Wahib Kayrouz

Wahib Kayrouz - Comments on Gibran Khalil Gibran paintings (Text in Arabic)

كيروز، وهيب: عالم جبران الرسَّام... مدخل إلى أبعاده الفنيَّة
" أيــّها الفن...الغريب بأعماله ، السامي بجماله وأسراره.

أنت شبح من مقدرة المبدع الأزلي في نفوسس النوابغ المبدعين.
أنت روح الله المرفرفة بين قلوب البشر والـلانهاية.
أنت فكرة مستيقظة في هذا العالم النائم بحراكه...
بأصابعك الخفّية تتناول العناصر وتكوّن منها صوراً وأجساماً وأنغاماً تبقى جميلة الى النّهاية.
إنّ العدم يصير وجوداً عندما يمرّ أمامك.
والّلاشيء يصبح شيئاً إذ يلامس أطراف أذيالك.
... تلامس الزمن ... فينقلب تماثيل منتصبة أمام وجه الأبديّة.
تتنفس في الهواء فينسكب خمرةً علويّة من بين شفاه المغـنّين وأصابع الموقّعين.
ترتعش بين دقائق النّور فيسيل مع الحبر على وجوه الأَسفار.
تتناول أشعّة الشّفق وألوان قوس قزح وتبتدع منها صوراً ورسوماً .
أمام عرشك تظلّ الأجيال واقفةً ، مستيقظةً ، مترنّمة. وما مضى منها يبقى حاضراً بحضورك ، وما سيأتي يطوف الآن مرفرفاً حول أذيالك.
إنّ مجد الأمم يبقى ما بقيت ، ويذهب إن ذهبت لأنك من حياة الأمم بمقام القلوب من الاجساد.
وإذا كان التاريخ مرآة العصور ، فأنت اليد التي جلت وصقلت أديم تلك المرآة.
وإن كان العلم سلّماً ترفع الانسان الى ما وراء الكواكب ، فأنت العزم الذي يبني ويُبقي درجات تلك السلّم.
وإن كان الدّين شعر الحياة ، فأنت الوزن الذي يجعل لذلك الشّعر رنّةً في الصّدور ونغمةً في القلوب.
نحن نرى مجدك أيها الفن ، ونسمع أناشيدك ، ولكننا لا نستطيع ان نخطّ حرفاً من حروف اسمك حتّى تلامس أصابعك أصابعنا. ولا نقدر أن نتكلم عن جمالك الاّ اذا غٌمست ألسنتنا بخمرة جمالك. فأنت بنفسك مـظهّرٌ لنفسك. ونحن ، بقوة الحبّ الذي وضعته في أعماقنا ، نقترب من محبة القّوة التي وضعها الله في أعماقك.
...جعلني أيها الفنّ خادماً من خدّامك المتسلّطين على الحياة ، وصيّرني جندياً من جنودك المنتصرين على الدهور.
وألمس نفسي بشعاعك لعلّها تقترب من مبدعها ومبدعك”.

جبران - باريس : 1910( كلمات مختارة)

لوحة " الخالق والقوس والأسهم " (مائيَّة . المرحلة الرَّابعة : 1918-1923)

wahibk1

... وتصل الرّؤيا إلى آخر أفقٍ لا متناهٍ . واللّوحة عرفنا موضوعها " خلق البنين " كما يقولُهُ فصـل الأبناء في كتاب " النبيّ " . واسم اللوحـة : " الخالق ، القوس والأسهم " يساعدُنـا علـى عيش مناخِها " الأثيريّ الحيّ " و " الموشَّح بالغمامة " كما يقتضي رئايةً من اتّجاهٍ آخر . ونبدأ بالأزرق اللاّمتناهي حيث " القدير " فوق الغمامات المتراكزة، ويرفع ، في فعلِ حبٍّ توحيديّ ، المحبّين الأزواج في شكلِ قوس . وهكذا ، من فوق ، الواحد يسمو بالأثنينيَّة ... والحبّ يوحّد ... والدَّائرة سلام . لذا :
الرّؤيا ، هنا ، تبدأ من رأس الهرم : " القدير ".
تنزل إلـى أفق الغمامات المتراكزة. وتبلـغ تواحد المحبّين وقد تعرَّوا بنار الحبّ والصَّفاء اللّذين هما نار وصفاء " القدير " ذاته . و" القدير " توازنٌ دون قياسات ، جبروت غير منفعل ، امتلاء . والشَّفافيَّة منتهى وضوح القدرة ... وعيناه أبعد من القوس الّتي بيده . إنَّهما تخترقان اللانهاية . والعبقريَّة هل من تحدٍّ لها أكثر صعوبةً من خلق الشَّفافيَّة كاملة القدرة ؟ هنا الفرادة الجبرانيَّة . إنَّها الغرابة في ابتعادها عن المألوف في أيِّ فنٍ رؤيويّ . وهي منتهى البساطة : الخطّ مائيّ ، نورانيّ . إنَّه الحنية الأنيقة والمرنة .
المائيَّة فـي الإبداع الجبرانيّ ، هي الرّحم الفنيّ في كيانه كما هي شاغل لاوعيـه فـي تقصّيه عصارة كيانـه . أوَليست هـي الدَّائريَّة فـي القوس وتناغم التّواحـد ونداوة الحنيـة ؟ و " القدير " محدّقاً إلى اللاّنهاية ، والقوس مستجيبةً لرغبته ، ألا يوحيان وجود الأبناء الّذين هم الأسهم المرميَّةُ نحو المستقبل؟

لوحة " العالم الإلهـي " (فحميَّة . المرحلة الرَّابعة : 1918-1923)

wahibk2

وإن نشرَها جبران في كتاب " النبيّ " فإنَّها ذروة الرّؤى الّتي سبقتها أو ستأتي بعدها. هي خلق عالم النّهايات . لعلَّ جبران اختصر فيها نهاية تقنيَّته في تناغم الخطوط، الإيحاء ، الرّمزيَّة ، الهندسة والإنسجام. ولعلَّه بلغ فيها آخر ما عانى في تجاربه السَّرائريَّة الآيلة إلى إيجاد العلاقة بين الحركة والسّكون. ولعلَّ هذا التَّوق ، في الإبداع ، أوصَلَه إلى أرقى ما يسع الوسع الدّيني في محاولته إدراك الله السَّاكن والمتحرِّك معاً . ونقرأ :
الدَّائرة الخارجيَّة مفتوحة الطَّرفين . هي أرواح في جوار العالم الإلهي . وزال آخر أثرٍ من آثار الكون والطَّبيعة. ذاكه طهر العراء حتّى في بداياته . أيٌّ من الأرواح المتآلفة في دائرة له ما يميّزه . فهذا في حالة استبطان . ذاك محدِّق إلـى النّقطة المركزيّة.
والدَّائرة عين ، وإن مفنوحة ، تساوق العين المركزيَّة . لعلَّ بعض هذه الأرواح يعرف أنَّ عليه أن يعودَ ليستكملَ كيانه . ولكنَّ التَّوق نحو المركز يجذب كلّ الخطوط المنظورة والمتخيّلة ، كلَّ الحنيات واللّولبيَّات في اتّجاه الدَّائرة الوسطى . وهكذا كلّ الدّوائر ، في سائر نتاجاته ، السَّابقة على " العالم الألهي " كانت تتوق للخروج من السّكون الكلاسيكي إلى الدَّائرة المتحرِّكة . هنا ، هي من سبع أجنحة . إنَّها الكمال في حركة . الكمال بسبعيّتها كما في دائريّتها. الأجنحة رمز الإدراك الرّوحيّ . وهي ، سبعة ، تبدو آتيةً من عالم أبعد منها . إنَّها محاولة تظهير بإتّجاهنا لكنَّها حتماً توحي ما لا يُدرَك. تلكها روعة الإبداع .
والرّوعة تقولُها كذلك اليد وفي وسطِها العين المجرَّدة . إنَّها آتية من البعيد الّذي أوحاه مصدر الجوانح . ذاك المصدر الموحي هو القدرة الخالقة . وهذه أتراها ساكنة ؟ فكيف تخلق ؟ أم متحرِّكة ؟ فهل هي من عالمِنا؟ إنَّها الحركة والسّكون والضّمير معاً.

لوحة "الفجر" (زيتية.المرحلة الثانية :1908 - 1914)

wahibk3

الآفاق تتوالد.توحي أنها، قبل أن تكون ، تناسلت من مصدرٍ بعيد لتأتي العالم المرئي.اذا عن ذاك المصدر؟ ما حكاية هذا التناسل ؟
قديم زواج الشَّمس والماء. ودهريّ النّور في جوّانيَّة الحياة.
النّور والماء يتعاشقان . والينبوع أبعد من الوجود.
في اللّوحة ، النور ينتشر من المركز المشرق. لا يتقطّع في انطباعات أو لطخات. لا يتبعثر. انه متواصل. وهو آفاق تتساوق من الرّحم النّوراني. وهو هو الجوانية والشكل الظّاهر معاً. فالآفاق تتمادى بفرح التعاشق. وحكمة النور تجسّدها نيّرةً.

البداية في ابداع لوحة " الفجر" بدأت ، كما في الحياة ، باندفاق الشمس في الماء واشتعال الماء بهوى النّور. ومن التعاشق الكوني التكويني تتناسل شيّات الحياة بهدؤ.
والشّية تنبثق كما لو أنها نغمةُ لأختها. هي نغمة في "ميلوديا" . فهي سفر.
تنأى عن الرحم الشّمسيّ ولكنّها تظل تحمل خميرة نوره الذي به تسافر. انّها امتدادٌ يغّني نغمات لونه. والنّغميات ألحان السّفر ودفء العشق المنتشر.
آفاق هذا " الفجر" هي أمداء ذاك العشق. ترحل في البعيد، في ارتياح المسافات ... وتغّني بسلام . والتعاشق الفطري حنين البعيد الى البعيد. فالزّمن روحٌ جوّانيّ متواصل. وآخر مدىً ، في هذه الطبيعة المخلوقة ، يتنفس بحنين والديه: أنوثة الماء وخصب الضّوء.
والحنين هو النّفس والتّنفّس المتموج. وهو الذي يتشكلن أمداء متواحدة القرار. وهو ، في الفضاء ، يتوهّج "نوتاتٍ" زرقاء هي ، في الاساس ، أصداءُ الماء وقد حبل بالشّمس.
واذا الماء الأنوثي والنّور الخصب أغنية الفضاء ، فانّهما بثٌ غامقٌ وعميقٌ في الطبيعة. بثٌ بنفسجيٌّ في الكثيف والهضبة تنهض من أغوارها وأعماقها. والماء البنفسجي والنّور المتورد ينفنفانها فتستيقظ من الداخل ... وتنتهي مسحورةً تهمُّ بجمع شتاتها على ايقاع النور المتكيّف معها ليحوّلها.
الفضاء نغماتٌ زرقاء هي علامات ذاك الايقاع المتلاحق الانتشار. والايقاع ملامح مداراتٍ شعرية.
والطبيعة يتشرّب نثرها خطوط ايقاع الماء ورديِّ النّور . وتغيب آخرُ آثار أيّ كلاسيكيةٍ باردة قياسيّة.
لوحة " الفجر" تمّوج الشعر في نثر الطبيعة . فهي تخلق نفسها أجمل فلا انطباع ولا تلطيخ. بل "ميلوديا " جوّانية.
الأنطباعية ، مقدّمة التلطيخية في بداية القرن ، انتهت ، مع أربابها تفسّخاً وحرباً أهليّة.فلا بدّ من روح صوفيّة توحّد أشلاءَها وتندفق في جوّانية . وكانت لوحة" الفجر" هذه قصيدةً لذاك اليوم . قصيدة الضّوء يخلق نفسه فجراً يعاصرُنا. ولكنّه ، عند مبدعه، طريقٌ الى كونويّة الانسان.

لوحة " أبعاد الانسان في توقها الصّاعد " (فحميّة . المرحلة الثالثة:1914-1918)

wahibk4

طويلٌ وعميق تاريخ التبلور في الحياة وهي اندفاعٌ صاعد. والوعي هو الحياة وصورتها.
هذا التبلور وتلك الأبعاد الصّاعدة أيمكن تظهيرها؟
هذه اللوحة تجسيد أوسع حكاية أشمل رؤيا. والحكاية ليست أبداً خبراً. انها خلق كل المراحل وايحاؤها. من هنا الرّموز . والقراءة من أسفل الى أعلى.
الأرجل أربع ( أو ستٌ لو شئنا). العدد رمز بـه عن الحيّوية ( الأنيما ) في امتلائها. حيويَّة متواصلة ، متطوّرة،
متدرّجة وصاعدة . والعدد ليس كميّة إنَّه معنى الكميَّة وحالاتها الّتي تجعل العقل يحدسها .
جذع الإنسان خلاصة جدليّة الحياة وكلّ بلوراتها. هو شجرة تتفتح ، في أعلاها ، عن ثلاثة آفاق متسامية. كلّ أفق ذراعان تصخبان قوّةً واندفاعاً . والثنائية ، في كلاسيكية الرمزيّة، جدليّة دينامية. أمّا الثلاثية فهي رمز الكّلية والشمول والتّوحيد. وهكذا :
من الجدليّة الكونيّة إلى التّواحد يتصاعد تطّور الحياة في تبلورها.
الانسان طاقات توّاقة. تسامٍ في صراع . وأدنى قواه النّفسية أكثرها ديناميّة واندفاعاً.
الذّراعان الأوليان عافية حدّ الانفجار. ولكنّ الأنفجارية الجدلية تلين فتستجيب لقدرةٍ أرقى منها وهي جدليّة بدورها ولكنّها عاقلةٌ تهدّئ حدّة الأندفاع وتوازن تصاعدها. والجدّلية تواصل حتّى في الافق الأسمى من الوعي. وفي توقها تَعدُ بتآلف وتقارب.
في بحث القوى النَّفسيَّة عند جبران نجد الخيال ، الأحلام ، الرؤى ، القدرة على الابداع، الشّاعريّة ، الرّوح... ملكاتٍ أرقى من العقل. واليدان الأخيرتان انفلاتٌ في لا نهاية وتركيزٌ على الذات.
لوحة " أبعاد الانسان في توقها الصّاعد " طرافة تختار عناصر كلاسيكيّة ولكنّها تأبى الكلاسيكيّة غايةً وتركيباً. هي رؤيا خارج التراث. العبقّرية فيها أنها شكلٌ مخلوقٌ بكلّيته ليختصر أهّم المعارف والمدارس السيكولوجية. قصد نهر الحياة الصّاعد وخلقه. شكلٌ صارخٌ بقّوةِ تركيبه وبعيدٌ كل البعد في تفاعله وايحائه. الخطوط فيه أكثر قوةً من وضوح الكلمة. بجرأته يجسِّد دقائق قوةِ الاندفاع في قصّة التبلور المتواصل. ويستحضر أبعاد ما دون الوعي وما فوقه. انّه تحدٍ . بلمسةٍ فحميةٍ تحاور ضؤ الورقة ، يظهّر ما قد يستحسيل على أي فنّ أن يؤدّيه.
لعلّنا ندرك اللّوحة مقتصرة على انسان بعينه أو على مفهومٍ للأنسان. لكنّها تأبى أن تنتهي. الواضح من هذه الرؤيا يقول الانسان العامَّ في أبعاده الكونيّة والنفسية التّواقة الى المافوكونيّة. وهذا الواضح شاءَهُ الفّنان منطلقاً للأبعد منه . رمزية الأرقام ، التصاعدية ، اللامتناهية... وسائل يمسك بها العقل ليستقرئ الأشمل. لعلّ رمزية السّباعية الناتجة عن الرّباعية الجدليّة والثلاثية التّوحيدية توحي كمال الانسان في أبعاده. لكنّ الكمال في التكوين نسبيٌّ في كمال الكينونة. ووجه هذا الانسان المحدّق الى الأعلى هو الغصّة الأليمة رغم تجريده من أي وجه معروف. غصّة تعكس كلّ المعاناة بين كمالٍ بلغه وكمالٍ يشعر به ولم يبلغه بعد.

لوحة " المفكّر" (زيتيّة. المرحلة الثانية : 1908-1914)

wahibk5

شرقيّ الملامح. هادئ. يغمره السّكون.
والحالة الفكرية تشّربت آخر رعشة في كيانه . وانمحى أيّ اتّجاه.
الحالة هذه لعلّها استداريّة. والفكرة ، دون اتجاه ، لعلّها دائرية. وليس مستبعداً أن تكون الفكرة ، في هكذا حال ، قد ألهمت الفّنان خلق عالم " المفكّر" حنياتٍ ولوالب ودائرة. ونحاول القراءة.
أصابع اليد لوالبُ متمادية الايقاع الآخذ بالاتّساع. انتهت ساكنة ولكنّها رسمت ، في ذهننا، هيئةً حلزونيّةَ الحركة فجاءت الكرة كمال الايقاع في دائرة.
الكرة أليست الصّورة الظاهرة للفكرة وقد استدارت حول نقطة مركزية؟ والكرة بلّور
كرويٌ يعكس صور العالم المحسوس مجرّدةً من مادَّتها فتقترب من طبيعة الفكر.
هكذا الشكل. وتلك خلفيّاته . فماذا عن الآفاق والخطوط والألوان التي تغّني هرمونياها ؟
ناريّ الوجه نغمات واسعة الانفراج في اليدين . نغمات ناريّة على آفاق خضراء متنوّعة التّساجيع. ومن القرار الأخضر في البعيد الى الاخضر المكثّف فاشتعال النّاري يتدرّج النّغم - شعر اللّوحة - فتسكن حركتهُ في حدقةِ العين. والعين، في هذا العالم المترامي ، أمست الهيئة الوحيدة التي تعكس ، في سكونها ، وتحديقها ، الحالة الفكريّة.
والحالة الفكريّة ، تماثلها ، في الخارج ، الكرة البلّوريّة. الفكرة هرمونيا الوعي . والكرة، رمز الشّفافية ، تتعاشق ، في جوّانيّتها ، هيئات أشياء الحياة. هيئات مبرَّأة من مادّة وكثافة. والحقيقة ، غاية العقل ، هي في فكر " المفكّر" وقد وحّدته فسكن ، كما هي ما به يفكّر. واذا العين تعكس حالة الفكرة فالكرة يتعرّى الكون على بلّورها. والعين والكرة تتلاقيان . ونستوحي ضؤ الفكر في عراء الاشياء.
الابداع في هذه اللّوحة انّها سمفونيا السّكون في عالم منظور. ذاكه مجد الكلاسيكية : لا نشاذَ في الايقاع ، لا انقباض ، لا تجاعيد أو ضرباتٍ ناتئة. ويَمَسُّنَا السّكون ، ومعه نهدأ. نصغي للتأمّل في ذروته. ونكاد نشعر أنّ الحقيقة ارتياح صخب المعاناة.
في الـجمالية ، الحركة اللّولبية هي اندفاع الحياة المتواصل. واللّولبية ، هكذا ، هي خاصّة خصائص المدرسة الباروكيّة. أمّا الحركة الدّائرية فهي الاقرب الى المطلقية. من هنا ملازمة الدّائرة للفنّ الكلاسيكي.
وجبران أتراه حاول تأليف الحركتين فانعكس اللّولبيُّ في المطلق الدائري ؟ لعلّه. والابداع يبقى فوق منال التعليل والاحتمال. الابداع تسامٍ بالحالة المبدوعة لتبلغ أوجها.
هذا " المفكّر" الجبراني، بجلاله والصّفاء، عريقٌ بالحكمة والصوفية . والأجمل أنّه أناقة حركة وايقاع في سكونٍ هو الحركة وهو صفاؤها.

لوحة " الشاعر أورفيه" (مائية. المرحلة الأخيرة : 1923-1931)

wahibk6

الغابة خريفية. الأغصان، الورق ، الطّبيعة... نسيج كثيف الخضرة. فالنّور والشعاع المنتشر غرابةٌ . والغرابة تفاجئ . ولكنّها، في الابداع ، ضرورة لخلق الحوار العميق. وهنا المدخل للقراءة.
جبران ، في بدايات تجاربه مع الضّؤ ، كان يعمد الى الرئاية لرسم المدى. ولكنَّ نداءَ الضؤ البعيد كان احتراقه.وغاص وعاف الرّئاية الخارجيَّة والإنفلاش . وبات علـى الشّكل أن يولد من ذلك الضّوء ويرتعش بذلك النّداء .
التّجربة ، وإن لقلة من الصّوفيين ، فهي ، مع الخّلاق ، نورٌ يغدو مادة الشّكل. فالفّنان الصّوفي نورانيٌّ ومهندس النّور. هنا شاعريّة العقل في أرقى صفائها.
الخّلاق الحقّ هو من قدر على روحَنَة الكون ، وبلورت شمسُ ذاته لوحته رهافة ابداع.
لوحة " الشاعر أورفيه" تقول أبعد من حلوليّة. النّور فيها فعل انبثاق من الجوّانيّة. والاخضر الفارق في كثافة مقصودة هو هو شفاه النّور المختلج في الاعاميق والمتفتّح دافئاً وبقّوة. النّور هذا، أتراه بانبثاقه ، يقرّب الغابة من شاعرها.
الغابة حُبلى بالنّور القديم قِدَمَ حنينها بالنّور الحياتي الى النّور. أتراها تحلم لتتعرَّى ؟ والحلم ينزع ثيابها وتتمرّى قسمات من الجذور ومشيقات من الجذوع في عراء النّور المنتشر عن قامةِ الشّاعر. نغمات النّور تطول وتتّسع قدر ما وهج الشاعر يحرّرها من حياء ومن زمن خريفيِّ ثقيل.
في التّحوّل يروح الأخضر يتذكّر ربيعه. والغابة في الخريف تبوح بالنّور الذي فيها . وفصل آخر يساكنها.
فـصل آخر. عنيت عمراً آخر. والفنّان يعي الدّورة الأخرى كاملةً .وهو ، لا سواه ، يخلق قصّة الدّورة في حكمة النُّور.
مغامرة جبران وراء النّور العذري هي ولادة فرحة الصّوفي بعوالمه الَّتي ينفذ الى شمسيّتها الجّوانية. وتغدو تجربة الابداع أوسع من رمزية وأبعد من ايحاء. انّها جوّانية الفرح بوهج الحقيقة الخفيّة. والريشة تجتاز التحدّيات وتجرؤ على ايلاد النّور شكلاً . فالنّور في الاخضر. والخضرة كتاب شعرٍ يفتح على الذكريات. وللأبداع أن يجعل اللحظة الابداعية تختلج بالنّور نبضِ الحياة. وينسى الكتاب نفسه ليحضُرَ شاعر النّور. والنّور نغم الطّير.
تخبّر الاسطورة انّ الحجر وأهل الغابة والشّجر تركت مواطنها لترنَّ الى الـنغـم علـى ضـفّتي " نهر الابـروس" حـيث " بـنات الاحـراج" قـتلن الشاعـر " أورفيه" وظلّت "اللِّير" تبعث روحها نغماً. مات الانسان ليخلد الشَّاعر والنّغم. وجبران لْ خياله مذهولٌ بالاسطورة ، والعارف أنه " خلاّق أشكال " كمـا يـقول عـن نفـسه، جعـل الـريـشة تُـشكـلِنُ النَّغم مترنّحاً عارياً والنّور لحن " اللير " ونغمات ميلوديا الشاعر والغابة.

لوحة " الرقص الايقاعي على القمّة " (مائية . المرحلة الرّابعة:1918-1923)

wahibk7

في تـصاعـدية الـرؤيا ، عـند جـبران ، الـنهايـات تـوجّـه الـبدايات .
وفي " الرقص الايقاعي على القمّة" ترتاح أكثر عناصر التركيب الفّني: بساطة الخط ، الرّشاقة والابعاد الواحية والمستوحاة. الدّائرية في الحركة بثّت الانحناءة في الخطّ فأمسى حنون الحنية وشاِعِريِّها . لعلَّ مائية النّور هي مصدر أنوثته النّسيميَّة. ونقرأ رؤيا "الرقص الايقاعي على القمة".
في أفق ما دون القّمة تكاد الحنية تظهر . خافته في خطٍ شبهِ منحنٍ يوازي الخطوط شبه الجيومتريّ‍ة التي في تركيب الطّبيعة. أفقية الصّخور أليس عليها أداء الخّواء من نبضِ الحياة؟ أجسادٌ خمسةٌ فارقتها أرواحها. لكنّها بيضاء . وجوههاالى العلاء. أتراها لا تزال تحمل آثار الارواح ، كما يوضح جبران ، فنقرأ حنينها الى فوق وعجزها عن الحوار مع الأفقية؟
نعلو. وطبقات الصّخر يرشح منها الضؤ. البنفسجيُّ موشّح بالنّور. يبدأ الحوار. والفنّ يستكمل الطّبيعة. والافقية تتفتّح وتنبثق موجةٌ ضوئيَّة . يتشفّف فوقها البنفسجيُّ الوسيط بين الظّل والنّور. الموجة لولبيّة. ومع التّصاعدية يصخب نبض النّور. ينفلت من الخطوط ، يدور، يرافق الايقاع الدّائري . ولا يكاد ينتهي المكان عند رأس القّمة حتّى يغدو النّور فضاءً يتوهّج اشراقاً.
خمسة أر واح على القمة. ايقاعٌ متناسق في دائرة. تلكها ذروة الرّؤيا . أناقة كالأنسجام في انسجامٍ متناهي الشّفافية. هذه الغاية أتراها هي التي أنّقت تصاعدية هذا الكون فجعلت حتّى عتمة الموت تتقلّص فأصبح الميت عنصراً جميلاً في عالم الرؤيا الجماليّة. الفنّ العظيم قدرةٌ على تحويل البشاعة في الحياة جمالاً في نشيدها المتسامي.
الايقاع في دائرة هو غبطة الارواح وقد تحرّرت. والايقاع المتوازن المتناسق هو حال كلِّ روحٍ وكل الارواح. والرؤيا تفلت من واقع روحٍ فردٍ لتصبح عامةً كـونيّةً اسـكاتولوجية. الدائرة والعدد معاً يقولان الكمال والهرمونيا. هذا العدد ، منذ الفيثاغورية لغاية اليوم عند الاخفائيين ، هو مبدأ الهرمونيا الذاتّية حيث الثلاثيّة التوحيدية تحوِّل جدلية الأثنينيَّة الى انسجامٍ وتناغم. والمبدأ تلازمه النّورانية . ونور الارواح النّاري يختّم الماء. الألطف من الانسان لا يؤدِّيه الاّ الألطف من عناصر الكون. وهكذا :
النّور ينبثق من كل آفاق وعناصر اللوحة . يظّهر في كل شيء ، من صفاء الوعي ، حقيقة كلِّ شيء.

لوحة " المولودة عارية " (زيتيَّة. المرحلة الأولى 1905-1914)

wahibk8

العراء امتدادٌ للطّبيعة وخلاصة البلورة الطّويلة . وهو عودة طبيعيَّة باطنيَّة إلى الطّبيعة في مبادئها التّكوينيَّة. في هذا التّناغم بين الإنسان والطّبيعة يتحرَّر الفعل الإبداعيّ من مقاييس الكلاسيكيَّة والأكاديميَّة . في " الكوسموغونيا " الجبرانيَّة نعرف إنسانه يحمل شارة والديه : الشَّمس – الرّوح ، والأرض- الأمّ . وسلسلة التّطوّرات تجعل اللوحة تتّسع لكلّ الألوان والآفاق في العبور من الطّبيعة إلى الإنسان فالإنسان الأوعى... وفي هذه " المولودة عارية "؟
اللّون الأزرق يرسم المسافة ويلملم نفسه فيتكثَّف في الوسط. وتبرز الهضبة. الجبل الأزرق حكاية الماء والسَّماء المصدريّين . وفي الوادي فوَّارة ألوانٍ وسطيَّة تؤدّيها لمساتٌ شاعريَّة فرحةٌ مشتعلة بنارٍ داخليَّة.
والجبل يحوّل كلَّ شيء لإيلاد الكائن الجديد. من هنا لطافة الرّيشة في تفتيح الأشياء . والتّلطيخيَّة لآ أكثر من رسم ملامح فلا عبث بواقع العناصر التّكوينيَّة . وكلّ ملمحٍ حالة . والحالات لامتناهية. أوليست بذور النّور هي الّتي تتفتّح في تلك الّتي ألفنا تسميتها مادّة ؟
وتنبثق العارية من الأزرق كما من العناصر المتفاعلة . ذاكه " طهر العراء " . و" المولودة عارية " تعود بدورها ، تضفي الدّفءَ على كلّ عناصر وتاريخ المخاض العميق والبعيد . هي خصبة ، قويَّة ، مليئة ناراً وتوقاً ... وتنهد للسّموّ . تطاول الجبل وإن تفتُّحُ الوعي لا يزال في إطلالته الأولى. وهكذا " جبل المكمل " حيث نشأ الفنَّان يصبح أرض ميعاد ومصدر نشأة كونيَّة.

لوحة " الأمومة التّصاعديَّة " (زيتيَّة . المرحلة الأولى . 1905-1914)

wahibk9

الخلفيَّة تشتعل . الأخضر الخفيف هضبة . والنّور ينبعث عن حوارٍ عميق . الأخضر المتكثِّف يولّد الوهدة البعيدة والعميقة . وآفاق " الطّبيعة القاديشيَّة " تتعرَّى من التّفاصيل ليتجلَّى فيها الكائن الأموميّ العملاق . والعنصر الغماميّ يتناغم والأخضر . الطّبيعة تنطوي عـلـى عصارة الحياة المروحنة . فالرّيشة تتناهى دقّةً في تجسيد تعابير الضّوء. الصّعوبة تكمن في خلق الغمام الأخضر . ولكنَّ العالم ، تحتها ، يتشفّف فيتواصل التّناغم من الطّبيعة إلى الأثير الحيّ . تلك هي الخلاصة الملازمة كلّ نتاج جبران . ومثلها البلورة الدّاخليَّة. وهكذا من الباطن كما من الأبعاد ينبثق ، هنا، الكـائن الأموميّ. إنَّه أمومة كونيّة .
هنا المدخل لى تكوين النّماذج الجبرانيَّة الشّموليَّة. والأمومة هذه إحتضانيَّة ، حنون ، غاية مثاليَّة لأمومةٍ قريبة تنطوي في ذاتها على نواةٍ من تلك الأمومة الكونيَّة . في هذا الرّابط الدَّاخليّ نجد معنى علاقة الطّفل القويّ ، المشرق بلون النّار ، وتحتضنه الأمّ الكونيَّة ولكنَّه يرقى إليها بالأمّ الوسيطة. المثلَّث بريء من أيِّ برودة هندسيَّة . زواياه كما أضلعه ومحتواه قوىً تتقارب متواحدة من أسفل إلى أعلى حيث ، عند رأس الأمّ الكونيَّة ، تنبثُّ الغمامة شفافيةً في العالم الأدنى . وهذا الأخير يتوق إلى الأثير الحيّ.

لوحة " الصَّلب الذّاتي " (زيتيَّة . المرحلة الأولى . 1905-1914)

wahibk10

المثلَّث المعكوس ، غياب الكلاسيكيَّة ... مدخل إلى الغرابة . المسافات ، في تنوّع الألوان ، تتدرَّج من الوهاد إلى الهضاب فالجبل والغمام . إنَّها مذهلة . فمنحدرات " قاديشا " تولد من اللون المبدع لتتلاءَم مع الصَّلب .
النّور قَلِقٌ من ناحية مصدره ولكنَّه سيصبح نابعاً كلّيّاً من الدَّاخل في لوحات المراحل اللاحقة . تلك هي إختبارات النّور في الفنّ الصّوفيّ . وهنا:
النّور يشعّ عن كائن المصلوبة كما أنّه منتشر في الأفق الأعلى. فيوحّده ويوحي تصاعديَّة الحركة من الأفق الأكثف إلى الأفق الألطف فالإنفلات في اللامحدود . هذا النّور هو والعراء توأمان . فالعراء والحبّ والطّبيعة تواحدٌ ظاهر . والنّور هو شعاع هذا التّواحد الدّاخليّ . ومن الحبّ إلى النّور نستوحي كلّ مسافات – حالات التّصوّف الرّوحيّ . وهكذا كلّ التّناغم الخارجيّ يشفّ عن فعل الصَّلبِ الدّاخليّ . فعل ذاتيّ حرّر الصَّلب من الصَّليب المألوف ليبقى الإنسان ، في ملء الهدوء ، صالب ذاته بذاته . مصلوب على المدى كما على ما يتوق أن ينتصر عليه . والصّراع ساكن لكنَّه يقول ، فينا ، كلّ صخبه في إبعاد المصلوبين عن بعضهما البعض ليلتقيا . واللقاء الآخر – الإتّحاد الرّوحيّ – هو المصدر الأعمق قدر ما هو الغاية من هذه الرّواقيَّة الصَّامتة . لذا قمَّة الغبطة حركة لا تتحقّق إلاّ بقمّة العذاب . ومن جديد ندركُ حركة النّـور المنبثق من الألم لينشر أنغام سمفونيا الكائن البشريّ في تحوّله الدّاخليّ .

لوحة " الإنسان وسمفونيا الطّبيعة " (زيتيَّة. المرحلة الأولى . 1905-1914)

wahibk11

…وترتاح الرّيشة لخلق التّناغم الهادئ بين الإنسان والطّبيعة . التّناغم لا في الشَّكل ولا في الخطوط . إنَّه لعبة الألوان . وفي نغميَّاتها كلّ العمليَّة الإبداعيَّة . الطّبيعة مجرَّدة . والإنسان ببساطة الإرتياح فيها إليها … ويتركّز الوعي على اللّون … وسمفونياه المتنوّعة النّغم في إطار بسيط التّركيب . في البساطة إنفلات وعفويَّة . هذه هي حقيقة حركة الطّبيعة الّتي لم يبقَ منها إلاّ بعض ملامح تعرّفنا على هيئتها الأساسيّة في مهد نشأة الفنّان . والواقعيَّة ، كما ولا في أيِّ لوحة أخرى ، تفرض نفسها. وهي واقعيَّة تنهد للفرح في الوحدة . فاللّون لم يجهد، هذه المرّة ، ليولّد أبعاداً غير مألوفة . والـبرونزيّ النّاري خفيف هنا... لطيف هناك... ولم تشعلْه شمسٌ آتية من الخارج. الأصفر الذّهبي
" الضّاحك " هو نورٌ موعود بانبثاقٍ من قلب الطّبيعة . والأحمر المتفتّح على شفق الجبل ، في قلب المنخفض وعلى أذن المغتبط في إصغائه ... ما هو إلاّ هذا النَّغم الرّاقص هنا أَلَقَ الحياة ، هناك غناءَها الّذي يتنفّس في صمت... والصَّمت تشربُهُ الأذن فيستريحُ الذّهبيّ الأصفر جسماً ساكناً في قلب سمفونيا قريبة ولكنَّها أبديَّة.
والإصغاء أتُراه ، وهو يتملَّى من النّغم المرفرف ، يوحي الغوص إلى مصدره ؟ لعلّه . وهكذا ، بما يوحيه الإصغاء ، نشعر أنَّ الشَّكل يغتسلُ بنفسه ، بطبعه ، بمزاجه الحياتيّ. ذاك هو التّناغم الأوّل : الشّكل هو حياته الخاصّة . أمّا الثَّاني فهو تعاطف الأظلال والأضواء في كلّ حنية. وعنهما ينبثق الثَّالث في إصغاء الإنسان لذاته والطّبيعة في أغنيتها العميقة وقد تواحد الجميع في هرمونيا كونيَّة.

لوحة " الغائصة في ذاتِها " (زيتيّة. المرحلة الثَّانية:1908-1914)

wahibk12

ضوءان يقولان المسافات البعيدة . الأوَّل نتلمّسه في تدرّج الوجود ، بخميرة النّور الّذي فيه ، من الكثيف إلى الأزرق المائل إلى العتمة فالأرجوانيّ المخضوضر ويتبلور يدين منوّرتين . واليدان هما توق الكون لخروجه من سديمٍ إلى وضوح. يخرج ليدلَّ على باطنه . وتبرز خفاياه . اليدان أتُراهما بصرَ المادَّة التّواقة إلى شكلِها ؟
والضّوء الثَّاني عينان غائصتان في المسافات الإنسانيَّة الجوانيَّة .
أرجوانيّ الشّعر لون بسيط بين أخضر كثيف ونور جبهة . الظّلّ علـى العنق يواصـل حتّى لوجه ؛ فالشّعر والظّل حركة تحملنا إلى العينين اللّتين تعكسان كلّ المسافات والسَّفر نحو الجوهر النّورانيّ في الباطن. إغماضة العين ، عند كلّ بادعيها ، مقياسٌ للقدرة على جعلها تبوح بما وراءها لتوحي الذّهول أمام تجلّياتٍ خارجيَّة. الإغماضة هذه عمليَّة استبطان بريء غايته الكشف العرفانيّ الصّرف وكونها إغماضة كاملة فكلّ الكون والحياة قد أمسيا خلاصةً في الذّات. وفي الذّات ما هو أبعد منهما . والإستبطان يصبح غوصاً على جوهر الذّات وما تجوهر فيها . وما الهدوء المهيمن إلاّ سكرة النّور بالنّور . والعمليَّة الفنّيّة عليها أن تحوِّل سفر الوعي بإتّجاه ذلك الوعي الدّاخلي الّذي هو الوعي الحقيقي . من هنا : ألوان جبران ، خطوطه ، ضربات ريشته ، أشكاله في هذه المرحلة ، و" الغائصة في ذاتها " نموذج بارز ، تحمل نفسها نحو الباطن الجديد والّذي لا يزال بكراً . فهو أبداً في محاولة . والباطن لا متناهٍ... فلماذا لا يعبر الفنّ بنفس النّار الّتي يعبر فيها هو الفنّان ، كما يقول ؟ والمحاولة لا اكتفاء.

لوحة " الرّوح المتجلّية للسَّبعة " (مائيّة . المرحلة الاخيرة:1923-1931)

wahibk13

اللوحة رؤيا صرفة فلا سرياليَّة ولا مقاييس أكاديميّة أو مدارسيّة.

جبران الدّانتوي ، البلايكي ، الرّوداني والميكلانجي أساساً ... انتهى رافضاً الرّمزيَّة والإيحاء ليرتاح إلى الحقّ المرئيّ " . نماذج هذا الحقّ المرئيّ هي الّتي جعلت النّور يصبح تجلّيات . وها روح – لعلَّها المطرة – تتجلَّى لسبعة.
هي والسَّبعة والأفق يتدرّجون في كونٍ مخلوق بكلّيته. ذاكه الإرتياح في الإبداع. والتّدرّج من البنيّ الحابل بالضّوء حتّى الرّوح نور يواصل دون نشاذ . الخلفيَّة بنّيّة حبلى بالإنسان . والبَلْوَرة عبور . والحركة من الخلفيَّة حتّى النّور الواضح. والسَّبعة هم الحياة في امتلاء كمالِها. يتنوّعون في الوضع ، الحالة ، القدرة على التّحديق كما في الغوص على الذّات... ولكن يوحّدهم شوق واحد موضوعه النّور الأبيض المتجلّي. وهكذا كلّ العناصر من الخلفيَّة حتّى المتجلّية يدوزنها نغم واحد عميق وطويل. ذاكه اللحن الباطنيّ والفنَّان يظهّره. وأشياء العالم المعروف ملامح تقول أسرار العالم غير المعروف... وكلّ النّور الآخر يتبلور تلك المتجلّية . هنا مجد الشّفافيَّة الّتي تقول ذاتها بذاتها دون ظلّ حتَّى في حركة الذّراع السَّرائريَّة الإلتفافيَّة. فالنّور يلتفّ على النّور . والتّجلّي أتراه يحتاج لأظلال العالم ؟ الصّعوبة في التّقنيَّة أنَّ الرّيشة باتت تشعر أنَّ عليها ألاّ تكون . البراءة السّماويّة لا تُطيق الخطوط والمقاطع . إنّها شلاّل بياض وانسكاب جمال واحدٍ متواصل .
هذه الرّؤيا هي الأكقرُ صفاءً في إبداع جبران . وإذا هي من المرحلة الأخيرة في تطوّره، ألا تدعونا لقراءَاتٍ أخرى حيث الطّبيعة يسكنُها نورٌ هو عينُها الأخرى ؟

لوحة " الذّاتان : الصّغرى والعظمى " (زيتيَّة. المرحلة الثَّانية:1908-1914)

wahibk14

الأرض السَّمراء تنخفض هضبةً برونزيَّة لترتفع تلّةً بنّيّة ... و" ذاتٌ صغرى " صاعدة منها مشرقة . هي الإنسان وقد شارف أعلاها سابحاً بحنينه العفويّ والبسيط صوب " ذات عظمى " عملاقة .
العملاقيَّة والأثير الحيّ هما مقوِّما الغرابة في الرّؤيا الكونيَّة الشّاملة . الأثير موشَّح بغمامةٍ بيضاء . وهكذا الشّموليَّة وحّدت زرقة السَّماء وخضرة الأفق الأسفل. ومن هذا الإمتداد اللاّمتناهي انبثقت "الذّات العظمى" وأوحت ما هو أبعد منه . والأرض، لا بدَّ حبلى بالنّور ، أمست إشراقة " الذّات الصّغرى ". لذا: السَّماء النَّازلة والأرض الطّالعة هما الحركتان اللّتان تجعلان الألوان تتداخل في هرمونيا رائعة... وعالم جبران ليس فقط تطوّريَّاً صاعداً إنَّما هـو أيضاً عالم الرّوح الحالّ في الوجود . من هنا لا ذريرة فيه إلاّ وتختلج وتنبض ولكن برزانة حكمةٍ بعيدة تقيه من الإنفجاريَّة والصَّخب السَّديمي . أوَ ليس هذا السَّلام في حنين " الذّات الصّغرى " دليلاً على ذلك الحلول ، ونتيجةً للتّفاعلات الكونيَّة الهادفة إلى بلورة ما هو فيها وأبعد منها ؟ التّعاطف الحنون بين الذّاتين أليسَ بحراً من المحبَّة العميقة حيث " الذّات الكبرى " انعطافٌ يكاد يلامس قدميَّ " الذّات الصّغرى " ؟ وهكذا: الإطمئنان في ذارعيّ " الذّات الصّغرى " السَّابحتين في ذلك البحر يعكس سلام السَّماء فيها. واللمس الحنون ، وليس لمساً ، يقول بوضوح تقرّب الذّات الكونيَّة العامَّة من الذّات الفرديَّة الآخذة بالتّبرّؤ كما يوحي أنَّ " الذّات العظمى " ليست منحدَّةً بذاتٍ فرديَّة. هذا التّعاطف ، وللمرَّة الأولى نراه ، هو فرادة تقنيَّةٍ تُشعلُ آخرَ شيَّةٍ في الحياة وتهرمن جميع العناصر في سمفونيا شاملة بعيدة التّناغم.

لوحة " السَّانطور : الطّبيعة والإنسان " (زيتيَّة. المرحلة الثَّانية: 1908-1914)

wahibk15

أن يجد الوعي نفسه في الطَّبيعة أو أن يجدها قائمةً فيه فلا بدَّ من حركتين: صعوديَّة : من الطّبيعة إلى الإنسان ، أو نزوليَّة : من الإنسان إلى الطَّبيعة . في قراءَة هذه التّواصليَّة أدرك العقل قدرة اللاوعي الميتولوجي على خلق " السَّانطور " رمزاً يوحي هذه البلورة المستمرَّة . واللاّوعي لم يظهّر، في الرّمز ، غيرَ ما هو فيه . إنّه تواصل. وجاء الرّمز مركّباً يشتمل على قوى الطّبيعة في أرقى طاقاتها الحيَّة : الدّيناميَّة ، الرّشاقة ، السّرعة وكلّ إحتمالات القوَّة والعنف والحنوّ كذلك. كما يشتمل على ما هو أرقى من الطّبيعة : الإنسان ، ولكنَّها فيه قلباً ووعياً. وتيسَّر للوعي الفنيّ الخلاّق ما به يستطيع تمديد رؤاه مستقطباً كلّ البلورات من المادَّة – الطّبيعة إلى الوعي . وتهالك عليـه الخلاّقـون وتنوّع رموزاً لنزعات البشريَّة اللاّمتناهية . مع " ميكال آنج " هو قوى سديميَّة متصارعة. عند " أوجين دو لاكروا " طبيعةٌ ثائرة تهدّم " مكتبة أثينا " . " أنطوان بورديل " وجد فيه الوعي الصَّاعد . وهو العنف الجنسيّ مع " بيكاسّو " . أمَّا " رودان " فجعله يوحي حركة الكائن المقدور .

لوحة " يسوع المصلوب على هرم البشريَّة والأديان " (فحميَّة. المرحلة الرَّابعة: 1923-1931)

wahibk16

جبران، في جهده ليجعل الخطّ ديناميَّاً ومتناغماً في آنٍ واحد، عرف كيف يحرِّر تقنيّته من قوالب مدرسيَّة ومقاييس تيَّار معيَّن في الفنّ التّشكيلي. فهو يأبى الكلاسيكيَّة وحدها، كما لم يرتح إلى اللّولبيَّة الباروكيَّة. في شمول الرّؤيا يزاوج بينهما. والرّؤيا، الإستبطان، العلاقة التَّواصليَّة بين الآفاق ساعدته على ذلك. ولعلَّه لم يبلغ ذروة الإبداع إلاّ في فحميَّاته ومائيّاته. وهذه الوحة-الرؤيا يسعُها، بشمولها وكونيّتها المتنوّعة كلَّ التّنوّع، أن تؤدّي كلَّ أنواع الحركة في امتدادها من السَّديم حتّى الدَّائرة. وهكذا نجد كلّ الخطوط تتحاور وتتفاعل لتظهّر أبعاد وأعماق هذا العالم في توقه، وهو في حالة اللاّشكل، إلـى الشَّكل الحسّي فالشَّكل المجرَّد.
قبل أفق الحيَّة- رمز التّفسّج، نستطيع أن نتخيَّل سديماً غير واضح. المرأة تصارع لتخرج من حال الإلتواء. الرّجل استقامت خطوطه أكثر. وهكذا البشريَّة تؤدّي، في هرمها القويّ الصَّاعد، كلّ الحركات... وترتاح الخطوط في الوجوه الثَّلاثة فتبلغ السّكون في الدَّائرة. والخطّ دائرة تتوق إلى الإستدارة.

في صلب هذا البرج تغور قدما يسوع حتّى القاع. يدان مصلوبتان. والصَّلب كلّ الأفقيَّة وكلّ المعموديَّة. وفيه نتخيَّل نقطةً مركزيَّة تلتقي فيها كلّ الدّيناميَّة. فالصَّلب سكون بقدر ما هو دائم. في الدّيناميَّة- النّقطة الصّراعيَّة، في الصَّلب السَّاكن بدوامه يرقى الوعي إلى تصوّر دائرة من ثلاثة وجوه، فارسي، بوذي، فرعوني ويواصل حتّى الدَّائرة العليا السَّاكنة. وهكذا الرؤيا الأكثر شمولاً كهذه تتّسع لكلِّ طبائع الخطوط. ولعلَّها تولد انحنائيَّة في أكثرها لأنَّها تتأتّى عن مصير الحركة: الدَّائرة. هكذا دقائق رأينا بدايتها في لوحة " المفكِّر". هنا بلغت نهايتها. أتراها الخطوط هي وراء تخلّي جبران عن الزّيتي؟

لوحة " من الهيولى حتّى الصَّمت" (مائيَّة.المرحلة الرَّابعة: 1923-1931)

wahibk17

قد تكون نواة فكرتها فـي " المولودة عارية". وأكثر تفاصيلها في حركة البلورة موضوعاً وتقنيّةً. رأينا الّلطخة أو الخطّ أو الإنطباعة توحي الحركة إيحاءً. الجديد في هذه المائيَّة الممتدَّة آفاقها من الغمر الّذي توحيه خلفيّتها إلى الرّوح البريئة من أيِّ كثافة، هو أنَّ الطّبيعة الضَّاربة حتّى السَّديم الهيوليّ حبلى بالكائنات البشريَّة.
أتراه جبران، بعد التّقصّي العميق والطّويل لصورة الإنسان، يروح يختصر المسافات فيوحي الهيولى ويجسّد ما هو أرقى من الشّكل؟ الخلق اختصار. وكما قوّة الخلق هي في التّجسيد فهي أيضـاً في الإيحاء. وهكذا قوّة الشَّكل في ما يقوله ممتلئ التّعبير وإن جاء خاطفاً، بالغ الوضوح في أبسط الملامح وبعيدَ الإيحاء في ألطف الهمسات. العبقريَّة الشَّكلانيَّة تبلغ مجدها في الشّاعريَّة. ذاك هو جبران في ما انتهى إليه بعد تجارب عميقة وصادقة.
هذه الرؤيا، للوهلة الأولى، تبدو غريبةً بين أفقيها: السَّديم والرّوح. ولكنَّ تعقّب الملامح واللّمسات الدَّقيقة في أعلاها مروراً بوسطها حيث الفوران يبلغ أوجه فتبرز بالضّوء، يقظةُ الضّوء في الكائنات البشريَّة حتّى الرّوح البالغ السّكون، يوقفُ المتأمّل على غصّة النّور في هيولى توَّاقة إلى الشَّكل، كما في شكلٍ يظهرُ بنوره الّذي فيه ويواصلُ في صراعه ليتحقّق أكثر فأكثر، كما في مثاله المكتفي نورانيّةً وقد بلغ الصَّمت.

لوحة " التّطهّر الرّوحي والمعبد الكونيّ" (مائيَّة. المرحلة الرَّابعة:1923-1931)

wahibk18

من أفق الشّرّ إلى الأزرق اللاّمتناهي تتعاقب رؤيا التّطهّر الرّوحيّ. ... وكلّ التّفاصيل والحالات تبرز واضحة. والرّيشة المائيَّة تتناهى دقّةً في التقاط التّحوّلات في ألطف حنياتها وأدقّ همساتها الرّوحيَّة الجوّانيَّة. وإذا التَّوازن يدرِّج كلَّ الآفاق، وإذا الحكمة في التّسامي تبثُّ السَّلام، فلأنَّ هذه الرّؤيا ارتاحت إلى بلوغها فعلَ الحياة السَّتير في داخلها. وهو فعل الحكمة الرّوحيَّة. وهكذا تتسامى الآفاق متناغمة.
أفق الفساد-الحيَّة الرّمز المألوف والبارد. الأفق الرّماديّ-آثار احتراقٍ كونيّ سقط معه الهشّ من الإنسان. أفق الإنسان-الرّوح المتطهّر وقد عرف محجّته: المعبد. تبدأ الولادة من الدَّاخل. المرحلة الثصَّانية يؤدّيها العددان: إثنتا عشر وسبعة. لعلَّ الأوّل هو رمز كلّيَّة التّنوّع في الوحدة الكلّيَّة. إنَّه رمز حركة قد تكون دائريَّة جموديَّة حول محور. لكنَّ جبران ركَّز مفهومه للحياة وكلّ ما يواكبُها على التّصاعديَّة فإذا الدّورانيَّة لولبيَّة. وهكذا جاء السلّم إلى المعبد سبع درجات. وهكذا تداخل العددان فأوحيا الحركة المتوازنة الطَّاقات ولكنَّها صاعدة. وهذا ليس تجريداً رياضيَّاً. إنَّه حياة شاعريَّة أيضاً. فاللّون-شعر الحياة- يتدرَّج كذلك من الأبيض الموشَّح ببعض ملامح العالم الكثيف في أشخاص طرفيّ الدّائرة، حتّى الأبيض النّقيّ في الشَّخص الّذي بلغ الهرمونيا الذّاتيَّة وهو على الدَّرجة الخامسة.
هذه الرؤيا كونيَّة وإنسانيَّة صاعدة بحكمة عميقة. وهذه الحكمة هي مصدر التّوازن وهندسة الآفاق. وهذا المصدر هو في الأرواح المتطهّرة. والحمام- رمز الرّوح – يوحس تجلّيه كما أنَّه فوق، في الأزرق اللاّمتناهي، أرواحٌ موشَّحة بالغمام الأبيض. ويغدو الكون روحاً واحداً شاملاً ينظِّم حركته بحكمةٍ روحيَّة تتصفَّى فتخلق كوناً جديداً.

لوحة " الصّلاة " (مائيَّة. المرحلة الرّابعة:923-1931)

wahibk19

" وهل الصَّلاة غير اتّساع ذاتك في الأثير الحيّ".
لوحات " النّبيّ" ومنها هذه الّتي تمثِّل فصل " الصَّلاة" تلملمت فيها الشَّموليَّة وبلغت البساطة رهافتها النّسيميَّة لتصبح رؤئً باطنيَّة صرفة. وهل من بساطة دون النّور؟ لم يبق أمام جبران، في خلقِها، سوى الماء المشعشع أو نور الورقة. وهذا المناخ ليس إلاّ لتأتي الرؤى فريدة الوضوح في تراث النّورانيَّة الصّوفيَّة. وآخر ما يسعُ الماء فعله هو تجسيد حياة النّور رهافةً بسيطة. فالرّوح يوحّد آفاق الحياة في التّجوهر والتَّوازن الصَّاعد لتأتي الرّؤيا متناسقة الحركة والإيقــاع. فمـاذا تقـول هـذه " الصَّلاة " ؟
ليس " اتّساع الذّات في الأثير الحيّ " وحده المقصود. إنّما تواحد الرّوح المصليَّة والأرواح الّتي في نفس الحال والأرواح الّتي في الأثير الحيّ. فالثّلاثيَّة التّوحيديَّة المهرمِنة هي الّتي ترمز عن فعل الصّلاة في ذاته. ثلاث أيدٍ، وثلاث أرواح في ثلاثة آفاق: الطّبيعة وقد لازمتها أجسام المصلّين، الأرواح المصليَّة، والغمامة المليئة بالأرواح تلتمّ ونقرأ ارتعاشاتها في انحناءات بإتّجاه نقطةٍ معيَّنة. الهندسة الخارجيَّة تأتي عن هذا العقل الباطنيّ الآتي إلى الوعي. وتضمحلّ الكلاسيكيَّة العقلانيَّة. وتسقط كلّ تكسّرات الخطوط لأنَّ نغم الحركة الجوانيّ هو النّور الحقيقي ومثله أصبح الماء أناقةً وتموّجاً حنون يرسم الحنية بمرونة... والخطّ يغنّي. في هذه الهرمونيا ندرك ملامح دوائر متراكزة. دائرة الأرواح حول النّقطة المعيَّنة الّتي هي فعل الصّلاة الحقّ. هذه الدّائرة تنفرج على دائرة الغمامة الّتي بدورِها تلتمّ حول نفس النّقطة المركزيّة. وهكذا كلّ حركة من الأجسام في الأسفل حتّى الأزرق اللاّمتناهي تلين أكثر فأكثر وتسلّم نفسَها إيقاعاً لطيفاً لسواها. وقدر انحنائها صوب الدّاخل تأخذ بالإتّساع نحو الخارج في عالمٍ لامتناهي الإشراق والشّفافيَّة.

لوحة " وجه النّبي " (فحميّة. المرحلة الرّابعة:1923-1931)

wahibk20

... وتنزل الرّؤيا الأسكاتولوجيَّة إلى الذّات الإنسانيَّة. وتقابلها أشواق الحياة المتبلورة في الإنسان. نزول الرّؤيا تنزيل الأزليَّة: النّور المطلق. وفي صعود الحياة توق الوعي إلى الأزليَّة. وبين الإثنين يولد، في نتاج جبران " وجه النّبيّ". فيه تلتقي الأبعاد الإنسانيَّة وخلاصة التّجارب الفنّيَّة الّتي عاشَها. هنا تكمن كلّ الصّعوبة في خلقه. إنَّه كالكتاب زبدة كلّ المعاناة والجهد المبدع.
لعلَّ وراءَه نماذج عديدة إلاّ أنَّ أبرزَها وجه صاحبه " المصطفى " متكيِّفاً مع وحي لامتناهي الأزليَّة. وفيه يتبادع الواقع والرّؤيا. وتبادع كونويَّة الإنسان والنّور الأزليّ، أتراه سبب انصراف جبران أكثر ما يكون للفحميّ في نتاجه طيلة حياته، ويؤدّي به، خصوصاً "وجه النبي"؟ ولعلَّ حلم جبران الصّوفيّ، النّورانيّ هو بلوغ البساطة في آخر رهافتها. وها هي تقتصر على ورقة بيضاء وملامح أظلال.وتنفذ إلى سرّ النّور الّذي يشرق في العالم، ولطافة العالم الّذي يتروحن بالنّـور. ورقـة بيضاء لامتناهية. وهمسات قلمٍ مرتعشة. العالم، في أناقته، في لمساتٍ دقيقة، حنون، شاعريَّة، شفّافة يغتسل بالضّوء كأنّه لا يريد أن يبقى من العالم فلا يبقى إلاّ في ملامح حضور. فالخطوط تهمّ ألاّ تبقى خطوطاً فتلين، ترقّ، وتحنّ إلى التّناغم في استدارة. وتعانق نور الدَّائرة النّسيميّ الهمس الّذي يوحي الرّأس وليس رأساً. إنَّه ونور الأزليَّة الآتي من بعيد امتدادٌ أبيض وقد انفرج على اللاّنهاية. واللاّنهاية ليس لها إلاّ حضور شفّافٌ في عينين أمسَتا آتيتين منها، وفي شفتين كأنَّهما ظلال الكلمة. وهكذا "وجه النّبيّ " حضور في العالم وكأنَّه ليس من العالم. وجمال العالم في الوعي الّذي يعكس اللاّنهاية أتراه يتبرّأ من أيِّ ملمحٍ من ملامح القوّة فيغدو لطافةً أنوثيَّة لا قدرة لها إلاّ قدرة الكلمة في رسالةٍ أورفليسيَّة؟ أتراه هذا هو السَّبب لوجود ملامحَ توحي معالم كآبة؟
لعلَّ " المصطفى " عارف في ذات ذاته أنَّ لا نهاية الجمال ولا نهاية النّور يذيبانه فيتطهَّر مقدّماً ذاته للنَّار... والنّور.
" وجه النّبيّ " لم يعط له أن ينفذ إلى كيانات أجيال على سطح أرضنا لو لم يكن رؤيا تواحدت، في تكوينِها، أبعادٌ لامتناهية وواكبها القلم معانياً طيلة ستَّة أعوام فجسَّد هذه الرؤيا ثلاث مرَّات بين 1920و 1926.
ونختم هذه القراءَات الّتي أوصلتنا إلى " وجه النّبيّ " بكلمات لجبران دوّنتها ماري هاسكل في يوميَّات 16 حزيران 1923: " ألم أخبرك كيف رأيت وجه النّبيّ؟
ذات ليلة كنت أطالع كتاباً وأنا في فراشي. تعبت. توقّفت وأغمضت عينيَّ... وأثناء هذه الغفوة رأيت ذاك الوجه واضحاً جليّاً... ودامت الرّؤيا على وضوحها دقيقة أو دقيقتين ثمَّ اختفت.
و"النّبيّ" كان محاولة منّي لإعادة رسم "وجه يسوع". وما أكثر ما عانيت في "النّبيّ". أكون مع صحبٍ إلى مائدة... وإذا بالوجه يتراءَى فجأةً... فأرى منه ظلاًّ أو خطّـاً معيَّناً... فأتمنّى... الذّهاب الآن إلى المحترف لأضع هذا الخطّ مكانه في اللّوحة. وأكون أحياناً نائماً... فأستيقظ فجأةً وقد اتّضحت لي تفاصيل جديدة فأنهض وأرسُمُها".