Muhammad Al Maghut

ولد شرس لا يموت تكريم محمد الماغوط - مسرح المدينة 23 حزيران 2006 غسان مطر

ولد شرس لا يموت تكريم محمد الماغوط - مسرح المدينة 23 حزيران 2006 غسان مطر

الكلام انتهى 
او كأن السماء التي وهبتنا الكلام وأسراره أقفرت 
أو كأن الشروق الذي كان يقطر ضوءا  ونارا  فيقطف منه الكلام تعاويذه مات أو...الكلام انتهى والذي نحن نقرأه الآن ليس سوى رمق أو رماد 
وقد نتخيل أنا نقول ولكننا لا نقول سوى صمتنا 
من نكون لكي نتجرأ في حضرة الملك الغجري الشهي النبي ونكتب أسماءنا؟ 
من نكون وقد أعلن الموت أن الكلام انتهى؟ 
حين نلمح أوصافنا لا نرى شبها  بين ما ترسم المفردات وما ترسم المعجزات؟ 
نتسلل مثل لصوص الحروف لنسرق أحجية الكيمياء التي كان منها يفاجئنا 
أقمنا طويلا  على بابه 
مثلنا كان يمضي نهاراته 
مثلنا كان يأكل يشرب، يلهو، يغازل، يحزن، يغضب، لكنه لم يكن أحد مثله حين يستل من صدره أبجديته 
لم يكن شاعرا ، لم يكن ناثرا  
كان يرمي فيقتل 
سم المحابر مختلف في أصابعه 
ولطلقته غير ما يعرف الناس والفقهاء وغير المصفى أو المشتهى 
هكذا منذ خمسين عاما  ونحن نتابع أسراره، 
وهو يضحك حين نسائله كيف؟ من أين؟ 
يضحك مثل الذي ليس يعرف ماذا يقول؟ 
وما كان يعرف، يقسم، أقسم ما كان يعرف 
هل يعرف الليل كيف يصير سريرا  لعشق ودمع؟ 
وهل يعرف البحر ما فيه؟ 
هل تعرف الصلوات الى أين ترقى؟ 
هي اللغة اكتشفت في يديه احتمالاتها 
ثم راحت تضيء هنا، وهناك، وتغزل مشنقة للطغاة 
وتكثر مثل العروس اشتهاءاتها 
لغة لم تجىء من مكان 
ولم يبتكرها من مكان 
ولم يتفاخر بها رائد مثلما درج الأدعياء وأشباههم 
هكذا ولدت مثل جنية 
ولد "هاشل" في القرى 
ولد شرس ليس يعرف ماذا يقول الدعاة 
ولم يقرأ المكتبات وتولد ناضجة في يديه الرؤى 
أترى كان جبريل يهمس في قلبه؟ 
أم هو الكاهن الساحر الهمجي الذي كفرته الديانات؟ 
هذا أنا، قال لكنني لن أتوب 
وقبلي تنفس طير وزهر وبحر 
وقبلي تصادم نجم بنجم 
وقبلي استدارت ودارت على شمسها الأرض، 
قبلي مشى الأنبياء على الماء، لم تعجبوا، فلماذا أنا مفرد؟ 
ولماذا تسمون ما لا يسمى وتقترعون على جثتي؟ 
حبة سقطت في تراب جميل وصارت سنابل، نور من الله، 
أسحر من عابث حين يسألني "ماذا تسمي الذي أنت تكتبه" ؟ 
سمه ما تشاء 
فلله تسع وتسعون تسمية، هل أضافت اليه أم انبثقت منه؟ 
يا صاحبي حين يولد طفل يغني المغني، 
أنا الطفل والأغنيات وأسئلة لا جواب لها. 
مج سيجارة وتنحنح شيئا  فشيئا  لكي لا يميد المكان 
وقمنا، وظل مقيما ، وما زال. 
أعجز أن أتصور حبرا  سواه، 
فكل الذي بعده، باسمه، خطأ في الحروف، انتحال مميت 
كفىء 
دنس ما تقولون 
ليس "أبو لهب" غير "يهوذا" 
ليس كل الأناجيل تسطع باسم القيامة، 
والله أكبر، هذا أذان الصباح 
ومات "مسيلمة" كافرا  وشقيا  
والحواة الذين استساغوا ابتكار الفاعي، وما أنت علمتهم، كذبوا. 
انهم ينشرون الغبار لكي لا ترى أو نرى 
انهم يقتلونك كي لا تظل مسيحا  
يجيئون من خارج الأرض والناس، واللغة المشرئبة مثل حصان، 
ويتلون نصك كي يستروا عريهم. 
أمعنوا في ارتكاب الفضيحة يا عربي اللسان، وما بدلوا. 
ولدوا في المساء وما بلغوا الصبح 
بعض حروف هنا ونقاط هناك وبعض بياض، وقالوا هو الشعر، 
أين سياط محمد، 
أين انفجار الكلام 
وهل كان حزنك الا عليهم وما يدعون؟
وهل أنت غير النبوءة كيف تلطى بك الآثمون 
هي اللغة اكتشفت في يديك احتمالاتها أين ما اكتشفوا؟ 
أي نمل يدب على ورق ناصع ويقول أنا شهقات النسور اتبعوني؟ 
تعبت وقد حملوك جزيرة أوهامهم. 
كلهم واحد 
واحد كلهم 
واحد جاء من خارج الأرض والناس واللغة المشرئبة مثل حصان، 
ومن خارج الروح، والجرح والحزن، 
من خارج الوجع الأبدي الذي عذبتك مساميره. 
لم تكن تتكلف صوغ الاشارات 
كانت تجيء اليك وتقطفها مثل خوخ السماء، 
وما كنت تقرأ ألف كتاب غريب لتسرق حرفا  كما يسرقون 
فأنت اخترعت السماوات والأرض والأبجدية من عدم 
مثلما كنت تشعل سيجارة كنت تشعل بحرا . 
وكالطفل كنت تغني فيأتي حليب الكلام نقيا  الى شفتيك 
وكنا نفيء الى شجر فيك لم يألف الطير أغصانه، 
مثلما تتنهد حزنا  على أمة، كان يهطل منك البهاء ولا تدعي. 
ولد "هاشل" في القرى 
ولد شرس والكلام يطارده 
أرادوا أبا  فادعوك، 
ولست أبا  للغبار وللتائهين بلا نجمة. 
فتبارك من جعل الغيم بستان آياته 
وتبارك من تتساقط مثل النجوم عذاباته 
وتبارك من يتوهج في شفتيه الكلام المدمى. 
وطوبى لمن عرفت يده كيف تطلع من زهرة خنجرا  
كيف تصبغ شعر الشتاء بألف بنفسجة، 
كيف تشعل صمت التراب وتخرج شمسا ، 
وطوبى لأحزانك السرمدية 
للولد القروي الذي صار ملء الزمان وملء الكلام وملء النبوءات. 
طوبى لنا اذ حملنا دعاءك مغفرة وهدى. 
الكلام انتهى 
وبدأنا من الآن نحزم أقلامنا، ونسد المحابر بالموت 
لا شيء يبقى سوى حرفك الكوثري وآهاتك المثقلات بكل المراثي 
حسمنا انحيازك للعفوي الذي يتعب الأدعياء 
حسمنا ابتكار الصباحات من قهوة "السلمية" أو شارع في دمشق 
حسمنا انهيار البنى ثورة الياسمين ابتهالا  لآلهة لم تجىء 
وحسمنا انتماءك للجرح والبسطاء 
حسمنا مثولك في الملكوت وشكواك ضد الحكومات والشرطة المستبيحة أوجاعنا كي تحاكمنا الكلام انتهى 
ما يرتل قلبي 
ولن أستجيب لغير صهيلك 
علمتني أن نجد الكلام من الناس والأرض، 
علمتني أن أبارك شمس بلادي وألعن كل الشموس التي لا تدفئني. 
فطوبى لمن كان سم المحابر مختلفا  في أصابعه 
ولمن قام حين ادعاه الحواة فأنكرهم، 
ولد"هاشل" في القرى، ولد شرس يتنقل مثل الموشح بين البيوت 
ولد ناره من كلام غريب يدفىء أيامنا، 
ولد لا يموت.