Toufic Daher

المبدع اللبناني توفيق أسعد ضاهر - مجسمات من عيدان الكبريت

المبدع اللبناني توفيق أسعد ضاهر - مجسمات من عيدان الكبريت

توفيق ضاهر أبدعَ سفينة تيتانيك !

لم يتوقع الشاب اللبناني " توفيق ضاهر " أن يأتي عليه يوم يكون فيه قعيدًا على كرسي متحرك، وهو الرجل الناجح الذي عاش زهرة شبابه يجوب الوطن على قدميه صحيحًا معافى ..

إلّا أن رصاصة غادرة اخترقت جسد ضاهر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، أخرجته من دنيا الأصحاء لعالم الإعاقة حيث أصيب بشلل نصفي ..

مصاب ضاهر الذي كان يعمل ميكانيكي سيارات لم يتوقف عند هذه العاهة، بل امتد ليشمل علاقاته بالآخرين، فبدلا من أن يقف الجميع حوله يواسونه ويخففون عنه بلاءه، تركوه وحده يكابد مشقات الحياة، فذاق الأمرين، خصوصا بعدما تخلى عنه أقرب الناس إليه وخاصة زوجته ..

فقد غادرت المنزل إلى غير رجعة، ودون أن تلتفت لزوجها المقعد الدامع الذي ليس بيده حيلة ولا لطفلها الباكي الذي لم يتجاوز عمره الثلاثة أشهر ..

أمام كل هذا راح ضاهر يفكر ليل نهار كيف سيجابه الحياة؟ وماذا سيفعل من أجل تحصيل لقمة العيش الحلال له ولرضيعه دون الاتكال على الآخرين ؟!
.
وظل على هذه الحال إلى أن راودته فكرة استغلال موهبته الفنية في تشكيل مجسمات جميلة من قش الكبريت؛ لكي تصبح مصدر رزقه الجديد .

فقد راح يجمع ذلك القش ويصنع منه مئات المجسمات الجميلة، التي تأخذ العقل لروعتها بداية من سفينة تيتانيك التي دخل بها موسوعة غينيس عام 2002، وهي بطول ثلاثة أمتار وارتفاع نحو مترين ..

كما تتضمن ستة طوابق بكامل تفاصيلها، وملصقة بمادة الغراء وحدها من دون أي مسمار، مضاءة بألفي لمبة من مختلف الألوان، واستغرق العمل فيها أكثر من ستة آلاف ساعة خلال عام ونصف ..

وبعد السفينة صمم العديد من المجسمات في مقدمتها برج إيفل بارتفاع سبعة أمتار ومضاء بأكثر من ستة آلاف لمبة، وغيرها من المجسمات للكثير من الأدوات المنزلية التي تجذب ربات البيوت ..

توفيق ضاهر لم تثنه إعاقته عن إعالة نفسه فقط بل عن إعالة ابنه عندما كان صغيرا، فكان يؤمن له الحليب والحفاظات والاستحمام، ويهدهده ويغني له كي ينام. ويحمله إلى الطبيب كلما مرض، ويوصله إلى المدرسة كل صباح، حتى أتم دراسته والتحق بسوق العمل ..

توفيق ضاهر صنع نموذجا لسفينة «تيتانيك» من عيدان الكبريت وعبر بها كتاب غينيس

رغم الاعاقة التي يعيشها توفيق ضاهر منذ اكثر من عشرين عاماً اثر حادث تعرض له، الا ان ظهوره في كتاب «غينيس» واستقبال رئيس الجمهورية اللبناني العماد اميل لحود له ومساندة احدى السيدات اللبنانيات لاعماله جعلته يشعر وكأنه عملاق يمشي احياناً ويحلق احياناً اخرى. فهو ابن بلدة الفريكة التي اقترنت بالمفكر والاديب امين الريحاني، وقد تمكن من تطويع عيدان الكبريت ليجعلها بمثابة ريشة يلون بها ايامه على طريقته، فيرسم لوحات تنقله إلى أبعد من كرسيه النقال خلف البحار.

هوايته بدأت صدفة عندما صنع غلاف ولاعة من الكبريت، ثم ما لبثت ان تبلورت افكاره في مجسمات اخرى تمثلت في علبة سجائر او اطار صورة، وتطورت لتصبح طاولة نرد أو مجسم قلعة بعلبك، ونمت فيما بعد الهواية واصبحت حلماً نحته توفيق بأنامله. فكانت ولادة باخرة «تيتانيك» المصنوعة من عيدان الكبريت والتي استغرق صنعها ثمانية عشر شهراً، فبلغ طولها ثلاثة امتار وارتفاعها 180 سنتم تألفت من ستة طوابق مع جنزير مرساة، وكلها من الكبريت، وبلغت تكاليفها 7500 دولار اميركي واستهلكت 460 صندوقاً من عيدان الكبريت. احد الاثرياء العرب دفع له مبلغ 135.000 دولار ثمناً لها، الا ان توفيق رفض بيعها لانه اراد من خلالها ان يعبر التاريخ من بابه العريض، وكان له ما اراد عندما نال في ايلول من عام 2002 شهادة من كتاب غينيس لعمله المميز هذا، فأصبح واحداً من نجوم هذه الموسوعة العالمية. ويؤكد الضاهر، الذي شاهد فيلم «تيتانيك» اكثر من مرة، انه انبهر بالباخرة للوهلة الاولى واستصعب نقلها بتفاصيلها لضخامتها لكنه أصر على تحدي نفسه وصمم على انجازها. وبمساهمة سيدة لبنانية هي مارغو كبي، اخذت على عاتقها مساعدة توفيق مادياً لتشجيعه على الاستمرار في ابداعه استطاع تحقيق مراده فكانت ولادة «تيتانيك» اللبنانية.واللافت ان توفيق لا يلوّن عيدان الكبريت بل يستخدمها كما هي على طبيعتها او يقليها بالزيت لتكتسب لوناً برونزياً، كما يقتلع رأسها حتى لا تزعزع المجسم بانعدام التوازن الذي تولده.

لماذا عود الكبريت؟ ـ لا ادري، يجيب توفيق، ولكني اشعر به بين اصابعي مطواعاً اعطيه الشكل الذي اريد. لم افكر يوماً باستبداله بأي مادة اخرى.ويضيف توفيق الذي يعرفه اهل بلدته بـ«أبو أسعد» تكنياً باسم ابنه الوحيد، ان الكبريت هو اوفى صديق تعرّف اليه، واحن ما لمسته انامله. وقريباً جداً سيجسد توفيق علاقته المميزة بعيدان الكبريت في مجسم «الحب» الذي سينطق بلحظات المعاناة والسهر التي عاشها معه على مر السنين.

حالياً يفتخر توفيق بما صنعت يداه، وهو احدث انجازاته الذي تمثل بمجسم برج ايفل، بعد نقله من خلال بعض الصور الفوتوغرافية ويتألف من ثلاث طبقات مضاءة بواسطة ستة آلاف و240 لمبة مربوطة بـ 2116 متراً من الاشرطة استهلك 500 كلغ من الغراء لتلتحم اجزاؤه ورفع عليه العلم اللبناني موقعاً من الرئيس اميل لحود. واستغرق انهاؤه حوالي الـ 12 الف ساعة.

ويقول ضاهر «كنت في السابق احسب وقت العمل بالايام والشهور، الا ان احد التجار المعروفين في عالم الساعات زارني يوماً في جناحي اثناء اشتراكي في معرض، وسط بيروت، وبعد ان شاهد اعمالي بشغف ودقة، غادر ليعود حاملاً معه ساعة يد وقال لي اتمنى عليك ان تحسب وقت عملك من الآن وصاعداً بالدقائق والساعات». قريباً يبدأ توفيق مشروعه الجديد لمجسم المسجد الاقصى، بعده ينتقل لصنع معظم المواقع الاثرية في لبنان على ان يجمعها اضافة الى كافة اعماله السابقة في متحف خاص في بلدته، آملاً ان يزوره اكبر عدد ممكن من السياح الاجانب والعرب كما يقول.

تايتانيك.. سفينة ضخمة من أعواد الكبريت

إبداع لبناني قهر عجز الاعاقة، تايتانيك.. سفينة ضخمة من أعواد الكبريت

باتت عيدان الكبريت «ثقاب»، مثل الكتاب، خير جليس للبناني توفيق ضاهر. فبواسطة 18 مليوناً و400 ألف قشة بنى «سفينة تايتانيك» بكلفة 7600 دولار امريكي، وقد استخدم فيها مواد كثيرة ابرزها 460 صندوق كبريت، 2100 ضوء صغير، وشرائط كهربائية بطول 675 مترا.

توأم «التايتانيك» الكبريتية اكتملت مؤخرا، وطولها 3.5 امتار، وارتفاعها يصل الى متر وثمانين سنتمترا، وتتألف من ستة طوابق، ومسابح وزوارق وسلالم، شأنها في ذلك شأن أي سفينة عادية.

لكن توفيق ضاهر لم يكن شأنه كما آلت اليه اوضاعه بعد حادثة مؤسفة تعرض لها فأقعدته على كرسي الشلل، ولم تترك لديه القدرة على الحركة الا في يديه والقسم العلوي من جسده.

قبل ذلك كان قوي العضلات، صلب العود، يعمل «كالنمر»، كما يقول في محل ميكانيك لاصلاح اعطال السيارات. وتميزت حياته بالهدوء والراحة وحب الحياة والبهجة، الى ان لطمه القدر بلكمة اقعدته، وقلبت حياته رأساً على عقب.

ففي احد الايام جاءه شخص لا يعرفه، وان كان هو معروفاً بانتمائه الى احد ميليشيات الحرب. فطلب شراء سيارته، فوافق توفيق. ثم الح ان يشتريها ويتسلمها في الحال. فدعاه صاحبها الى ان يتسلمها في اليوم التالي، ريثما يكون تدبر امره على عجل بسيارة اخرى. لكن اصرار الشاري على شرطه جعله يوجه فوهة رشاشه الحربي اليه ويطلق الرصاص، فيوقعه ارضاً، ويولي الادبار دون ان تتمكن اجهزة الامن من اعتقاله لان «واسطته كبيرة، ومدعوم من ذوي النفوذ». وخضع توفيق لعملية جراحية واستؤصلت معظم كليتيه، ليكمل حياته مشلولاً، عاجزاً عن الحركة. وبعد فترة تخلت عنه زوجته، وتركت له طفلاً ليربيه، ويخدمه رغم اعاقته المفاجئة.

يقول توفيق: «في احدى المرات اصطحبت ابني في نزهة بالسيارة. فانا استطيع القيادة باليدين فقط. سألني: اين الذي اطلق عليك النار؟ فأجبته انه خارج السجن لانه «مدعوم». لكنني سألته بدوري: ماذا تريد منه؟. فرد علي: «اريد ان اشتري سلاحاً، واطلق عليه الرصاص كما فعل بك».

يتابع توفيق ضاهر قائلاً: «هزتني كلمات ابني، فتساءلت بداخلي: اذا كان مازال طفلا ويفكر على هذا النحو، فماذا يمكن ان يفعل عندما يصبح عمره عشرين عاماً مثلاً؟. وجاء جوابي على الفور، فاشتريت سلاحاً، الى ان صادفت الذي اطلق عليّ النار، فقتلته، ودخلت الى السجن. وصدر علي الحكم طوال الحياة. لكن بعد حوالي اربع سنوات افرج عني بمرسوم خاص اصدره رئيس الجمهورية، نظراً لحالتي. فخرجت الى الحياة مرة أخرى.

ومن جديد بقيت فقيرا، لا املك انا وابني احيانا ثمن رغيف الخبز، كما يقولون. ولهذا قررت ان اعمل أي انتاج يدوي بواسطة يدي لابيعه، ونعيش من مردوده. من هنا صنعت «التايتانيك» بتلك الطريقة، بعد ان كنت قد نفذت بالطريقة نفسها توائم لبرج ايفل «الفرنسي»، وقلعة بعلبك، وغيرهما، واستعد الان، بعد ان احصل على المساعدات التي اتمنى ان تصل الي قريبا، لانشاء متحف خاص لاعمالي اليدوية في بلدتي الفريكة، وهي مسقط رأس الاديب الكبير ميخائيل نعيمة، وسيكون ذلك اول متحف من عيدان الكبريت في العالم كله».