Moustafa Farroukh

ريشة كلاسيكية رائدة، وقلم نقدي سباق – زينات بيطار – باحثة في تاريخ الفن

ريشة كلاسيكية رائدة، وقلم نقدي سباق – زينات بيطار – باحثة في تاريخ الفن

مدماك تأسيسي في تاريخ الفن اللبناني الحديث، وقامة فنية شاهقة بشموليتها الابداعية.

الى تميزه في فن التصوير والرسم والكاريكاتور، كان ناقدا ً فنياً ثاقب البصيرة، ومؤرخاً فنياً متعمقاً في فنون الغرب والشرق معاً.

نتذكره اليوم، وقد مر على رحيله خمسون عاماً بلورت موقعه المتجذر والمتقدم في نشوء حركة الفن التشكيلي العربي الحديث.

ترك نحو 5000 لوحة بمختلف التقنيات بيعت في لبنان والخارج. وترك كتباً مطبوعة:
1) رحلة الى بلاد المجد المفقود: دراسة لفن العمارة والزخرفة في الأندلس.
2) قصة انسان من لبنان: سيرة حياته بشكل قصصي.
3) الفن والحياة: مجموعة مقالات في الفن وارتباطه بالحياة.
4) طريقي الى الفن: نقد فني في صيغة السيرة الذاتية وتاريخ الفنون.
5) وجوه العصر: رأيه في فن الكاريكاتور وصور لمعظم أعماله الكاريكاتورية.

وترك مخطوطة "صوت الحق" (آراؤه السياسية في حقبة الاستقلال، بنقد لاذع لسياسة تلك الحقبة وساستها).

كما ترك مفكرة يومية تتضمن مذكراته وآراءه في الفن والمجتمع والوسط السياسي وحال البلاد والعباد، في حقبة مفصلية من تاريخ لبنان. فهو عايش نهاية الحكم العثماني والحرب العالمية الأولى، ثم حقبة الانتداب الفرنسي وقيام دولة لبنان الكبير والمؤسسات، فالانتقال الى مرحلة الاستقلال من 1943 حتى وفاته (1957).

درس الرسم فترة طويلة: في الجامعة الأميركية (بيروت)، ودار المعلمات الرسمية، ومدرسة مار افرام (زحلة، وكان على رأسها الشاعر سعيد عقل)، وألقى العديد من المحاضرات حول الفن والحياة والمجتمع في الندوة اللبنانية. وعرضت لوحاته متاحف ومعارض عالمية في روما وفرنسا ونيويورك وغيرها، ودخل اسمه (سنة 1950) في قاموس الفن العالمي Benezit.

من البسطة التحتا... الى روما: قفزة نوعية نحو النهضة

نشأة مصطفى فروخ في بيئة متواضعة ومجتمع متزمت (أوائل القرن العشرين) أضفت على شخصيته منذ طفولته الحس النقدي والتمرد المحصن بالمعرفة. فهو عاش غربة روحية مرة بين ما تضطرم به موهبته من طموح وعزم وعصامية واجتهاد مثابر، وبين قيم اجتماعية سائدة هي محصلة نظام اجتماعي وسياسي وديني كان فيها الفن وخاصة فن التصوير محرماً" آنذاك. وهذا يطرح سؤالاً بديهياً حول كيفية تطور مهارته الفنية، خصوصاً أنه فتح عينيه في بيت كل ما فيه بسيط، وفي حي البسطة التحتا حيث لا معالم فنية ولا ما يلهب الخيال. وفي احدى صفحات مذكراته كتب أنه لم ير صورة زيتية أبدعتها يد فنان قبل العاشرة من عمره وقبل أن يزور الفنان حبيب سرور في محترفه عام 1916. كان يرسم كل ما تقع عليه عيناه الواسعتان: الوجوه، المراكب، البحر، المرفأ، السوق، الباعة، الناس. ورغم ظهور موهبته في الرسم في سن مبكرة جداً (الرابعة أو الخامسة من عمره) وما رافقها من نهر وموقف عدائي من أهله وجيرانه وبعض المشايخ (لاعتقاد سائد أن الرسم في الاسلام ومثابرة، ما جعله يبني عالمه الداخلي في صندوق الألوان ويحرسه بأحلام السفر والدراسة. شجعه بعض أساتذته ووجهاء بيارتة (خصوصاً الشيخ مصطفى غلاييني وصلاح اللبابيدي). وتعلم مبادىء الرسم عند ابنة أحد المصورين الفوتوغرافيين (جولي لند) ثم في محترف الفنان حبيب سرور الذي علمه وشجعه على السفر ودراسة اللغتين الايطالية والفرنسية. بعد الحرب العالمية الأولى لم يعد فروخ الى الدرس في مدرسة نظامية بل أخذ يدرس على نفسه، أو يذهب الى مدارس ليلية لتعلم الفرنسية والايطالية، وفي النهار يرسم ليحصل المال. كانت عدته للرسم: السليقة والذوق والموهبة الفطرية، ونصائح من حبيب سرور يسديها اليه. وفي عام 1921 درس على الفنان خليل الصليبي.

عام 1924 تجمع لدى مصطفى فروخ مبلغ يكفيه ليسافر به الى ايطاليا. وهناك درس في الأكاديمية الملكية للفنون (روما) وفي مدرسة خاصة للتمرن. ساعده المونسينيور شديد (من المدرسة المارونية في روما) ورعاه طيلة أربع سنوات اقامته ودراسته (كان المونسينيور شديد وكيل البطريركية المارونية في روما واقتنى لوحات من فروخ استنسخها في المتاحف عن لوحات الفنانين الطليان خلال دراسته الفن الكلاسيكي النهضوي في روما).

انفتحت أمام فروخ أبواب المعرفة الفنية فامتشق الريشة والقلم وراح يسجل ويرسم كل ما تقع عليه عيناه بنهم. عمل ليلاً نهاراً لتعلم مبادىء الرسم وعلم التشريح وعلم المنظور ونظريات اللون والضوء، وزار متاحف روما وقصورها وكنائسها خاصة "فيلا" المتحف الفني الشهير حيث كان يستنسخ أعمال الفنانين الطليان الكبار. وأكب على دراسة تاريخ الفن العالمي وخاصة عصر النهضة فتعمق في أصول فن العمارة وفن النحت وفن التصوير وزار فلورنسا والبندقية ونابولي بومبي وبولوني وميلانو وتورينو الزاخرة بالفنون. درس ليلاً في الأكاديمية الفرنسية للفنون (روما) وفي مدرسة فن الزخرفة (روما) وتخرج منها بالجائزة الأولى. وخلال دراسته شارك في بينالي روما بلوحتين "غروب الشمس وغروب الحياة" و"صورة شخصية أمام المرآة" (1926). وتحقق حلمه الكبير برؤيته لوحاته الى جانب كبار فناني العالم الغربي، وكان فرحه بذلك عظيماً وكتبت عنه الصحف الايطالية: Messagero و Ilpopolo.

كان فروخ شغوفاً بصقل موهبته على أسس تطبيقية ونظرية معاً، ومدركاً بأنه "لا بد مع العمل اليدوي من ثقافة تجلوه وتصقله ليبرز في ثوب متألق وسخي فتتعاون الفكرة الطيبة والمعرفة الحقة والأصول الدقيقة على براعة الفنان في ما ينتجه". انبرى يتمعن في خصائص المذاهب والأساليب والنزاعات والألوان لفنون العمارة والنحت والفنانين الأوروبيين. برع في فهم الفروق بين المدرسة الايطالية والهولندية والمدرسة الاسبانية أو الفرنسية أو الفلمنكية أو الانكليزية، وبات قادراً على التمييز بين لوحة من ريشة رامبرانت وأخرى من فانديك، أو بين أعمال روبنس وفرانس هالس وبين أعمال أعلام النهضة الرفيعة (أمثال ليوناردو دي فنشي، وميكلانج ورافاييل) وأعلام النهضة المتأخرة (أمثال كوريج وجورجي) وبين فرانجليكو وبوتشللي وبيللني وبيروجينو، ما يدل على طموحه وسعيه الدؤوب الى امتلاك أصول المعرفة الفنية الكلاسيكية (وهو ما يفتقر اليه معظم فنانينا اليوم في دراستهم الأكاديمية). وبعد نيله الدبلوم ودع ايطاليا ممتلئا ً بمعارضها الفنية، ومدركاً حينونة الوقت لزيارة باريس كي يجمع بين الاطلاع على الفن القديم الكلاسيكي في ايطاليا والفن الحديث في فرنسا". وقبل سفره الى باريس (25تموز 1927) كتب:"حينما كنت أدرس تاريخ الفن، أحسست بالحاجة للذهاب الى باريس والاطلاع على الروائع المخزونة فيها، لأن باريس في الوقت الحاضر عاصمة الفن الحديث ومحور حركته، ومنها يشع كل تطور فني في يومنا. وباريس مدينة للعلم والنور لا يصح لامرىء يصل الى أوروبا ولا يزورها". وبقيت روما مهد الفن الأول ومحجته الدائمة للمعرفة والجمال فزارها لاحقاً أربع مرات للاستنارة من فنونها اذ ان روما "موطن روحي لي".

باريس والموقف من الحداثة - "صدمة الحداثة"

"باريس كبيرة، ومصطفى صغير، فكيف العمل؟" بهذه العبارة سجل فروخ في مذكراته رعشة انبهار وخوف اعترته في باريس:"لم يستطع دماغي الفني تحمل كل هذا، وأنا قادم من روما، من بلد أوروبي لا من أحد بلدان الشرق الساكن المطمئن. أحسست كأني ريشة في مهب الريح أو ذرة في خضم مترامي الجوانب واسع الأطراف فقلت في نفسي:"رباه... ما هذا؟ باريس كبيرة ومصطفى صغير، فكيف العمل؟". غير أن الله ألهمه أن ينظر حوله فوجد مكتبة اشترى منها دليلاً لباريس وبدأ رحلته الجديدة مع عاصمة الفن الجديد.

أول خطوة قام بها: زيارة المطران فارس (وكيل الطائفة المارونية في باريس) كما فعل حين زار روما، وساعده على الاقامة وتدبر أموره. وقدمت باريس للفنان الشاب كل مستحضرات الحداثة وثقافات الشعوب العريقة على أنواعها (الآثار المصرية والأشورية والفينيقية والفارسية والاغريقية والرومانية وعصر النهضة الايطالية ثم الفن المسيحي والاسلامي والفن الفرنسي) متجاورةً في متحف اللوفر (وهو أول ما قام بزيارته في باريس). روى فيه عطشه للفن. كان أول من يدخله صباحاً وآخر من يتركه مساءً، متعمقاً، متبحراً بخصوصية كل مدرسة فنية وكل فنان، وترك تعليقات هي غاية الدقة النظرية في مذكراته حول انطباعاته في اللوفر، متطرقاً للثورة الفنية التي قامت في الفن الفرنسي مع الانطباعيين. عن أعمال مونيه ومانيه وديغا وسيسلي ورينوار، كتب:"في هذه اللوحات نرى التجدد في التفكير واللون والرسم والادراك والنظر... ساروا بالفن نحو التجدد فبلغوا ذروته في لوحات سيزان". ويقف بالاطراء عند الانطباعية. أما التيارات التكعيبية والوحشية والمستقبلية وغيرها من طفرات الحداثة فاعتبرها فروخ"خرجت عن صفار الفن الجميل" و"أن روحاً خبيثة وخفية اندست فحولت الفن عن طريقه السوي لغايات غير شريفة بما بتته في الأدب والاجتماع والسياسة، نفثت فيها سمومها القاتلة فطلعت علينا بأمثال بيكاسو ودوفي وماتيس، دجالي الفن الذين مسخوا الفن والأخلاق وكدروا صفاء الفن الجميل بأساليبهم الوحشية ليتاجروا به وليفسدوا أذواق الناس.

تربية فروخ الفنية والجمالية على الفنون الكلاسيكية في روما والدراسة الأكاديمية فيها، حالت بينه وبين تقبل ما يتمخض عنه المجتمع الصناعي في فرنسا من مفاهيم حداثية معاصرة كانت تهشيماً لكل القيم الكلاسيكية السوية وخلق مفاهيم وبنى تأليفية جديدة تعكس واقع النظام الرأسمالي وحركة العرض والطلب في السوق الفني. توقف في فنه لاحقاً عند حدود الانطباعية، منسجماً مع ذاته وقناعاته دون حرق المراحل، كما فعل العديد من الفنانين اللبنانيين الذين استهوتهم تيارات الحداثة وبالغوا في تقليدها ونقلوها حرفياً رغم فارق التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخ والجغرافيا. أما فروخ الذي لم يستوعب تيارات الحداثة الصاخبة آنذاك، فكان أميناً مع نفسه وتطوره الذاتي وتطور مجتمعه آنذاك، وهو الطالع من مجتمع متزمت لا يفهم اللوحة الواقعية أو الكلاسيكية، فكيف يتذوق لوحة تكعيبية أو دادئية أو مستقبلية! كان فروخ ابن سياق مجتمعه وحامل قضية النهضة القومية عبر الفن الجميل، وكان يعتبر الرسم"رسالة اجتماعية اصلاحية بعيدة الأثر يترتب عليها انقلاب في أسلوب التفكير ومنحى الخلق وسمو الغاية... فأعني يا رب، وخذ بيدي، ان رسالة الجمال والحب والخيرهي رسالتك".

كان فروخ مسكوناً بهواجس النهضة القومية وتطور المجتمع واليقظة الحضارية، لذا كان في كتاباته دائم المقارنة بين مجتمع وطنه والمجتمع الغربي، بين حضارة الشرق وحضارة الغرب، بين حضارة روما الكلاسيكية وحضارة فرنسا المتجددة الثورية: "فن روما رصين مطمئن، بينما فن باريس فن صاخب ثائر". وزياراته متاحف باريس (اللوكسمبورغ وفرساي) وجامعاتها وكنائسها وبعض غاليريهاتها، ألهبت فيه الحماسة للمشاركة في صالون باريس الرسمي، فابتهج برؤية لوحاته الى جانب كبار فناني الغرب في هذا الصالون ثلاث مرات. وتزامن وجود فروخ في باريس مع وجود عمر الأنسي وقيصر الجميل اللذين ربطته بهما أواصر الصداقة والفن. والتقى في باريس النحات اللبناني يوسف الحويك (1883-1962).

فتحت باريس أمام فروخ طريق ريادة الانطباعية في الفن اللبناني، فكان من أوائل الفنانين الانطباعيين في جيله، الى جانب الجيل الانطباعي اللبناني الأول: عمر الأنسي (1901- 1969)، قيصر الحميل (1898- 1958)، صليبا الدويهي (1912-1994)، رشيد وهبي (1917-1996). وبتت باريس في شرايين لوحته اليقظة اللونية ومعادلة الزمن والنور، والزمن واللون، فعاد الى الشرق يعيد اكتشاف نورانيته ولعبة الانطباع الذاتي في مواجهة متغيرات الطبيعة والانسان والحياة. في طريق عودته الى بيروت (1927) زار اليونان وآثارها وتركيا ومعالمها الفنية.

وفي بيروت أقام أول معرض له (1928) في دار الوجيه أحمد بك أياس، فاحتفلت به بيروت وأهلها ومثقفوها وصحافتها، وكان ذاك أول معرض فردي لفنان بيروتي يصور موضوعات اجتماعية. بعده أقام معرضاً في الجامعة الأميركية ( ال"وست هول") عرض فيه لوحات من مختلف الأنواع الفنية: المنظر الطبيعي، البورتريه، اللوحة التاريخية، صور الحياة والبيئة. ولم يعرض فيه لوحات العاريات لقناعته بأن مستوى ثقافة الناس آنذاك لا تحتمل بعد رؤية أجساد عارية. توخى ايقاظ فكرة الجمال في هذا الوطن، رامياً للاتجاه بالفن الى "وجهة قومية نحن بأشد الحاجة اليها"، في حين تعصف تيارات الحداثة تعصف في سماء المدارس الفنية القومية الأوروبية وتقوض أسسها ومعالمها. كان فروخ مدركاً مسألة التباين في الشوط الحضاري (على صعيد الفنون) بين بلادنا والغرب. وفي حين كان يسعى الى زرع بذور نهضة فنية تسعف في انتشار الثقافة الفنية في المجتمع اللبناني (مرحلة التحول الكبير من النظام العثماني المتخلف الى النظام الاستعماري الفرنسي في عهد الانتداب) كانت أوروبا تعيش مخاض نظام رأسمالي عالمي جديد يسعى الى تفكيك أوصال الثقافات القومية نحو فن حداثي جديد خليط من كل ثقافات العالم. في مطلع الثلاثينات كانت شخصية فروخ تعيش حالة السعي لرأب الصدع بين الواقع الاجتماعي المتخلف وضرورة أن يلعب دوراً نهضوياً بفنه، وبين أحلامه نحو الفن العالمي ومواكبة روح العصر.

البحث عن المجد المفقود بين الشرق والغرب: رحلة باريس والأندلس

رغم نجاح معارضه الأولى (أواخر العشرينات في بيروت وأوائل الثلاثينات) بقي فروخ مجداً، تتقد في نفسه شعلة الفن، جاهداً في التوازن: عين على الغرب، عين على الشرق، الواقع والحلم، الدور النهضوي في بيروت، ومجد العالمية والفن الحديث في باريس.

سنة 1929 عاد الى باريس ثانيةً (ساعده على ذلك الفرنسيون المقيمون في لبنان) للدراسة وتحقيق أهداف ثلاثة:

1) عرض لوحاته في صالون باريس الدولي الشهير.
2) تتبع الحركة الفنية والتثقف بالفن الحديث.
3) زيارة الأندلس والبحث عن المجد العربي المفقود.

كان جسده النحيل ينوء تحت وطأة طموحاته. فالسفر والترحال والدراسة وتسجيل الملاحظات ورسم المخططات والسعي الى ردم الهوة الحضارية بين فنه وفن معاصريه في الغرب،... كل ذلك أشاع في روحه عزيمة الوصول الى عرض لوحاته في صالون باريس الكبير ثلاث مرات، والمشاركة في المعرض الاستعماري في باريس (أحراج فانسين) حيث كان لسوريا ولبنان جناحان شارك فيهما فنانون لبنانيون وسوريون.

يوم عرض لوحاته أحس بالتوازن المعرفي بينه وبين فناني الغرب، فكتب:"شعرت أن جميع الفروق الجنسية زالت من بيننا ولم يبق فرق بيني أنا اللبناني، الصغير سياسياً وجغرافياً من جانب، والانكليزي والفرنسي العظيم من جانب آخر.

أقام في باريس سنتين تعلم خلالهما الكثير وأنتج العديد من اللوحات وأقام صلات فنية واسعة، لكن حنينه الشرقي الدفين كان يشغل خاطره ويلح عليه. في صيف 1930 زار اسبانيا بحثاً عن المجد المفقود في بلاد الأندلس. أمضى هناك نحو شهرين: زار مدريد ومتحف برادو وتمتع برؤية أعمال الفنانين الاسبان الكبار (غويا، فيلاسكيز، ريبيرا، ألغريكو، موريللو،...) وزار طليطلة وقرطبة واشبيلية وقصر الزهراء فيها وغرناطة وقصر الحمراء حيث أقام تسعة عشر يوماً وأنجز العديد من المائيات والمخططات واللوحات. في تلك الزيارة سجل انطباعاته عن مشاهداته ووثقها لاحقاً في كتاب" رحلة الى بلاد المجد المفقود"، أنجزه في حزيران 1931 (بعد عودته من اسبانيا الى باريس) وأصدره في بيروت لدى دار المكشوف عام 1933.

الريادي في النقد الفني وتاريخ الفنون

اعادة قراءة نتاج مصطفى فروخ اليوم، فنياً ونقدياً، لوحة ًونصاً، يفرض وضع الأمور في نصابها التاريخي، واحقاق الفنان فروخ بوصفه أحد أعمدة النهضة الفنية والثقافية في لبنان مستهل القرن العشرين. ولعل ميزة فروخ المجتهد الأكبر، أنه أمضى وقت الدراسة في أوروبا متأبطاً الريشة والقلم معاً، مسجلاً أفكاره وأحاسيسه ومشاهداته على دفتر في جيبه، رفيق درب وشاهداً على ما ترى العين ويرف له القلب وينبهر به العقل.

في قراءة نقدية متأنية لنصوصه في كتبه، نكتشف ريادة ناقد فني كبير، ومؤرخ للفنون، وواضع أسس لغة نقدية عربية سليمة معرفياً، أصيلة الرؤية، علمية الدقة في المصطلحات الفنية، وجدرانية الأحاسيس، متينة الجذور في المقارنة المقاربة بين الأساليب والمدارس والحضارات الفنية. كتابه المبكر "رحلة الى بلاد المجد المفقود" (1933) كشف عن ناقد فني ومؤرخ للفن العربي في اللغة العربية قاطبة ذي موهبة أدبية نقدية أدخلت الى العربية قاموس لغة فنية جديدة تقوم على المعرفة المتعمقة بتاريخ الفن ومراحل تطوره، وخصوصية مدارسه وأساليبه، وتتسم بالقدرة على النفاذ الى باطن العمل الفني وكنه سر بطانته الروحية والمادية، الجمالية والتقنية، وقدرة فائقة على المقارنة والمفاضلة بين الأساليب والطرز الفنية. ها هو يصف جامع قرطبة مقارناً بين خصوصية الحضارة الرومانية والحضارة العربية: "ان الباحث المنقب يلمس في هندسة هذا الجامع، ومن خلال خطوطه الجامدة بظواهرها الفنية، روح الجد والرصانة والايمان المتين، ويدلنا كل قسم فيه عن جد وبأس وقوة عزم بالغة، يذكرنا شيء منها بالروح الروماني الحربي، بما في أعمدتها من فخامة وخصوصاً تاج الأعمدة الذهبية ولكن الرومانية قاسية جافة، بينما العربية لطيفة بما تحمل في طياتها من رقة نقوش وفسيفساء زاهية تخفف كثيراً من قسوتها. ومن عظمة الفن ومعجزاته أن يجمع بين القوة والرقة. وهذا ما نراه في جامع قرطبة الشهير الذي يمثل فناً ونسقاً خاصاً من فنون العرب الكثيرة في الأندلس.

برع فروخ في تقديم الفن الأندلسي. وصفه بمنهجية واضحة مقسماً اياه ثلاث مراحل (أدوار أساسية كما يسميها في كتابه): دور الفتح أو النهضة، دور الانتقال، ثم دور السقوط، رابطاً كل دور بعمل فني يمثله نسق ابداعي في الجمالية والتقنية: مسجد قرطبة رمز نسق الفن الأندلسي في الدور الأول، قصر الزهراء للدور الثاني (الانتقالي) في اشبيلية، وقصر الحمراء في غرناطة يمثل فن الدور الأخير من الحضارة الأندلسية. وما زال مؤرخو الفن الأندلسي والاسلامي يتبعون حتى اليوم هذه المنهجية ذاتها في تقسيم مراحل تطور الحضارة الأندلسية، ما يؤكد وضوح منهجية فروخ آنذاك وسعة اطلاعه على أدبيات فنية تناولت الفن الأندلسي والفن الاسلامي في اسبانيا في الغرب (خصوصاً في فرنسا وانكلترا وأميركا). وأعيد الاعتبار لفنون اسبانيا الاسلامية في الحقبة الرومانسية (الثلث الأول من القرن التاسع عشر) فأخذت تظهر الدراسات حول خصوصية الفن الأندلسي في العواصم الأوروبية.

في كتابه عن فن الأندلس ربط فروخ الفن بالتاريخ في دقة العالم المتمرس والباحث المتعمق، فقدم للقارىء كل دور أو مرحلة، وكل مدينة وآثارها (طليطلة، قرطبة، اشبيلية) مع نبذة تاريخية عن نشوء الفن فيها وقادة وحكام وأمراء بنوا معالمها الفنية. وبرع في تحليل الصروح المعمارية تحليلاً دقيقاً في وصف مفردات العمارة: القوس، العامود، التيجان، العقود، الأبواب، الخطوط، المآذن، القباب، في مقارنة دائمة بين بعضها البعض، وبينها وبين مثيلاتها في الفن الأوروبي.

وصاغ معرفته التاريخ فنية في لغة عذبة بليغة أكسبت الحجر رقة وشفافية، فبات بين يديه قطعة موسيقية تتهادى أنغامها بشاعرية رومانسية تذكرنا بنصوص أدباء ونقاد القرن التاسع عشر في فرنسا، خصوصاً غوتييه ودولاكروى وبودلير الذين كتبوا عن الفن الاسباني وآثار الأندلس يوم كانت الرحلات الى اسبانيا حجاً رومانسياً. واستعمل فروخ العبارات ذاتها في وصف لعبة الضوء والظل وموسيقى الخطوط، وفن الزخرفة في العمارة الأندلسية: "لنقف ونتأمل قليلاً في معجزات الفن العربي: قناطر مشتبكة كأنها أرواح حملت من النقوش الرقيقة المشجرة ما هو أشهى من الثمار، أو كأنها غابة نخيل ظليل في واحة غناء، وعلى الجدران رسم وحفر ونقش وترصيع ووشم غاية في الفن والابداع، تحلت بالذهب ووشيت بالألوان الزمردية والقرمزية والسماوية. ألوان باهرة كالشرق بأنواره المشعة... فأتى شعر من الألوان والخطوط والتناسق لا يقل رقة وانسجاماً عن شعره في البيان. بين هذه الروائع أنزلت آيات الكتاب الحكيم، عبراً وعظات على الجدران، فاذا هي سحر يأخذ الألباب، وموسيقى من الخطوط والألوان كلها تناسق وانسجام".

لا شك أن فروخ قرأ كتباً كثيرة عن اسبانيا والأندلس، وقرأ أدبيات فرنسية تصف حضارة العرب في الأندلس. وهو أتى بنص عربي جديد يجمع المعرفة في تاريخ الفن الأندلسي الى دقة فن العمارة الاسلامية وجزالة الشعر الأندلسي الذي يستشهد فيه دائماً في كتابه، فأضفى على مفردات العمارة الأندلسية وجدرانية رومانسية وشاعرية مفعمة بالوجد. وها هو يصف قصر الزهراء بأنه "يمثل عهداً ونسقاً من نسق البناء العربي وروحاً طليقة حرة أكثر من فن قرطبة وأقل من فن الحمراء. فبينما نرى فن قرطبة ينم عن رصانة وكثير من الورع والحذر بخطوطه الجامدة وأقواسه الضخمة ونقوشه الهادئة دليل حياة الجد والعمل، نرى فن اشبيلية يميل الى الرقة والشعر والترف بما تبديه لنا خطوطه المتعرجة فوق الأقواس والأبواب، فتظهر متحركة ضاحكة يكاد لا يوجد بينها خط مستقيم، وجدرانها مخرمة أو مكسوة بدقيق النقش. وأحاط بالدار رواق فخم ذو قناطر مخرمة قامت على أعمدة رشيقة مزدوجة من الرخام، واكتست الجدران بدقيق النقوش كالتنتناء".

ووصف العمارة بشرح رمزي لأحاسيسه كفنان (الرشاقة، الحركة، الجمود، التناسق، التجانس، التنتناء)، فكتب عن القصر نفسه: "مقصورة حملتها أعمدة رخامية رشيقة كأنها حسان رومية شمرت عن أفخاذ عاجية" ويستفيض في وصفه قصر الحمراء (غرناطة) فيعتبره "أكروبول العرب المجيد" قياساً على حضارة اليونان، وبعد دخوله القصر:"لم أشأ أن أشغل نفسي في البدء بالنقوش والتفاصيل الدقيقة بل انصرفت الى المجموع، ألاحظ التناسق الموزون والتجانس بين الخطوط والمسافات. تلك الموسيقى الهندسية الساحرة تطوف في هذه البركة المرمرية فتفتن الناظرين بتناسب بين الطول والعرض ثم الارتفاع...". وتتجلى ثقافة فروخ الكلاسيكية المعمقة في اختياره مصطلحات الفن المعماري (التوازن، الموسيقى الهندسية، الكل والأجزاء، الخطوط العامة والتفاصيل، النسب بين الخطوط وغيرها) كما تتجلى في مقارباته الدائمة بين الفن العربي الأندلسي والفن الغربي (خصوصاً اليوناني والروماني في قصر الحمراء وفي ساحة الأسود بشكل خاص) فيختم كتابه عن الفن العربي بأن"من مميزات الفن العربي: الشعر والرقة والموسيقى في الخطوط، وهو يجمع البساطة مع الفن والعظمة مع اللطف" ويضيف أن "أقرب الفنون الغربية الى الفن العربي: الطراز القوطي الذي فيه الكثير من اللطف والتناسق. انما هذا، لما فيه من الظلمة والجمود، يضع في النفس كثيراً من الحزن والكآبة ويجعل الانسان لا يفكر سوى بالموت. بينما الطراز العربي، بأنواره وألوانه المشعة وموسيقاه، يبعث في نفس الانسان بهجة تحبب اليه الحياة والأمل. أما النسق الروماني فيدل بفخامته وتقاطيعه وخطوطه الجافة على عظمة مادية وقوة حربية تصور للمرء الفتح والاكتساح، فهو نسق جبار، أما موسيقاه فصليل السيوف وأنين الجرحى. هو فن عملي. وفي هذا الحال أرى أن النسق اليوناني أحسنها، فهو يجمع بين القوطي والروماني، له من الأول الرقة، ومن الآخر القوة، لذا هو طراز مهيب لطيف متناسق الخطوط كله انسجام ينشد فوق أكروبول آثينا أغنيةً رصينةً ويطوف حول تمثال الزهراء بروح الفن والجمال".

أتقن فروخ لغة نقدية تقنية مزيجاً بين لغة عربية بليغة وثقافة فنية تشكيلية متعمقة أضفت على وصفه الفن العربي منطق الابداع والتميز. ومع أنه يذكر في كتابه كتاباً وفنانين فرنسيين وأميركيين كتبوا باعجاب عن الفن الأندلسي ويقتطف بعض أقوالهم، تخطى نصه الوصف التقني والمفردات المعبرة الى ادراك جديد ومتفرد للفن العربي. فهو في اطار التوليف بين الفنون (العمارة، الزخرفة، الموسيقى، الشعر) يربط الفنون بالأحاسيس. وهو قدم في نصه محاولة جديدة في الأدب النقدي العربي تتمثل في محاولته الربط بين الحواس والفنون، بل يحاول الكشف عن الجمال الكامن في قلب المادة وفي قلب الطبيعة وكنه سر كل جزء في الكل أي الوحدة، متبعاً نظرية التوافق أو التمثال La correspondence في رؤيته الحركة الداخلية الى مجمل الفنون التي ترتبط بالحواس في نقل الانطباعات المتولدة عنها، تماماً مثل بودلير والانطباعيين الفرنسيين في البحث الدائم عن حالة تناغم روحي بين عناصر الوجود والتناظر الوظيفي للحواس: الشعر، الفن التشكيلي، الموسيقى، بل التقارب الداخلي بين الألوان والأصوات والروائح والأضواء، بما يؤدي الى احساس نوعي فردي بعناصر الوجود، كأن الفن فعلاً غابة رموز لأحاسيسنا.

من هنا أن نص فروخ حول الفن الأندلسي احتفظ برونقه الابداعي حتى اليوم. وأول من انتبه الى رياديته المستشرق هنري بيريس في كتابه "اسبانيا في نظر السياح المسلمين من 1610 الى 1930" فأشار الى ثورة فروخ النقد-فنية وجهاز مفرداته المعبرة، فاعتبره جرساً جديداً حقاً في أدب الرحلات، و"بفضل كتابه هذا سيرى الشرق اسبانيا بعد الآن بعيون جديدة