Georges Chebli

الخَيال الشِّعري وتَفَوُّقُ التأثير

طَيَّبَ الله ثَرى الخَيال، هذا الذي نَفَقَ سِعره في التآليف المُستَحدِثَة، بعد أن كان يشغلُ عُقود الشِّعر ويستوفي أقسامَ الحُسن فيها، ويَنظّمها نَظمَ الدُرّ، ويُخرج فيها بدائعَ الصُّوَر وهي أحسنُ من مَطالع الأنوار، حتى قيل: إنّ الشِّعر هو صورةٌ ناطقة. ومن هنا، ليس غريباً أنّ الخَيال هو عَيش الشِّعر، به يتأنّق ويزهو، وهو منه مثل رقعة الشمس في خدود المِلاح، ومن دونه ينتقلُ غيرَ مَغفورٍ له الى مأوى النّسيان.

الخيال الذي يفتح باب البديع، لم يكن يوماً من الغرباء الطارئين على الشِّعر الزُّلال، بل هو المُقيمُ الدائم في ثناياه، أو هو غُرَّته وصَدر جودته، فلا يتمّ جَمالٌ بدونه. وهو ليس قِشراً، على ما جاء في جُملة ملاحظاتٍ تصَيَّدها مُتَصَنِّعو المعرفة في النَّظم، ليُستَغنى عنه فيَتركَ المَجال للحَشو الذي هو أَجوَد منه، على حَدِّهم. وأكثر من ذلك، فقد تطرَّفَت ثُلَّةٌ من أصحابِ المعنى، والتي تفترض أنّ نعيم الشِّعر بالعقل، فاعتبرت الفِكَرَ في الشِّعر تَعَفُّفاً بالحَلال لأنها من صُنع العقل، بينما الحَرام هو في التَّوق الى المَجاز المُستَقى من وشوشات الجِنّ، والذي ليس للعقل فيه ظِلٌ ولا شَخص. وفي هذا افتراءٌ غير مُستَملَح، وبُهتانٌ تستنكره مَذاهب النَّقد الأخلاقي نفسُها، أو هو ضَعف في التَّمييز بين غاية الشِّعر وغاية الأخلاق.

ليس الخَيال مجرَّد سياقٍ فنّي لتشكيل الصُّوَر، وليس شَطحات فانتيزيّة هدفُها الزَّخرفة الجوفاء، إنّه الطابعُ المِعماريّ للشِّعر، أَتجلّى بصورة بَصَريّة أو تَجاوزَ المفهوم البَصَري وصِيَغَ الرّموز من استعارات تجريدية بحتة، أو امتزج عنده مَصدرا الإيحاء الخارجيّ والذّاتي ليصبح كُلاً ناجِزاً. من هنا، فالخيال الشِّعري "مادةٌ " لها خصائص الدقّة والملاحظة والتَّوازن والإلمام بِفنيّات التَّصوير وتنسيق الأَشكال، فلذلك قَلَّ مُحترِفوه. والحال أنّ العلاقة بين الشِّعر والخيال هي علاقةٌ تَلازُمية، فالخيال هو الجانب الأقوى في شخصية الشِّعر الذي يأخذ منه وقوده، من هنا، فهو وحده، من بين مقوّمات الشِّعر الأخرى، يستطيع أن يجعل هذا الأخير يشعر بالرِّضا.

الخيال الشِّعريّ هو فنّ النَّقش، كما تُكَحَّلُ حُورُ العيون، لذا هو لَمسةُ الشِّعر الراقية ونَسمة التَّجديد التي تنقله الى أُفُق أَوسع، وليس فضلة لسانٍ أو كسادَ كلام. لذلك أعطى الشِّعر للخيال شأناً غير قليل لأنّ مَزاجَه لا يعتدل إلاّ به، وقد جعله من الغايات التي يسمو إليها، فلم تكن نظرته اليه إلاّ ضَرباً من الشَّغَف، حتى لا يُقال ضَربٌ من الشَّهوة، لأنه أَبعدَه عن النَمَطيّة. فالقَولَبة هي مَقتل الشِّعر، ويُقصَد بذلك الحيثية المُستَنقَعيّة أو الإصرار على تصنيع الشّكل التَّكراري، هذا الذي ينوب عن الإبداع الإبتكاري الذي يَخرق النواميس المُستَهلَكة، تَوصّلاً الى نَواتِجَ فيها من الفرادة الكَمّ الواسع، ما يساهمُ في "حَوضَرَة" الشِّعر.

وبالرَّغم من أنّ مَشهديّة ذات الشّاعر تتحقّق أكثرَ فأكثر في الصّورة، وبالرَّغم من التَّركيز على مُغازلة هذه الصّورة التي هي أَندى على قلب الشِّعر من مُغازلة المَعشوق، فإنّ ذلك لا يعني بتاتاً، ومن باب وَضع الحقّ في نِصابه، أنّ تَوقّد الخواطر ولُطف الأفكار وإفصاح المشاعر ما هي إلاّ مُصطَلحات غائمة، وليس لها ارتباطٌ أو نَصيب في البناء الشِّعري. فهذه المقوِّمات ليست، في أيّ حال، مجرَّد شواهد ضئيلة في انتظام رسالة الشِّعر، بل هي بعيدة الغَور فيها، تَشبكُ غيرَها كما يُنَظَّمُ العِقد من حبّات الجُمان. لذلك، فأيّ تمثيل أَصدقُ من تمثيل القصيدة بالإنسان في اتّصال بعض أعضائه ببعض.

لقد اتّفقت الفلسفة اليونانية والجاحظ على أنّ الشّاعر رسّام، وأنّ " الشِّعرَ ضربٌ من التَّصوير "، أو هو " رسمٌ بالكلمات". ورأى البعض أنّ الشّاعر صائغ وأنّ الصورة حِلية، وبقَدر ما تَحظى الحِلية بالحَلاوة تُبرهِن على براعة الصّائغ. من هنا، فالخيال أَصابعُ تُمسكُ بريشةٍ وتبتكر الصّورة، هذه التي ليست سوى وَمضَة اللّحظة، نَفعُها غرضٌ شعوريّ نزيه هو الإمتاع المباشَر بالتَّصريح أو بالرَّمز، أو إثارة انطباعات تُنظَر بالأَعين أو تُدرَك بالذات. إنّ هذه الشَّخصَنة تنقل الصورة من مجرّد عملٍ بَلاغيّ تَزيينيّ الى فِعلِ تَسامٍ على الواقع، وتَثِبُ بعاديّاته الشّائعة الى ما يتفوَّقُ عليها بالجمالية وحسّ الذَّوق.

يُخطئ مَن يَحسب أنّ إحالة المعاني الى فنّ التَّصوير، هي ضربٌ من الضِّيق في منظومة الإستيعاب لدى القارئ أو السّامع. كما يُخطئ مَن يعتبر أنّ الشِّعر المُتراكِم الصُّوَر يُلقي بكَلكله فوق الصّدر فلا يستطيع هذا أن يتنفّس تَلَذُّذاً. إنّ الصّورة التي هي أَهمُّ وسيلة للتأثير في الشِّعر، لا تخضع لمبدأ الإحصاء، وهي لشفافيّتها، الأَسرعُ ممازَجَةً للقلب، تصله بها أسلاك شعورية، فتجعله في حالة انفعال أمام مشهد لا ينظره بل يتمثّله وربّما يعانيه. وأكثر من ذلك، فديناميّة الخيال في الذِهن بمقدورها أن تصل الى حَدّ ابتكار صُوَر لها صِلة بكلّ الإحساسات التي يتكوّن منها الإدراك البشريّ، وبذلك يكون الإنفعال كاملاً.

الخَيال هو كاتبُ رُكن الشِّعر يُعاذُ به، فلا ينازعُه في مملكة القَريض مُنازِع، وإن غاب شَرَقَ الشِّعر بالحَسرة، ولو قَدرَ على النُّطقِ لَأَردفَ: كرِهتُ المَعادَ بعد فِراقه، وإنّي لَأَصلَحُ للنّار وقوداً. لقد قيل قديماً: لولا النِّمس لَأَكلت الثَّعابين أهلَ مصر، واليوم نقول: لولا الخَيال لَحُبِسَ الشِّعر في جَوف الحوت أبداً، ولكنْ من دون أُعجوبة يونان النبيّ.