريق ينفخ في الزجاج فيحوله ألوانا ً وأشكالا ً. والحقيقة ان الهيئات البشرية، أجساما ً وقامات بكاملها وأعضاء مختلفة كالشعر والانف والخدين والصدر... الخ، تلقفتها مخيلة مارون عبود وصورتها كما رأتها عين فطرته ونفسيته، تلك النفسية التي.... ...