Joseph Abi Daher

مقتطافات من شعر جوزف أبي ضاهر

شاعر

لا يعرف الوقوفَ قي زمن ٍ واحد ٍ
فوق ارض ٍ واحدة ٍ
وتحت سماء ٍ واحدة.

جوّ الٌ مثلَ قمر
رحّالٌ مثلَ مركب
ومنقلشٌ مثلَ شاطىء.

تجاعيد

التجاعيدُ لا صوتَ لها
وحدها أصابعنا
تسمعُ منها كلاما ً
نافرا ً
مثل حجارة ٍ مهددة ٍ بالسقوط.

مطر

رفعوا توسُلاتهم
حتى السماء
لينزل المطر
... واستجاب.

نزلَ المطرُ لهفا ً
قبل نوافذهم
قرع َ أبوابهم
ناداهم
غضوّا الطرف عنه
فغرقَ في التراب.
... ...
قتحوا النوافذ
فتحوا الأبواب
وخرجوا يتنشـّــقون رائحة َ غيابه.

أسماء

استيقظتْ ذاكرتي
وأنا مسكونٌ بالنعاس

الوجوهُ تتداعى أمامي
تعبرُ جسرَ الماضي
وخـَلفها أسماء 
وأسماء
ترشُ وجهي برذاذ ِ الأحلام.

حبة قمح

استوت حبـّة قمح ٍ فوقَ بيدر
نهضَ التراب وخـَطـَفها
من دربِ نملةٍ
من منقادِ عصفور ٍ
وضمّها الى قلبه
تزوجّها
عَمـِر البيتُ بالأولاد.

مشهد

خلعَ الشبـّاكُ ستارهُ
وترك جسَدهُ مكشوفا ً

مرّ نهارٌ
ومرّ ليلٌ

لم يطبق شفتيه
ولم يتغيـّر المشهد.

أجنحة

سأل الصغير:
- للملائكة ِ أجنحة ٌ
وللعصافير ِ أجنحة ٌ
فلماذا
تسكنُ الملائكة ُ بيتَ السماء
وتسكن ُ العصافيرُ صنوبرة َ بيتنا؟

هـدايا

دخل الصيف الى غرفتي
حاملا ً هداياه
علقَ على الشبـّـاك ِ فراشة ً
وقنديلا ً
زرع َ على الطبق ِ اليابس ِ
ضـَمـّـة زعتر ٍ برّي
وفلشَ عطرهُ في أرجاء ِ الغرفة ِ
ردّ اليّ طفولتي
وقبعة َ القش ّ
وشجرة َ السماء ِ العالية ِ
وطائرة َ الورق ِ الملوّن ِ
غسل َ قدميّ بماء ِ النهر ِ
وغـَسل رأسي بثلج ِ الأيام.

مقتطافات من شعر جوزف أبي ضاهر من كتابه "قمح لمائدة العصافير" – دار كنعان – عدد الصفحات: 128, قياس: 14 ب21 سنتيمتر. كافة حقوق النشر والإنتاج الفني محفوظة للشاعر جوزف أبي ضاهر.

أشتاق إلى وطن

أشتاق إلى وطنٍ طالت غربته، وأنا في همّ البعاد أعيش.
طالت هجرته، وأنا في شوق اللقاء أبحث عن «قد» يأتي فألتقيه، وقبل أن أصافحه أبحث في «ترابه» عن وجهي، عن أصابعي المشغولة بالحروف والألوان ورائحة الحبر وأصوات الحياة الملبّدة بالغيم الأسود، يصل من جهات أربع، والرياح تلاحقه مقطوعة الأنفاس، فلا تبدّل في حال عبثي الجنون.

أشتاق إلى وطنٍ... وكنت صغيرًا أراه على شاطئ البحر. 
موجه عالٍ يلطم الصخر، فيردّه الصخر خائبًا.
أرتاح... خيّ. 
لن يصل الموج إلى حيث أقف، فيدفعني للهرب إلى حيث لا أريد. 
لن يصل الموج إلى زهرات بيض على أطراف درب يمرّ بها عاشق، فيقطف الأحلى للأحلى في العمر والشوق. 
لن يصل الموج إلى كتابي المدرسيّ، ولا إلى أوراقي، الـ صَنعتُ منها، مرّة، طائرة ربطتها بخيطٍ فحملتني إلى فوق، إلى حدّ طير كان يظنّ أن الفضاء له وحده.

أشتاق إلى وطنٍ حَسبتُ أنه سيظلُ معي، لا إسمًا في هويّة، بل حياة نابضة بخير وبركة وهناءة عيش. 
أنظر فيه إلى «الساحات» فتأخذني الحركة إلى الوافر من الانجازات في الفكر والعلم والفن والدهشة، وراحة البال. 
وإذا عدت إلى البيت، أعود بلا همّ. يفلش الأمان زوّادته على مدّ أيدينا: الأرغفة من قمحنا والزيت من حقلنا، والخمرة من كرمنا، واللحن من قَصَبِنا النهري ويحفظ الشعر غيبًا، ونَفَس العازف لا يبخل على النفوس بنعمة النغم.
وإذا الليل حلّ فمع الأحلام الأمنيات.

أشتاق إلى وطنٍ أدين فيه للديّان خالق السماوات والأرض. لا سلطة في الأرض تفوق سلطته، أو تنوب عنه في إبرام أحكام، وتحديد مسموحات، وفرض محرّمات، وسجن وقتل وتكفير مَن يخالف أو يعارض أو يبدي رأيًا مغايرًا، أو يقف محايدًا لاتّباعه مذهبًا «غير معترفٍ به» في شرعَةِ من جعل الله منصّة لكلامه في الدين والأخلاق والسياسة والوطنيّة... وفي إنسان فوق هذه الأرض، أيًّا تكن تطلعاته وثقافته.

أشتاق إلى وطنٍ حرٍّ لا ينحاز إلى شرق ولا إلى غرب. 
هو بين الاثنين جسر ثقافة ومعرفة وشموليّة إنسانيّة، تتلاقى في الأسمى من الكلام والمواقف والتعامل والسياسة في المستوى الأرقى، فلا فوقيّة ولا دونيّة، ولا هيمنة، ولا ارتهان.. تتلاقى في تبادل إنساني يروّض المادي، ولا يبخسه حضور وفعله.

أشتاق إلى وطنٍ يسود فيه حكمٌ عادلٌ، من حاكم واسع الآفاق، حَكيمٍ حليمٍ يحتكمُ إلى عقلٍ وإلى قلبٍ، وما خارجهما يبقيه خارجًا، فالداخل للداخل، وللوطن هويّة لا تكتب فيها ارتهانات ولا علامات فارقة تنتقص من المميّز في علاماته الدالة على استقلاليته وريادته وانفتاحه، وصلابته في مواجهة الظلام والظلاّمين، وفي صدّ الغادرين والمعتدين على حق من حقوقه.

أشتاق إلى وطنٍ يعرف تاريخه، ويستشرف ضوءه الآتي. 
لا مفاجآت تتحكّم في الأوطان أو تُفرض عليها، إذا كان الوعي الوطنيّ والشعور بالمسؤوليّة هما ميزان عدالة، فلا تصدر الأحكام خلافًا لقانون، لا يُحكم بغيره مَن يخرج عن السيطرة.

أشتاق إلى وطنٍ بنيتُ فيه علّيةً تُشرف على المدى، وأضأت سراجًا. 
أنظر إلى آتٍ على جَناحي الخير، فإذا بالمدى يغدر بي وبوطني فيأخذه إلى حيث: لا طمأنينة، لا حرّية، ولا صفاء عيش كانت خميرته حبّات بركة معجونة بنكهة القلوب والأيدي. وكان الحب يبارك فتعمر الحياة بالبيوت وناسها، والأرض تتّسع ولو في ضيق التحديد.
كان الوطن ناسًا، فحلّت اللعنة وعين الحسد.
صفّرت مراكب الحقد. نده السفر الغربة إلى الهجرة. تعرّت الأرض... 
غادر الوطن من دون ثياب.
يا ألله، أعد للأرض ثيابها وناسها... 
اشتقتُ إلى وطن.

إرادة الحرّية - قناديل 83

إرادة الحرّية لا تنحاز، ولا تتجه في درب غير دربها.
الحرّية إرادة مبنيّة على الوعي والشعور الإنساني بسموٍّ وتَرَفُعٍ. لا تشرد في اتجاه مغاير، ولا تفضي إلى فوضى وقتل ودمار.
اسمها شمسها، ولا أفول لوهج، ولو في انخطافٍ لدورة الزمان.
تستمرّ في النفوس المولودة من رحمها.

دوران الزمن
دوران الزمن في تشابه، والتشابه لا يعني التكرار. 
باب الذهاب يجاور باب الإياب، وأما الداخل فغير الخارج، إن في سعي إلى هدفٍ، أو في الوصول إلى آمالٍ أمنياتٍ مع فوارق، على بساطتها، تُحدثُ تغييرًا في الجوهر.
الجوهر لا يلبس ثيابًا سبق وخلعها.
ناس وأمكنة
للناس أسماء وللأمكنة أسماء.
للناس ألقاب وللأمكنة صفات.
للناس عيال وليس للأمكنة عائلة، وتفُوق الناس بأن تضع عيالهم تحت نظرها، ولا تحشر نفسها مرّة في أمر لهم، تعرفه أكثر منهم.
تبقى ظلاً وسط الحدث... محايدًا.
على الدّرب
الانحياز ولو مَعَ حقٍّ تنقصه دلائل.

ردّةُ الفعلِ تُلغي قوّته.

ينصِّبُ القاتل نفسه قدرًا، حتّى... لا يندم.

للغرائز ذاكرة خاصّة، لا تُدخل إليها ما لا يُشتهى.

لكلِّ بيتٍ باب.
ليس بالضرورةِ لكلِّ باب بيت.

ظنّ الراعي أشجار الغابة «شلعة» ذئاب.
دلّ الحطّاب عليها!

اقترِبْ من ذاتك أكثر لتحصّن صَدَاقاتها.

دخل الفجر جميع المدارس والجامعات ورسب.
ما تعلّم، وما بدّل كتابه، وما حفظ من الكلام إلا: 
ـ «صباح الخير».

تَفرَحُ بالعمرِ زبدًا؟
مهلاً.. ليس الشاطئ مستقرًا لحياة.

الجوع أعمى، ويرغب في كلّ شيء.

لا تجلسْ في غيمةٍ... الشتاء آتٍ.

أكلَ الديك حتّى سَمِن. اشتهته المائدة.

الخائفُ من اللهبِ لا يشعلُ نارًا.

نَدَمٌ لا يتجاوز الشجاعة: جرحٌ مفتوح.

قَلِقةٌ النجوم! لم تَذق نومًا.
أشعلت قناديلها... وخرجت.

يقضم الوقت ذاته
ـ ينقص؟ نظنُّ
كنّا ذاته وما عَرِفنا.

الخوف هبة الحاكم

«الجهلُ أقوى من العقل»

لأجله اشتغل الحكّام طيلة قرون، ليزداد فيستمرّ حكمهم، ويكبر القطيع، وينمو الخنوع، وتنتشر العصبيّات، وتشتغل الغرائز... وليصبح الموت أكثر رغبة من الحياة.

حمّلوا الجريمة مطرقة العدالة.

خاف الضعيف أن يضعف أكثر، أن يصبح حبل مشنقة، أو أن يصبح جلادًا يشدّ المشنوق من قدميه.
الخوف هبة يوزّعها الحاكم الديكتاتور على شعبه. كرمٌ غير اعتيادي.

الحاكم يفصّل النظام على مقاس غير موجود بين شعبه. يكفي أن يكون على مقاسه.

يَلبسه ويُعلّق على صدره الأوسمة: وسام العلمانيّة، وسام الديمقراطيّة، وسام العدالة والإنصاف، وحتى الحرّية تنزل وسامًا على صدره، فلا يعود قلقًا على مصيره ومصير عيلته وحاشيته، وماشيته. يقفل الأحلام، ولتُرمَ في البحر بعد وضع حجر الرحى في عنقها.

صار النهار له وحده، والليل له ولشعبه، ولكن من دون أحلام تزعج، وتسبب أرقًا.

«الجهل أقوى من العقل».

لا حاجة للعقل ما دام الجهل في عزّ توهّجه وسطوته وسيطرته... وما الانتفاضات والثورات والربيع الآتي في غير زمانه ومكانه إلا صورة قديمة، أضيفت إليها بعض الألوان والتفاصيل لتلصق فوق الصورة القديمة.

تغيير..؟ ربما، مهلاً، لا تصفقوا قبل أن يُصبح العقل أقوى من الجهل.

على الدّرب
لن أغادر طفولتي
أخاف تقفل الباب ورائي.

كَبِرَتْ طفولتي معي ولم تصدّق أني كبِرت.

مََددت لهم يدي، ظنّوها جسرًا.
مرّوا فوقه، وما التفتوا إلي.

أدخل ذاكرتي لأرمي في عينيها ما سقط من عينيّ.

يخاف الصمت أن يتحرّك فيُحدث ضجّة.

الأسئلة لا تَبحثُ عن أجوبة.
نحن نبحث، لنعرف: ماذا خلف علامة الاستفهام؟

أدخَرَ عجوز «لآخرته» بعض حبّه في قُجّة.
سقطت القُجّة من يده الرجفة.
تناثر الحبّ.

ـ ترتاحُ حين تحكي؟
لا... ترتاحُ حين تصمت.

في ممالك الأرض تراب وذهب وناس.
.. وأما الناس فإلى زوال.

تحتاج الينابيع إلى السواقي لتدخل البحر.

بيت بلا نافذة.. كفيف.

جناحا بلبل يزغردان
يغار المنقاد ويرفع صوتًا يبتلع الزغردة.

أطراف أصابعي عصافير مهاجرة لا تستقرّ فوق ورقة.

تستغيث المدائح:
ـ لست معبرًا للغايات!

ليست الخيول، كلها، صهوةً... تمهّل
قد تسقط وأنت بعد فوق التراب.