Ibn Rushd

الدار البيضاء في 20 سبتمبر 1998

الدار البيضاء في 20 سبتمبر 1998

مدخل- ابن رشد: العلم والفضيلة

هذا كتاب في سيرة ابن رشد وفكره سلكنا فيه مسلكا خاصا، فجمعنا بين حكاية السيرة الذاتية لفيلسوفنا والتعريف بفكره من خلال أهم كتبه، في الفقه وأصوله والعقيدة والفلسفة والعلوم والطب والسياسة. والحق أن هذا المسلك قد فرضه علينا ابن رشد نفسه، أعني كون سيرته الذاتية هي مسيرته العلمية نفسها، فلا يمكن الحديث عن الواحدة منهما بمعزل عن الأخرى. لقد نشأ في بيت كان أهله "الى العلم أميل"، كما يقول من ترجموا لهذا البيت، فانقطع منذ صغره للدراسة. فلما "بلغ أشده" في العلم، بدأ التدريس والتأليف والبحث العلمي الى أن توفي، عن عمر يناهز خمسة وسبعين عاما.

وبما أن أباه وجده كانا من رجال العلم المرموقين فقد كانا على صلة بالدولة وأهلها، صلة علمية قوامها التدريس وولاية القضاء. وقد ورث فيلسوفنا هذه الصلة ببعديها، وأضاف اليها بعدا خاصا هو الطب، فكان "يفزع الى فتواه في الطب كما يفزع الى فتواه في الفقه". وقد عمل طبيبا - وبالأحرى مستشارا طبيا - للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن وابنه يعقوب المنصور.

ومع أنه كانت له حظوة خاصة ومتميزة مع الأول منهما، الذي كان أميرا متنورا، فقد بقي محافظا على استقلاله الفكري منصرفا بكليته الى مشروعه العلمي الكبير الذي كان ينمو ويتفرع، أكثر فأكثر، كلما قطع فيه أشواطا: المشروع الذي يتداخل فيه فتح باب الاجتهاد في الفقه، و"تصحيح العقيدة"، ورفع الظلم عن الفلسفة وتحريرها من اشكاليات علم الكلام، وشرح كتب أرسطو وسد ثغراتها بالاجتهاد داخل "ما يقتضيه مذهبه"، وارساء "صناعة الطب" على أساس علم عصره، بهدف الارتفاع بها الى مستوى العلم، والقول في "السياسة" والاصلاح السياسي، قولا لا نجده في الثقافة العربية، لا لمن سلف ولا لمن خلف. هذا اضافة الى طموحه الى اصلاح علم الفلك، وانجاز مشاريع فكرية أخرى وعد بها ولكن ضاق عنها عمره، ليله ونهاره، فلم يستطع انجازها.

عاش ابن رشد خمسة وسبعين سنة قضاها كلها في الدراسة والتدريس والبحث والتأليف. ومع أنه تولى قضاء اشبيلية ثم قضاء قرطبة، وتنقل كثيرا مع الخليفة المتنور أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن، بين المغرب والأندلس، فقد بقي مشدودا الى مشاريعه العلمية، يعوض بالعمل في الليل ما فاته بالنهار، مستصحبا معه كتبه وأوراقه مستغلا فرص الاستراحة في الطريق، على الأرض أو على مراكب السفر، يحقق مسألة أو يسود أوراقا أو يراجع كتابا.

كان ابن رشد يسابق الزمن، يكتب في موضوع ويكتشف حين الكتابة أن ثمة مواضيع أخرى تتصل بما هو بصدده، فيعد بالتأليف فيها "ان أنسأ لله في العمر". وتلك عبارة يكاد لا يخلو منها كتاب من كتبه، منذ شبابه حتى آخر مؤلفاته، قبيل وفاته. ولم يكن ابن رشد يلقي بالكتاب لينفصل عنه بالمرة الى كتب أخرى، بل كان دائم المراجعة لما كتب، يصحح ويعدل ويحيل الى السابق واللاحق من مؤلفاته. لم يكن يترك العلم يتقادم في كتبه، بل كان شديد الحرص على تحيين مضمونها مع تقدمه في البحث المعرفة. ولم يكن يفصل بين تخصص وتخصص الا على صعيد المنهج – وبحق كان صارما على المستوى – أما على صعيد المضمون فقد كان يتحرك كعالم متعدد التخصصات، يستحضر الطب في الفقه والفقه في الطب، والقرآن والحديث في الفلسفة، والفلسفة في العلم والعلم في كل ذلك. وبعبارة عصرنا كان يتصرف من منطلق وحدة الحقيقة وتكامل المعرفة، وكان هذا عنده سلوكا يشخص قناعة وطيدة عنده وهي "تطابق العقل والوجود". ومن هنا كانت الحقيقة عنده، وكان العلم الحق، وكان البرهان، في "المطابقة مع الوجود".

هذه المطابقة بين العقل والوجود قد تشخصت أيضا في سلوكه. فكان وجوده، أعني سيرته، مطابقا لعقله، أعني لمسيرته العلمية وخصاله الخلقية.

فعلا، لم تكن "المطابقة بين العقل والوجود" عند فيلسوفنا مجرد نظرة فلسفية للكون، ولا مجرد تساوق بين العمل الفكري وشغل الوقت وحركة الزمن على سلم العمر، بل كانت أيضا فضيلة أخلاقية وعاها بعمق فالتزم بها واشترطها في العالم، فقيها كان أو فيلسوفا. وهكذا فالنظر في كتب القدماء، وهي مكمن العلوم العقلية يومئذ، واجب بالشرع وجوب النظر العقلي. ولكن ليس لأي كان، بل لابد للناظر فيها أن يكون قد "جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة والثاني العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية". أما ذكاء الفطرة فشرط ضروري من الناحية العقلية المحض، ناحية القدرة على التعامل مع العلم. وأما العدالة الشرعية فهي هنا بمعنى الأمانة العلمية بلغة عصرنا، فالناظر في كتب القدماء يجب أن لا يزيد ولا ينقص ولا يحرف ولا يشوه ما قاله القدماء ولا يقولهم ما لم يقولوا، سواء كانوا مشاركين لنا في الملة والعقيدة أو مخالفين. واذا كانت هذه الخصال ضرورية في من يريد النظر في كتب القدماء فهي بالأولى والأحرى واجبة في من ينظر في كتب الشريعة أعني الفقهاء، فان "صناعتهم انما تقتضي بالذات الفضيلة العملية". والفضيلة العملية أساسها "الفضيلة العلمية والفضيلة الخلقية". الأولى تعني أن يكون العالم مقتنعا بصواب الرأي الذي يقول به والمذهب الذي يعتنقه وأن تتشخص هذه القناعة في سلوكه، وبذلك يتحقق التطابق بين "العقل والوجود في نفسه".

وبما أن الوجود البشري يختلف عن الوجود الطبيعي بكون الصدق فيه تحكمه قيمة عليا، توزن بها الأعمال، هي "الخير"، فان الفضيلة الخلقية التي تجسم هذه القيمة يجب أن تكون هي التي تطبع "الوجود". وجود الفرد البشري. ومع أن فيلسوفنا كان يقدر الغزالي تقديرا خاصا ولا يتردد في انصافه ضدا على ابن سينا خصمه، فانه لم يستطع أن يتغاضى عن افتقاد أبي حامد للفضيلة العلمية في كثير مما كتب. وهذا ما كان يضايقه فيه فلم يتردد في مؤاخذته عليه والتنديد به، أعني غياب الفضيلة العلمية الذي يجسمه في سلوكه "أنه لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه: بل هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنه كما قيل:

يوما يمان اذا لاقيت ذا يمن وان لقيت معديا فعدنان".

ولم يكن ابن رشد من الذين يعيبون على الآخرين أشياء يرتكبها. كلا. لقد كانت هناك طريقة مارسها ملوك زمانه – ومورست من قبل وتمارس من بعد – وهي ما يسمى بالدارجة المغربية "التتريك"، وما أطلق عليه على عهد معاوية اسم "الاستخراج"، وما يطلق عليه اليوم اسم "المصادرة"، وذلك بأن يلجأ الحاكم الى الانتقام من الشخص الذي يريد معاقبته لأمر ما، لا يريد التعريف به، الى مصادرة أملاكه بدعوى تطبيق "العدل"، ويكون ذلك مبررا بصورة خاصة مع الموظفين الكبار من وزراء وقضاة ومن يظن بهم أنهم استغنوا من المنصب الذي قلده الحاكم اياهم. وكم من وزراء وقضاة عوقبوا هذا النوع من العقاب زمن ابن رشد، الا ابن رشد نفسه. فعندما قرر المنصور محاكمته، بتحريض من حساده، ولأسباب سياسية شرحناها في هذا الكتاب، لم يجد ذريعة يخفي بها السبب الحقيقي في محاكمته غير دعوى "الاشتغال بعلوم الأوائل"، هذه العلوم التي كان قد مضى نحو خمس عشرة سنة على اشتغاله بها على عهد المنصور نفسه وبعلمه، وما ينيف عن أربعين سنة بطلب من أبيه الخليفة المتنور أبي يعقوب.

وانما لجأ المنصور الى هذه التهمة الغريبة التي تقتضي منه التنكر لأربعين سنة من تاريخ حكم أسرته لأنه لم يجد ما يمكن أن يؤاخذ على فيلسوفنا الذي تولى قضاء قرطبة وقضاء اشبيلية. ذلك لأن اتهام ابن رشد في هذا المجال كان يعني اتهام الناس جميعا في ما رأوه منه وما سمعوه عنه في مجال القضاء وغيره من المجالات: أعني الفضيلة الخلقية التي طبعت سلوك ابن رشد في القضاء مثلما طبعت الفضيلة العلمية عقله وفكره.

لقد شهد له جميع الذين ترجموا لحياته بالفضل والاستقامة والنزاهة وخدمة الصالح العام، الى درجة أن ابن الأبار لم يتردد في القول: "ولم ينشأ في الأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا ". ثم يضيف: "وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا (...) وولي قضاء قرطبة (...) فحمدت سيرته، وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترقيع حال ولا جمع مال، انما قصرها على مصالح أهل بلاده خاصة ومنافع أهل الأندلس عامة". وقد ردد هذه الشهادة جميع الذين ترجموا له فقال ابن عبد الملك المراكشي: "كان على تمكن حظوته عند الملوك وعظم مكانته لديهم لم ينفق جاهه قط في شيء يخصه، ولا في استجرار منفعة لنفسه. انما كان يقصره على أهل بلده خاصة، ومنافع سائر بلاد الأندلس عامة". وينقل ابن أبي أصيبعة عن القاضي أبي مروان الباجي هذه الشهادة، قال: "كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي ذكيا، رث البزة قوي النفس". وكانت قوة نفسه تأبى عليه أن يكون غير ما هو مع جميع الناس، الضعيف والقوي سواء. فاذا تدخل الخليفة المنصور في ميدان العلم، من غير علم، صاح فيه كما يصيح الأستاذ في تلميذ أو طالب: "تسمع يا أخي"! يقولها باللغة الطبيعية" جاريا في ذلك على طريقة العلماء في الاخبار عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم، غير ملتفت الى ما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الاطراء والتقريظ". يشهد بذلك ما ختم به كتابه "فصل المقال" اذ كتب في معرض الثناء على الدولة، لا ليمدح بل ليسجل واقعا ويبرز ايجابيات بلغة طبيعية تراعي النسبية في القول والحكم، هي أبلغ في التعبير عن الحقيقة من عبارات "الاطراء والتقريظ". يقول: "وقد رفع الله كثيرا (=وليس جميع) من هذه الشرور والجهالات، والمسالك المضلات (=التي أصابت الحكمة والشريعة) بهذا الأمر الغالب، وطرق به الى كثير (=وليس الى جميع) من الخيرات، وبخاصة على الصنف الذين سلكوا مسلك النظر ورغبوا في معرفة الحق" (=الفلاسفة).

ولم يتردد فيلسوف قرطبة في انتقاد من سبقوه من الفلاسفة والشراح كالفارابي وابن سينا، والاسكندر وثامسطيوس قبلهما، بلهجة لا تخلو من العنف "الفلسفي"، عندما يلاحظ أنهم ارتكبوا أخطاء لا تليق بالعلماء، سواء في الفهم أو في التأويل، ولكن دون أن ينسى الشهادة لهم بالفضل، في ما كان لهم فيه فضل عليه أو على غيره. ولم يتعصب الا للحق والصواب. ولم يكن يتردد في الاعتراف بالخطأ اذا تبين له أنه ارتكب خطأ. ولم يكن يتردد في التصريح بالتقصير وباحتمال وقوعه في الخطأ، والتنبيه الى أن رأيه لا يمثل الحقيقة النهائية، طالبا من قرائه أن يكاتبوه ويطرحوا ما قد يبدو لهم من شكوك أو مآخذ على ما قرره في مسألة من المسائل. يقول في آخر مقالة الزاي من كتابه "شرح ما بعد الطبيعة" الذي ألفه في أواخر عمره، بعد ما لا يقل عن أربعين عاما من البحث والتأليف والتدريس: "هنا انقضت هذه المقالة، والحمد لواهب العقل كثيرا. وقد بلغت في تفسيرها أقصى ما انتهى اليه جهدي بعد تعب طويل وعناية بالغة. وأنا أقول لمن وقف على تفسيرنا لهذا الكتاب ما قاله أرسطو في آخر كتاب السفسطة: انه من وقف على تقصير منا في ما وضعناه فليعذرنا". وفي "شرح كتاب النفس"، يقول بصدد طبيعة العقل، بعد أن انتهى من مناقشة آراء الشراح السابقين ونقدها: "ولما كان ذلك كما وصفنا، فقد ينبغي أن ندلي هنا برأينا. واذا كان ما ظهر لي لا يفسر كل شيء فقد يكون منطلقا لتفسير أكمل. ولهذا أطلب الآن من الأصحاب الذي سيقرؤون هذا الكتاب أن يطرحوا أسئلتهم كتابة، لأنه قد نجد الحقيقة بهذه الطريقة، اذا لم أكن قد صادفتها بعد. واذا كنت قد صادفتها، كما يخيل الي، فان أسئلتهم ستساعدني على توضيحها أكثر. وكما يقول أرسطو: فالحق يوافق الحق ويشهد له".

و"الحقيقة" التي يقول فيلسوفنا – بتواضع العلماء – انه يمكن أن يكون قد عثر عليها هي من "أخطر" الحقائق الفلسفية في العصور الوسطى، وقد تبناها "الرشديون اللاتين" ووظفوها في صراعهم ضد الكنيسة. ومعلوم أن رجال الكنيسة قد حملوا حملة شعواء على ابن رشد منذ القرن الثالث عشر واستمرت الحملة الى القرن الثامن عشر! وكان أخطر شيء في فكر ابن رشد: في نظرهم، هو تلك "الحقيقة" التي نوه فيلسوفنا في النص السابق بعثوره عليها، أعني: وحدة العقل الهيولاني وأزليته، وخلود النوع الانساني. وهي الحقيقة التي رأى أنها "ما يقتضيه مذهب أرسطو"، في المسألة التي تركها هذا الأخير معلقة، مسألة: طبيعة العقل الهيولاني: أمفارق هو وأزلي، أم لا؟ والحق أن ابن رشد كان في هذه المسألة فيلسوفا عميقا وأصيلا وليس مجرد شارح، كما سنرى بعد.

قال ابن رشد فعلا في شرحه على اللفظ لكتاب النفس لأرسطو بوحدة العقل الهيولاني وأزليته وبخلود النوع الانساني. أما "قدم العالم" فقد دافع عن وجهة النظر القائلة به في جميع كتبه، مبينا أن ذلك لا يتعارض مع ظواهر نصوص الشرع (القرآن)، وأن العقل الذي يقضي بوجود مبدأ أول أزلي (الله) يقضي في الوقت نفسه أن تكون صفاته وأفعاله أزلية كوجوده. ولما كان العالم فعله، فالعقل يقضي أن يكون تابعا للفعل الالهي في أزليته. وليس معنى كونه قديما أنه غير حادث مطلقا. بل هو غير حادث فقط الحدوث الذي في الشاهد. أما في الحقيقة فهو دائم الحدوث. أما خلود العقل الهيولاني وخلود النوع الانساني فلا يتعارضان مع الدين في شيء، بل هو الطريق لاثبات المعاد وخلود النفس. كما لا يتعارض القول ب"وحدة العقل الهيولاني" مع الحساب والثواب والعقاب يوم القيامة لأن الجزاء يخص ما اكتسبه الانسان، والعقل المكتسب هو عقل فردي. وهذا يعني أن في النفس البشرية جزءا خالدا أزليا لأنه فعل الله، وفعله أزلي، وجزءا حادثا فانيا هو المكتسب الذي يرجع أصله الى الصور الخيالية والادراكات الحسية وما يتبع ذلك من نزوعات وأفعال.

لم يتردد الفيلسوف الفقيه المجتهد أبو الوليد ابن رشد في التصريح بهذا الذي كان يبدو له أنه الحقيقة التي يقول بها العقل، وهي في نظره واجتهاده لا تتعارض مع الدين لأنها لا تمس أي مبدأ من مبادئه. ومبادىء الدين هي الايمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر. أما تفصيل القول في هذه المبادىء فهو مسألة اجتهاد. والاجتهاد في العقيدة كما في الشريعة جائز، وأحيانا واجب، ولكن فقط للعلماء الذي يستجمعون شروط الاجتهاد التي هي أولا وقبل كل شيء: "العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية"، اضافة الى "الفطرة الفائقة" وتحصيل العلوم الضرورية.

ان ابن رشد يضع نفسه فعلا في مرتبة المجتهد في النظريات كما في الفقهيات. وهذه مرتبة لم ينكرها عليه أحد، ولن يستطيع أحد أن يشكك في استحقاقه لها. ومع ذلك فلم يكن فيلسوف قرطبة يدعي امتلاك الحقيقة. بل كان يرى أن الاجتهاد في النظريات كالاجتهاد في الفقهيات معرض صحابه للصواب والخطأ، خصوصا في "المسائل العويصة". ولذلك وجدناه يطلب من قرائه أن يبعثوا له اعتراضاتهم وشكوكهم كتابة كي يتمكن من القيام بالمراجعة لموقفه، اذا كان ذلك سيقترب به من الحقيقة بمسافات أكبر. ومع ذلك يبقى الاجتهاد في النظريات اجتهادا فرديا مفتوحا للخطأ، اذ لا يتقرر فيه اجماع كما يمكن أن يتقرر في الفقهيات. من أجل ذلك – يقول ابن رشد – "يشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة اما مصيبين مأجورين واما مخطئين معذورين". هذا اذا كان الاجتهاد من العلماء المستجمعين للشروط التي ذكرنا. أما غيرهم ممن لم تجتمع فيهم تلك الشروط، أعني الفطرة الفائقة والعلم الكافي والعدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية، فهؤلاء خطأهم غير مصفوح عنه في الشرع: "فهو اثم محض، وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العلمية". وذلك كما هو الحال في الخطأ في الطب والسياسة. فان كان الخطأ صادرا عن طبيب مقتدر أو حاكم عادل، فهو مصفوح عنه، أما اذا كان من مدعي الطب أو من حاكم غير عادل فهو اثم يعاقب عليه.

وهذا الموقف الاجتهادي في الاجتهاد، المتسم بالانفتاح والاعتراف بالاختلاف وامكانية الخطأ، لا بل وبالحق فيه، يعكس ميزة في فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها لا نجدها في غيره، لا في الفلاسفة ولا في الفقهاء! نقصد بذلك جمعه بين مرتبة الاجتهاد في العلوم الدينية وفي العلوم العقلية سواء بسواء. والواقع أنه لم يكن في فلاسفة الاسلام من كان على معرفة كافية بعلوم الدين، فلم نسمع عن أحده منهم أنه كان فقيها أو قاضيا أو محدثا. ولم يكن في علماء الاسلام من كان على اطلاع على الفلسفة وعلومها من موقع البحث عن الحقيقة مجردا عن هوى التمذهب، ولا عن دافع الرد على الخصم من موقع التخاصم المذهبي. حتى الغزالي فهو يعترف أنه لم يطلع على الفلسفة وعلومها الا من كتب ابن سينا. وهذا الأخير لم يستجمع شروط الاجتهاد التي نص عليها فيلسوف قرطبة. فقد تأول على أرسطو أشياء تقع خارج ما يقتضيه مذهبه، فنقصته العدالة الشرعية من هذه الجهة. وهو يصرح في كتابه "الشفاء" الذي عرض فيه"ما صح" عنده – كما قال- من مذهب المشائين، يصرح أن الحق عنده ليس ما يقوله في هذا الكتاب الذي أودع فيه "الحق على طريق فيه ترض ما الى الشركاء" في الصناعة، محتفظا ب" الحق الذي لا مجمجة فيه "في كتاب آخر..! وهذا اخلال صريح بما سماه ابن رشد ب"الفضيلة العلمية".

ان جمع ابن رشد بين مرتبة الاجتهاد في العلوم الشرعية كما في العلوم الفلسفية – أو بين الأصالة والمعاصرة كما نقول اليوم – قد أكسبه ثقة بالنفس كبيرة، وجعله في الوقت نفسه يعي تمام الوعي نسبية الحقيقة، في المجالين معا: فالحقيقة في العلوم الشرعية كما في العلوم العقلية هي دوما "تأويل". تأويل "ظواهر النصوص"وتأويل "ظواهر الطبيعة". والتأويل فعل عقل بشري قاصر بطبعه معرض للخطأ. ولكنه قوي بقدرته على مراجعة أحكامه وتصحيحها.

واذا كان فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها قد أمسك قلمه ولسانه عن "التبجح" والتنويه الذاتي الذين اتسم بهما خطاب كل من الغزالي وابن سينا، فانه لم يتردد، في مقابل ذلك، بالاعتراف مرات كثيرة بالقصور والنقصان. ومن ذلك مثلا اعترافه بأن ما منعه من التأليف في جزئيات الطب (الطب التجريبي) هو أنه لم يمارس مهنة الطب بما فيه الكفاية، يقول: "وذلك أني لم أزاولها كبير مزاولة اللهم الا في نفسي أو في أقرباء لنا أو أصدقاء". أما الطب النظري أو "الكليات" فقد ألف فيه، ليس فقط لكونه درسه في أمهات المراجع، بل أيضا لأنه كان يمسك بأصوله العلمية، أعني العلم الطبيعي.

وبعد، فاذا كان لنا أن نوجز مقومات شخصية ابن رشد في كلمات فقد يجب القول انه جمع بين العلم والفضيلة. كان يجسد بحق الفكرة التي قال بها سقراط، وهي أن المعرفة أساس الفضيلة. "الفضيلة علم والرذيلة جهل"، فالعالم لا يكون الا فاضلا في تصور سقراط. واذا كان هذا التصور لا يجد له تطبيقات كافية في التاريخ، فان ابن رشد كان بحق أحد أولئك القلائل الذين اقترن لديهم العلم بالفضيلة، ليكون حكمة ويكون صاحبه حكيما.

الفصل الأول - الدراسة والهاجس البيداغوجي

1- اطار "تقليدي" وأسئلة معاصرة

لم يخلف ابن رشد أي نص في السيرة الذاتية أو ما يشبهها – على الأقل فيما بقي معروفا من نصوصه. وباستثناء فقرتين أوردهما عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب"، رواية عن تلميذ لابن رشد، يتحدث فيلسوفنا في احداهما عن لقائه الأول ب"أمير المؤمنين"، وفي الأخرى عن اقتراح ابن طفيل عليه، باسم هذا "الأمير"، تلخيص كتب أرسطو و"رفع القلق عن عبارته ليسهل فهمها على الناس"، باستثناء هاتين الفقرتين اللتين ترويان على لسان ابن رشد، فاننا نكاد لا نعثر له على حديث عن شؤونه الشخصية، ما عدا عبارات سجلها قلمه، بين ثنايا هذا الكتاب أو ذاك، أشار في بعضها باقتضاب شديد الى ما سبق أن فعل أو ما ينوي فعله في مجال البحث العلمي والكتابة والتأليف، أو الى ما حركه الى تأليف هذا الكتاب أو ذاك؛ وأخبر في بعضها الآخر عن تنقله بين قرطبة واشبيلية ومراكش، مسجلا ملاحظات سريعة بعبارات مقتضبة جدا، أو معبرا عن احساسه بالغبطة أو بالمرارة مما له علاقة بوضعيته كفيلسوف. وبالجملة فكل ما سجله ابن رشد بقلمه أو روي عنه، مما يتعلق بشأنه الشخصي، لا يخرج عن مجال مسيرته العلمية.

أما كتب التراجم فتكاد لا تخرج عما قاله ابن الأبار في كتابه "التكملة" ومحمد بن محمد بن عبد الملك المراكشي في كتابه " الذيل والتكملة" – وهذا الأخير أوفى مرجع في الموضوع. ومن هذين الكتابين ونصوص أخرى تكرر ما ورد فيهما أو تضيف اليهما أشياء أخرى غير ذات قيمة كبرى، يستقي الباحث عناصر موجهة لأي حديث عن سيرة ابن رشد. وهذه العناصر هي بالسرد التقليدي: أسرته ونسبه، دراسته، الوظائف التي تقلدها، تآليفه، نكبته ووفاته.

فهل سنتقيد بهذا النموذج التقليدي عند الحديث عن سيرة أكبر الفلاسفة في الاسلام، بل في العصور الوسطى عامة؟ هل نستسلم لما فرضه علينا تواضعه الجم من "نكران الذات"، وكأنه يريد أن يتميز، حتى في هذا المجال، عن الرجلين اللذين جادلهما وبين مواطن الشطط والخطأ في فكرهما: أبي حامد الغزالي الذي سجل بقلمه سيرته الروحية، كما أرادها، في كتابه "المنقذ من الضلال"، وأبي علي بن سينا الذي أملى تفاصيل عن حياته ومشاريعه الفكرية على أحد تلامذته؟

الواقع أن هذا النموذج التقليدي، "الجاف"، الذي تفرضه علينا كتب التراجم عند حديثها عن ابن رشد، يتحول الى اطار حي ملائم، اذا نحن عرفنا كيف نطرح فيه ومن خلاله، أسئلة معاصرة لنا نحن، حول الثغرات التي يكتشفها الباحث المعاصر في "المواد" التي ملأ بها أصحاب التراجم نموذجهم التقليدي ذاك، وعرفنا أيضا كيف نوظف، في سد فجوات ذلك النموذج وتوسيع اطاره، ما نجده في كثير من كتب فيلسوفنا من عبارات تعين على ذلك، وعرفنا أيضا كيف نربط ذلك كله بالأحداث التي عاصرها فيلسوفنا، السياسية منها وغير السياسية. ان الباحث الذي يطمح الى تجاوز ذلك الاطار الضيق الذي تتحدث عنه فيه كتب التراجم، مطالب بالتنقيب و"التفتيش" وبين ثنايا نصوصه، مع استحضار الأحداث السياسية التي لابد أن يتأثر بها كل من يعيش في وضعية تفرض عليه الاحتكاك المباشر مع رجال الدولة.

لنتحرك اذن داخل هذا الاطار "التقليدي" مع التركيز على طرح ما يتحمله من أسئلة معاصرة لنا، و"الحفر" بالتالي عن الأجوبة الممكنة التي تنطوي عليها، بصورة ما، المواد التي سجلها فيه المؤلفون القدامى، مع التنقيب في النصوص الرشدية المتوافرة لدينا.

2- النسب والأسرة

يتسلسل نسب فيلسوفنا، كما حققه صاحب "الذيل والتكملة"، عبر شجرة تضم ثمانية آباء ، فهو: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن رشد. وهذا التناوب بين "محمد" و"أحمد" يدل على اعتزاز الأسرة بآبائها: فالولد يسمى باسم جده ليخلفه ويحافظ على ذكراه وليكون مثله. واذا سمي باسم أبيه فالغالب أنه ولد بعد وفاته، فيسمى باسمه تخليدا له وتأكيدا للاستمرارية! أما انحصار أسماء آباء صاحبنا في "محمد" و"أحمد" الى جده السابع (عبد الله) فيشير الى ارتباط الأسرة ب"خير الأسماء" عند المسلمين، اسم رسول الاسلام.

حاول بعض حساد فيلسوفنا الطعن في نسبه بمناسبة نكبته: فقد فرض عليه الخليفة الموحدي المنصور، اثر محاكمة صورية سنعرض لها فيما بعد، فرض عليه الاقامة الاجبارية في قرية أليسانة بجوار قرطبة، وكانت مسكنا لليهود خاصة. قالوا انما نفاه الخليفة الى هذه القرية "اليهودية" لأنه "ينسب الى بني اسرائيل وأنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس". واذا كان صحيحا أن جل القبائل العربية في الأندلس قد احتفظت ب"النسب" الذي يربطها ب "أصول" لها في الجزيرة العربية قبل الاسلام، فانه لاشيء يبرر هذا التأويل: فقد قيل به لتفسير اختيار الخليفة نفيه الى قرية قريبة من قرطبة معظم سكانها كانوا من اليهود. والعلاقة بين الأمرين واهية، بل ومغرضة كما هو واضح.

على أنه لو كانت أسرة ابن رشد تشعر بالحرج في شأن نسبها لعمدت، وهي من البيوتات المرموقة صاحبة النفوذ المعنوي الكبير، الى اصطناع نسب عربي، كما جرت العادة يومئذ في المغرب والأندلس وبلدان المشرق. وصنع شجرات النسب أمر شائع معروف في المجتمع العربي والاسلامي. وقد سبق أن نسب ابن حزم الى رجل فارسي اسمه "يزيد" قيل عنه انه من موالي يزيد بن أبي سفيان، وهو من الفاتحين الأول توفي سنة 18ه. هذا في حين أن الأبحاث الحديثة تقول عنه، أعني ابن حزم، انه "خرج من أسرة من أهل أسبانيا الغربية كانت تقيم في لبلة، وكانت تدين بالنصرانية وظلت على نصرانيتها بعد الفتح الاسلامي أمدا غير قصير الى أن اعتنق حزم، جد صاحبنا، الاسلام في منتصف القرن الثالث الهجري". وصدق ابن خلدون الذي قال: "النسب أمر وهمي لا حقيقة له... وأن الصريح من النسب انما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب (=الأعراب) ومن في معناهم".

3- بنو حمدين: منع الرأي... والطموح السياسي

كان على رأس الفقهاء في الأندلس في هذا العصر، عصر المرابطين، أسرتان: بنو حمدين وبنو رشد. وبينما كان بنو حمدين طموحين سياسيا ميالين الى ترجمة مكانتهم العلمية والاجتماعية الى نفوذ سياسي مباشر، كان بنو رشد أميل الى الوقوف عند حدود الوجاهة العلمية والاجتماعية. ومن مظاهر الطموح السياسي لفقهاء بني حمدين الحملة الشرسة التي شنها كبيرهم أبو عبد الله محمد بن حمدين قاضي قضاة قرطبة على كتاب "الاحياء" للغزالي بمجرد ما وصل الى الأندلس. ومعلوم أن الغزالي كان يريد أن يجعل من كتابه "علوم الدين" فقها للروح بعد أن غرق الفقه الرسمي في "الرسوم" والشكليات وصار الناس يتخذون من الفروع أصولا، وخلا الميدان من العلماء المجتهدين. لقد "شغر منهم الزمان – كما يقول الغزالي – ولم يبق الا المترسمون وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفا"، الى غير ذلك من العبارات الجارحة في حق الفقهاء والتي ملأ بها الغزالي مقدمة كتابه وبثها في ثنايا أجزائه.

لقد رأى فقهاء قرطبة في كتاب "الاحياء" دعوة مباشرة الى الحد من نفوذهم والثورة عليهم فتجندوا ضده، وقاد الحملة أبو القاسم ابن حمدين فأفتوا بتكفير من قرأ كتاب "الاحياء"، واستصدروا من الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين أمرا باحراقه. فجمعت نسخه وأشعلت فيها النيران في قرطبة وغيرها من حواضر الأندلس والمغرب وكان ذلك سنة 503ه، قبل مولد فيلسوفنا بسبع عشرة سنة.

ومن مظاهر الطموح السياسي لبني حمدين قيام القاضي أبي جعفر، أخي أبي القاسم المذكور، بركوب ثورة أهل قرطبة على الوالي المرابطي (بسبب اعتداء أحد جنوده على امرأة من أهل قرطبة!). خلع أهل قرطبة بيعة المرابطين وأقاموا حكما "جماعيا"، جعلوا على رأسه ابن حمدين هذا سنة 539ه. ثم ما لبث أن استبد بالأمر وتسمى ب"أمير المسلمين وناصر الدين". فقام ضده فريق من أهل قرطبة واستدعوا ابن هود (آخر ملوك بني هود في سرقسطة) الذي كان يقيم في كنف ملك قشتالة ففر ابن حمدين هاربا. ولم يمض الا وقت قصير حتى ثار أهل قرطبة على ابن هود هذا وطردوه وأعادوا ابن حمدين ثانية. ثم ان خصومه من الفقهاء وغيرهم استدعوا ابن غانية، أحد الثوار العتاة على المرابطين الذي كان مستوليا على اشبيلية آنذاك، فلبى دعوتهم وجاء قرطبة وأخرج منها ابن حمدين، فاستنجد هذا الأخير بملك قشتالة "النصراني" فدخل قرطبة سنة 540ه. غير أن ملك قشتالة رأى أن من مصلحته مهادنة ابن غانية والتحالف معه فنصبه على قرطبة.

جرت تلك الحوادث أثناء الحروب بين المرابطين والموحدين، وكان ابن رشد الفيلسوف قد ولد سنة 520ه بقرطبة، فعاش قسما من تلك الأحداث في طفولته وشبابه، وبقيت عالقة في ذاكرته كتجربة جديرة بالاعتبار واستخلاص الدرس. وذلك ما فعله في كتابه الذي اختصر فيه جمهورية أفلاطون، حيث ذكر تجربة الحكم الجماعي في قرطبة وتحوله، مع ابن غانية، الى استبداد، أو "وحدانية التسلط" حسب تعبيره، ذكر ذلك كمثال يؤكد نظرية أفلاطون في تحول "المدينة الديموقراطية" (=الجماعية) الى مدينة الاستبداد والطغيان.

ولما انتصر الموحدون على المرابطين وتمكن عبد المومن من تأسيس دولتهم والاستيلاء على مراكش عاصمتها سنة 541ه قصده ابن حمدين في من قصده من "الثوار" في الأندلس، ولكن بدون طائل، فعاد الى الأندلس واستقر بمالقة يجتر فشله الى أن توفي سنة 546ه.

4- بنو رشد..."الى العلم أميل"

ذلك عن بني حمدين، أما بنو رشد فكان أبرز شخصية فيهم هو الامام ابن رشد الجد (تمييزا له عن فيلسوفنا ابن رشد الحفيد) المولود سنة 450 بقرطبة، والذي يعد من أكبر فقهاء الأندلس على الاطلاق. تتلمذ عليه الفقيه الشهير القاضي عياض وغيره من كبار الفقهاء والمحدثين. وتولى منصب قاضي قضاة قرطبة - أو قاضي الجماعة فيها - سنة 511ه على عهد علي بن تاشفين، الملك المرابطي، ف" سار فيه بأحسن سيرة وأقوم طريقة" وعرف ب" الجلالة والفضل، والذكاء والنبل، والنزاهة والحلم، والمعرفة والعلم". ومع أنه قام بمهام دبلوماسية تفاوضية، تارة بتكليف من الملك المرابطي، وتارة للتحدث باسم أهل قرطبة، فانه لم تكن له أية مطامح سياسية، اذ"كان الى العلم أميل" كما يقول عنه المؤرخون. وكان قد بدأ قبل توليه القضاء، تأليف كتابه "البيان والتحصيل"، وهو موسوعة فقهية في عدة مجلدات، فبقي مرتبطا به الى أن طلب الاستعفاء من القضاء سنة 515 ه لينقطع الى التأليف والتدريس. وكان من جملة ما ألف كتابه الشهير "المقدمات" في الفقه أيضا. توفي عام 520ه، قبيل ميلاد فيلسوفنا بنحو شهر أو يزيد، فسمي المولود الجديد باسمه تيمنا وتخليدا لذكراه.

أما ابنه أبو القاسم، والد فيلسوفنا، فكان هو الآخر فقيها له عدة تآليف في الفقه والحديث. وكان له مجلس تدريس في جامع قرطبة، وله تفسير للقرآن في أسفار، وشرحا على سنن النسائي، و"برنامجا" ذكر فيه شيوخه وما رواه عنهم. وقد تولى قضاء قرطبة سنة 532ه بعد عزل القاضي "الثائر" أبي جعفر بن حمدين الذي سبق الكلام عنه، وبذلك دخل في سلك كبار رجال الدولة كأبيه. ولكنه كان مثله الى العلم أميل، فاستعفى من القضاء وتفرغ، كما فعل والده، للتدريس والتأليف الى أن توفي سنة 563ه، وابنه فيلسوف قرطبة في أوج نضجه الفلسفي وقمة مجده العلمي والسياسي بوصفه طبيبا للخليفة الموحدي وأحد الموجهين للسياسة الثقافية للدولة.

ترك فيلسوفنا عدة أولاد تخص التراجم بالذكر منهم "أحمد"الذي سمي هو الآخر باسم جده، وكني مثله بأبي القاسم، وقد توفي سنة 622ه. كان هو الآخر فقيها وقاضيا "في بعض جهات الأندلس" ف"حمدت سيرته فيه "كأسلافه، هذا اضافة الى اهتمامه بالطب. أما ابنه الثاني، الذي سمي باسم جده الأعلى "عبد الله"، وكني بأبي محمد، فقد اشتهر في الطب أكثر من اشتهاره في الفقه. كان طبيبا للخليفة الموحدي الناصر، ابن يعقوب المنصور.

ومع أن أصحاب كتب التراجم والطبقات يذكرون أنه كان لفيلسوفنا أولاد آخرون فان أيا منهم، سواء من ذكرته هذه الكتب أو من لم تذكره، لم يشتهر بالفلسفة كأبيهم. لقد "ورثوا" منه الفقه والطب، و"تفرق فيهم" هذان العلمان. أما الفلسفة فقد اختص بها هو وحده: لم يرثها من أحد من آبائه ولم يشتهر بها أحد من أبنائه، وان كانت لبعضهم مشاركة فيها فبالعرض لا بالذات – حسب عبارة القدماء – أعني من جهة اشتغالهم بالطب وليس بوصفهم فلاسفة! ذلك ما يخبرنا به فيلسوفنا الذي كتب يقول في خاتمة كتابه المشهور ب"تلخيص كتاب المزاج" لجالينوس: "وأكثر ما حركني اليه (= الى تلخيص هذا الكتاب) ابناي أبو القاسم وأبو محمد، اذ كانت لهما مشاركة في هذه الصناعة وفي العلوم الحكمية التي لا يتم النظر في هذه الصناعة الا بها، كما بين ذلك جالينوس في مقالته: أن الطبيب الفاضل هو فيلسوف ضرورة".

5- نظام التعليم والدراسة

لا نعرف الا النزر اليسير حول دراسة ابن رشد، خاصة ما يتعلق منها بالفلسفة وعلومها. أما "العلوم النقلية"، من تفسير وحديث وفقه ولغة ونحو وبلاغة وشعر الخ، وهي وحدها كانت مادة التعليم "الرسمي" في عصره، فلابد أن يكون فيلسوفنا قد درسها على الطريقة التي كانت سائدة في الأندلس في ذلك الوقت، والتي وصفها أبو بكر بن العربي، الفقيه المشهور المتوفى سنة 543ه، - وابن رشد يومئذ في الثالثة والعشرين من عمره – بقوله: "وصار الصبي اذا عقل، وسلكوا به أمثل طريقة لهم، علموه كتاب الله، ثم نقلوه الى الأدب، ثم الى الموطأ (موسوعة الامام مالك في الفقه) ثم الى "المدونة"( أشهر كتاب مرجعي في الفقه المالكي بالمغرب العربي والأندلس يومئذ، لصاحبها سحنون المتوفى سنة 240ه)، ثم الى وثائق ابن العطار يختمون له بأحكام ابن سهل "(كل ذلك في الفقه).

واذن، فمما لا شك فيه أن فيلسوفنا قد بدأ دراسته في صباه المبكر بحفظ القرآن الكريم حفظا متقنا، فقد بقي عالقا بذاكرته الى أن أسلم الروح. وهذا ما يظهر واضحا من استحضاره السريع والتلقائي للعديد من الآيات في مؤلفاته ذات الصلة. مثل "بداية المجتهد" و"فصل المقال" و"الكشف عن مناهج الأدلة" و"تهافت التهافت"، وأيضا في كتبه الأخرى، الفلسفية والعلمية. أما في الفقه والحديث فتذكر المصادر أنه حفظ "المدونة" وقرأ "الموطأ" على أبيه "حفظا"، كما تلقى الحديث عن آخرين من كبار المحدثين في زمانه، وكان يستشهد به في كتبه، بسهولة وعن حفظ، كلما استدعى السياق ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى اشتهر عنه أنه كان له "الحظ الوافر من العربية"، وأنه ألف كتابا بعنوان "الضروري في النحو"، وأنه كان يحفظ الكثير من شعر المتنبي وأبي تمام، وأنه كان يتمثل بشعرهما، اضافة الى شعراء آخرين بما فيهم شعراء الجاهلية. كما تدل كتاباته على أنه كان على معرفة دقيقة وواسعة ب"علم الكلام" خاصة منه علم الكلام الأشعري.

أما دراسته للعلوم القديمة فلا تمدنا كتب التراجم بشأنها الا بكلام عام ومقتضب، من قبيل: "أخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريول البلنسي" (ابن الأبار)، "وكان قد اشتغل بالتعاليم وبالطب على أبي جعفر بن هارون ولازمه مدة وأخذ عنه كثيرا من العلوم الحكمية" (ابن أبي أصيبعة)، كما أخذ عن أبي مروان عبد الملك بن زهر أشهر أطباء الأندلس في زمانه، وقد وصفه ابن رشد نفسه بأنه كان أعظم طبيب بعد جالينوس، وهو والد الطبيب الشهير أبي بكر بن زهر، صديق فيلسوفنا، والمتوفى في نفس السنة التي توفي فيها هو، أعني سنة 595 ه.

أما المنطق والفلسفة، بالتحديد، فلا تذكر المصادر أساتذته فيهما، ولكن مما لا شك فيه أنه درس كتب أبي بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة الذي ينتمي الى المدرسة الرياضية الفلسفية التي ازدهرت في سرقسطة قبل سقوطها في أيدي الأسبان عام 512ه. وكان ابن باجة قد غادرها الى اشبيلية ثم شاطبة ليقيم أخيرا في فاس حيث توفى سنة 533ه، وابن رشد في الثالثة عشرة من عمره. لم يدرس ابن رشد ولا صديقه ابن طفيل المتوفى سنة 581 ه على ابن باجة مباشرة، ولكنهما درسا كتبه وتأثرا بها. وكان ابن رشد في أولى مراحل تكوينه الفلسفي متأثرا به الى حد كبير، ثم استقل بآرائه وتجاوزه فيما بعد.

واذا كنا لا نتوفر على وصف لبرنامج التعليم الذي كان سائدا في الأندلس في مجال دراسة العلوم العقلية على غرار الوصف الذي قدمه لنا عن العلوم النقلية الفقيه ابن العربي، فان بين أيدينا، في المقابل، وصف مفصل لحال العلوم العقلية وتطورها في الأندلس أتحفنا به ابن طفيل، الذي كتب يقول في مقدمة كتابه "حي ابن يقظان" ما نصه: "ان من نشأ بالأندلس من أهل الفطرة الفائقة، قبل شيوع علم المنطق والفلسفة فيها، قطعوا أعمارهم بعلوم التعاليم وبلغوا فيها مبلغا رفيعا، ولم يقدروا على أكثر من ذلك. ثم خلف من بعدهم خلف زادوا عليهم بشيء من علم المنطق فنظروا فيه ولم يفض بهم الى حقيقة الكمال... ثم خلف من بعدهم خلف آخر أحذق منهم نظرا وأقرب الى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثقب ذهنا ولا أصح نظرا ولا أصدق روية من أبي بكر بن الصائغ"، المعروف بابن باجة. وبعد أن يذكر تآليف هذا الأخير وطريقته فيها الخ، يضيف قائلا: "فهذا حال ما وصل الينا من علم هذا الرجل ونحن لم نلق شخصه. وأما من كان معاصرا له ممن لم يوصف بأنه في مثل درجته فلم نر له تأليفا. وأما من جاء بعدهم من المعاصرين لنا فهم بعد في حد التزايد أو الوقوف على غير كمال أو ممن لم تصل الينا حقيقة أمره".

ثم يحدثنا ابن طفيل عما وصلهم الى الأندلس آنذاك من كتب فلاسفة المشرق، فيذكر كتب الفارابي ويقول عنها: "وأكثرها في المنطق. وما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك" خصوصا شكه في "حشر الأجساد". والجدير بالذكر أن ابن باجة دافع عن الفارابي في هذه المسألة، فنفى التهمة عنه وقال: "أما ما يظن بأبي نصر في كلامه فيما شرحه من كتاب "الأخلاق" (لأرسطو)، من أنه لا بقاء بعد الموت والمفارقة (=للجسد)، ولا سعادة الا السعادة المدينية، ولا وجود الا الوجود المحسوس، وأن ما يقال أن بها وجودا آخر غير الوجود المحسوس خرافات عجائز، هذا كله باطل ومكذوب فيه على أبي نصر". ويشير ابن طفيل الى ابن سينا ويذكر كتابه "الشفاء" الذي ألفه "على مذهب المشائين" والذي صرح فيه أن "الحق الذي لا جمجمة فيه" عنده قد أودعه في كتاب آخر سماه ب"الفلسفة المشرقية". ثم يلاحظ ابن طفيل أن "في كتاب"الشفاء" أشياء لم تبلغ الينا من أرسطو. أما كتب أبي حامد الغزالي فيقول عنها ابن طفيل: انها "بحسب مخاطبته للجمهور، تربط في موضع وتحل في آخر، وتكفر بأشياء ثم تحللها"الخ.

تضعنا هذه الشهادات أمام معطيات جديرة بالاعتبار بخصوص موضوعنا سنبرزها في المسائل التالية:

1- يبدو واضحا أن نظام التعليم بالأندلس زمن ابن رشد، والذي درس فيلسوفنا اطاره، كان يقتضي التعمق في علوم اللغة العربية بعد حفظ القرآن، ثم الانتقال بعد ذلك الى الفقه والتفسير والحديث الخ. أما"العلوم العقلية"، أو علوم الأوائل، فعلى الرغم من أنها لم تكن ضمن مواد التعليم الرسمي، وأنها كانت تدرس في البيوت، وفي الغالب خفية، فقد خضع تدريسها – تاريخيا – لنظام وترتيب: الرياضيات أولا، ثم المنطق ثانيا، ثم الطبيعيات ثالثا، ثم تأتي بعد ذلك "الفلسفة"، بالمعنى الضيق للكلمة، أي ما وراء الطبيعة (الفلسفة الأولى، الالهيات، الميتافيزيقا). أما الطب فيقع بين الطبيعيات والالهيات. واذا كان ليس من شرط التخصص في الطب التعمق في "ما وراء الطبيعة"، فان المعرفة بالعلم الطبيعي ضرورية لمن يمارس الطب ممارسة علمية، كما سنرى لاحقا.

وسواء كان هذا الترتيب اختيارا بيداغوجيا مقصودا، كما كان الشأن عند اليونان زمن أفلاطون وأرسطو، أو كان بسبب تضييق الفقهاء على علوم الأوائل - مع بعض التسامح مع العلوم التي كانت الحاجة اليها مبررة دينيا أو اجتماعيا مثل الرياضيات والفلك والطب الخ، وفي المقابل التشدد مع الالهيات – فانه ترتيب أفاد كثيرا الدراسات الفلسفية في الأندلس، لأنه كان الترتيب الذي يقتضيه المنطق والبيداغوجيا معا.

2- ان ابن رشد درس دراسة تخصص كلا من العلوم الدينية والعلوم الفلسفية، وقد ألف فيها جميعا، كما سنرى، لا تأليف عارض وملخص ومفسر فحسب، بل أيضا تأليف مجتهد. وذلك على العكس من الفلاسفة الاسلاميين الآخرين، كالكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل، فليس فيما ألف هؤلاء ما يشير الى جمعهم بين علوم الدين وعلوم الفلسفة. ويبدو أن هذا الجمع "بين المنقول والمعقول"، كان قد صار منهجا مفضلا في الدراسة زمن ابن رشد؛ أو على الأقل كانت المعرفة ب"المنقول" شرطا في اكتساب الشرعية للخوض في العلوم الفلسفية. فقد ذكر أن أبا بكر بن زهر الطبيب، صديق ابن رشد، كان يدرس لبعض الطلبة، فأتاه أحدهم بكتاب في المنطق فأخذه منه وأنبه على تناول مثل هذه الكتب وأمر طلابه بقراءة كتب اللغة والدين. فلما مر وقت امتحنهم في ذلك، فلما وجدهم في مستوى جيد في العلوم الدينية أخرج كتاب المنطق الذي صادره منهم وقال لهم: الآن يمكنكم قراءة هذا وأخذ يشرح لهم مسائله. وقد تردد مثل هذا الموقف لاحقا في مقدمة ابن خلدون. فقد عقد فصلا بعنوان "فصل في ابطال الفلسفة وفساد منتحلها" وصفه بأنه فصل مهم "لأن هذه العلوم في العمران كثيرة في المدن وضررها في الدين كثير". والجدير بالذكر أن الفلاسفة الذين ناقش آراءهم ووصفهم بأنهم "ممن أضلهم الله من منتحلي هذه العلوم"، وذكر أسماءهم اثنان: الفارابي وابن سينا. ونحن لا نجد مبررا لسكوت ابن خلدون عن ابن رشد، وهو أقرب اليه زمانا ومكانا، الا فيما ختم به هذا الفصل، بعد مناقشة طويلة لآراء الفلاسفة، حيث كتب يقول: "فليكن الناظر فيها (الفلسفة) متحرزا جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم لذلك من معاطبها". ومع أن ابن رشد قد تجند للدفاع عن الفلسفة وعلومها من منطلق وجوب النظر العقلي شرعا، و"أنه لا يؤدي النظر البرهاني الى مخالفة ما ورد به الشرع، فان الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"، فانه يشترط في من يريد النظر في كتب القدماء، ويعني الفلسفة وعلومها، أن يكون ممن "جمع أمرين: أحدهما ذكاء الفطرة والثاني العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية". ويشتكي ابن رشد مرات عديدة من "المتفلسفين" الذين يظنون أنهم "أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه، أعني لا تقبل تأويلا، وان الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور"، فاضروا بالحكمة وبالشريعة معا، شأنهم شأن الذين يحرمون الفلسفة ويكفرون أهلها كما فعل الغزالي.

3- كان فلاسفة المشرق حاضرين بمؤلفاتهم واجتهاداتهم واشكالياتهم في الأندلس والمغرب، وكان الفلاسفة في هذين البلدين كانوا واعين ب"خروج" فلاسفة المشرق عن مذهب أرسطو، الشيء الذي عبر عنه ابن طفيل بالقول ان "في كتاب "الشفاء" أشياء لم تبلغ الينا من أرسطو". أما الغزالي فقد كان ينظر اليه على أنه لا يستقر على مذهب معين وأن كتبه هي "بحسب مخاطبته للجمهور، تربط في موضع وتحل في آخر، وتكفر بأشياء ثم تحللها" الخ. كما لاحظ ابن طفيل، ومن قبله ابن باجة. وغني عن البيان القول ان ابن رشد الذي رد على الغزالي وانتقد ابن سينا قد تكون في هذا المناخ الفكري، وسار في الخط نفسه.

6-"ترتيب التعليم".. و الهاجس البيداغوجي

هناك جانب آخر لابد من ابرازه هنا، هو الجانب البيداغوجي في تكوين فكر فيلسوفنا. لقد انعكس ذلك النظام التعليمي وهذا المناخ الفكري في فكره بصورة مباشرة، سواء على صعيد ممارسة التأليف والتدريس، أو على صعيد الرأي المعبر عنه كوجهة نظر بيداغوجية. والمتابع لنصوص ابن رشد، من هذه الجهة، لابد أن يلاحظ كيف أنه يلح باستمرار على ضرورة اتباع" الترتيب" في دراسة العلوم والفلسفة. من ذلك قوله في كتاب "جوامع السماع الطبيعي" (=كتاب الطبيعة لأرسطو)، وهو من أوائل كتبه الفلسفية: "وبين أن الناظر في هذا الكتاب ينبغي أن يتقدم فينظر في صناعة المنطق، اما في كتاب أبي نصر (الفارابي) واما أقل ذلك في المختصر الصغير الذي لنا". ومن ذلك أيضا تعليقه على الترتيب الذي اتبعه أرسطو في عرض أقسام العلم الطبيعي، الذي بدأ بالبحث في المبادىء الأولى لجميع ما قوامه بالطبيعة لينتقل الى "اللواحق العامة" للموجودات الطبيعية، كالزمان والمكان؛ يعلق ابن رشد على ذلك قائلا:"فأما ترتيب التعليم المستعمل فيه، فلما كنا انما نبتدىء من الأمور التي هي عندنا أعرف، سواء كانت هي المعروفة عند الطبيعة أو لم تكن، وكانت المبادىء العامة أعرف عندنا في الطلب، وأمكن أن يوقف عليها بسهولة من جهة العموم اللاحقة لها، - وانما كان العام أبدا عندنا أعرف من الخاص، لأن الاحساسات التي تحدث لنا من أول الأمر والتخيلات غير منفصلة ولا متميزة، وليس الأمر في الطبيعة كذلك، لأن المعروفة عند الطبيعة هي الأمور الخاصة التي منها تعمل الأشياء كالحال في الصنائع العملية – كان من الواجب أن نبتدىء بالنظر في المبادىء العامة للأمور الطبيعية ونتبع ذلك بالنظر في اللواحق العامة بها". ويختم ابن رشد عرضه ذاك قائلا: "فقد تبين من هذا القول ما موضوع هذا الكتاب وما غرضه ونحو التعليم المستعمل فيه ومرتبته، وهي الجمل النافع تصورها عند ورود المتعلم على الصناعة وشروعه في النظر فيها".

هذه النصوص تنتمي الى مرحلة مبكرة من حياة ابن رشد العلمية، فقد ألف الكتاب المذكور وهو في الثلاثينات من عمره، وبالتالي فهي تعكس بيداغوجية التعليم الذي درس في اطارها قبل أن تعبر عن اجتهاداته الشخصية. واضافة الى ما تقدم نستطيع أن نستخلص من كلام ابن رشد نفسه، في مناسبات عديدة، أنه درس فعلا على الترتيب الذي ذكرنا. وأنه كان واعيا بأنه هو الترتيب المنطقي والبيداغوجي المطلوب. وأنه فضلا عن ذلك درس على أساتذة مختصين. يدل على ذلك قوله ان الزلل الذي قد يعرض لمن يدرس الفلسفة ليس من الفلسفة ذاتها، بل من عدم اتباع الترتيب الصحيح في دراستها، أو من دراستها من دون معلم. يقول: "وليس يلزم من أنه ان غوى غاو بالنظر فيها وزل زال، اما من قبل نقص في فطرته، واما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلما يرشده الى فهم ما فيها أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه أو أكثر من واحد منها، أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها، فان هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات".

7- درس المنطق قبل أي درس

ولا شك أن هذا الهاجس المنهجي البيداغوجي الذي ساد تفكير ابن رشد، متعلما وعالما، كان من نتائج الترتيب التاريخي الذي فرض على الدراسات الفلسفية في الأندلس – الذي حدثنا عنه ابن طفيل قبل – والذي جعل درس المنطق يتقدم تاريخيا على غيره من علوم الفلسفة، مما رسخ النزعة العلمية البرهانية في الفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس. وهذا ما نلاحظه لدى أول فيلسوف في المنطقة، ابن باجة الذي ميز بكل وضوح بين المنهج العلمي ومنهج المتكلمين في دراسة الطبيعة. يقول في مقدمة كتابه "شروحات على السماع الطبيعي" (=كتاب الطبيعة لأرسطو): "كان الأقدمون ممن تفلسف في الطبيعة (قبل أرسطو) قد اختلفت بهم مسالكهم حتى قالوا بآراء مخالفة لما يشاهد، وذلك لقلة خبرهم (=معرفتهم) بالطرق المنطقية"، فجاءت أقاويلهم "أقاويل مشكلة، بعضها سوفسطائية... وبعضها جدلية واقناعية ولذلك اضطره الأمر (يعني أرسطو) الى نقض كل قول وحده. ولما كانت تلك الآراء قد سقطت في زماننا حتى لا تذكر الا من جهة أنها في كتب أرسطو، وكان ما يوجد منها اليوم آراء المتكلمين من أهل هذا الزمان فليس يعتد بها، لأن هؤلاء القوم لم يقصدوا النظر في الطباع (الطبائع، الأسباب) حتى ان منهم من يبطل وجودها، بل انما عرض لهم في مناقضة خصومهم أن تكلموا في شيء يسير منها، كقول من يقول بالجزء الذي لا يتجزأ – غير أن نظرهم في ذلك لا لأجل أن يعطوا أسباب هذه الأمور الطبيعية بل من أجل ما عثروا عليه في مناقضة بعضهم بعضا – رأينا أن نطرح هذا الجزء من النظر ونقصد قصد البرهان".

وهذا الفصل الذي يقيمه ابن باجة بين الأقاويل السوفسطائية والجدلية – ومنها أقاويل المتكلمين في الاسلام – وبين الأقاويل العلمية التي تعتمد البرهان فتبحث في الأسباب الطبيعية بهدف بناء العلم، يسجل مرحلة جديدة بالغة الأهمية في تاريخ الثقافة العربية. انها بداية المدرسة البرهانية التي طبعت بطابعها التفكير العلمي والفلسفي في الأندلس، والتي بلغت تمام نضجها مع فيلسوف قرطبة: ابن رشد.

نجد هذا واضحا في التعقيب الذي كتبه ابن رشد على وجهة نظر أفلاطون الذي أعطى الأولوية للرياضيات في التعليم. يقول فيلسوفنا: "فهذا ما يراه أفلاطون فيما يبدأ به في التعليم. وانما رأى هذا الرأي لأن صناعة المنطق في أيامه لم تكن قد وجدت. أما وقد وجدت هذه الصناعة فان الأصوب أن يبدأ التعليم بصناعة المنطق، ثم بعدها ينتقلون الى علم العدد ثم الى علم الهندسة فعلم الهيئة فالموسيقى، ثم الى علم المناظر فعلم الأوزان، وبعدها الى علم الطبيعة، ثم الى علم ما بعد الطبيعة".

8- اجماع على التنويه بعلمه ونزاهته

ذلك بعض ما تدلنا عليه النصوص التي بين أيدينا عن منهاج الدراسة وترتيب التعليم: نصوص ابن رشد ونصوص غيره من الفلاسفة والمؤرخين وغيرهم. أما أصحاب كتب التراجم والفهارس فيجمعون على اطلاع فيلسوفنا اطلاعا واسعا على مختلف المعارف والعلوم، ويبرزون انقطاعه للعلم والتأليف والتدريس. يقول عنه ابن الأبار: "ولم ينشأ في الأندلس مثله كمالا وفضلا، وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا. عني بالعلم من صغره الى كبره، حتى حكي عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل، الا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحوا من عشرة آلاف ورقة".

ويقول بصدد كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد": انه كتاب "أعطى فيه أسباب الخلاف، وعلل فوجه فأفاد فأمتع به، ولا يعلم في فنه أنفع منه ولا أحسن مساقا". ويبرز أستاذيته في الحديث فيذكر أسماء بعض الذين أخذوا عنه. ويؤكد ابن أبي أصيبعة أنه: "مشهور بالفضل معتن بتحصيل العلوم، أوحد في علم الفقه والخلاف". أما صاحب "الذيل والتكملة" فينقل شهادة يقول فيها صاحبها عن ابن رشد: "كان من أهل العلم والتفنن، وأخذ الناس عنه واعتمدوه (=في رواية الحديث والفقه والعلوم الدينية عامة) الى أن شاع عنه ما كان الغالب عليه من اختيار العلوم القديمة والركون اليها".

لاشك أن فيلسوفنا قد استفاد في كل ذلك من خزانة أسرته، خاصة كتب جده وأبيه، على الأقل في العلوم العربية والدينية، كما لابد أن يكون قد تشبع بوجهات نظرهما وسار على خطاهما. ولدينا في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"، الذي انتقد فيه تأويلات الأشعرية، ما يزكي هذا الافتراض: فهذا الكتاب يعكس بصورة مباشرة جدا موقف جده في جواب له عن سؤال طرح عليه حول" ما يقوله أهل الكلام بعلم الأصول من الأشعرية، ومذهبهم أنهم يقولون: لا يكمل الايمان الا به (=باعتناق مذهبهم) ولا يصح الاسلام الا باستعماله ومطالعته وتحقيقه"، فقد أجاب جد فيلسوفنا قائلا: "فلا حاجة بأحد في اثبات التوحيد وما يجب لله من الصفات ويجوز عليه منها ويستحيل منها، الى سوى ما أنزله في كتابه وبينه على لسان رسوله (ص) من الآيات التي نبه عليها، وأمر بالاعتبار بها". ويضيف ابن رشد الجد: "فمن الحق الواجب على من ولاه الله على أمر المسلمين أن ينهى العامة والمبتدئين عن قراءة مذاهب المتكلمين الأشعريين ويمنعهم من ذلك غاية المنع، مخافة أن تنبو أفهامهم عن فهمها فيضلوا بقراءتها. ويأمرهم أن يقتصروا فيما يلزمهم اعتقداده على الاستدلال الذي نطق به القرآن ونبه الله عليه عباده في محكم التنزيل، اذ هو أبين وأوضح لائح، يدرك ببديهة العقل بأيسر تأمل في الحين".

والحق أن كتاب فيلسوفنا: "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والبدع المضلة"، والذي موضوعه والغرض منه: الفحص "عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها" مع تحري "قصد الشارع"، الحق أن هذا الكتاب يعكس بصدق وأمانة موقف ابن رشد الجد في الفتوى التي أشرنا اليها، مما يجعلنا في غنى عن التماس أسباب أو مرجعية أخرى لهذا الكتاب خارج الرأي الذي كان عليه جد صاحبنا. ولا شك أنه كان رأي والده أيضا. واذا كنا لا نملك نصوصا لهذا الأخير حول الموضوع، فان تدخله لدى الملك المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين من أجل اطلاق سراح الفيلسوف ابن باجة من السجن، الذي أودع فيه بسبب آرائه الفلسفية وما نسبه اليه خصومه وحساده من الفقهاء المتزمتين، يسجل موقفا يدل دلالة واضحة، ليس فقط على المكانة التي كانت لبني رشد على مستوى السلطة العلمية، بل أيضا على مدى استقلالهم الفكري وجنوحهم الى الانفتاح واحترام حرية الرأي وميلهم الى الاجتهاد.

وتلك خصال مكينة في نفس فيلسوفنا كما سنرى.

الفصل الثاني - من الحظوة.. الى النكبة

1- مع الأمير المتنور

1- ابن رشد في مراكش لوضع منهاج للتعليم

سبق لنا أن ذكرنا أن أسرة بني رشد كانت من بيوتات الأندلس التي كانت تتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع الأندلسي، وفي العاصمة قرطبة بصفة خاصة. وهكذا فعلاوة على المكانة العلمية الرفيعة التي كان يحظى بها جد فيلسوفنا كان هذا الجد من رجال الدولة المرموقين: قام بمهام دبلوماسية للأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، ملك المغرب والأندلس آنذاك، كما فاوض هذا الأمير نفسه باسم أهل قرطبة عقب ثورتهم على الحكم المرابطي، اضافة الى توليه منصب قاضي القضاة. واذا كان ابنه، أعني والد فيلسوفنا، لم تذكر له كتب التراجم أية مهام سياسية فقد كان مع ذلك صاحب مكانة مرموقة ليس فقط لكونه تولى قضاء قرطبة بل أيضا لسمعته ومكانة أسرته. وقد تدخل – كما ذكرنا – لدى الأمير المرابطي لفائدة ابن باجة الفيلسوف المشهور، يوم كان معتقلا فأطلق سراحه.

هذه المكانة الفكرية والاجتماعية والسياسية التي كانت تتمتع بها أسرة بني رشد، سواء زمن المرابطين أو زمن الموحدين، هي التي تفسر استدعاء عبد المؤمن، المؤسس الفعلي لدولة الموحدين، لفيلسوفنا سنة 548ه الى العاصمة "ليستعين به على ترتيب المدارس التي أنشأها بمراكش"، وكان عمره سبعا وعشرين سنة ". ولا مبرر للشك في هذه الرواية مادام ابن رشد نفسه يؤكد وجوده في مراكش في السنة نفسها، أعني سنة 548ه حيث قام بمراقبة فلكية من جبل درن. ويمكن أن نفترض، وهذا افتراض تزكيه عدة وقائع، أن عبد المؤمن الذي عين ولده يوسف واليا على اشبيلية سنة 548ه لابد أن يكون قد طلب منه أن يوفد اليه مجموعة من العلماء المرموقين لينضموا الى الجماعة التي كلفها باعداد نظام للتعليم في الدولة الفتية. ولابد أن يكون من بين أعضاء هذا الوفد العلمي أحد أفراد أسرة بني رشد الذين كانت لهم المنزلة العلمية المرموقة في الأندلس كما بينا. ولما كان والد ابن رشد قد انصرف آنذاك الى التأليف بعد أن ترك القضاء وتقدم به العمر فلا بد أن يقع الاختيار على ابنه أو أن يكون هو نفسه الذي انتدبه نيابة عنه.

2- عبد المؤمن والبناء الثقافي للدولة

كان عبد المؤمن قد تولى الخلافة بعد وفاة صاحب الدعوة ومؤسس الدولة: المهدي بن تومرت سنة 524ه. وفي الفترة التي كان فيها عبد المؤمن يصارع المرابطين في المغرب والجزائر عرفت قرطبة حكما "جماعيا" كان على رأسه القاضي ابن حمدين، كما ذكرنا. ثم سرعان ما تدهورت الأمور فيها وفي غيرها من مدن الأندلس نتيجة الصراعات الداخلية وتدخل الأسبان. وابتداء من 539ه الى سنة 546ه والوفود الأندلسية من الوجهاء والعلماء والأعيان تتوالى على مراكش تطلب تدخل الموحدين لانقاذ الأندلس. وذلك ما حدث؛ فقد دخلت المدن الأندلسية تباعا تحت الحكم الموحدي بقيادة المؤسس الفعلي للدولة عبد المؤمن: دخل الموحدون قرطبة سنة 543ه. ومع حلول سنة 547ه كانت الأندلس كلها قد تحت سلطتهم. وفي السنة الموالية بدأ عبد المؤمن في ارساء أسس الدولة الجديدة، فكان التعليم على رأس أولوياته، فأسس سنة 448ه لجنة للتخطيط لنظام التعليم ووضع برامجه، اللجنة التي كان فيلسوفنا من بين أعضائها، كما ذكرنا.

يجمع المؤرخون على أن عبد المؤمن قد أولى عناية خاصة للتعليم، وكان هو نفسه – كما تذكر كتب التراجم – عالما بالنحو واللغة والأدب ضليعا في الفقه وأصوله، متشبعا بمذهب ابن تومرت الداعي الى ترك التقليد والرجوع الى الأصول: الى الكتاب والسنة. وقد بدأ عبد المؤمن في تطبيق اصلاحه الثقافي بعد ذلك بنحو سنتين، فأمر في سنة 550ه"باصلاح المساجد وبنائها في جميع ممالكه وبتغيير المنكرات، وأمر مع ذلك بتحريق كتب الفروع (في الفقه) ورد الناس الى قراءة كتب الحديث واستنباط الأحكام منها، وكتب بذلك الى جميع طلبة العلم من بلاد الأندلس والعدوة".

كان اهتمام عبد المؤمن بالثقافة والتكوين الثقافي كبيرا، فالدولة قامت أصلا على أساس دعوة فكرية، سلاحها الأول الكلمة تبلغ باللغة العربية أو باللغة الأمازيغية. وقد وضع صاحب الدعوة، ابن تومرت، من أجل ذلك كتبا للتكوين الايديولوجي منها كتابه "المرشدة" في العقيدة (علم الكلام: علم التوحيد) كان أصحابه يحفظونه كالقرآن. ووضع بالأمازيغية كتاب "القواعد" وكتاب "الأمانة" وهما في "العقيدة" كذلك؛ وجمع تلميذه ورفيقه وخليفته عبد المؤمن من أقواله ودروسه كتاب "أعز ما يطلب" وهو أهم كتبه من الناحيتين النظرية والمنهجية. ولما كان المغاربة يرتبطون بمذهب الامام مالك ارتباطا قويا وبكتابه الشهير "الموطأ" فقد وضع ابن تومرت كتاب ضخما على غرار موطأ مالك سمي ب"موطأ الامام المهدي" وهو في مسائل الفقه كذلك. وأخيرا وليس آخرا فالاسم الذي سمى به ابن تومرت أهل هذه الدولة اسم"ثقافي": الموحدون (أهل النظر في العقيدة). ومع أن قوته العسكرية والسياسية كانت قبلية أساسا (المصامدة) الا أنه استطاع أن يرفع "القبيلة" الى مستوى "العقيدة" ويغلفها فيها ويجعل من الايديولوجيا أساس الانتماء والتصنيف حتى داخل القبيلة نفسها. وهكذا فعندما اختار ابن تومرت عبد المؤمن بن علي الكومي خلفا له لم يكن ذلك على أساس قبلي – فهو من قبيلة بغرب الجزائر لا تربطها بقبيلة ابن تومرت أية رابطة – بل على أساس "العلاقة" الفكرية والصحبة في "الدعوة"، وقد سلم له أشياخ قبيلة المصامدة الأمر، لا لكونه يقع خارج التنافس داخل القبيلة بل أيضا، وهذا أكبر وزنا، لأن المطلوب هو الكفاءة الفكرية: فالدولة في مرحلة الدعوة وبالتالي فالقيادة المطلوبة هي القيادة الفكرية.

كان عبد المؤمن – بطبيعة الحال – على وعي تام بهذه الحقيقة، حقيقة أن أساس الدولة التي أسندت له قيادتها أساس فكري ايديولوجي، وأن استمراريتها أو على الأقل استمراره هو على رأسها، تتوقف على مدى استمرار الأساس الذي قامت عليه وهو الارتفاع ب"القبيلة" الى مستوى "العقيدة". ومن هنا كانت "الثقافة" ضمن أولياته. لقد خطط لتكوين جيل من "المثقفين" كان يطلق عليهم آنذاك اسم "الطلبة". وقد حرص على أن يكون في مقدمة هؤلاء أبناء شيوخ القبائل أهل الدولة. ومن أجل رسم برنامج للدراسة في "مدرسة تكوين الأطر"- بتعبيرنا المعاصر – التي أنشأها في مراكش عاصمة الدولة، استدعى العلماء المختصين من مدن المغرب والأندلس، كما ذكرنا، وكان من بينهم ابن رشد؛ ولابد أن يكون فيهم آخرون مثله ممن يشتغلون بالفلسفة والعلوم. ونستطيع أن نلمس في الخطة التعليمية التي تبناها عبد المؤمن وطبقها أثرا "فلسفيا" من كتاب جمهورية أفلاطون الذي اختصره ابن رشد فيما بعد: فقد جعل "الطلبة" صنفين: "طلبة الموحدين"، وهم من المصامدة قبيلة المهدي ابن تومرت وأهل الدولة، وكانوا متخصصين في فكر المهدي وفي علم الأصول. أما الصنف الثاني فهم "طلبة الحضر"، وكان عبد المؤمن قد استقدم الى مراكش، مجموعات من الأطفال النجباء من حواضر المغرب والأندلس كفاس وتلمسان واشبيلية وقرطبة الخ، بلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف، لتعليمهم وتكوينهم تكوينا علميا وجسميا تحت اشرافه المباشر. منهم فئة "الحفاظ" (يحفظون القرآن والحديث وكتب ابن تومرت)، ومنهم فئة "الجند" حرص على تدريبهم تدريبا عسكريا (رمي السهام وركوب الخيل والسباحة) وكانت مؤنهم وأسلحتهم وعتادهم وخيلهم من عنده. وعندما كبروا أقرضهم أموالا للتجارة فاغتنوا، ثم عينهم بعد ذلك على رأس المصالح الادارية للدولة، مكان شيوخ الموحدين الذين أعفاهم من المناصب التي كانوا عليها ليجعل منهم مستشارين له. ومن هؤلاء وشيوخهم كان يتكون ما سمي ب "بيت الطلبة".

3- أول لقاء مع أبي يعقوب "الأمير المتنور"

وانتقل هذا الاهتمام بالثقافة الى أبناء عبد المؤمن الذين تلقوا تعليما عاليا وانخرطوا في سلك العلماء و"المثقفين" في زمانهم، يعقدون المجالس العلمية للبحث والمناظرة. وكان من أبرزهم في هذا المجال أبو يعقوب يوسف الذي ولاه عبد المؤمن على اشبيلية سنة 548ه التي مكث بها ثماني سنوات – منذ أن كان عمره في حدود العشرين، فجمع حوله نخبة من الشبان المتعلمين كان على رأسهم ابن طفيل، الطبيب والفيلسوف، الذي كلفه بجمع العلماء والشباب المشتغل بالعلم من حوله. وعندما تولى هذا الأمير الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 558ه انتقل الى مراكش العاصمة ليعود الى الأندلس سنة 566 ه حيث سيمكث خمس سنوات قضى جلها في اشبيلية، محاطا برجال العلم وفي مقدمتهم ابن طفيل وابن رشد. وفي هذا الصدد يحدثنا صاحب "المعجب" عن صداقة ابن طفيل للأمير الموحدي فيقول: "وكان أمير المؤمنين أبو يعقوب (منذ أن كان واليا على اشبيلية) شديد الشغف به (بابن طفيل) والحب له: بلغني أنه كان يقيم في القصر عنده أياما، ليلا ونهارا، لا يظهر ولم يزل أبو بكر (ابن طفيل) هذا يجلب اليه العلماء من جميع الأقطار وينبه عليهم ويحضه على اكرامهم والتنويه بهم؛ وهو الذي نبه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم". ومن المرجح تماما أن يكون ابن طفيل قد قدم ابن رشد لهذا الأمير في السنوات الأولى من ولايته على اشبيلية، أعني حوالي 548ه. خصوصا وبعض المراجع تسجل أن ابن رشد غادر قرطبة الى اشبيلية وعمره ثلاثون سنة أي حوالي 550ه حيث التحق بالأمير يوسف بن عبد المؤمن. وتشير أخرى الى أن فيلسوفنا تولى القضاء في الأندلس – اشبيلية للمرة الأولى – في هذه الفترة.

هذه الشهادات تؤيدها القراءة النقدية للرواية المشهورة التي يتحدث فيها ابن رشد عن أول لقاء له مع "أمير المؤمنين" والتي نوردها فيما يلي: ينقل صاحب "المعجب" عن تلميذ لابن رشد: "الفقيه الأستاذ أبي بكر بندود بن يحيى القرطبي"، ما نصه، قال: "سمعت الحكيم أبا الوليد ابن رشد يقول غير ما مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل، ليس معهما غيرهما. فأخذ أبو بكر يثني علي، ويذكر بيتي وسلفي ويضم، بفضله، الى ذلك أشياء لا يبلغها قدري. فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء، يعني الفلاسفة، أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل. ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت الى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله أرسطو طاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الاسلام عليهم. فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له. ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك. فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب".

لقد استشهد بهذا النص جل الذين كتبوا عن ابن رشد، أو لخصوه أو أحالوا اليه، ولم نقف عند أحد منهم على ما يفيد أنه أولى العناية اللازمة والكافية لهذه الشهادة الثمينة. ذلك أن هذا النص / الشهادة يطرح على الباحث مشكلة يتوقف على حلها فهم مسيرة ابن رشد العلمية وعلاقته بملوك الموحدين وأمرائهم. يتعلق الأمر بتاريخ هذا الاستقبال الذي خص به "أمير المؤمنين" أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن فيلسوفنا ابن رشد. لقد تناقل "الباحثون" – لست أدري مصدرهم غير اجتهادات بعض المستشرقين – أن اللقاء كان على عهد "الخليفة" أبي يعقوب المذكور، أي بعد سنة 558ه، السنة التي تولى فيها الخلافة عقب وفاة أبيه عبد المؤمن. ومن الباحثين من يؤرخ ذلك اللقاء بسنة 564ه، وهي السنة التي عين فيها الخليفة المذكور فيلسوفنا قاضيا على اشبيلية. (هل للمرة الأولى أم للمرة الثانية؟)

ونحن نكاد نقطع بخطأ هذه التواريخ:

- أولا لأن كلام ابن رشد يفيد بوضوح أن الأمير الموحدي لم يكن يعرفه من قبل، والا لما سأله عن اسمه واسم أبيه ونسبه. وهذا يدل على أن هذا اللقاء قد تم في وقت مبكر، أي في السنة الأولى أو الثانية من ولايته على اشبيلية. فابن طفيل كان قد التحق بهذا الأمير في السنة نفسها التي عينه والده عبد المؤمن واليا عليها، أي سنة 548ه. ولا يعقل أن يتأخر عشر سنين في تقديم ابن رشد للأمير المذكور وهو الذي كان يجمع حوله "المثقفين" خاصة الشباب منهم، فالأمير كان شابا في العشرين لما عين واليا على اشبيلية. وكان ابن طفيل نفسه في الأربعينات من عمره، وابن رشد في الثامنة والعشرين.

- ثانيا لأن الخليفة الموحدي عبد المؤمن والد أبي يعقوب يوسف المذكور والمؤسس الفعلي للدولة الموحدية كان قد استدعى ابن رشد الى مراكش عام 548ه ليكون عضوا في اللجنة التي كلفها بوضع نظام للتعليم في الدولة الفتية، كما ذكرنا. وتذكر بعض المصادر أنه "تولى القضاء في المغرب مع البقاء على القضاء في الأندلس وهو ابن سبع وعشرين سنة". والمقصود ببقائه على قضاء الأندلس: قضاء اشبيلية بالذات، فقد تولى القضاء فيها مرتين: المرة الأولى هي هذه والثانية ستكون سنة 565ه. واذن فلقد كان ابن رشد سنة 548ه شخصية علمية في مرتبة الذين يستشيرهم الخليفة، وكان قاضيا على اشبيلية في ذات الوقت، فلا يعقل أن يكون أول لقاء له مع ابن هذا الخليفة بعد تاريخ هذه الاستشارة وتوليه قضاء اشبيلية للمرة الأولى بأزيد من عشر سنوات: لقاء يسأله فيه عن اسمه واسم أبيه ونسبه الخ... كلا. ان لقاء ابن رشد بالأمير الموحدي، بتوسط ابن طفيل، لابد أن يكون قد تم قريبا من السنة التي عين فيها هذا الأمير واليا على اشبيلية وهي سنة 548ه أو سنة 551ه، حسب الروايات.

- ثالثا ان عبارة ابن رشد التي يقول فيها "فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة"، لا يمكن أن تصدر عنه الا في وقت لم يكن يعرف الأمير عنه بعد أنه يشتغل بالفلسفة، وهو ما يستقيم اذا جعلنا تاريخ اللقاء هو سنة 548ه. أما في سنة 558ه وما بعدها فقد كان ابن رشد قد قطع أشواطا في التأليف في الفلسفة و"علوم الأوائل"، فقد ألف "الضروري في المنطق" و"الضروري في أصول الفقه" سنة 552ه و"جوامع فلسفة أرسطو" سنة 554ه (بتأريخه هو)، كما ألف "كتاب الكليات في الطب" سنة 557ه. فكيف يجوز أن يقول ابن رشد بعد هذه التآليف كلها: "أدركني الحياءوالخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة"! كلا، ان اللقاء بين ابن رشد و"الأمير" تم يوم كان هذا الأخير واليا على اشبيلية، وفي السنة الأولى من ولايته. أما عبارة "لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب... "الواردة في النص أعلاه فهي معاصرة لزمن حكاية ابن رشد لوقائع اللقاء وليس لزمن اللقاء.

ان الملاحظات الثلاث التي سجلناها أعلاه تحتم علينا القول ان ابن رشد فاه بهذه العبارة، الى أحد تلامذته، بعد تاريخ اللقاء بمدة طويلة، أي في الوقت الذي كان فيه "أبو يعقوب" المذكور خليفة وأميرا للمؤمنين فعلا. ولم يكن من الممكن آنذاك أن يتحدث عنه بغير لقبه الرسمي أعني "أمير المؤمنين"، - خصوصا وقد كان طبيبا له – حتى ولو كان يتحدث عن وقائع حدثت و"أمير المؤمنين" المذكور ما يزال مجرد أمير، لم يتول الخلافة بعد.

واذا أضفنا الى ذلك ما أشرنا اليه قبل من كون بعض الروايات تذكر أن ابن رشد غادر مسقط رأسه قرطبة ليلتحق بهذا الأمير في أشبيلية عندما كان عمره ثلاثين سنة (أي حوالي 548 – 549 – 550ه) استطعنا أن نستنتج، بل نؤكد ونجزم، أن اللقاء الذي تحدث عنه ابن رشد في النص الذي أورده المراكشي على لسانه كان خلال الفترة نفسها. ومعلوم أن هذا الأمير هو الذي كلف ابن رشد بتلخيص كتب أرسطو كما سنفصل القول في الفصل القادم. كما عينه طبيبا له الى جانب ابن طفيل وولاه، حين صار خليفة، قضاء اشبيلية – للمرة الثانية – سنة 565ه ثم قاضي قرطبة سنة 576ه.

فكيف كان تقدير ابن رشد لسياسة هذا الأمير؟

4- ثناء ابن رشد على عهد الأمير المتنور

نستطيع أن نتبين من بعض نصوص فيلسوفنا رضاه على السياسة الثقافية لهذا الأمير المتنور وثناءه عليها، ومع أنها نصوص مقتضبة وقصيرة فانها ذات قيمة كبرى خصوصا وفيلسوفنا من عادته أنه يزن كلامه ويتوخى فائض المعنى على فائض الألفاظ. وأول ما ينبغي ابرازه في هذا الصدد شهادة ابن رشد لهذا الأمير بالاطلاع على آراء الفلاسفة في أهم مسألة اعترضت الفكر الاسلامي وهي ما عبر عنه ابن رشد ب"آرائهم في السماء"- والمقصود مسألة قدم العالم - وأن هذا الأمير أخذ يعرض "ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الاسلام عليهم". ويضيف فيلسوف قرطبة قائلا: "فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له".

تلك هي شهادة ابن رشد لهذا الأمير، وهو ما يزال شابا يتطلع الى نشر الفكر الفلسفي والعلمي بين الناس معبرا عن رغبته تلك لصديقه وملازمه ابن طفيل الذي نقل تلك الرغبة الى ابن رشد طالبا منه الانكباب على شرح أرسطو وتقريبه الى أفهام عامة الناس – أعني المتعلمين – كما سنرى ذلك بعد. ولم يتغير موقف هذا الأمير بعد أن تولى الخلافة، بل انه جعل من "اطلاق سراح" الفلسفة وعلومها وفسح المجال أمام الناس لتعلمها استرتيجية ثقافية له، وذلك بشهادة بن رشد نفسه حينما أثنى على عهده في خاتمة "فصل المقال" الذي رد فيه على تكفير الغزالي للفلاسفة، مدافعا عن شرعية النظر الفلسفي. يقول: "وقد رفع الله كثيرا من هذه الشرور والجهالات، والمسالك المضلات، بهذا الأمر الغالب، وطرق به الى كثير من الخيرات وبخاصة على الصنف الذين سلكوا مسلك النظر ورغبوا في معرفة الحق: وذلك أنه دعا الجمهور الى معرفة الله سبحانه الى طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين، وانحط عن تشغيب المتكلمين، ونبه الخواص على وجوب النظر التام في أصل الشريعة". ويقول في مقدمة شرحه لأرجوزة ابن سينا في الطب: "أما بعد حمد الله (...) فقد ذكرت بالمجلس العالي، مجلس السيد الأجل المعظم الموقر أبي الربيع (بن عبد الله بن عبد المؤمن) الأرجوزة المنسوبة الى ابن سينا في الطب (...) فأمروا أدام الله تأييدهم، لما جبلوا عليه من الرغبة في العلم وخصوا به من ايثار الناس بالخير، أن نشرح ألفاظها شرحا يبلغ به الغرض المقصود منها"، وكان ذلك سنة 575ه وهي السنة نفسها التي كان ابن رشد فرغ فيها من تأليف كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة"، مباشرة بعد" فصل المقال"، أي زمن الخليفة المتنور أبو يعقوب. 
وهنا لابد من ابداء الملاحظة التالية: أرخ ابن رشد كتابه " الكشف عن مناهج الأدلة" بسنة 575ه، ولكن دون أن يذكر مكان الفراغ منه. وبالمقابل أرخ مقالته "في جوهر الفلك" بسنة 774ه بمراكش. وتجمع الفهارس الحديثة على أن تاريخ تأليف "فصل المقال" هو سنة 574ه، أي في السنة نفسها التي كان فيها بمراكش مع الخليفة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل هناك علاقة ما بين وجود ابن رشد في مراكش مع الخليفة، في السنة التي انتهى فيها من كتابه "فصل المقال" و"الكشف عن مناهج الأدلة"، وبين كتابة هذين الكتابين والعبارات التي ختم بها "فصل المقال" في الثناء على السياسة الثقافية للدولة؟

نحن لا نستبعد أن يكون قد كتبهما بطلب من هذا الأمير المتنور أو من بعض الأمراء وهو ما يبرر تلك الخاتمة التي أنهى بها "فصل المقال". وقد عودنا ابن رشد أن لا يذكر أهل الدولة في كتبه الا عندما يكون الكتاب بطلب من أحدهم، فيكون ذكرهم من مقتضيات الأدب والبروتوكول، كما هو الشأن في رسالته المعروفة ب"الضميمة" وفي شرح أرجوزة ابن سينا وأيضا في "الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون". ومهما يكن فان ثناء ابن رشد على هذا الأمير المتنور، في العبارات المذكورة، ليس الا " ما قل ودل" في هذا الشأن. فاجماع المؤرخين منعقد على الاشادة بأبي يعقوب كواحد من الملوك "المتنورين" الذين عرفوا بالاهتمام بالعلم والعلماء وبفكر متحرر. يقول عنه صاحب "المعجب"، الذي عاصر أبناءه وحاشيته ورجال الدولة ومنهم استقى أخباره، قال: كان "رقيق حواشي اللسان، حلو الألفاظ، حسن الحديث، طيب المجالسة، أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم لأيامها ومآثرها وجميع أخبارها في الجاهلية والاسلام. صرف عنايته الى ذلك أيام كونه باشبيلية واليا عليها في حياة أبيه، ولقي بها رجالا من أهل علم اللغة والنحو والقرآن (...) وكان شديد الملوكية، بعيد الهمة سخيا جوادا، استغنى الناس في أيامه وكثرت في أيديهم الأموال؛ هذا مع ايثار للعلم شديد، وتعطش اليه مفرط. صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين – الشك مني: اما البخاري أو مسلم، وأغلب الظن أنه البخاري – حفظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن. هذا مع ذكر جمل من الفقه. وكان له مشاركة في علم الأدب، واتساع في حفظ اللغة، وتبحر في علم النحو، حسبما تقدم. ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته الى تعلم الفلسفة فجمع كثيرا من أجزائها. وبدأ من ذلك بعلم الطب، فاستظهر من الكتاب المعروف بالملكي أكثره مما يتعلق بالعلم خاصة دون العمل، ثم تخطى ذلك الى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة. وأمر بجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي (...) ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر، الى أن اجتمع له منها ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب". ويختم صاحب "المعجب" كلامه عن أبي يعقوب يوسف بالقول: " وبالجملة لم يكن في بني عبد المؤمن، فيمن تقدم منهم وتأخر، ملك على الحقيقة غير أبي يعقوب ".

5- الموحدون في المخيال الشعبي بمصر وقد ترددت أصداء ما اشتهر به أبو يعقوب من العلم والعدل، وتميز به عهده من الأمن والحزم، في أرجاء كثيرة من العالم العربي والاسلامي. من ذلك اشادة الرحالة ابن جبير بالموحدين اشادة يطبعها الحماس الكبير لسلوكهم ومنجزاتهم وجهادهم. يقول: "وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا اسلام الا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة لا بنيات فيها؛ وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية فأهواء وبدع (...) كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه الا عند الموحدين أعزهم الله: فهم أيمة العدل في هذا الزمان. وكل ما سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة: يعشرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم، ويركبون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها. اللهم الا هذا السلطان العادل صلاح الدين "الأيوبي الذي ذكر سيرته ومناقبه. ولا شك أن استثناء ابن جبير لصلاح الدين يضفي المصداقية على ما قاله بصدد الموحدين.

ويحكي ابن جبير كيف أن الناس في مصر كانوا يتطلعون الى "الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد (مصر) فهم يستطلعون بها صبحا جليا ويقطعون بصحتها ويرتقبونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في انجاز وعدها، شاهدنا من ذلك بالاسكندرية ومصر (القاهرة) وسواهما مباشرة وسماعا (...) ونمي الينا أن بعض فقهاء البلاد المذكورة وزعمائها قد حبروا خطبا أعدها للقيام بين يدي أمير المؤمنين". وأمير المؤمنين هذا هو أبو يعقوب يوسف بالذات، فابن جبير الذي يحكي عن مشاهداته في مصر مر بهذه البلاد سنة 579 ه والخليفة في المغرب يومئذ هذا "الأمير المتنور".

هذا عن عهد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الذي يدين له التاريخ بالكثير مما يمكن أن يقال عن أهمية ابن رشد في الفكر العربي والفكر العالمي. أما في عهد ابنه الذي خلفه من بعده وهو يعقوب المنصور فالأمر يختلف، على الأقل في المجال الذي يعنينا هنا، مجال الفكر والثقافة.

مقتطف من كتاب الدكتور محمد عابد الجابري