Zohrab Keshishian

زوهراب في... حكاية حب لن تنتهي! - د. جوزف عساف

 

زوهراب في... حكاية حب لن تنتهي! - د. جوزف عساف

لست أظن ان الفنان زوهراب قد فكر كثيراً قبل ان يطلق على معرضه الجديد في صالة لي سيميز – هوليداي بيتش – نهر الكلب، اسم الحب، فلطالما كانت لوحات هذا الرسام شهادة للحب في كل الازمنة التي مر بها هو شخصياً ومرت بها معه لوحاته. واذا كان للحب، بالتاريخ وبالذات الانسانية، ازمنة ومواسم، بين رومانسية وواقعية ورمزية وسوريالية، مع كل التبدلات والتحولات التي عرفها هذا المفهوم، فان زوهراب ابقى للحب وهجه الأول وشهقته البكر. فالحب معه ينتفي ان يكون جسداً وروحاً، سواء كانت الاسبقية للأول على الثانية، او العكس، بل هو اي الحب وحدة كيانية جامعة تؤالف بين المفهومين وتوحد بينهما ولا انفصال... فالجسد ترجمة لحركة الروح، والروح انعكاس حي ومباشر وحار لخلجات الجسد، ضمن رؤية صدقية او روحانية تقارب التعبد والصلاة والخشوع...

ان حوار المرأة والرجل، او ان ثنائية المرأة – الرجل، لا يرتبط عند زوهراب وكذلك لوحته بالزمان والمكان، اي ان حالة الحب في لوحاته، ليست حالة آنية، بل هي حالة كيانية ووجودية، وكأن عشاق زوهراب قد هربوا من جحيم الآخرين على ما يرى نيتشه من أن الآخرين هم الجحيم، يدخلون في حالة فردوسية بريئة فيها حرية وصمت وانطلاق وأجنحة ترفرف وحمامات تطير وتحط وأحصنة تصهل في مسافات زهر غير مرئية... ولعلي لست مبالغاً اذا قلت ان زوهراب يتوهج، اكثر ما يتوهج، في زيتياته خصوصاً وأن ريشة هذا الفنان قادرة، بالابداع اياه، على ان تشف بالزيت شفافيتها بالماء وأكثر، لا انطلاقاً من المادة نفسها، بل من طريقة تعامل الفنان معها، اذ ثمة توحد بين المادة والموضوع عند هذا الفنان، فالمادة تأتي لخدمة الموضوع والعكس صحيح، فليس هناك مشهدية خاصة بالزيت على كثافة هذه المادة وقوتها بل ان زوهراب قادر على ان يرسم المشهد نفسه او يقدم الرؤيا نفسها بالزيت كما بالماء كما بالغواش او الباستيل، ذلك لأن الهم الابداعي عنده يتجاوز الهم التقني وهو صمم ابعد من المناسبة المؤطرة بزمان ومكان، بل هو وليد الهم الابداعي، الحالة النفسية الخاصة بالفنان، والمملوءة بهواجس التحرر والانعتاق والانتقال الى حالة انسانية راقية يعبر عنها او يختصرها الحب، العنوان الذي اختاره زوهراب لمعرضه...

ثمة حوار دائم في لوحات زوهراب وهو حوار لا يعبر عنه بالكلام او بالوقفة، فشخصياته تبدو ذاهبة في رحلة انكسار او انتصار، فرح او حزن، شهقة ألم او شهقة عشق، وهي حالات ملازمة للانسان، مذ وجد، اي انها ليست حالات وليدة اللحظة او التراكم الزمني، بل وليدة الوجود الانساني وملازمة له. وفي هذا امتياز هذا الفنان، الذي تكتسب لوحته صفة الديمومة او الخلود لأنها تحاكي الثوابت لا التحولات وتعكس الانسان في توحده مع نفسه وروحه، لا مع زمنه، فالزمن فان ومحدود، اما الديمومة فللانسان ولكل ما وضعه الرب في هذا الانسان من مشاعر سامية حيث تنتفي الخطيئة وتتطهر، حتى في اقصى لحظات شهقات الجسد وكثافته...

لا تخجل المرأة في لوحات زوهراب من عريها ولا تخبىء مكامن الأسرار من جسدها، ولا هي تتردد في ان تأخذ رجلها في عناق، لأن حوار الاجساد عنده هو حوار داخلي لا خارجي، واللذة بالمفهوم الجنسي، تتحول، نوعاً من الحوار الداخلي، فيه صلاة، وتجاوز نحو الحالات الانسانية الاكثر شفافية وتطهراً...

هذا المفهوم التجاوزي للجسد يقرب زوهراب من الرؤية الفلسفية المثالية للجسد، كتلك الرؤية التي نرى مثلها مثلاً في لوحات جبران خليل جبران، حيث تذهب الاجساد اما طلوعاً للقاء الخالق، او نزولاً لتتحد مع المادة الاساس التراب...

ويسوق هذا، الى التأكيد، مرة جديدة، على أن لوحات زوهراب اكثر ايحائية وحرية من أن تصنف في خانة مدرسية، كأن نقول مثلاً أنه فنان كلاسيكي او انطباعي او رومانسي او واقعي او رمزي، او حتى سوريالي، بل اننا نرى في لوحته كل هذه المدارس واكثر منها ربما. انه الفنان عندما يستبد به الابداع وتحتله الرؤى فيذهب كمهر حر، او كحمامة طافرة من سرب، ليضرب في مسافات حرة وجديدة ومفاجئة لا حدود لها ولا نهايات... بالروح يلتقط زوهراب لا بالعقل فحسب، وباغماضة العين لا بانتباهتها. وهو فنان قادر دوما على استفزازك ايجابياً وعلى اغرائك للذهاب معه في رحلة للحب والجمال والحلم لا تنتهي.

... وليس غريباً عني زوهراب ولا انا غريب عنه. لطالما أحببت هذا الفنان، ولطالما وجدت بين لوحته الكثير مما يعتلج في داخلي ويغور، على انه كان دائماً يذهب بي الى الحالات الاولى التي لم يرد هذا الفنان او ربما لم يتح لنفسه التجربة ان يغادرها، فتراني أقف امام لوحته اليوم كما كنت أقف امامها في اول معرض حضرته له، بكل الفرح والدهشة والاعجاب والتعجب من هذا الفنان الذي لم تنل منه السنون فبقيت روحه على شغفها الاول، وبقيت امرأته على شفافيتها الاولى، تتيح كل جسدها من دون ان تسمح لك بامتلاكه...

يخبىء زوهراب في روحه، كما في لوحته، الكثير من الحلمية والتحليق فوق الحالة الزمانية والمكانية، وبهذا يقترب من الرمزية، من حيث ان الرمزيين قصدوا الى تطليق الزمان والمكان لانهما طريق الانسان الى الحالة الجماعية – الاجتماعية المرفوضة من قبلهم، الى حالة غاية في الذاتية تتوكأ على التاريخ احياناً لا للالتصاق به، بل لتجاوزه نحو حالة خاصة فيها تحد وسكنى في اللاوعي... مع فارق اساس هو ان زوهراب ابتعد عن الحالة التاريخية او المناسبة لا لانه يرفضها في العقيدة كما عند الرمزيين، بل لانها، وبكل بساطة، لا تناسب حالته الذاتية المسكونة بهاجس الجمال والبهاء والروح، وبهذا المعنى تغدو لوحة زوهراب فريدة في قدرتها على الجمع بين الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية في توليفة جديدة او في طبق فني جديد هو طبق زهراب الخاص...

ومن هنا يصح القول ان زهراب فنان لا يشبه احداً ولا احد يشبهه...

وثمة وجع جميل يطل من لوحات زوهراب، خصوصاً من وجوه شخصيات لوحته، هذه الوجوه التي تتحاور من دون ان تتقابل، تذهب عيونها الغائمة فيه كل الاتجاهات بصمت يشبه البكاء... وهذا الحزن مبعثه الحالة المأسوية التي طالما ميزت اعمال الفنانين الارمن، الحاملين ثقل المذابح والتاريخ، كما مبعثه غياب ياسمينة زوهراب، هذا الغياب الذي ترك في روحه انيناً وصراخاً لا يزالان مستمرين منذ غيابها وحتى اليوم، واللذين يعبر عنهما بوجوه او حالات مشهدية حوارية غاية في الوضوح شكلياً وغاية في الحلمية التي تقارب الصلاة ايحائياً.

ميزة هذا الفنان ان حالاته الايحائية لا تتناقض مع حالاته المشهدية، بل ان الوضوح في الخط واللون يشكل بوابة للدخول الى رموزية حنون، فيها بكاء صامت، وصلاة خافتة على عمق، وشكوى من الحياة التي من هواياتها سلب احبائنا منا...

يبقى ان زهراب كان ولا يزال وسيبقى يشكل علامة فارقة في الفن اللبناني المعاصر. انه ريشة مغموسة بالجمال، تزرع حيث تضرب وروداً ورياحين، وتطير حمامات وتدلل مهوراً. انه فنان سيذكره التاريخ طويلاً، بعد تاريخه...

الأنوار، السبت 21 تشرين الثاني 2009

معرض الفنان زوهراب - سحر وموسيقى الاشكال والألوان والانسان

مشهديات سحرية ملونة. وجوقات موسيقى لاهفة الحركة والترتيل والهديل والانشاد. ذلك ما نشعر به ونحن نشاهد لوحات الفنان زوهراب التي فاقت الستين لوحة، وبكل الوان الممكنة. من قلم. وقلم ملون. من اكواريل وغواش. واكليريك. لكن أغلب اللوحات، بألوان الزيت على القماش. وذلك عبر معرضه في صالة "ليه سيماز" في فندق هوليداي بيتش – نهر الكلب. أول جونيه. ولتدارك الدهشة الفنية. الواقعية والانطباعية والتعبيرية، نصل الى تأمل اللوحات، كي نعثر، على شغف الفنان. بالفن. باللون والحركة والأشكال والخطوط، ثم بكل الجماليات التي يتغارقها ويتعاشقها. ويتعازفها فيها، حيث هو العازف المايسترو وعصاه الريشة. خاصة في لوحات الجدرانيات الكبيرة، وفي اللوحات المتوسطة، مجاميع البشر التي تتحشد في لوحاته. بأجسادها شبه العارية للعشاق، ولباسها الشعبي الأرمني. وألوان هذا اللباس المخملية. حيث الثنيات والطيات. التي تتراقص في اللوحوة من تراقص الألوان والخطوط. تعابير الوجوه والأكف والأقدام، الخيول بروؤسها، والحمام كذلك محمولاً بالأيدي. أو طائراً في فضاء اللوحات الذي لا يتسع كثيراً مع، زحمة الأشكال والألوان، حين يصل الفنان الى لوحة موقوفة معلقة، بين ثلاثة أبعاد، ولوحة البعد الواحد، وفي ذاكرة الفنان نهر دماء شعبه في مطالع القرن الماضي. ولوحة البعد الواحد، وهجراته ومنافيه، وذلك الشوق والتوق للحب والتوحد بالمكان، من هنا تكبر اللوحات، كي تتسع للرجال والنساء، والأطفال، والملائكة أيضاً الذين يحر سون حياة الصغار، أن الفنان زوهراب مبدع مشهديات انسانية ملونة، يتحدث فيها البشر مع طبيعة غامضة متحولة لونياً. حيث التشكيل فن الحيز.

ولوحات الفنان العامرة بالموسيقى. يتجلى فيها ذلك الجدل المرئي واللامرئي وحوار المرايا الجمالي. بحيث يقيم معادلة، نغم الألوان وألوان النغم. محمولاً على غمائم لونية. من عطور وبخور، في الخفاء المرئي والتجلي وحوار، رغم آثار الصراعات القديمة التي تتمظهر هنا وهناك الا أنه ينشد سلاماً انسانياً حميماً ويحاول الحمام دائماً. والملاك دائماً. والخيول العاشقة أيضاً برؤسها الجامحة. أو المحزونة. أنه في غبطة الألوان والأشكال وحبورها، وكأنه في احتفاليات الأعراس والأعياد، سوى أنه لا ينسى ولا يتناسى شقائق النعمان التي هي دماء الشهداء التي روت الأرض، وأخصبت في الربيع خضرة واحمراراً، وآثار الطبيعة الصامتة، موجودة، في الفواكه، والأزهار على قبعات المرأة، وعلى الفساتين الجميلة الرائعة.

وفي حمرة خدود النساء وشفافهن، ولوحته الخضراء والصفراء عن الحب، في عالم مائي حميم، وكأنها قصيدة شعر غنائي عن الرجل والمرأة، وحتى جماليات الطبيعة، التي تميل الى التجريد. وهو يتعالى فيها، بأنغام سيمفونية، ليبلغ الهارموني العاطفي الذي يتوخاه بين العشاف والمحبين..!

سرديات زوهراب الانسانية تفضي به في مشهدياته الى ملحمة الخلق. الرجل والمرأة، وهو قبيلة عشاق بأكمله. ولوحاته تشبه قصائد الحب عند نزار قباني ومحمود درويش، لنقول أن لوحاته مشعرنة. وعبارة عن قصائد لونية منمنمة. وفيها من شرقية الثياب والمادونات ما فيها، حين يحاول النهوض بما هو أرضي ومادي وحسي، الى أثيري وسماوي. حيث معادلة الأضواء والظلال لديه. في تزجيج اللوحة. وتلوين هوائها. واللعب على الماء والنار. انه حار ساخن ودفيء. وفاتر وبارد في معادلاته اللونية. وفي اشتقاقاته وكيماوياته اللونية. حين، يذهب في لوحاته. من الموتيف الى اللوحة الصغيرة. والمتوسطة، والكبيرة، والجدرانيات الأربعة، التي يتوح بها معرضه، وتحتوي صنيعه الفني وابداعه واشراقه، فيما يرى رؤيا، أو يحلم، أو يتخايل ويتصاور الأطياف والأشباح في فونات اللوحة، كما لو أنها سجادات هائلة النسيج، وما الخطوط. سوى دلالته على تكاتب لوحته، وتقارنها، حيث أبجدياته اللونية، غفيرة، ثرة ووفيرة. ويستطيع دائماً اشتقاق مستويات ودرجات للألوان، التي تنتشر، وتتراكم كذلك وتشكل تربة اللوحة. المخصبة المروية كثيراً، انه في العضوي. وفي الالتئام والالتغام الذي يشد ويمتن لوحاته، ويوترها ويواترها، في عزيفها على وتريات الخطوط التي يتناغم فيها عبر سديم اللوحة. وفضاءاتها النورانية المضيئة..!.

ربما يكون الفنان زوهراب في طليعة فناني الأرمن في لبنان. كما كان بول غيراغوسيان، وهو في طليعة الفنانين اللبنانيين، والعرب، وحتى أنه فنان عالمي، يخلق لوحة متحفية رافلة بالجماليات والصفاء. فيما تتجوهر وتتبلور الوانه، ويكهرب وبمغنط أسلوبه الفني، بما تمتلكه لوحاته من جاذبية ضوئية، نورانية، ونارية معاً. انه في مدار فيوضات وبحرانات الحب للانسان والحياة. وهو يتغارفها، ويبدع في تدوينها وتكوينها، وموسقتها خاصة بحيث ترتقي هذه اللوحة بالذوق الفني، الى درجة القيم، الحق والخير والجمال، وهو يمعن في تزهير وتطهير لوحته من الشوائب للوصول الى صفاء ورواء ورواق الروح. حتى في حركة النسيم الربيعي داخل هذه اللوحات. التي تتشبع بقداسات محمولة على الايمان، والعبادة، والوصول الى الله، ومنهم من يعبد الله على حرف، وهنا منهم من يعبد الله على لون هكذا تكون أبجدية الفنان اللونية، هي التي تعبر عن اختلاجات جسده وروحه، حين يوحي ويدل ويعترف ويبوح بما تنطوي عليه روحه من خير جمالي، يتفتق شهباً ونيازك. وشموساً وأقواس قزح، تتلاعب وتتلاغى وتتلاهف في مهاد أعماله وفي حدائقه الوريفة، التي ترتقي في الوهم، الى تكوين جنة على الأرض، أو فردوس جمالي طفولي، افتقده الفنان عند جدودة وآبائه وها هو يعيد صياغته. وترجيعه اللوني والموسيقى بامتياز...!

زهير غانم اللواء 27.11.2009