Mounir Abou Debs

منير أبو دبس: لم أختلف مع أحد، انهوست بأشخاص فغضب اخرون و انصرفوا

الظاهر في المسرح اشارة الى ما لم يظهر و الذين اشتغلو بالسياسة ضيعوا الفعل المسرحي 
منير أبو دبس: لم أختلف مع أحد، انهوست بأشخاص فغضب اخرون و انصرفوا
حاوره عبيدو باشا - السفير 3 حزيران 2000 دار الصياد مركز الابحاث والدراسات والمحفوظات

ما أحاط بهذه المقابلة، في أهمية المقابلة نفسها. ما أحاط بها، أتركه الى فرصة أو مناسبة أخرى. لم نصل الى بيت منير أبو دبس الا بعد مرور ساعتين ونصف الساعة على تركنا بيروت الى الفريكة. لا أبالغ أبدا ً: دلني الى بيته رجل أعمى. فرغ قلمان جديدان من حبرهما، وأنا أهم بكتابة المقابلة ودخلت في هدأة طبيعة، لم أكن لأحتملها كابن مدينة.

التقيت رائد المسرح في لبنان على مدى خمس ساعات، استعملت خلالها حيلا ً بسيطة، لكي أصل الى مطارح لا تزال مغلقة لدى الكثيرين في مرحلة الستينيات. نجحت ولم أنجح، ما حفزني الى لقاءات أخرى تواعدنا عليها. وهو توسل في حديثه، بأدوات المعلم الذي افتتح مدرسة هامة في تاريخ المسرح في لبنان والعالم العربي. فتح عالمه واستغلق في آن. ثم طلب الي أن تكرر اللقاء لضرورة.

يتساءل الكثيرون عما تفعله فرنسا. ذلك ان لا اعلانات واضحة وصريحة عن أعمال لك، قدمت أو تقدم في فرنسا. تواتر انباء فقط، خمس عشرة سنة يلفها الغموض في الاقامة الفرنسية.

- كنت أعمل في المسرح، بطبيعة الحال بالتعاون مع وزارة الثقافة الفرنسية. أقمت محترفا ً هناك. أقمت مسرح أبحاث. تياتر دي ريشرش (قالها بالفرنسية)، موجه الى الممثلين المحترفين. وهو لا يزال قائما ً حتى اليوم، لأنني لا أزال أذهب وأعود من فرنسا الى فرنسا. عملت في باريس قبلا، في مسرح "موندابا" وفي قاعات مختلفة أخرى. ولكنني قضيت خمس عشرة سنة في مدينة "لاروشيل" أنوجدت كثيرا ً في هذه المدينة، حيث اقيم بيت ثقافي هام. ثم أنني قدمت عددا ً من أعمالي هناك.

مثل ماذا؟

- وجه عشتار، حورية اونتيورش، العرس شواطىء الخسوف...

نصوص بالفرنسية؟

- نصوص بالفرنسية

قدمت أعمالك مع محترفين فرنسيين معروفين: أسماؤهم متداولة. أو عملت مع محترفين في محترفك، أسماؤهم معروفة في الحد الأدنى.

- لا أحد تقريبا. بلى، بلى، ايف لارتيغ. اجمالا... جنفياف بيغار، مهمة لأنها مخرجة وعندها مسرح. الاشخاص الذين اشتغل معهم اجمالا ً، كأعمالي ليسوا أصحاب نزعة تجارية أو حضور تجاري. ليسوا في واجهة تجربة المسرح هناك بالمعنى التجاري، التجاري ليس كلمة صحيحة. لو نبحث عن كلمة أخرى بدلا ً منها.

استهلاكي؟

- استهلاكية، استهلاكي، أفضل. انهم بعيدون عن الاستهلاك، لأنهم يعملون معي في الظل. ذلك أن أعمالنا على صلة وثيقة بالبحث. بالمفاهيم البحيثة في المسرح.

وماالذي يهم مسرحيين فرنسيين في مسرحي لبناني. ماذا يجذبهم الى تجربته، مع الفروقات الهائلة في اللغة والعقل والتفكير وطرق العمل والخبرة والتجربة في معناها التاريخي المستمر.

- أهم شيء في علاقتي بهم، له دخل بموقف خاص من المسرح وهو اعتبار العرض المسرحي كفعل...

نعم؟ 
- انني أترجم. اعتبر العرض المسرحي فعلا مضللا ً للشعور الأساسي، اذا ارتبط بمفاهيم معينة تنادي الممثل لكي يترك ذاته الخاصة ويتصل بمسافات نادرة ذات علاقة بالعتمة وبالمجهول، أكثر مما هي ذات علاقة بالمعروف. استطعت ان اوصل ما أريد اليك؟

نعم. نعم. القضايا الداخلية كل ما هو بعيد في الاعماق الانسانية، كل ما هو مستور.

- ما ريظهر في الفعل المسرحي، يدل على الاشياء التي لا تستطيع أن تأخذ في العادة اشكالا ً ظاهرة. حتى الكلام الذي يقال يدل الى ما لا تقدر على قوله. للأسف لم يعد المسرح هكذا في هذه الأيام. اختلف في كل شيء، على صعيد الممثل والكلمة والديكور. قدر ما يكون فعل الممثل منسحبا، خفي الحضور، قدر ما تجيء، أشياء الديكور والملابس وكل ما هو ظاهر، فقيرة وقليلة الحضور والسطوة... أو الوزن، حتى لا أقول السطوة. قدر ما يكون فعل الممثل منسحبا ً، خفي الحضور.

كل الذين يتحدثون عن مسرحك يتهمونه بالشكلانية، وان اعترفوا بأنك أول من دفع الى الاهتمام بالجماليات في العرض المسرحي.

- أول ما بدأت العمل المسرحي بدأت "على المسرح التوتال" أو المسرح الكامل.

الشامل؟

- بدأت بالمسرح الشامل الجامع بين المسافة والممثل والاضاءة. لم اتغير حتى اليوم، لأنني اعتبرت دائما ً ان الفعل المسرحي ليس للاستعراض. هو لقاء صعب التفسير، غريب، بين الممثل والمسافة والكلمة والضوء. لذلك بقيت أشتغل كثيرا ً على الضوء، على النور. وحين آتي بالممثل، فاني أحدد تحركاته بدقة كبيرة وأحدد وقفاته على الخشبة حتى نقدر أن نصل الى ما هو أبعد من التعبير الظاهر عنده. دوما أطلب منه التراجه عن تعبيره الشخصي الأولي. لأنني اعتبر أن على الممثل، أن "يقشع" الآفاق التي يدل العمل اليها، من زمن رؤيا المؤلف والاخراج الى زمن رؤياه هو. أي زمن رؤيا الممثل نفسه ورفاقه.

حين نختار عملا ، حين نختار نصا، لا نفعل ذلك لغاية أختيار النص وحده، بل لكي نرى ما يقع خلف هذا النص من سماء معينة نستطيع أن نسعى الى امتلاك قدرات الوصول اليها.

كيف تذهب في هذه الطريق كمخرج؟

- لا يستطيع أي مخرج أن يذهب في هذه العملية، اذ لم يكن قادرا ً على أن "يقشع" دروبا ً توصل الى هذه السماء المعينة.

والممثل ينقاد معك في هذه العملية. أن هذا يحتاج الى آلية معينة، الى اتفاق بينكما.

- على الممثل بدوره أن يمتلك القدرة على أن "يقشع" الدروب التي يدل اليها المخرج، وان يمشي اليها، ومن ثم أن يمشي عليها. الأخير، أي الممثل، عليه بصوته وجسده أن يسمح للناس أن "تقشع" ما "يقشع" (ه). وأن يدعوها الى المشي سويا في الدرب الذي يسير عليه. في الحقيقة لم يتغير طلبي من المسرح. ربما تغير شيئا ً ما في أحد الأوقات الصعبة. ذلك انه تحول الى نوع من التقشف.

كنت أعمل مسرحا ً شاملا ً، حتى زمن تقديم "الطوفان" عام 1971 في بيروت، في مسرح القنطاري. أيامها أراد مسرحي أن يتوجه الى عدد كبير من الناس. ذلك انه كان مفتوحا ً أكثر على لقاء شمسي. تغير الأمر منذ "الطوفان". منذ قدمتها في مهرجان برلين بعد تقديمها في عروضها البيروتية. هذه المسرحية شكلت أساسات دخولي الى فرنسا كمسرحي عام 1976. شاهدها العام 1972 في برلين جان لوي مارتينوتي وهو مخرج أوبرا معروف في باريس ومدير أوبرا باريس. مذاك داربي. أخذني من يدي وصار يردد أمام من يعرفني بهم: هذا هو المخرج الذي عمل "الطوفان" طلبوا مني أعمالا ً، آثر تقديمه لي. أعطيت أول عمل هام بالتعاون مع مارتينوتي في اللقاء الخامس للفن المعاصر في مدينة لاروشيل. هناك قدمت "وجه عشتار". وصرت انتقل بين باريس ولاروشيل قبل ان اقيم تعاونا ً مع وزارة الثقافة الفرنسية بشأن انشاء محترفي المسرحي وادارته. 
منذ "الطوفان" دخلت في مناخ قمري. بت أكثر مواجهة للظل والعتم وأكثر ضلوعا ً في التفتيش. صغر حجم المسرح وقل عدد المتفرجين. مشيت في درب جديد، أكملته في فرنسا. درب مرتبط بالبحث عن المفاهيم التي طالما اعلناها بعد ان وجدناها أثر بحث عنها: أن توضع تحت التساؤل، كافة العناصر التي تبني الاستعراض المسرحي أو الفعل. من اللغة الى الكتابة المسرحية ومن الديكور الى فعل الممثل.

مميزون

ما طرحته على الصعيد النظري، أصعب من استيعاب تلاميذك في مدرسة فرقة المسرح الحيث. في معادلة بسيطة هناك شخص ينظر وهناك تلاميذ يستمعون ويتابعون ما لا عهد لهم به سابقا. هذه الفجوة الكبرى بينكم، كيف رممتها، كيف استطعت أن تقربهم من مفاهيمك المتقدمة، هؤلاء من جاءوا اليك بدون كثير معرفة وبدون خبرة نوعية.

- الرفاق أعطوا أنفسهم للمناخ المسرحي وللانتظار أمام هذا العالم البعيد الذي نتصل به. أعطوا أنفسهم بدفق رائع. كان بيني وبين الناس صلة أخوة ترتبط بالحس الأساسي، الذي كأنه الينبوع. كنا عند حد الجنون. ارتباطهم بهذه الحالة المسرحية وبهذه الرؤية جعلهم يلقون بذواتهم. ولأنهم فعلوا ذلك أصبحوا مميزين. مرورهم في مدرستي حولهم الى أناس مميزين. قدروا أن يشتغلوا بهذه المعطيات نشاطا ً مسرحيا ً هاما ً، على الرغم من أنهم في غالب الأوقات. تابعوا توقهم ومطالبتهم بالذي عشناه سويا في دائرتنا المسرحية في دوائرنا المشتركة.

كنت البحر الذي لم يتورعوا عن القفز فيه، لكي يتعملوا السباحة.

- ما تقوله هو ما حدث. صحيح. لقد قدمت اليهم ما يسمح لهم بالتحرك في الحياة. أخضعتهم الى تمارين واضحة كثيرا ً ودقيقة جدا ً. طالبت بها دوما وطالبت بالعمل عليها. في النهاية توصلنا الى سطح البحر. هناك كان على التلميذ، أن يعرف كيف يترك جسده وروحه للموج. وان يكون عنده في هذه اللحظة فرح الوجود بالأبعاد التي لم تطأها من قبل قدم.

كم كان عمرك عندها؟

- 24 سنة.

وكنت ذهبت الى فرنسا، لكي تتخصص في الفن التشكيلي؟

- بللى.

ما الذي دفعك الى ترك التخصص في الفن التشكيلي الى الاندفاع في عوالم المسرح الجديدة؟

- كنت ذهبت لدرس الرسم في الأكاديمي دي بوزار. اخذني وعي بالمسرح الى المسرح. اخذني احساس غريب ممذوج بالوعي والدهشة الى المسرح. ذهبت الى جامعة السوربون لكي أتابع دروسا ً ومحاضرات في الأدب والفلسفة. تبعت بعض الأساتذة الى ذلك كميرلوبونتي. هناك في الجامعة وجدت مجموعة مهتمة بالمسرح الاغريقي. اضحيت عضوا فيها. عملنا على مسرحيات من سوفوكل واشيل ويوربيدس. عملنا أكثر على "الفرس" التي قدمناها في أوروبا. كنا نمثل كل الأدوار. أنا مثلت دور الملكة في المسرحية. لأننا لم نرد أن ندخل الفتيات في تمثيل الدرامات الاغريقية، حرصا على تقاليد المسرح اليوناني الأصلية، فقد أردنا أن نقدم مسرحا ً يونانيا ً بنسبة 100 % لم تكن الفتيات البنات يلعبن دور الفتيات في المسرح الاغريقي، بل الرجال. لعبنا ادوار النساء لذلك. مسرح بوناني تام. كأنه متحف. أقنعة وكورال وموسيقلى قديمة.

من كان في المجموعة الاغريقية هذه؟

- اسمع، جان لأكاريبر. وهو اليوم من أهم المؤلفين في فرنسا. ترجم "أوديب" للكوميدي فرانسيز وكتب عن سوفوكل. انه متخصص في المسرح اليوناني جان بيار هيكال مدير الكوميدي فرانسيز أيضا ً جاك بغي.

كنت رساما ً، وذهبت الى المسرح. لا شك في أن الرسم ترك تأثيره على مسرحك.
- دائما ً. لأنني ظللت افتش عن رؤية متحركة تبدو في الظاهر جامدة، على الحركة ان لا تكسر الثبات. وعلى الصوت ألا يكسر السكون. كأني في النهاية بقيت أبحث عن لوحة توصلنا بألوانها وخطوطها الى ما لا يرى.

خلافات

أود أن أسأل هنا عن قضية محددة، هل عرفت تلاميذك الى المصادر التي تستعملها في تدريسهم؟

- طبعا ً. بالضرورة. تلاميذي مروا في طروحات ستانسلافسكي عندي، قبل ان يذهبوا ويبشروا به، بعد ان غادروا المدرسة. كنت أجبرهم على دراسته، حكيت كثيرا عن ستانسلافسكي أمامهم. وكذلك عن كربغ.

سألت لأن ريمون جبارة، وهو أحد المنتمين الى فرقة المسرح الحديث في بداياتها. صرح في حديث منشور في "السفير" انك كنت تنقل أقوالا ونظريات من كتاب بقيت تخفيه عنهم، حتى انهم لم يعرفوا عنوانه حتى ولا مؤلفه، لكي لا يكشفوا بئر معرفتك.

- هذا الكلام ليس صحيحا. ريمون يحب ان ينكت دائما. انه هكذا منذ تعرفت اليه. هذا كلام غير صحيح البتة. والا كيف أصبح تلاميذي أساتذة، كيف وصلتهم المعلومات؟

وما هو سبب الخلاف الحقيقي بينك وبين انطوان ملتقى . بدأتما معا ً في التلفزيون (ملوك طيبة)، ثم في المسرح. غير أنه لم يلبث أن ترك فرقة المسرح الحديث الى حلقة المسرح البناني الخاصة به. قيل انها منازعات فكرية عنيفة. دفعته الى ترك المدرسة الى الحلقة.

- أنا متاكد بأن أنطوان ملتقى ممثل ممتاز. كان معي في مدرستي وفي أعمالي الأولى هو ولطيفة زوجته. هذا صحيح. قدمنا "ماكبث" أولا ً.

بل "ملوك طيبة"

- لم أعد أتذكر بالضبط. اتذكر "ما كبث" كما أتذكر "أوديب". أنا ناديت لطيفة لكي تعمل معنا. كنا ننادي الناس لكي يعملوا معنا ولا ندعوهم. بدأنا العمل في مسرح التلفزيون. بقي عملنا مرتبطا ً بالتلفزيون قبلأن أنشىء المدرسة بطلب من لجنة مهرجانات بعلبك. ربما بدأت مشاكل أنطوان ملتقى. أثر عودتي من المغرب. حين قررت أن أشتغل على "ما كبث" في جبيل. أول عمل مسرحي في الهواء المطلق. وجدت في أنطوان كرباج مقدرة خاصة في الوقت الذي كان رفاقه في المدرسة يضحكون عليه وخصوصا ً ريمون جبارة. بسبب طريقة نطقه وآدائه. وجدت في أنطوان كرباج مقدرة خاصة، وكذلك في رضا خوري. ربما أخذت بهما منذ ذلك الوقت. وأعترف لك بأنني حين اؤخذ بأحد أنسى الآخرين. هذه خصلة سيئة عندي. هكذا لم أعد قادرا ً على الاهتمام بما حولي. أعتقد بأنني دفعت انطوان كرباج لكي يكون ما كبث. دفعت رضا خوري لكي تكون الليدي ما كبث. اثنان طازجان خارجان حديثا ً من العتم. لم يعملا شيئا ً قبلا ً. انشغالي بأنطوان كرباج ورضا خوري، صرفني عن أنطوان ولطيفة ملتقى. 
هناك ممثل صغير وممثل كبير. ميشال نبعة، انسان رائع . لعب معي دور هاملت، مع انه مثل في مسرحي في معظم الأوقات أدوارا بعيدة عن الواجهة. أخذ دور الحارس في "الملك يموت". ولأنه ممثل رائع عمل من الحارس دورا ً رائعا ً.

ولكن أنطوان ملتقى يروي تفاصيل ووقائع عن خلاف فكري، أغفل قول الكثير. لأنه يريد تركه لمذكراته الشخصية، قال انك لم تكن تدري ماذا تفعل وان لجنة المهرجانات فضلتك عليه، لأن أعضاء اللجنة مالوا الى القادم من أوروبا. ومما قاله أنه طلب تقديم مسرحية لبنانية في المهرجان. لكن اللجنة استمهلته حتى يرد على طلبه، وانتهى الموسم بدون تقديم العمل اللبناني. وجد في ذلك ترفعا ً وتوجها ً فوقيا ً تجاه المسرح اللبناني.

- لا علاقة لي بما قاله انطوان. هذا جائز، خلاف فكري، هذا جائز أيضا ً من زاوية أنطوان ولطيفة ملتقى تركا فرقة المسرح الحديث هما وغيرهما بعد ان بقيا معي فترة في التلفزيون والمسرح، هما الأساس، الأقرب الي والأفضل في التمثيل. جاء الى المدرسة، حين كنت مسؤولا ً عنها. اللجنة لا تستطيع أن تفاضل بيني وبينه. اللجنة عملت اتفاقا معي، لا للأنني اقبلت من أوروبا بل لأنني كنت حملت فكرة انشاء مدرسة مسرح في لبنان. أنا عرضت الفكرة على اللجنة. لم تعرض اللجنة الفكرة علي. من الضروري قول ذلك، كنت مستشارا ً مع الرحابنة في بعلبك، حين جاءت سلوى السعيد الي حين كنت مستشار الفلكلور مع الرحابنة في مهرجانات بعلبك. سألتني عما أنوي عمله بعد نهاية فاعليات المهرجان. فأجبت بانني انوي العودة الى فرنسا: الا اذا طرأ شيء كبير وجوهري يدفعني الى تغيير خططي.

المدرسة

كيف وصلت الى الرحابنة؟

- نحن أبناء منطقة واحدة من انطلياس

ومكوثك في الفريكة؟

- كنا نصيف في الفريكة وبقيت فيها.

وكيف وصلت الى التلفزيون اللبناني؟

- كنت أعمل في التلفزيون مع الفرنسي في قسم المنسرح اشتغلت لمدة ثلاث سنوات. كنت من مرة لمرة اشتغل في التمثيل الى جانب مهماتي. جاء "رينيه اري" ومعه نقولا لطيف الى فرنسا، بهدف الاتفاق مع التلفزيون الفرنسي على انشاء التلفزيون فرنسا، بهدف الاتفاق مع التلفزيون الفرنسي على انشاء التلفزيون اللبناني. قالوا لهما في التلفزيون الفرنسي، هناك لبناني لا بد من ان تتعرفا اليه هو منير ابو دبس. تعرفا الي وطلبا مني أن أذهب معهما الى لبنان للمساهمة في تأسيس تلفزيون لبنان. كنت في ال 26-27 من عمري . وكنت في فريق المسرح الاغريقي في السوربون.

كم كان مضى عليك في فرنسا؟

- تسع سنوات، كنت تزوجت وانجبت بنتا ً. وكنت حصلت مركزا ً معقولا ً. أتيت الى لبنان، حيث تعرفت الى أنطوان ولطيفة ملتقى وبدأنا نعمل في مسرح التلفزيون. الجميع مروا في اعمالنا، طويلا ً أو لفترات قصيرة. جلال خوري مر بسرعة. جاء كل المهتمين بالمسرح. جاء كل محبي المسرح. تجمعوا في التلفزيون. عملنا "ماكبث" في التلفزيون مع انطوان ولطيفة ملتقى، لفتت الانظار كثيرا ً. عاصي الرحباني وصبري الشريف استدعياني كمستشار لأعمالهما في بعلبك. عملت مستشارا ً للاضاءة والمسافات والوضعيات. سينوغرافيا. حين انتهى المهرجان. كنت بصدد العودة الى فرنسا. عندها التقيت بسلوى السعيد. أجبتها مباشرة، أبقى في لبنان اذا ما أستطعت ان أفتح مدرسة للتمثيل هنا. ملت الى الاخراج منذ البداية. لم أمل الى التمثيل كثيرا ً، حيث عرضت علي ادوار اولى في الفريق الاغريقي والتلفزيون الفرنسي، ترددت أمامها قبل ان ارفضها. عرض علي دور في عمل ماخوذ عن دوستويفسكي، دور في غاية الأهمية، أجلت الاجابة، تلكأت قبل أن أعتذر عن لعب الدور. عرفت آنذاك انفي ارغب في العمل من خلف الستارة وليس على الخشبة كممثل. عرفت بأنني صالح لكي أعلم الممثلين. اذا ً، لا بد من فتح مدرسة للتعليم. في حياتي الفنية التي استمرت بين 35-40 سنة، عملت على تدريب الممثلين، أكثر مما عملت في الاخراج. ثلاثة ارباع وقتي أعطيته للمثلين، في تعليمهم وتدريبهم. منها 15- 20 سنة في فرنسا. واذ كنت تفرغت لتدريب الممثلين، كنت أدري بأن الممثلين أفواج. فوج يأتي وفوج يذهب، فوج يذهب وفوج يأتي. 
جاءت سلوى السعيد برد على اقتراحي الذي عرضته على اللجنة. قالت: تريد مكانا ً، نعطيك مكانا ً. وفوق ذلك نعطيك مساعدة ليست مساعدة مباشرة. ولكنها مساعدة تكفي لتغطية حضور 10- 12 تلميذا ً في المدرسة. اللجنة تدفع مصاريف حضورهم. اختاروا التلاميذ الممنوحين بدون ان أعرف أسماءهم حتى. هذه هي المساعدة الجارية التي قدمتها لجنة مهرجانات بعلبك للمدرسة. وهذا المبلغ شكل ميزانية المدرسة. لم نكن نحتاج الى أكثر من ذلك. شكل هذا مدخولي. هكذا بدأت المدرسة برعاية ثلاث سيدات من لجنة مهرجانات بعلبك، سلوى السعيد وسعاد نجار وجانين ربيز. رافقوا المدرسة، حملوها وحملوا مشاكلها على أكتافهن. جاء الى المدرسة انطوان ولطيفة ملتقى وناظم جبران وريمون جبارة وانطوان كرباج ورضا خوري و...

ذكرني بأسماء أخرى.

ميشال نبعة.

- وميشال نبعة واسعد خير الله الذي صار أستاذ فلسفة ومادونا غازي. لا، مادونا اشتغلت معنا في مسرح التلفزيون ولم تجىء الى مدرسة التمثيل. ثم عادت واشتغلت معي بفاوست. دخل الى المدرسة ما يقارب ال 200-300 شخص في أفواج، في أجيال متعاقبة. لا أستطيع أن أتذكرهم كلهم. جاءت رينيه ديك وميراي معلوف وجوزيف بونصار ورفعت طربيه. رجعنا الى سؤالك القديم. حول ترك انطوان للمدرسة. انهم يأتون ويذهبون. هذه هي الآلية الطبيعية، يأتي رفاق ويمضي آخرون. لم أجرب أن أعرف لماذا يأتون أو لماذا غادروا ولو لمرة واحدة. لا أسأل لأنني اعتبر الوصول الى مدرسة مسرح وتركها قضية خاصة جدا ً. يأتون أولا يأتون. هذا ليس أساسيا ً في المدرسة. الجو والمكان هما الأساسيان. عندي اليوم في قرية الفريكة محترف ، يأتي اليه التلامذة ويذهبون. لآ أسأل لماذا يأتون ولا أسأل لماذا يذهبون.

لم تقع مشاكل بينك وبين أنطوان ملتقى في المدرسة؟

- لا أعرف. لا أفهم ما قاله. عندي رؤية غير الرؤية الخاصة به. هذا شأنه. ولكنني أعرف بأن عند أنطوان الممثل توقا الى الاخراج. وأنطوان ملتقى المخرج هو غير انطوان ملتقى الممثل بالتاكيد.

شاهدت له عملا ً أخرجه؟

- لا.

لم تشاهد له ولا أي عمل؟

- ربما شاهدت له عملا ً واحدا ً. شاهدت له "مكبث" التي قدمها في مهرجانات "راشانا".

قدمت "مكبث" في مهرجانات جبيل وقدم "ماكبث" في مهرجانات "راشانا" في الوقت نفسه. حدث تنافس بينكما، هذا ما قاله لي أنطوان ملتقى.

- شاهدت "مكبث" في راشانا.

وبماذا خرجت أثر المشاهدة؟

- أنطوان ملتقى يهمه النص كثيرا ً. صار يشدد على النصوص، على الارتباط بالنص. عندما عملت "الازميل" اعتبر هو وانطوان معلوف مؤلف المسرحية انني خربت النص. بعد الحركة المسرحية لم يبق من النص الا القليل. أعمل هكذا حتى مع شكسبير وبونسكو. كيف أغادر مفهومي أمام عمل محلي، ما دامت الكلاسيكيات الكبرى عرضة للاقتباس والشغل الحركي عليها. النص عندي لخدمة الحركة المسرحية. المسرح ليس نصاً. الكلام يلتقي والحركة ومع ما يرى حتى يدل الى شيء آخر.

بعد أن قدمت "الازميل" كما قدمتها، عاد أنطوان ملتقى وقدمها بنصها الكامل، على الرغم من أنه ليس من حقه ذلك. لأن لجنة مهرجانات بعلبك منحته جائزتها عن النص. وفي شروط الجائزة، أن لا يقدم نص آخر قبل مرور سنة على موعد تقديمه الأول. عملت على النص كما أعمل في العادة. وليس ضد نص أنطوان معلوف، تلميذي الذي لعب معي في "مكبث" في جبيل.

بدأنا تفهم أسباب الخلاف واحدة واحدة. النص واحترامه من أسباب الخلاف، وغير ذلك، ماذا بالضبط؟ قصة ادارة أو تسيبر.

- ادارة المدرسة؟ أظن أن أنطوان ملتقى عمل مديرا لقسم المسرح في الجامعة اللبنانية بطريقة ممتازة.

- عمل رئيسا ً وكتب المنهج الذي لا يزال يدرس حتى اليوم.

لا أستطيع أن أهتم بالمسائل الادارية، كما يهتم هو. شخصيا ً أفهمه، أنا عكسه، أفضل أن يبقى الفعل الفني، على مسافة من الادارة، الادارة تختصر لدي، بأن تكون أنت الممثل على الوقت تماما ً ان تدخل في الفعل الفني، في الصفاء الفكري والنفسي المتوجب. خارج هذا، حين يخرج الممثل من دائرتي، من دائرة الخلق لا يعود لي علاقة به ولا أعود أعرف كيف أتعاطى معه، غير هذا كل ما يقال، على السنة الذين مروا في المدرسة وتركوها، لا دخل لي به، كل واحد يقول شيئا ً مختلفا ً عن الآخر.

حاول أنطوان ملتقى أن يتدخل في شيء لم ترد له أن يتدخل فيه، فحصل الخلاف؟

- لا أبدا، لم يحدث أي خلاف.

لم تسمع فلم ترد، أم أنك سمعت ما يتردد عن طبيعة عملك في المدرسة ولم ترد؟

- لا ، أبدا. لم أعرف مرة لماذا ترك أنطوان وغير أنطوان، ذهب أنطوان ورفاق كثيرون. ميشال نبعة وانطوان كرباج بقيا معي لمدة عشر سنوات، قامت أعمال المدرسة على أكتافهما، من "ملوك طيبة" الى "الملك يموت" و"علماء الفيزياء" و "هاملت" و "الازميل" ثم تركا.

الساعة السويسرية

يروى عن أنطوان كرباج بأن نجاح مسرحية "الملك يموت" لا يعود الى بنيانها الأساسي، بل الى انحرافها عن خطها الدرامي. ضحك الجمهور في الصالة، اعتبروها كوميديا، بدل تراجيديا، فصارت كوميديا أحب الجمهور طابعها الكوميدي. أمتد عرضها نتيجة ذلك.

- لا، أبدأ هذا ليس صحيحا ً البتة. ألف مرة، لا شعرة من الخارج، لا تستطيع أن تدخل في أي عمل من أعمالي. هذا شيء لا يحدث معي "الملك يموت" مدروسة كما هي الساعة السويسرية، لا مجال لدخول حبة غبار اليها. أعمالي دقيقة كثيرا ً. "الملك يموت" بخاصة خضعت الى مراجعات دقيقة من قبلي. تحدث أشياء غير متوقعة في أحيان، فهمت عليك. ولكن العلاقة بين الصالة والجمهور، لا وجود لها. الجمهور لا يستطيع أن يؤثر في العرض بشيء. أن يأتي مشاهد أولا ً يأتي، هذا لا يهمني. حين أقوم بابحاثي، أسعى الى أن أكون أقرب ما يمكن الى الوضوح. ولكنني أبقى معتما ً، مع ذلك، لأن الحياة معتمة. ولأن كل شيء حولنا، معتم. حتى نور الشمس معتم.

تحدثت عن ستانسلافسكي وكريغ، ألم يعن لك غروتوفسكي شيئا ً؟

- كيف؟

ألم تجده قريبا ً اليك! قريبا ً منك؟

- أنا من جئت به الى لبنان، ذهبت الى بولونيا مع جانين ربيز وواثق أديب، وجئنا بغروتوفسكي لكي يعرض في لبنان. أخذتهم اليه.

ماذا تحب في غروتوفسكي؟

- هناك فروقات بيني وبين غروتوفسكي. غروتوفسكي من الاشخاص الذين عاشوا حياتهم كما عاشوا مسرحهم. لم يفصلوا بين الاثنين. حياته غير مفصولة عن مسرحه. أنا هكذا، انسحابه من الاستعراض المسرحي، رافق انسحابه في حياته من ضجيج العالم وفوضاه الى انعزال أوصله الى التفتيش في الهند والى دوائر عاش فيها آخر حياته. أصبحت تفتيشا ً عن معنى الوجود بدون حاجة الى آداء ذلك على المسرح.

التقيته في باريس؟

- باستمرار،ى الى ما قبل فترة قصيرة من عرضه.

تحب تقشفه؟

- اني اعتبره من الرفاق. دروبه، كأنها دروب حياتي. هناك فرق بيني وبينه، لأنه ركز كثيرا ً على امكانية الجسم، على الممثل البدني الاسبرطي، بينما أنا في تماريني وفي عملي، اهتم كثيرا ً بالرؤية قبل أي شيء آخر. كل شيء يتبع عندي، الرؤية والتنفس. أنا في شغلي قريب من المذاهب الشرقية.

مسرح ياباني وصيني وهندي.

- وربما المسرح الصوفي.

قد نشتف أثر قولك هذه عناصر دينية في مسرحك.

- لا. الأنظمة الدينية عندها طقوس متفق عليها، لا يجوز تحويلها بينما الفعل المسرحي هو في تحول دائم.

والطقس تجده موجودا ً في مسرحك؟

- كل شيء أعمله، لا أعتبره ناجزا ً وانتهى الشغل عليه الا بعد أن يصير طقوسيا ً.

الترداد في الحركة في مسرحك، الزنة، الكلمة المطردة الحضور عبر نطقها الأول في سلم، هي في عناصر طقس مسرحك؟

- ما تقوله صحيح. والطقس موجود في طبقات القول. الكلمة والحركة يدخلان دائما ً في طبقات خاصة في مسرحي، لأنهما دائما متصلان ومحمولان باللاوعي.

طقس شرقي.؟

- طقس شرقي. ربما هذا ما يجذب الفرنسيين الى العمل في مسرحي. هذا يجيب عن سؤالك الأول. يجذبهم الي ويدخلهم الى أن يحسوا ان مسرحي على علاقة بالامألوف، طقس شرقي حميم، ولكنني لا أظهره عن قصد. انه يسكنني وانا مسكون به.

شاهدت مسرحا ً في لبنان، شاهدت مسرحيات في الاونة الأخيرة.

- لم أر كثيرا ً. شاهدت قليلا ً من المسرحيات. ولكنني شاهدت.

تحس فرقا ً كبيرا ً بين مرحلة الستينيات والمرحلة الحاضرة؟

- نعم.

لماذا؟

- بدا التغير منذ العام 69-1970. أول ما بدأ المسرح يحكي سياسة. وقتها، ذهب الكثير من الرفاق صوب هذا المسرح كريمون جبارة، بشكل مباشر أو غير مباشر. كثر الاهتمام بالارتباط بالجمهور. صار المسرحيون يريدون جلب الجمهور بالعمل على وساوس هذا الجمهور، ابتعدوا عن الفعل الفني. دعك من هذه العبارة ، قل ابتعدوا عن مرآة المسرح.

ما هي مرآة المسرح؟

- نحن لا نعرف ما هي الأبعاد الموجودة في مرآة المسرح، لكن كل شيء معروف يمحى في مرآة المسرح والرفاق الذين انشغلوا بالسياسة، لم يروا الا المعروف. ذلك كمن يعمل على اللاشيء.

يخيل الي اليوم، انه مع الاستهلاك وسطوة التلفزيون، صار المسرح ملك المنتج، والمنتج هو التاجر. هناك الدعاية. والدعاية لا تبيع الا البضاعة المطلوبة التي يريدها الكل، التي يريدها العدد الكبير. هذا الدرب هو العكس للمسرح الذي عملنا له واشتغلنا لأجله. أنا مع فرويد في هذا المجال، حين قال: لكي تستطيع أن تلتقي بالفكر، باللاوعي، عليك أن تنعزل. الفعل المسرحي، عليه أن يقلم الناس الانعزال والاصغاء الى الذات.

العملان الأخيران اللذان قدمتهما في مسرح بيروت ومهرجانات بيت الدين. استطاعا أن يقدما صورة عن تجربتك القديمة؟

- لا.

لماذا قدمتهما اذا ً؟

- في بيت الدين كانت المشكلة، مسرحيتي التي قدمت في المهرجان لم ترفعلا، بقيت في صورتها التي "انقشعت". قلائل استطاعوا الأتصال بها. واذا لم يرد شخص ان يدخل الى مسرحي، يضجر بسرعة، يخربط ويزعج نفسه ويزعج الآخرين.

لماذا قدمتهما. لم تجب عن السؤال؟

- أحببت أن أعمل هنا

منير أبو دبس ماذا الخشبة؟

من فرنسا البرنامج الذي وزع ليليا من 12 الى 24 تشرين الاول على رواد صالة "الماندابا" الباريسة (6، شارع فورتر، باريس 13) لمتابعة العرض المشهدي باللغة الفرنسية للبناني منير ابو دبس. و في البرنامج التفاصيل لقطاف خصب للتجربة منذ اكثر من ربع قرن حول معنى آخر للمسرح من خلال استنطاق جسد الممثل ومداه الداخلي كما يستكشفهما ابرز مؤسسي التيار الاختباري في المسرح اللبناني، واستمر ابو دبس رغم هجرته من لبنان وتخليه نوعا ً ما عن اللغة العربية (الفصحى والمحكية) الى اللغة العربية (الفصحىى و المحكية) الى اللغة المتداولة هناك حيث عمله الجديد، اي اللغة الفرنسية، على السلوك المسرحي نفسه الذي بدأه في لبنان عندما اختار في 1971 (مع "الطوفان") تكثيف تجاريبه واخذه بزمام العرض من خلال حصره في ذاته (نص الحوار - الاخراج - السينوغرافيا - اختيار بقية العناصر المرافقة...) مع الممثلين العاملين لي شكل دائم في محترفه (الحسد ولغة ومدى شعري ملون بالاشعاعات الصوفية).

والبرنامج يحوي جميع المواصفات المشهدية لمنير أبو دبس النص ولو مقطوفا ً من "مكبث" (1606) أي من احدى الروائع (مع "هاملت و "عطيل" و "الملك لير") التي كتبها وليم شكسبير (1564-1616) في مرحلة عاصفة سويدائية من حياته (من 1600 الى 1608)، هيأه ثانية منير أبو دبس فاختار فقط مشهد "الرقاد" لصياغته وتقطيعه وتوليفه فالوصول به الى هالة طقوسية انشادية تصلح في نظرة للتعمق المشهدي عبر ثلاثة ممثلين. ذلك ان تعريف منير أبو دبس كما في البرنامج: "مكبث / الرقاد، دراسة من أجل ثلاثة مسرحيين، توصيب منير أبو دبس واخراجه". ولا جديد لمن تابع التجربة الأبودبسية منذ اولى قصائده الدرامية أي "الطوفان (أيار 1971)، فهذا نهجه التأليفي للنص المشهدي وطريقته في تشكيل العرض على قامة اداء / ايماء / انشاد ممثلين قليلي العدد منم الخمسة وما دون. ولا ندهش بعد ذلك لقراءة ملاحظة في أسفل الصفحة، انه مسموح فقط لاربعين متلقيا ً ان يكونوا في القاعة عند كل عرض. ومعروف عنه في بيروت وخاصة في صالته في شارع كليمنصو، رأس بيروت، انه كان يقف ليليا عند، لا يتعدى الاربعين:اذا ان كمية أوسع من المشاهدين تؤثر سلبا ً على العلاقة المنصبطة انفعاليا ً وعاطفيا ً وعقلانها أي جسديا ً وروحيا ً، بين المجريات الطقوسية على المنصة والحالة الصافية المفترض انتشارها في ناس الصالة.

و"الماندابا" صالة مصنفة باريسيا ً بالاختيارية الصرفة. وطابعها الفعلي الانفتاح الكلي على الحضارات الشرقية من هندية ويابانية وصينية وفارسية وعربية. وتضم أكتر من محترف ووحدة فنية (باليه، ايماء، موسيقى غناء...). والهاجس الثقافي فيها عام. ولا يفاضل بين فن وآخر سوى بما فيه من قدرة على تقوية التفاعل. وسبق لي أن تابعت في "الماندابا"عرضا ً طقوسيا ً وافيا ً ومثيرا ً لحلقة ذكر براقص واحد (اذا صح القول). لادل على صورة النشاط في المركز، ولمنير أبو دبس فيه محترف عمل مسرحي كليا تحت الاشارات الصوفية وتطعيم الآداء / التمثيل بالمدى الروحاني كما في الوجدان الشرقي. والممثلون الثلاثة في فكبث/ الرقاد من المجموعة في المحترف. وكان منير ابو دبس اكد لي في آخر لقاء لنا في باريس (نهاية أيلول 1987) ثقته القصوى بقدرات الممثلين الثلاثة الفرنسيين على الوصول الى حالات طقوسية انشادية شرقية من خلال نصه عن وليم شكسبير. والممثلون الثلاثة، كلودين توميه وايف لارتيغ وكلوديا كريستيانس، اجساد مطواعة قابلة للوقوع في الاندماج والتحولات والذوبان الصوتي في التماوجات الايمانية المطلة على التشاكيل البصرية. فأي عرض لمنير ابو دبس يصل في حالاته المتطرفة الى تقميش الصوت بزحم بصري وتلبيس الجسد قدرات النطق وقطف الحدث المسرحي كأنه بالية بصري يتمدد وينمو وينساب ويسع أكثر من التحرك المادي العقلاني.

وبعض ما تحدثنا عنه معا ً في مقهى البونابرت (في حضور رباب سليم) جاء في البرنامج بتوقيع "محترف منير أبو دبس":

تقدر ما التمثل يتوارى ويحتجب، هو غير الممثل يتجه متحولا ً الى حدث حسي. ويقدر ما التمثل يثبت ويتأكد هو يحجب ما نأمل اللقاء به.

عندما تماريننا توصل الممثل الى عناصر المنصة والعرض، فالهدف مساعدة الممثل على الانعتاق من تسقط هذه العناصر عليه، على اختراقه اياها، على ابرازه هذا الجزء البعيد غير المنتظر من حضوره، هذا الجزء الغائب عادة عن هذه العناصر.

ان لا تغمرنا التأثرات، بان تفسح لعواطف لم توجد بعد فينا (محترف منير أبو دبس- بالفرنسية) ومدة "مكبث / الرقاد" ساعة (التاسعة ليلا ً ما عدا الاحد). والابواب المقفلة دقيقة قبل البدء تماما ً كما في بيروت. وتصرفه ليس بدعة أو نزوة. ولكنه بضغط الحاجة الى صمت متبادل بين المنصة (المؤدي) والقاعة (المتلقي)، حتى ذوبان الاثنين في حالة نفسية وجدانية طقوسية ما هية ممدة الساعة التي تهناها ً منير أبو دبس منذ الطوفان"، ثمرة التجربة، مذ تراءى له ان الزمن المثالي للاستيعاب في هذا النوع من العرض لا يتعدى عند غالبية المشاهدين الستين دقيقة. ويتوقف على كون الجمهور شريكا ً مندمجا ً، وان حضوره مجدول على طاقة الممثل لاجتذاب ناس الصالة الى التبلل الفعلي باجواء حلاته. فلا مكان لاي حضور بريء أو مجاني فالعرض يكتمل محتاجا ً الى صهر جميع الحاضرين في هذه الوحدة المعمارية المضغوطة زمنيا ً والمقفلة على ذاتها. ويشدد على طبع العرض البصري. وعلى ان دور العين استكشافي وراء الغوص اولا في دهاليز الذات. لان للعرض طابع الجرح العميق في الزمن العاطفي لكل منا، وهو للقادر على الانسياب الى داخله وقطف رحيله والا فما عليه سوى اللحاق بالمسرح الآخر، الروائي الاخباري الوصفي الى الملحمي. "ولذا اخترت كتابة نص منذ "الطوفان". وغلط هو الظن انني فعلت ذلك لغياب النصوص المسرحية، كلا، فقط لان نوعا ً معينا ً من النص المسرحي ما عاد يفي حاجتي اليه. وعلى الحدود الاخيرة لهذا الموقف اعتبر ان المؤلف المسرحي بالمعنى التقليدي ولو اتخذ شكلا ً طليعياً دخل الذاكرة الثقافية". والنص البديل في نظره يختزله قولا وايماء جسد الممثل. اذ للممثل معنى اختصار التاريخ والجغرافية والانسان: "وظني انني بلغت الآن درجة قصوى من الذوبان في الممثل. ومن خلاله بلورة نقية لمعنى العرض المشهدي". ويعترف فرحا ً أن مرحلتي ما قبل "الطوفان" (أيار 1971) وما بعده متساويتان في الاهمية وفي توعية تجربته ودفعها الى حيث وصلت اليوم: "أن تعاوني مع كبار المترجمين اللبنانيين واهم الممثلين كما رضا خوري وميراي معلوف وانطوان كرباج وميشال نبعة ورفعت طربيه، دفعني الى توظيف طاقاتي بحثا ً عما وصلت اليه اليوم ولو أنني اتابع تجاريبي باللغة الفرنسية". واستعمال اللغة لم يبق محتاجا ً الى نقاش: "لكون اللغة الفعلية الجسد الناطق بكل ثوابته وتحولاته. فلا مفاضلة لدي بين عربية وفرنسية واي لغة غيرهما، فالتوظيف فقط على حسب حاجة الزمان والمكان". وفي كلامه عن الممثل: "انه النص يصادر بقية عناصر العرض. وانه في "مكبث / الرقاد النقطة السحرية لكل تحولات المنصة البصرية".

نزيه خاطر