May Ziade

Arabic Version

مي زيادة

ولدت مي زيادة في الناصرة في فلسطين في الحادي عشر من شهر شباط سنة 1886. والدها الياس زخور زياده، لبناني من قرية شحتول في كسروان ، والدتها نزهة معمر، فلسطينية من الجليل.

دخلت مي مدرسة الراهبات اليوسفيات في الناصرة سنة 1892، وظلّت فيها لغاية سنة 1899.

ولمّا بلغت مي عامها الرابع عشر، أتي بها والدها الى لبنان وأدخلها مدرسة راهبات الزيارة في عينطورة. واستمرت هناك لغاية سنة1903. وفي سنة 1904 انتقلت من مدرسة عينطورة الى مدرسة الراهبات اللعازريات في بيروت.

وفي سنة 1908 انتقلت مي مع والديها الى القاهرة، وذلك بعد أن قرّر والدها ترك مهنة التدريس في الناصرة والانتقال الى القاهرة، حيث كان المجال مفتوحاً أمام العديد من اللبنانيين للعمل في المجالات الثقافية ولا سيما الصحافة. وفي القاهرة دخل الياس زياده العمل الصحفي في جريدة «المحروسة» وأخذت مي تقوم بإعطاء دروس خصوصية لبنات إدريس غالب وهو أحد وجهاء وأثرياء مصر.

وفي سنة 1910 نشر ديوان بالفرنسية لمي تحت عنوان (Fleurs de Rêve) ازاهير حلم واتخذت مي اسماً مستعاراً هو (إيزيس كوبيا) (Isis Copia) ظهر عل غلاف الديوان .

وما لبثت مي أن ترجمت عن الفرنسية الى الغة العربية قصة (رجوع الموجة ) لبرادا Prada ونشرت الترجمة مسلسلة في جريدة المحروسة.

ولم تكتف مي باللغة العربية والفرنسية بل أخذت تدرس الألمانية والانكليزية.

وجاءت مي الى لبنان سنة 1911 حيث انصرفت الى ترجمة قصة «الحب الألماني» لماكس ملر عن الألمانية .
وعندما عادت مي في آواخر الصيف الى القاهرة قرّرت نشر الحب الألماني قصة متسلسلة في جريدة المحروسة تحت اسم «ابتسامات ودموع».

ولم تنقطع مي طيلة هذا الوقت عن الكتابة في الجرائد والمجلات، ولا سيما الخواطر التي بدأتها بخاطرة تحت عنوان «السانحة الأولى» وقد نشرتها فيما بعد في كتاب تحت عنوان «سوانح فتاة» .

والى جانب النشاط الصحافي والأدبي الذي كانت تقوم به مي، من كتابة مقالات وترجمة وتأليف الكتب، كانت تشارك في الحركة النسائية على اختلاف جوانبها الثقافية والاجتماعية والسياسية .

وكانت بداية معرفة مي بجبران سنة 1912 عندما قرأت له مقال «في مثل هذا اليوم ولدتني أمي» ومن يومها تتبعت مي كتابات جبران. وكأنها لم تكثف بما قرأته منها للتعرف عليه فكتبت له وأجابها جبران وكانت رسائل متبادلة استمرت حتى آخر أيام جبران. ولم يكن جبران الوحيد الذي تبادلت مي الرسائل معه فقد تبادلت مي الرسائل مع العديد من اعلام الثقافة والعلم والأدب في عصرها .

ولم يقتصر نشاط مي على الكتابة بل تصدرت المنابر خطيبة ومحاضرة فألقت خطباً ومحاضرات عديدة .
ولم تشغل الدراسة في الجامعة ميّا عن نشاطها الفكري فقد ظلّ صالونها مفتوحاً كل ثلاثاء وظلّت برامج الحفلات والمناسبات الاجتماعية والثقافية تحفل بخطب ومحاضرات مي. وظلّت الصحف تحمل مقالاتها الواحدة الأخرى.
وكانت حديث المجتمع في مصر خاصة والبلاد العربية عامة، خلال الشهرين الأولين من سنة 1919 تلك المساجلة اللغوية الطريفة التي أثارتها جريدة الأجبشن ميل التي كانت تصدر يومها في القاهرة واشترك فيها العديد من الكتَّاب وحملتها اعداد الصحف الصادرة في مصر. وعلى الأخص جريدة الأخبار. وكان أبرز هؤلاء المتساجلين «خالد رأفت» الذي لم يكن سوى مي زيادة التي تخفّت وراء هذا الأسم وقد نشرت المقالات التي شاركت بها في هذه المساجلة في كتاب «بين الجزر والمد» فيما بعد .

ولم يكن نشاط مي منحصراً في الأدب بل كانت تولي الموسيقى اهتماماً خاصاً نعرف ذلك من معاصريها كالدكتور فؤاد صروف الذي ذكر ان ميا كانت موسيقية بارعة تتقن العزف على بعض الآلات الموسيقية .

وكانت حديث الأوساط الثقافية سنة 1921 في مصر محاضرة عن «غاية الحياة» التي ألقتها في الجامعة المصرية في 29 ابريل سنة 1921 اجابة لطلب جمعية « مصر الفتاة» وكانت باكورة خواطرها التي ضمها كتابها «ظلمات وأشعة» فيما بعد تلك الخاطرة التي نشرتها تحت عنوان «أنا والطفل» في مجلة المقتطف.
 
وفي تلك السنة، أي سنة 1921 ، باشرت مي بنشر مقالات تحت عنوان «المساواة» في المقتطف، واستمرت في نشرها لغاية سنة 1921 تناولت فيها المواضيع التالية: الطبقات الاجتماعية – الاستقراطية – العبودية والرق- الديمقراطية- الاشتراكية- السلمية- الفوضوية- العدمية .

وتأتي سنة 1922 فتسافر مي الى سوريا ولبنان حيث تكون محط اهتمام ورعاية الأوساط السياسية والفكرية والنسائية فأقيمت لها عشرات الحفلات التكريمية وتبارى الخطباء والشعراء والكتّاب في تناول نتاج مي الأدبي وعبقريتها وكان لهذه الاحتفالات من الأهمية لدرجة ان مجلة «المرأة الجديدة» أصدرت بعد سنتين كتاباً في وصف الحفلات التكريمية التي أقيمت لمي أثناء زيارتها لبنان سنة 1922 وما قيل فيها نظماً ونثراً تحت عنوان «مي في سوريا ولبنان» .

وتعود مي الى القاهرة لتتابع نشر مؤلفاتها فتصدر كتاب «ظلمات وأشعة» تعرض فيه اطوار نفسيتها الوجدانية من خلال ثلاث مراحل حياتية نفسية: «من كوة الحياة»، «نحو مرقص الحياة» ، «في مرقص الحياة».

وخلال عام 1925 تسافر مي إلى ايطاليا وألمانيا ومن هناك تتبادل الرسائل مع عباس محمود العقاد وهي رسائل حملت العديد من الكتَّاب على القول بوجود علاقة عاطفية بينهما. ولكن في الواقع كانت مي تكتب لجبران رسائل وكأنها تبدد ما يظن من علاقة عاطفية تربطها بعباس العقاد فنقرأ في رسالة لمي مؤرخة في 11 تشرين الثاني سنة 1926 عبارات حافلة بالشوق تنتهي بدعوة جبران لزيارة القاهرة.

وجاءت أعوام 1930 – 1931 – 1932 حافلة بالنكبات لمي. ففي سنة 1930 توفي والدها بعد داء عضال أعيا الأطباء وزوجته وابنته.

وفي 10 نيسان 1931 توفي جبران في نيويورك .
وفي 5 آذار سنة 1932 توفيت والدة مي في القاهرة .
وهكذا انتقلت حياة مي من الوحدة الى الغربة .
وترحل مي الى فرنسا سنة 1932 ثم الى انكلترا وتعود الى مصر ثم تعود ثانية لتسافر الى روما علّها تسلو عن احزانها. ولكن هيهات . وتكتب قصة «الشمعة تحترق» وقصة «الحب في المدرسة».

وينتهي عام 1935 لتبدأ مأساة من نوع آخر في حياة مي. اذ يحجر عليها من قبل أقاربها في مصر وتستدرج الى لبنان حيث توضع في مستشفى العصفورية ويحجر عليها في لبنان أيضاً .

وتدوم محنة مي سنتين. ولا تلبث ان تنهض الصحافة وتثير قضيتها. فتنتقل مي الى مستشفى ربيز وتتبنى جريدة المكشوف قضيتها وتتابعها مرحلة مرحلة الى ان تصل قضية مي الى القضاء. وعلى أثر ذلك تخرج مي من مستشفى ربيز لتقيم في منزل في رأس بيروت .

وفي مساء 22 آذار سنة 1938 تلقي مي محاضرة في وست هول في الجامعة الأميركية في بيروت بعنوان «رسالة الأديب الى الحياة العربية» تضع حداً للشاكين والمشككين بجنونها. ويرفع الحجر عن مي ثم تنتقل لتقيم في الفريكة بلدة الكاتب اللبناني أمين الريحاني .

وبعد مدة قصيرة تعود مي الى القاهرة فتقيم هناك في شقة في شارع أبوالسباع. ولكن المحن لا تلبث ان تعود فيأتيها على التوالي نعي صديقيها فيلكس فارس، ثم أمين الريحاني. وانهارت صحة مي فنقلت بعد مدة الى مستشفى المعادي حتى اذا كانت صحوة التاسع عشر من تشرين الأول سنة 1941 فارقت مي الحياة.

طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحه

بينما كنت أقرأ وأضحك توقف كناري عن التغريد لينظر اليّ كأنه يقول:«ايتها الصديقة الكبيرة لماذا تضحكين هكذا؟» .

لقد هذّبت صديقي الصغير لكنه لم يكتسب شيئاً.
إني اتكلم عن عصفوري كأنه معروف لدى الجميع... على أني اعرِّفهم به أولاً :
كناري أصفر اللون ذهبيه، ذنبه طويل أبيض، له مخالب صغيرة وردية، وعيناه سوداوان بل اشد سواداً من الأنبوس، ومنقاره وردي، وهو جميل الطرف أسحره، سميته ميمي ولا حاجة الى القول بأني أحبه وأدللـه. انه لطيف أهوج. أكلمه فيجيبني بلغته الخاصة طبعاً. إنه مسكين ارثى لي أحياناً لأنه لا يعرف الحرية ومع ذلك يبدو سعيداً. وهذا افضل .

«طائر صغير نسجت أشعةالشمس ذهب جناحيه، وانحنى الليل عليه فترك من سواده قبلة في عينيه، ثم سطت عليه يدُ الإنسان، فضيّقت دائرة فضائه، وسجنته في قفص كان بيته في حياته ونعشه في مماته.
«طائر صغير أحببته شهوراً طوالاً، غرّد لكآبتي فأطربتها، ناجى وحشتي فآنسها، جاور روحي فآخاها ، غنّى لقلبي فأرقصه، نادم وحدتي فملأها ألحاناً .

«إمتزج ذكره بدقائق حياتي، فأصبح عندي بمنزلة صديق لا يقربني منه التفاهم الروحي، بل يعززّه لي حضوره الدائم، وإن يبال هو بحضوري، وصوته الرخيم، وإن لم يغرّد إلا لأن التغريد من طبعه، وسروره الذي لا يعرف الكآبة، واصطباره على ضيق الفضاء، واقتناعه بما قدّر له من النور والهواء.

«عندما كانت تبكيني الآلام ، كنت أريه منديلي مبللاً بالدموع، فيعرض عني. إن الدموع تعقب ظلمة الأحزان، كما يعقب الندى ظلام الليل، وروح الطيور نور مغرد، فكيف يفهم النور الظلام؟ كنت أنظر إليه مشيرة بإصبعي الىالأثير البعيد، لعلي أرى منه زفرة تنبئني عن لوعة في قلبه، غير انه يقفز على قضبان عشّه الصغير غير مبال بي.
وإذا كنت آتية بالأزهار، نازعة عنها وريقاتها، فارشة إياها على أرض القفص، لعلي أرضيه، كان يدوسها بإهمال مواصلاً تغريده، كأنه فيلسوف لا يكترث للصغائر وإن كانت جميلة المظاهر، ولا يعمل في حياته إلا ما يشغل به فكره.

«في الصباح كنت أفتح عيني، فيستقبلني بالغناء، وتسيل موسيقى ألحانه على قلبي فتذيبه وتسكره في آن واحد .
«وعندما كنت أجلس للدرس والتحبير فتشمئز نفسي أحياناً من عبوس الكتب، ويثقل قلمي في يدي، كأنه صولجان تنازل عن ملكه، كان كناري يأخذ في الزقزقة، وتأتي جماعة طير من الخارج وتضم تغريدها الى تغريده، كما تمتزج الألحان في طيات الأمواج، فتبتسم الأفكار على صفحات الكتب أمام ناظري، ويتمايل اليراع بين أناملي تمايل الصفصاف بقرب الغدير، وتنجلي الغيوم عن فؤادي، وتطرب روحي.

«وفي المساء كان يصمت كناري اجلالاً لقداسة الظلام، فيخفي رأسه بين جناحيه، ويجمد جمود المفكر.
«والآن أنظر الى القفص، لقد صمت الطائر المغرّد، الاشعاع المحيي تجمّد. مات الصغير المغرد، مات صغير حشاشتي، مات قبل غروب الشمس، وقبل انقضاء الربيع.

كان ذلك في تلك البلدة بفلسطين

... كان ذلك في تلك البلدة الفلسطينية وقد بدأ الحي متجلياً ببهجة الأعراس وبهائها لزواج ذلك الوجيه السري. ونصب صوان عظيم على سطج الدارالواسعة ليقام فيه مهرجان الفرح كل ليلة. فيما يخيّم الظلام إلا وتعزف الآلات الشرقية تحت الخيمة الوضاءة بتألق الأنوار ومعالم الزينات الغاصة بوجوه القوم وأعيانهم من تلك البلدة وضواحيها .
إذ ذاك يهرع أهل الحي الى الشرفات والنوافذ وسطوح المنازل يتسمعون الى آهات الطرب الشائعة في الفضاء حتى لتتهادى أصداؤها نحو ما جاور من جبال الجليل. والأطفال مغتبطون بأن يحتضنهم صدر دافىء ويحميهم من أهوال الظلام. فتتنبه منهم النفوس لتفهم أعجوبة الألحان .
كنت على ذلك في ليلة فإذ بصوت ينشد على نقرة العود:
كحل بعينك أم صبغ من الرحمن
جفن من السحر أم سحر من الأجفان
خال بخدّيك أم صنع من الديان
توهت فكر الأنام في الجفن والخالات
تبارك الله ما احلاك من إنسان .

سمعت وأصغيت ليس بنفسي، كما كانت صغيرة وقتئذ، بل بكل قواي الكامنة التي سينميها المستقبل وبكل ما في الأيام التي عشتها وسأعيشها من أمل ويأس وسعادة وشقاء. ولعلي استشعرت ببعض ما سأفهمه بعدئذ من نجوى الموسيقى الشرقية... تقول أن الإنسان يجهل كيف ولماذا ولد، ولكنه يعلم أنه يحتاج الى السعادة التي لم يعد منها سوى بفتيت مفهوم. تقول للطفل والشاب إنهما أكبر سناً مما يظنان، وتقول للقوي الظافر إنه ضعيف مدحور وتقول لكل أحد أن حياته كانت الى هذه الساعة خالية سخيفة قحطاء. تقول له إن في الدنيا أموراً لم يختبرها وإن جهله لها فقر وضنك وذل وعبودية وموت سبق الموت. تقول إن الإجتهاد والجهاد عقيم النتائج لأن العمر قصير سريع العطب. وإن كل لحظة يجب أن «تعاش» بأكملها ليستخرج منها أقصى ما يمكن. تقول إن القلب روي بالعبرات ينتظر اليد القادرة تضرب عليه ليفجر كصخرة موسى... وإذ تنطلق الأصوات سابحة كالأجنحة في فردوس من الألحان. ثم تصبح متفجعة منتحبة، ثائرة، عاصفة تلج وتتمادى، يحيل أن الفزع قد جوف تحتها هاوية تترامى فيها الأصداء المرتعشة. فتعكف النفس على حاجتها ووحدتها وحيرتها بين هذه الهاوية وذلك الفردوس، وتطلب التوازن والراحة في سحر الحب وذوب الحنان... ولكن الحياة مراوغة في استقامتها، شحيحة في كرمها، وكل ما فيها كريم شحيح مراوغ مستقيم ...

وهذا ما قاله لي فيما بعد شهيق الأوتار، فهل فهمت منه عندئذ شيئاً؟ لا ادري ولكن كم اذا انتقش الظلام بالمشاهد الخلابة لذكر ذلك الشخص العجيب الذي لم يكن أحد يعلم ما إذا كان جمال عينيه كحلاً ام صبغاً من الرحمن! ذاك الشخص الذي تاهت به أفكار الناس فتجمهرت لتهتف : تبارك الله ما احلاك من إنسان! أتتصورون أثر هذا الرسم في مخيلة صغيرة شديدة التيقظ، وفي نفس لينة ترتعش أمام مظاهر الفن والجمال حتى لقد تبكي لمرور سحابة زاهية في الأفق الأزرق؟

ولطالما سمعت هذا «الموال» بعدئذ من منشدين أصوليين وغواة يقبلون عليه إقبالهم على جميع الأدوار المصرية المشوقة ولكن كانوا يعلمون من هي شاعرته؟

أرجح ان تلك كانت نشوتي الموسيقية الأولى. فأبقت فيّ أثراً، كأنما هو إشارة من روح التيمورية تنبهني. وما تبينت تلك الاشارة إلا عند مطالعة ديوانها والاهتداء الى ذلك «الموال» فيه. فأدركت أنها حدثتني منذ زمن بعيد تلك الروح التي غاصت نفثاتها الحزينة الطروبة في أوراح المنشدين فحبست على أوتارهم ألحاناً، وانطلقت على امواج الهواء فناً وتغريداً وإبداعاً. وهكذا تلك المرأة التي وقعت زفراتها في وحدة خدرها وراء الحجاب، صار الشجن والطرب منها فعالاً تتناقله أجواء الأقطار وتتأثر به ليالي الأفراح في نازح الديار .

رحلات السندباد البحري

السندباد البحري ليس إلا أنا «الموقعة اسمي ادناه» وانا الموقعة اسمي أدناه سندبادة في الواقع لا سندباد كما يزعم العنوان. فلك الحرية تطلق عليّ الأسم الذي تختار: السندباد البحري الثاني أو السندبادة البحرية الأولى، وكلاهما عندي مقبول ومنطبق على حالتي الحاضرة انطباقاً نسبياً – كما يقول الذين يكتبون الكتب والذين يحرّرون الصحف.
ولا يروعنك عنواني أو يغرينك فتحسبني قاصّة عليك مثل ما قصّ سميّ من قبلي، ليس لي من ذلك الرجل الذكي إلا الأسم المنتحل. هو عظيم وأنا صغيرة. صغيرة وجاهلة وضعيفة. ورحلاتي لا تقاس برحلاته لأنها قصيرة لا تتجاوز بعض شواطيء سوريا ومصر المعروفة لمن ألف الاصطياف في لبنان.

وليس فيها من الحوادث العلمية والاكتشافات المدهشة وركوب الأخطار شيء. أني لا أركب فيها إلا هذه السفينة النمساوية، ولا يقع نظري إلا على صفحة البحر وخطوط الشواطيء، ولا هو يرتفع إلا الى اطلس الفلك المرصّع بالكواكب. وهي هذه الأشياء التي أريد أن احدّث عنها بسذاجتي وارتباكي وأغلاطي وهوسي وضلالي. من ذا يرضى أن يشعر حيناً بقلبي، ويتألم ويتهنأ معي، ويحل بأحلامي، ويذهل بذهولي؟ من ذا يرضى أن يصرف بعض وقته في الإصغاء إلى من لا تعرف كيف تحكم القول .
 
عذبة ساعة السفر بما فيها من المرارة بنت الفراق والواداع. ولكم اعتلت سطوح السفن وهي على وشك الرحيل. أنظر الى الثغور والى ما وراءها من مروج وجبال ومدن. والى ما يتخلل هذه من آثار مخلّدة المجد لا تزيدها نوائب الزمان إلا عظمة وجلالاً. أنظر الى كل هذا الذي لا يُرى وكأني بتأملي فيه أفقدُ إحساسي بذاتي وبما يحيط بي. حتى اذا ما رفعت السفينة أثقالها، وشدّت حبالها، وضمّت اليها مرساها، ومضت في مسيرها تشّق المياه العميقة انطلقت من نفسي صلاةٌ حارة: «يا مصر حنّي علينا بالرجوع اليك!» وإذا كنت مودعّة سوريا ناجيت الوطن القديم قائلة: « الىالملتقى يا سوريا الحبيبة الجميلة !» وما ان وصلت عرض البحر إلا صرت كلّي غنيمة شارة لا يقيدني مطلب ولا مطمع. ترعى في نفسي الأحلام، وينبهني قلباً وعقلاً التأثير المنطلق من تلك الأناشيد المستديمة الى لا تفتأ تعزفها البحار في الفجر وفي الغروب، في النور وفي الظلام.

ركبنا البحر والشفق يملأ الأفق .
إني أظلّ أقول ان الضحى أبهى ساعات النهار. إلا ان الشفق ألذّها وأوعبها للمعاني واجلبها للأحلام .
وقفت أحدّق في الألوان المالئة الفضاء، ألوان الشفق المتمازجة : الأحمر واللازوردي والرمادي والأسود الذي لم يتمّ سواده. وقفت أرقب كيف ينطفىء اللهب وتكمد السحب، وكيف تحزن الآفاق ويحلك الكون غارقاً في ظلمة شاملة، وقفت طويلاً ورقبت طويلاً. وكان يشتد فعل هذا المشهد فيّ بفكرة أني سألذ بمرآه على مثل هذا التنوّع وهذا السناء سبعة أيام متوالية. فما أحسن الوباء الذي يفرض على المسافر أن يقضي أسبوعاً قبل دخول الأرض المصرية! وما أحسن ما ارتأى قادة المركب بصرف هذا الأسبوع أياماً متقطعة في الشواطىء التي هي على خطّ رحلتنا. بدلاً من الجمود في مكان واحد نكون فيه أقرب الى الضجر والملل.

كنتُ أفكر مرددّة «سأظل كل هذا الأسبوع فريسة الأحلام، الفريسة السعيدة... سأنسى كلّ هذه الأيام انني جسد...» فإذا «بالجرسون» يدّق ناقوسه دقاً عنيفاً. مضى يدّق في جميع الزوايا شأن من يستنهض أمّة للحرب والنضال لا شأن من يدعو المسافر الى قاعة الطعام. وانقضى على زاويتي ولم يكن فيها غيري. وظلّ يدق باستهتار، وأنا اصيح «سمعت!» ولكنه لم يسمع صياحي. ووضعتُ يدّي بداهة على سمعي، ولكن «الجرسون» لم يرَ مني أكثر مما سمع، لأنه كان يقوم بدّق ناقوسه، وإتمام واجبه بإلحاح وتصميم. فلم يبق لي إلا ان أضحك قائلة: «وهل يمكنني أن انسى أني جسد وفي هذا المركب المبارك جرس كهذا الجرس يدقه هذا «الجرسون» البطل!» .

وكانت البليّة في قاعة الطعام، إذا وجدتُ بين سيدة ورجل وكانت السيدة جارتي يسرة، والرجل جاري يمنه. وكان هذا الجار ألمانياً. فأخذ على نفسه ملاطفتي بلغته وانطلق في حديث استغرق العشاء من أولّه الى آخره بلا مهادنة ولا تباطؤ. وكان استيائي وفروغ صبري مضحكة لجارتي وجيرانها. إلا ان وقت الخلاص دنا عندما نهضت بعد العشاء مودعّة جاري اليمين فاستوقفني ليقدّم لي مسك الختام. قدّم لي علبة مفتوحة وأكدّ لي ان العلبة وما فيها من واردات برلين. وظلّ يدعوني الى ان أتحقق من ذلك بنفسي. يدعوني ويبتسم. فنظرت الى العلبة، ثم الى مخاطبي، ثم الى العلبة مرة أخرى ففهمت أن لا بدّ منه لا غنى عنه. ومددت يدي أتناول بين أصابعي قليلاً من « النشوق» المعطّر...

لا شك عندي في انك لبيب يا من تقرأ ....
ولكن هيّا الى سطح السفينة! هيّا الى حيث نخلو بالظلام! فإن الظلام مخيّم في الأفق، متكاتف على الشاطىء ممتدّ على الأمواج. وأنوار بيروت تغامزني مشيرة الى ما لا أعلم. وجبال لبنان تقف متساندة في الليل كأنها أسوار من روعة وظلام .

وأخذت السفينة تتحرّك فخيل إن بيروت ولبنان يتباعدان هما عنّا يهمان بأمر خطير يجب ألا يعرف منه شيئاً، نحن النقطة الهائمة علىالماء. وظلاّ يتباعدان كتومين فمضيت الى سريري قبل أن يغيبا عن البصر تماماً. ورقدت سعيدة لأني نمت مرة أخرى في بيروت عند قدم لبنان. واستلمني إله الكرى.

وما انتهيت في صباح الغد إلا والشمس مشرقة والأفق بسّام فوق مدينة حيفا.

كآبة

حزينة اليوم روحي وحزنها القاتم مؤلمي. فعلام الاكتئاب .
أترى الأوراق المتناثرة عن غصونها تدري لأي غرض تقلبها الريح وتتلاعب بها في تطايرها؟

إنها لتتناثر تلك الوريقات المسكينة وتتهاوى أكواماً. هي التي كان يمضّها أسر الالتصاق بشجرة أنالتها الحياة. هي التي نزعت إلى الانعتاق والتحرر، ها هي في نهاية الأمر فائزة بحريتها.

كم تخال مغتبطة هذه الوريقات المصفرّة، الذابلة، المتجمدة، المتغضنة، المنقبضة كبشرة هرمى العجائز! كما هي مغتبطة بهذا الانفصال وكم تختال في تلوّيها! انها لتتململ فتعلو وتهبط، وتتدانى وتتباعد، وتتلاقى وتتجانب. وتدور مرفرة حول نفسها، منتهزة هفوف أرق الانسام لتبتعد قليلاً عن الثرى، كأنما هي تفقه بسر غريزتها ما هي صائرة اليه على هذه الأرض النكداء. فتطلب الانتشار في الجو، وتؤثر المكوث في مهب الريح، وتزعم انها سعيدة لأنها هناك أقل بعداً عن السماء!

لقد أبصرتك تتولدين، يا وريقاتي العزيزة، ورقبتك تنبتين. وكنت صغيرة... تنمين في حلة خضراء ناضرة....
هلا حدثيني – كم من همس عذب طار أليك، وكم من قبلة طاهرة شهدت وأنت على الأفنان؟ أما كفاك العناق فيما بينك كلما هبّ عليك النسيم مداعباً ؟ أيتها الحسودات الصغيرات، من علٍ رأيت السرور يمرُّ فطلبته ظناً منك أن السعادة على الأرض لكن لا لا سعادة عندنا لأن الإنسان يرسم أمانيه ثم يعجز دون تحقيقها.
 
وأنت، أيتها الوريقات الساذجة، التي بذلت أقصى الجهود للتخلص من ربقةالعبودية، إنك لن تظفري بما شاقك من مظهر الحرية. لن تظفري حتى ولا بالاهواء والمثوى عند قدم عزيزة تدوسك حيث تذوقين لذة الجور والإزلال ممن تحبين. إنما التقلب في التراب والتمرغ في الأوحال هو كل ما تنالين حتى التحلل والاضمحلال.

وأنا حزينة إذ اراك تتناثرين، وترفرفين، وتتهافتين نحو مثواك القاسي، وحزني هذا جداً مؤلمي.

أيها الإله

لماذا وضعت في عيني الإنسان هذه العبرات وقضيت بألا تجف ولا تنضب؟

لماذا؟

أي مسرة أنت ملاق في النكال والإيلام؟ إنك القادر ونحن ضعاف. إنك العظيم ونحن بائسون. نحن أشرار وأن كل الصلاح. أما كان الغفران أجدر بعظمتك؟ أو ما كانت ملاشاتنا أوفق لرحيب قدرتك؟ ولكنك لم تفعل هذا ولا ذاك، ونحن نشقى ونتعذب.

نفسي اليوم حزينة وحزنها قاتم . أفكر في الأوراق المتناثرة ،وفي الأحياء الذين يضحكون، وفي الموتى الذين مضوا كأنهم لم يكونوا.
إيزيزس كوبيا (مي)

لورد بارين في غابات لبنان

نحن الآن في منتصف الساعة الحادية عشرة صباحاً. وأنا وحدي في الغابة منذ ساعتين. وحدي مع بايرن شاعر العنف والعذوبة الذي يضعه الانجليز في المرتبة الرابعة من شعرائهم، مع انه يستحق أن يكون الأول بعد شكسبير.
بينما كنت أقرأ، كان دفتري على مقربة مني. والآن وقد أنشأت أكتب فإن «شايلد هرلد» ملقىً عند قدميّ .
أكان بايرن يدري، أكان يهمّه أن يدري، إن فتاة سورية ستقضي معه أو مع ما يبقى منه، ساعات الوحدة الطويلة في غابات لبنان الجميلة؟

كم أجد من التسعّر واللين في اشعاره، في هذه النثرات الفاتنة من نفسه الخارقة‍ ولست أفهم كيف استطاعت لايدي بايرن أن تسيء معاملته نحو ما فعلت: أما كان عليها أن تغفر لهذا العبقري بعض شذوذه؟ أترى الرجل العبقري يسوّي وأي واحد من الناس؟

ليس من ذوات الأجنحة ما يُلمع في هذه الغابة، إلا ان اصواتاً لا تحصى تنشد في الافناء. حتى لكأن الغابة بأسرها تغرّد وتشدو.

يا لهذه الأصوات الشوادي.
يا لأصوات الصيف الساطع على هذه القمم التي تبدو من البحر متوغلة في تيِه الأثير الذي لا يُدركك ولا يحد‍. يا للساعات الحلوة التي تنقضي خالية، متريثة، حالمة، طليقة من قيود الاجتماع ومقتضيات العالم بأي شوقٍ، بأي شوق انتظرتها طول اشتاء!

ما أهنأ التمتع بهذا الأفق اللامع السادر، وبمنظر الجبال والوهاد المتموجة المتحازية، وبانبساط تلك المسافة الزرقاء من البحر البعيد، وبانتشار النور المتدفق سارياً بين الأشجار لتحفل من عطفه بقلائد الظلال والألوان، وليسبغ على كل ما يلمسه سربالاً ضافياً من الجمال والبهاء !

ولكن. ها سحابة بيضاء كبيرة تعترض قرص الشمس فإذا بالجو تغشاه كآبة طفيفة حلوة. ويهفّ النسيم فتهتز الأوراق وتميس غصون الصنوبر.

هذا الشفوف المبهم في الجو لا لون له ولا اسم به يُعرف. إنه يشبه شحوب الليل إذ يقبل الضحى، أو اكمداد الضياء إذ يُقبل الشفق. يشبه نفساً نقية إذ تشجبها الذكرى المؤلمة. أو كأنه عيناه كبيرتان جميلتان كادت تغشاهما الدموع.

يا هذه البرية! يا هذا الخلاء في لبنان!

إني لألقي على كل صخرة من صخورك ، تحت شجرة من أشجارك، في كل مذهب من مذاهب أوديتك، نثرات من كياني: أنثر الابتسامات، والزفرات، والأحلام، والأغاني، والآمال، والإعجاب والتأمل...
يلوح لي أحياناً أني طرحت عليك كل ما في حولي وكل ما في وسعي، وأني ألقيت إليك بنهاية منتهى اقتداري.
ولكنني كلما أحببتك زدت نمواً واقتداراً .
كلما دفقت عليك، يا قمم جبالي، عواطفي وذهولي تجدد فيّ الحبّ وذكت الحماسة ، فإذا بي مثلك باقية.

أحبكِ، وسأحبكِ علىالدوام .
ايزيس كوبيا (مي)

من مي الى جبران - في 12 أيار سنة 1912

... إننا لا نتفق في موضوع الزواج يا جبران. أنا احترم أفكارك، وأجلّ مبادئك، لأنني أعرفك صادقاً في تعزيزها مخلصاً في الدفاع عنه، وكلها ترمي الى مقاصد شريفة، وأشاركك أيضاً في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة. فكالرجل يجب ان تكون المرأة مطلقة الحرية يانتخاب زوجها من بين الشبان تابعة في ذلك أميالها والهاماتها الشخصية. لا مكيفة حياتها في القالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف. حتى إذا ما انتخبت شريكاً لها، تقيدت بواجبات تلك الشركة العمرانية تقيداً تاماً. أنت تسمي هذه سلاسل ثقيلة، حبكتها الأجيال، وأنا أقول انها سلاسل ثقيلة نعم. ولكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأة ما هي، فإن توصل الفكر الى كسر قيود الاصطلاحات والتقاليد، فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعية لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء. لم لا تستطيع المرأة الاجتماع بحبيبها عل غير علم زوجها؟ لأن باجتماعها هذا السري، مهما كان طاهراً تخون زوجها وتخون الاسم الذي قبلته بملء ارادتها وتخون الهيأة الاجتماعية التي هي عضو عامل فيها .

عند الزواج تعد المرأة بالأمانة ،والأمانة المعنوية تضاهي الأمانة الجسدية أهمية وشأناً، عند الزواج تتكفل المرأة بإسعاد زوجها، وعندما تجتمع سراً برجل آخر، تعد مذنبة إزاء المجتمع والعائلة والواجب. ربما اعترضت على هذا بقولك: ان الواجب كلمة مبهمة يعسر تحديدها في احوال كثيرة، فليس لنا إل ان نعلم «ما هي العائلة» لنجد الواجبات التي يفرضها على افرادها . ودور المرأة العائلي هو أصعب الأدوار وأوضعها وأمرها.

اني أشعر شعوراً شديداً بالقيود المقيدة بها المرأة، تلك القيود الحريرية الدقيقة كنسيج العنكبوت المتينة متانة أسلاك الذهب. ولكن إذا جوزنا «لسلمى كرامة بطلة الرواية» ولكل واحدة تماثل سلمى عواطف وسمواً وذكاء الاجتماع بصديق شريف النفس عزيزها فهل يصح لكل امراة لم تجد في الزواج السعادة التي حلمت بها وهي فتاة ان تختار لها صديقاً غير زوجها، وان تجتمع بذلك على غير معرفة من هذا ، حتى اذا كان القصد من اجتماعها الصلاة عند فتى الأجيال المصلوب .