Anis Freiha

د. متري سليم بولس

د. متري سليم بولس

نشأة انيس فريحة قروية جبلية، واتصاله بالقرية استمر طوال عمره. حقا  قدر له سكنى المدينة، والطواف في الآفاق شرقا  وغرباً، الا ان العودة الى القرية كانت من ثوابت سلوكه، بل ان الانتماء الى القرية هو السمة الغالبة على عاطفته وفكره وتصرفه، ويمكن القول ان انيس فريحة لم يبتعد عن القرية أو يغترب، بل حمل القرية معه أنى حل واينما رحل، قال في مقدمة سيرته الذاتية قبل ان انسى: "... أنني رجل من عامة الناس. كنت دوماً أقول عن نفسي اني دروبش من قرية لبنانية..."

وكان والدي معلم أولاد القرية. ومالت نفسي الى التعليم، وأملت أن أصبح يوماً معلماً. وهكذا كان. (انيس فريحة، قبل ان انسى، ص8.)

واردف في مجموعة أقاصيصه "اسمع يا رضا"، فقال مخاطباً ابنه رضا: "تسالني لماذا أحب الضيعة...

أظن أن الله يغرس فينا حب البيت الأول. ولا تنسى أني أحب الضيعة لأنها ضيعة أمي وأبي، والأم لا تنسى، فان الدنيا أم. والأب لا ينسى، فان صورته تبقى معنا الى أن نموت..." (انيس فريحة، اسمع يا رضا، ص 14.)

وختم: "أما لبناننا فانه لا يزال لبنان القرية، لبنان الجبل". (المصدر نفسه، ص4.)
وأهمية أنيس فريحة لا تقتصر على ارتباطه بقريته ووفائه لانتمائه، فهو بالاضافة الى ذلك، جعل القرية موضوع علمه، فما كان بالنسبة اليه نمط عيش وأسلوب حياة صار بكده وجهده حقل معرفة، واخصاص، ومثل وابداع. ما عاشه انيس فريحة بالفطرة والسليقة غير واع حوله واعياً الى "مراقبة، ووصف، وتدوين، وتجربة، وافتراض، وبرهنة ثم اثبات" (انيس فريحة، اللهجات واسلوب دراستها، ص115.) وهذه من صفات العالم، وسمات العلم. ان أنيس فريحة القروي البسيط تحول بالاكتساب الى عالم بشؤون القرية، ظل بسيطاً، ولم ينل من علمه فراغ الكبرياء.

وأنيس فريحة، الى كونه عالماً، فنان مبدع تمثلت القرية اللبنانية "مأكلها ومشربها، شقاؤها وفرحها، فقرها وحرمانها، سكانها، وعاداتهم، واعيادهم، وشؤون عيشهم" (انيس فريحة، قبل ان انسى، ص 14.) في اقاصيص له راقت الصغير والكبير، والمقيم والمغترب.

ويظهر علم أنيس فريحة، أول ما يظهر، في كتابه "حضارة في طريق الزوال: القرية اللبنانية". ومادة هذا الكتاب مستمدة اساساً من خبرة أنيس فريحة الشخصية، قال: "... هي أمور لصيقة بحياتي، اختبارات يومية تلازم حياتي! فانني ابن القرية، وقد ساعدت امي في تشريح التين، وسلق القمح، وفرك الكشك... وذهبت الى الحقل، وجمعت الزعتر والسماق، واجلستنا حول الجرن لندق الزعتر والسماق. (انيس فريحة، اسمع يا رضا، ص8)

وعاد ثانية الى هذا المصدر من المعلومات المعتمدة على الخبرة الشخصية، ولكن من وجهة مغايرة، فقال: "... المصادر التي اعتمدناها: معرفتنا الشخصية للقرية اللبنانية، وشيوخ القرية وعجائزها.

ولدت في قرية نائية احتفظت بالطابع اللبناني القديم – راس المتن. ونشأت في بيت فلاح عتيق، وعشت في القرية الى أن شببت، وقمت بأعمال يقومون بها في القرية، ولعبت العابها وعيدت أعيادها، وسهرت سهراتها أمام الموقد، وعلى السطيحة، فأصبح ما خبرته وسمعته، وشعرت به جزءاً من حياتي الروحية والعقلية" (انيس فريحة، حضارة في طريق الزوال: القرية اللبنانية، ص ج.)

ونلفت الى اضافته مصدراً ثانياً الى خبرته الشخصية وهو ما استمده من القرويين الطاعنين في السن، وهذا الأمر قاده الى ضرورة التعويل على طرائف العلم للتيقن من صحة ما روى له، قال: "أما ما سمعته من الشيوخ والعجائز فأكثره صحح، ولكن زيادة في التأكيد كنت أعرض معلوماتي على أكثر من رجل، وكنت أقابل وكنت أقارن، وكنت أغربل... اننا حرمنا أن ندون ما نظنه مشتركاً عاماً، أو ما يكاد يكون عاماً مشتركاً بين سكان لبنان القدماء: النصارى والدروز".( انيس فريحة، حضارة في طريق الزوال: القرية اللبنانية، ص ج.)

وبالاضافة الى السبب الشخصي الذاتي حمله على اختيار قريته نطاقاً لدراسته، ثمة الأسباب الموضوعية الغيرية المتعلقة بحقل الدراسة نفسه، فقد اختار المتن، المتن الأعلى والمتن الشمالي، مركزاً لدراسته، وعلل اختياره بقوله:

"... على وجه التخصيص اتخذنا بلدتنا رأس المتن... مركزاً لبحثنا لأنه بلد يقطنه الدروز والنصارى. وهل أفضل من قرية طفولة المرء مصدراً للعادات والخرافات والاساطير والتقاليد؟ وفضلاً عن كونها قرية طفولتنا، فانها قرية لم تتأثر بعد بوقع الحضارة الغربية المجتاحة، بل تعيش، الى حد كبير في لبنان القديم: لبنان الآباء والجدود". (انيس فريحة، حضارة في طريق الزوال: القرية اللبنانية، ص ه.).

ويلي التيقن من صحة المادة المجموعة بالخبرة الشخصية، والتأكد الموضوعي عملية التدوين والتسجيل، قال: "وانها لجريمة علينا، نحن الذين عشنا هذا الفولكلور، ان نتقاعس عن جمعه، وتدوينه للاجيال الطالعة كجزء من تاريخنا الاجتماعي الروحي... وما كنا من ابناء القرية، وبما أننا من الذين يحبون القرية اللبنانية، وبما أن صلتنا بالقرية لم تنفصم بعد، وبما اننا نميل الى الدراسات الفولكلورية، أقدمنا على تدوين ما عشناه في قرية طفولتنا... وعلى تسجيل ما أخبرنا به شيوخ قريتنا وعجائزها" (المصدر نفسه، ص ب.).

و"هذا الفولكلور مرآة تعكس لنا روح لبنان القديم، روح القرية، ولبنان مجموعة قرى، فاذا أردنا فهم لبنان على حقيقته، يجب أن نتفهم روح شعبه الأصيل: أهل القرى (انيس فريحة، حضارة في طريق الزوال: القرية اللبنانية، ص و).

ونلفت الى استعماله مصطلحاً علمياً هو الفولكلور، واعتماد مصطلح الفولكلور قاده الى تحديد مضمون هذا المصطلح، وهو يعني معارف الشعب، ويشمل "... جميع المعارف البدائية، والعادات، والتقاليد، والسجايا، والمعتقدات، والاساطير، والخرافات، والاقاصيص، والامثال، والشعر، العامي، والالعاب، والمسليات، والاعياد، والحفلات، والمواسم التي هي خارج نطاق... المؤسسات الرسمية... (المصدر نفسه، ص1.)

ثم بين علاقة الفولكلور بسائر العلوم الأخرى، فهو يقع ضمن العلوم الاجتماعية، ويتعلق بعلم الأعراق البشرية (الاثنولوجيا) وعلم الانسان الطبيعي (الانثروبولوجيا)، وعلم النفس، والتاريخ، والدين، وأنهى بقوله: "أما نحن أتباع المدرسة الحديثة، فاننا لا نعنى بالدرجة الأولى بالتعليل والتفسير، بل نعنى اولاً: بجمع الفولكلور قبل اندثاره وتبويبه ووصفه ودرسه بالمقابلة. هدفنا الأمانة في الجمع، والدقة في التدوين، والوصف، ونترك لعلماء الاجتماع والبسيكولوجيا والتاريخ والدين أن يفسروا، وأن يعللوا وأن يستنتجوا وأن يأولوا. (انيس فريحة، حضارة في طريق الزوال: القرية اللبنانية، ص 9.).

وخص أنيس فريحة مجتمع القرية ب 16 فصلاً من كتابه، بدأها بالفضائل اللبنانية وأنهاها بالعقلية اللبنانية، وبين هذين الفصلين درس تكوين القرية الجغرافي، وعمارتها، ووظائف هذه العمارة، ومؤنها، وتدبير المنزل، والمآكل القروية، والزراعة، والأعراس وما يرافقها، والولادة وما يصحبها، والموت والدفن، و"العديات"، وأقاصيص الصغار، والعاب القرية، وأعيادها، وشعر القوال فيها، ومعتقداتها، وخرافاتها، واللياقات في بعض مناسباتها، وكان في كل هذا واقعياً، لا يسعى الى اضفاء المثالية على القرية، الا أننا نلحظ تحرجه من ذكر عيوب اهلها.

واهتمام أنيس فريحة بحضارة القرية قاده الى الاهتمام بلهجة أهلها، أو لغتهم كما يقول، كما أنه لاحظ شيوع الأمثال على السنتهم، واعتقادهم أن "المثل ما قال شي كذب" (انيس فريحة، معجم الامثال اللبنانية الحديثة، ص 642.) وأن "أمثال العوام ملح الكلام" (المصدر نفسه، ص 124.) لأنها تجعل الكلام مستساغاً، مما حداه على جمع الأمثال المتداولة أو المعروفة من ابناء قريته، وورايتها، وترجمتها الى الانكليزية، واصدارها عام 1974 في معجم ضم 4248 من أصل خمسة آلاف مثل ونيف، وقد رتبها على حروف الألفباء.

وقدم أنيس فريحة لمعجمه بالانكليزية، ثم ترجم المقدمة الى العربية بتصرف، واصدرها في كتابه "دراسات في التاريخ" (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 67 – 80.).

ونقف أولاً عند اهتمامه بتحديد المثل من حيث ايجازه، وأنطواؤه على حكمة مبنية على الاختبار، وشيوعه أوشعبيته، وحسن اصابته في النقد أو العظة، والجد، والهزء، وصياغته في جملة تتضمن نكتة، أو تشبيهاً، أو استعادة، ان "المثل جملة شائعة ممهورة بالطابع الشعبي، وتحتوي على حكمة، أو على اختبار انساني" (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 99.).

ويبحث في أصل المثل أومصدره، فمن الأمثال ما مصدره الانسان العادي المتعامل مع الواقع، ومثاله "عصفور باليد ولا عشرة ع الشجرة (انيس فريحة، معجم الامثال اللبنانية الحديثة، ص 432.) والانسان المفكر، ومثاله" أعرف نفسك (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 70.)، والآداب الكلاسيكية القديمة كاليوناني واللاتيني والعربي، والكتب الدينية كالتوراة والانجيل والقرآن. وبعض الامثال هو تقرير حقائق، مثل "عيش كثير بتسمع كثير" (المصدر نفسه، ص 72.)، وثمة امثال مبنية على حادثة تاريخية أو حكاية، مثل "عنزة ولو طارت" (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 72.)، ومفادها ان راعيين اختلفا في حقيقة شيء أسود في تل مقابل، فقال أحدهما انه شوحة، وقال الآخر انه عنزة، واذا بالشيء يطير، فقال أحد الرفيقين "ألم أقل لك انها شوحة! قال له صاحبه: كلا هي عنزة ولو طارت" ((1) المصدر نفسه، ص 73.).

وقد يكون أصل المثل سؤالاً، وبيانه: "قال له شو أحلى من العسل؟ قال خل بلاش!" (المصدر نفسه، ص 73 – 74.)، أو جزءاً من بيت شعر كالصدر أو العجز، ومثاله: "معايب قوم عند قوم فوايد" (انيس فريحة، معجم الامثال اللبنانية الحديثة، ص 658.)، والمثل قد يولد المثل قياساً عليه.

وينظر أنيس فريحة في محتويات الأمثال، ويحاول تصنيفها ضمن أبواب، مثل باب الحقائق العامة، والاحكام العادية، ومنه: "حمار طيب ولا فيلسوف ميت" أو "كلب داير ولا سبع مربوط" (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 75.).

وباب الرواسم أو الكليشيات التي يلجأ اليها المتكلم في مناسبات خاصة، مثل من "خلف ما مات (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 76.)، وتقال لتعزية اهل الميت. وباب الشرع والقوانين، ومنها ما هو مستمد من الكتب الدينية، وباب العادات والتقاليد، مثل القول في اكرام الكبار في السن، والاستهداء بآرائهم: "اللي ما عنده كبير يشتري له كبير" (انيس فريحة، معجم الامثال اللبنانية الحديثة، ص 177.). وباب الخرافات والمعتقدات: "عيون زرق وسنان فرق" (المصدر نفسه، ص 453.). وباب الطب: "آخر الدوا الكي" أو"تغد وتمدد، تعش وتمش" (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 77.). وباب الطقس "شباط ما ع كلامه رباط" أو "تشرين ثاني صيف ثاني" ((1) انيس فريحة، معجم الامثال اللبنانية الحديثة، ص 361، 225.).

ويحار أنيس فريحة في تعليل ظاهرة التناقض في الأمثال العامية، فبعضها يؤكد أمراً وبعضها الآخر ينفي الامر نفسه، وينفر من الأمثال التي يشتم منها ملامح من الوصولية، وانعدام الاخلاق، واختلال الايمان، قال في الصدد هذا: "اذا كانت الأمثال مرآة تنعكس عنها نفسية الامة، فاننا قوم على كثير من التناقض، والفوضى في أخلاقتنا وعاداتنا... الحقيقة أنني في حيرة من هذه الأمثال... فان فيها الخير والتقوى، وفيها الشر والكفر، فيه النجدة والرحمة، وفيها الجبن واللؤم، فيها الايمان بالقضاء والقدر، وفيها الايمان بحرية الارادة، فيها الاستسلام المطلق، وفيها التمرد، فيها المحبة والألفة، وفيها البغض والنفرة، فيها الكرم والتضحية، وفيها البخل والأنانية..."(انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 78 – 79.)

ويورد أنيس فريحة عدداً كبيراً من الأمثلة التي تدعم وجهة نظره، وهذا بعضها:

"اللي بياخذ امي بصير (بسيمه) عمي" (انيس فريحة، معجم الامثال اللبنانية الحديثة، ص 87.).
"الايد اللي ما فيك تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر" (المصدر نفسه، ص 151.).
"ربنا بيضرب بالشمال وبيستلقي (وبيستلقى) باليمين" (المصدر نفسه، ص 323.).
"بيعطي رزقه لأنحس خلقه" (المصدر نفسه، ص 214).
"الصلاة خير من النوم، قال: جربنا هذا وجربنا هداك (المصدر نفسه، ص 393.).
"صوم وصل بتركبك القلة" (رزقك بولي) (المصدر نفسه، ص 395.).
"جارك القريب ولا خيك البعيد" (المصدر نفسه، ص 236.).
"البغض بين القرايب (الاهل) والحسد بين الجيران" (انيس فريحة، معجم الامثال اللبنانية الحديثة، ص 188).
"يا جاري أنت بدارك وأنا بداري (أنت بحالك وأنا بحالي) (المصدر نفسه، ص 734).
"الأقارب عقارب" (المصدر نفسه، ص 56).
"اتق شر من أحسنت اليه" (المصدر نفسه، ص 15).

ويسعى أنيس فريحة الى ايجاد وتفسير لهذا التناقض والنزوع اللا أخلاقي أحياناً الذي تعكسه امثالنا الشعبية، فيعزوه تارة الى اضطراب في الحياة الروحية، وقلق في الأحوال المعاشية، ويتساءل طوراً هل يمكن أن يكون هذا التناقض صفةً ملازمة لحياتنا؟ وهل المثل من وضع الناس كمجموع، أو من وضع فرد في حالة نفسية ما؟... (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 79). اليست الامثال "...ترسبات مدنيات متعاقبة سامية بدوية، آرامية حضرية، أغريقية لاتينية، تركية مغولية؟... وهل عرفت هذه البقعة من الأرض معنى الاستقرار؟ هل نعمت في تاريخها بالطمأنينة؟ هل عرفت السلام والوئام؟ هل عرفت المحبة؟"

اميل الى الاعتقاد ان الامثال هذه تمثل استجابة الناس لتقلبات الحياة واضطرابها في الشرق (انيس فريحة، دراسات في التاريخ، ص 79 – 80).

ذكرت أن أنيس فريحة اهتم بلهجة قريته، بل انه قام بدراستها، وتنتمي دراسته الى طريقة المنح الميداني، فلم ينطلق من معاجم سابقة، بل انطلق من الواقع الاجتماعي، فسمع الناس يتكلمون، ويلفظون الكلمات، ويؤلفون الجمل، ويوردون المفردات، ويحددون المعاني. وقد جمع المادة اللغوية من بقعة محددة هي رأس المتن، واختار عدة مخبرين Informers تتسم لغتهم بصفاء اللهجة القروية، واستثنى نفسه لانه عاش في المدينة والجامعة واغترب الى العراق، ولكونه مدرساً يحرص على صفاء لغته، ولخشيته ان تكون لغته قد تأثرت بثقافته وبالبيئات اللغوية التي عاش فيها (انيس فريحة، اللهجات واسلوب دراستها، ص 118).

وعدد المخبرين لمعرفته أن الفروق الدينية والاجتماعية تتبعها فروق لغوية، وعول على التسجيل الآلي ليتمكن من سماع اللهجة مراراً، وحرص على أن يكون الكلام طبيعياً، فلا تكلف فيه، ولا تعمد، ولا حذلقة، واعتمد الاستقراء أي الانطلاق من الظواهر الخاصة للوصول الى القوانين العامة، والوصف أي عدم الحكم على الكلام من معيار قيمي مسبق، بل صدر عن موقف موضوعي محايد يصف الظواهر، ويبوبها، ويفسر مرجعيتها.

ولكونه مؤرخاً ادرك ان اللغة الاصلية في لبنان هي الآرامية، ولكن لغات أخرى متعددة، مصرية، حثية، بابلية، آشورية، فارسية، اغريقية، لاتينية، عربية، تركية، تعاقبت على لبنان، ثم حلت اللغة العربية محل الآرامية، ولكن آثارها ما تزال بادية في اسماء المدن والقرى، وفي اللهجة العربية المحكية (انيس فريحة، اللهجات واسلوب دراستها، ص 130).

واضافة الى ما تلقفه من أفواه الناس أضاف الى مدونه دراسته "كراريس ومنشورات باللغة المحكية من قصص، وشعر زجلي، وصحافة محلية تظهر باللغة العامية" (انيس فريحة، معجم الالفاظ العامية، كلمة تمهيدية).

واعتمد في تحليل لهجة قريته تقنية المستويات أو ما أسماه ونهج المراتب، فانطلق من أدنى المستويات الى اعلاها بادئاً بمرتبة الصوت. وبما أن الكتابة العربية لا تدون الحركات المصوتة، ونظراً لكون الحركات فيها قاصرة على ثلاث: قصيرة هي ....... شاملة هي ....، فقد وضع رموزاً شكلية شاملة تمثل اصوات اللهجة المحكية بدقة، لا حظاً التغييرات التي تطرأ على الصوت تبعاً لوقوع صوت ما قبله أو بعده (انيس فريحة، اللهجات واسلوب دراستها، ص 120)، فلفظه في سارغير لفظه في صار، ولفظ.... في سور غيره في صور، ولفظ الياء في أي غيره في اي وفين، ولفظ الواو في أو غيره في أو وفي وا وفي لون العامية، وال ه الممالة في باب غير ال ه المفخمة في راح. وهذا ما حمله على اللجوء الى الحرف اللاتيني لتمثيل اصوات العامية.

وانتقل من مستوى الصوت الى مستوى الصرف Morphology أي المرتبة الثانية، فاهتم بشكل الكلمة وبنائها، والمتغيرات الطارئة عليها من مسابقات، ووسائط، ولواحق، وتصريف مع الضمائر، ومن اعلال وادغام، وتماثل، واقترح تقسيماً على أسس جديدة من ستة ابواب: الفعل – الاسم – الصفة – الضمير – الظروف – الأدوات (انيس فريحة، اللهجات واسلوب دراستها، ص 125).

وأهم ما أنجزه في مرتبة الصرف دراسته القيمة لأوزان الرباعي في اللغة العامية، فقد لاحظ ان العامية غنية باوزان الرباعي من مثل فعلل، مجمع مئات المفردات السائرة على لسان ابناء قريته، وحملها معه الى جامعة شيكاغو حيث تناولها بالدراسة، ونال بها شهادة الدكتوره (Quadrilaterals from the dialect of Ras al-Maten, Lebanon; University of Chicago, III, U.S.A.).

ولاحظ أن الأفعال الرباعية كثيرة في لبنان، وأن المجرد الثلاثي يصبح رباعياً باضافة حرف الى الثلاثي، وبعض الحروف التي تزاد هي: ي – و - ن – ر – م – ب – ش (أنيس فريحة، اللهجة واسلوب دراستها، ص 127). وهذه الأفعال الرباعية أدخلها في معجمه الخاص بالألفاظ العامية، ومن امثلتها.

فعبل (بزيادة ب) = غلبط.
شفعل (بزيادة س) = شقلب – شحرق.
فعلن (بزيادة ن) = حفرن – رهبن – روحن.
فيعل (بزيادة ي) = بيلط – سيهر – ليعب – نيزل.
فعول (بزيادة و) = دعوس – دحوش – شحوط – شعوط – بخوش.
فعمل (بزيادة م) = زعمط – شحمط.
فرعل (بزيادة ر) = برحش – شرقط – كرفت – طرنب.
فعلل (بزيادة ل) = زحلط.
فعتل (بزيادة ت) = شحتف.

وفي تناوله المستوى اللغوي الثالث أي مرتبة التراكيب Syntax، لاحظ أنيس فريحة أن الكثير من تراكيب العامية هو سرياني في الأصل، ومن هذا التركيب ما يعرف بلغة "الكوني البراغيث"، فان هذا التركيب سرياني فصيح، وكذلك القول "شفتو لخيك" و "اكلتها للتفاحة" فهذه كلمات عربية في تراكيب سريانية، وكذلك القول "بحب اشتغل وبريد آطل ولازم يجي" فحدف "أن" المثبتة في الفصحى كما في قولنا "يجب أن" متأثر بالتركيب السرياني (انيس فريحة، اللهجات واسلوب دراستها، ص 132 – 133).

وأصل الى نقطة أخيرة تتناول علاقة العامية بالفصحى، فقد واجه أنيس فريحة أربعة احتمالات في هذا الصدد: جعل الفصحى لغة تخاطب – ترك الحال على ما هي عليه – فرض لهجة قائمة – وضع لهجة موحدة، واختار الحل الاخير، وشرح ذلك بقوله: "...عندنا لغة عربية صرفة مشتركة بين الشعوب العربية خلقتها عوامل ثقافية واجتماعية وسياسية... وهي اللغة العربية المحكية التي يتكلم بها المصري المثقف والعراقي والسوري والفلسطيني عندما يضمهم مجتمع. وهي العربية المحكية التي تسمعها في أرض الجامعات العربية في مصر ودمشق وبغداد وبيروت. هي لغة النادي والصالون، وهي لغة المجتمع العربي الراقي التي خلقتها المدرسة والصحافة والاذاعة والسياحة والاصطياف والتجارة والتقارب السياسي والتعاون الاجتماعي... ان هذه اللهجة العربية المشتركة بين أفراد المجتمع الراقي ليست معربة، بل هي لهجة عامية بعيدة عن الاقليمية، وتعتمد على الفصحى في جميع مفرداتها، وفي تراكيبها وفي عباراتها... (انيس فريحة، نحو عربية قيسرة، ص 181).