Mahmoud Taymour

احسان عبد القدوس

احسان عبد القدوس

احسان عبد القدوس قصاص اجتماعي له وزنه وقيمته الادبية، ويكفيه فخرا  ان اكثرية قصصه مثلت على الشاشة: وكان لها النصيب الوافر من النجاح والاقبال. انتصر في رواياته لانه عالج فيها حياة الطبقة الكادحة التي تفترش الثرى، وتلتحف السماء، ولا يوجد من يساعدها ويخفف من كاهلها وطأة الطوى والسقم والاملاق. شخصياته تشبه الى حد بعيد شخصيات يوسف السبعي، فيلتقي معه في بوتقة واحدة، الا وهي الثورة على كل جان اثيم، والحرب الشعواء على كل اقطاعي يترعب بحقوق الشعب ومقدراته.. وشخصياته تطيعه دوما  وابدا ، وتتصرف بوحيه وبارشاداته وتفكيره، فيسيرها انى شاء واراد، وكأنها دمى متحركة، فيجردها احيانا  من انانيتها ليسير بها الى جو من الانطلاق والواقع والتحرر، ويجعلك تشعر الفرق بين شخصية مثالية، وشخصية مزيفة تداهن وتمالق في سبيل مأرب أو هدف خاص تنشده. كما ان شخصياته تتفاعل احيانا ، وتقسو تارة، وتنحرف اخرى، فهي مزيج من افكار وهواجس وخيالات متناقضة الاهداف والاميال، وكأن القاص اراد منها هذا الخليط العجيب لاظهار تناقض الآراء، واختلاف العقول في صرح الوجود، ولما يراها ضلت الطريق السوي يوجهها الى الصراط المستقيم، فاتحا  امامها سبل العيش الآمن، فتذعن لاوامره وحكمه، ويضفي عليها بعض المشاهد المؤثرة، والآمال الخائبة، ثم يحمل القارىء على التأمل في هذه الصور حتى يخرج منها بالمغزى الذي يبتغيه وينشده.

بيد أن القارىء اللبناني بحاجة الى قاموس مصري عامي ليفهم بعض المسميات التي تختلف اسماؤها في البلدين، كما سيقف عند بعض التعبيرات يستوضحها ما تحمل من معان. وكذلك سيعثر في روايات احسان على بعض الاخطاء اللغوية الشائعة كاستعمال: احرف الجر والشرط والاستفهام، وكان الاحرى به ان يهذب لغته ويختار كلماتها كقوله:

ترك عندي وديعة فالافضل استودعني
ذهب الليل فالافضل انقضى الليل
ارتب شعري فالافضل اسرح شعري
ما يدور في فكره فالافضل ما يجول في خاطره
يكثر فيه مظاهر الجمال فالافضل تتوفر فيه مظاهر الجمال
وعدت ربها فالافضل عاهدت ربها
سهل لهم السبيل فالافضل مهد لهم السبيل
انا منتظر وصول القطار فالافضل انا مترقب وصول القطار
نقلتني السيارة فالافضل اقلتني

كما يؤخذ عليه مزجه بين الفصحى والعامية في رواياته، وكأن للعامية بين حين وحين موسما  خاصا ، بدأت بالاذاعة عن طريق فكري اباظه، وانتهت الى الادباء انفسهم، وتجمع حولها فئة لا يستهان بها من الكتاب الناشئين والمحدثين. وفي مقدمة من سار على هذا المنوال المؤلف نفسه في قصتيه: "لا أنام" و"أين عمري".

ويحاول ادباء الشباب في مصر توزيع اللهجات المصرية العامية على الشعب العربي بغية السيطرة على لهجاتهم الموروثة وقد سمعنا عدة مسرحيات مصرية مشهورة كتبت حوارها باللهجة العامية مما يشكل خطرا  جسيما  على اللغة. ويزعمون انهم يسيرون على المنهج القديم الذي سار عليه القصاصون القدماء، لقد تناسوا ان القدماء عندما كانوا يكتبون القصص الشعبية يتعمدون الكتابة باللغة الفصحى، فعلهم في "عنترة" و"الملك سيف". وان كانت الف ليلة وليلة مكتوبة بلغة شعبية. لكن اصحاب هذه القصص كانوا يتوخون الفصحى.

وقد تفشى داء الادب العامي الى لبنان وحمل رايته سعيد عقل في مقدمة "جلنار" للشاعر الشعبي ميشال طراد، والدكتور انيس فريحه في قصته "اسمع يا رضا"، ومارون عبود في كتابه "اقزام جبابرة".

تأثر احسان بالأدب الغربي

برع احسان عبد القدوس في الرواية وفشل في القصة القصيرة، وحلول تقليد الكاتب الاميركي ادجار آلان بو، فوفق مبدئيا  لكنه فشل في النهاية، اذ ان آلان بو اعتمد في قصصه القصيرة على خلق جو ببضع كلمات لا بصفحات طويلة، وكان يؤثر المواضيع الاجتماعية التي لم تطرق ولم تعالج بعد.

وحول احسان جهوده الى القصة الفرنسية عامة، والقصة الروسية خاصة، فأعجب بموبسان ورأى فيه دعامة للقصة المعاصرة، وأراد تقليده لكنه فشل لانه حاول ان يجمع بين واقعية موبسان، وبساطة تشيكوف، وبرين مدرستين قويتين مستقلتين: مدرسة شيكوف الروسي التي تؤثر السرد البسيط، ومدرسة موبسان التي كانت تبتغي الواقعية الغير معقدة.

أعجب عبد القدوس بروعة موبسان في تصويره للشعب الكادح دون التواء او تلون، واخذ ببساطة مواضيعه القريبة من عقلية الجماهير، فتناول احداث المجتمع على اختلاف طبقاته وتناقض اهدافه بسخرية. بينما كان زميله تشيكوف يناقضه الراي ويتحلى بخفة روح يفتقر اليها موبسان في مؤلفاته، كما ان قصصه كانت بسيطة لا تتعرض الى تفكير عميق وتحليل دقيق انما كان يكتفي بسرد عواطفه وانطباعاته، متباينة غير محددة يغلب عليها احيانا  الغموض. وكلا الكاتبين: موبسان وتشيكوف كان يتناول بالعرض والوصف افراد الطبقة الوسطى من الشعب، كان الاول ينظر اليهم بمرارة لانهم جبناء يكتبون ما هم بحاجة اليه، ويخافون الجهر بما يجيش في اعماقهم، بينما تشيكوف كان رحوما  على الطبقة الكادحة يغفر لهم هفواتهم، وينير بصائرهم، ويوجههم الى الخير والصواب.

بعد ان نهل احسان عبد القدوس من معين المدرستين الفرنسية والروسية، تحول من جديد بعد الحرب العالمية الثانية الى المدرستين الجديدتين الانجليزية والاميركية، فاعجبه: كثرين منسفلد ولورنس وهمنجواي ووليام سارويان.

اجتماعياته

يتلاقى احسان عبد القدوس في اجتماعياته بالقاص يوسف السباعي، فهو في قصته "اين عمري" يصف عادات الورى وخزعبلاتهم، ناقلا  احاديثهم وما يجيش في اعماقهم من عطف وحنين، وما يعتري تفكيرهم من مسالك وعرة، فيشخص الداء، ويصف الدواء، ويجيد وصف احساسات البشر ويشبهها بعدسات آلات التصوير بعضها يفتح ويغلق باستمرار ليلتقط ما حوله من صور الجمال والقبح فتتأثر به النفس، كما يجيد وصف الحب وغريزة التملك والخيانة الزوجية اجادة تامة.

لكنني لا أجاريه على تفكيره في قصته "لا أنام" حيث تمثل بطلة القصة عنصر الشر في الفتاة اكثر مما تمثل عنصر الخير والبراءة والطهر، ويناقض في هذا القبيل نظرية "روسو": "الانسان خير غير ان الطبيعة افسدته".

لقد اخطأ احسان ايضا  في نظريته عن "الخير والشر" ورثيت لحالة بطلة قصته التي وقعت في الشر دون ان تدركه، ليقينها انها مسيرة بحكم االطبيعة والوجود.

ان الكمال المحض والخير المحض يا اخي احسان هو واجب الوجود لانه لا يملك تمام الوجود، وحق بكل معاني الحق. والشر نفسه هو العدم ذ لا ذات له. وقد اوضح هذه النظرية: الرئيس ابن سيناء في كتابه "النجاة" صفحة 274 فقال: "يقسم الشر والخير في الوجود الى قسمين متقابلين: خير مطلق وشر مطلق، خير نسبي وشر نسبي. فالخير المطلق هو واجب الوجود لأن لا امكان فيه، وكل شيء فيه هو بالفعل، والشر المطلق هو عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته، ولهذا قال ارسطو: "الخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض".

ان الله يا عزيزي احسان قد خلق الانسان، وخصه بالعقل الفعال ليميز بين الخير والشر، ووهبه ارادة حرة وبواسطتها يستطيع ان يسير اموره ويحكم على كل شاردة تعتري مسيره ومصيره. نحن البشر لا نبصر الاشياء الا ضمن دائرة ضعيفة واهية محدودة، فنتكهن ونحكم على المظاهر الخارجية دون وعي وعمق، ومن الخطا الفادح ان نقول ان الانسان مسير في اعماله وافعاله، اذا  ما فائدة العقل البشري في جسم جامد؟ فالله لم يخلق الاضداد، انما هما في عقول البشر السذج الذين يفتقرون الى المعرفة والتأمل في الوجود، ان العدل والرحمة والحكمة صفات الخالق، والذي يتحلى بهذه الكمالات السامية، فهو عادل جدير بالاحترام والعبادة لانه لا يصدر حكمه العفوي على أي انسان، انما يترك كل فرد يعمل بوحي من ضميره، وبما يمليه عليه الواجب والعقل. واذا اردت المزيد من الاجتهادات في هذا الموضوع الدقيق فطالع كتاب "النجاة" لابن سينا - نظرية الخير والشر - وكتاب من "أفلاطون الى ابن سينا" للدكتور جميل صليبا، وكتاب "ابن سينا الفيلسوف" نظرية الخير و الشر للدكتور بولس مسعد.

وتقول: ان الله يحدد المصائر - اما انا فاناقضك الرأي - لأن الهك لا يحدد مصير أي مخلوق من مخلوقاته، والانسان يبني مستقبله بنفسه، فالعقل صفة جوهرية فيه، وبواسطته يستطيع بلوغ الارب وتحقيق ما يصبو اليه، فمن يهلك فلأنه تمرد على النور والمنطق، ومن يسعد وينتصر فلأنه حكم العقل، وكان دارسا  متمهلا  في اعماله. والانسان بحر زاخر، تجول في مخيلته خواطر جمة، وافكار متعددة مختلفة، ولكنه احيانا  لا يعرف كيف يتعهدها، وهذه الخواطر التي تنبض وتجيش في قلبه وايمانه، ما هي الا قدرة العقل الرحب، الذي لا يتكاسل ولا يتوانى عن اداء رسالتهه.

وزعمك عن ان التبدل والتغير شيء من الخطر على الكيان الانساني هو خطأ جسيم، ولا تتناسى ان الانسان ابن الطبيعة، فيها ترعرع، ومن خيراتها تغذى، ومن جدولها ارتوى، ولا يمكنه الا ان يكون دوما  وابدا  متجددا  ؛ انظر الى الطبيعة تجد انها تتغير في العام الواحد اربعة اثواب، ففي الشتاء تهب الرياح وتهطل الأمطار مكفنة الارض بالثلوج لتحفظها من الفساد، ويأتي الربيع بازهاره وبراعمه واخضراره، ثم تبعت الشمس في اواسط تموز حرارتها في الانسان والنبات فتنضج الأثمار، ومتى بلغت الشمس اوج ثورتها، جاء الخريف الخامل، مضطرب الفكر، ذابل الوجه.

ان تغيير الطبيعة سنة من سنن واجب الوجود، وما دام هنالك شتاء وربيع، صيف وخريف، ما دام لرواية الطبيعة فصولها الاربعة.

طه حسين في كتاباته العاطفية

هناك طائفة من الادباء كتبوا القصص الى جانب كتاباتهم الادبية والاجتماعية والنقدية، ومنهم طه حسين في كتابه "الايام" حيث يسرد قصة حياته ونشأته المتواضعة، ويقول فيه الدكتور ضيف: ان كتاب "الايام" مقتبس من كتابه "منصور" الذي وضعه باللغة الفرنسية عندما كان طالب علم في باريسن وقد سبق كتابه عشر سنوات كتاب "الايام". لكن من الصعب ان نقر بهذه السرقة الادبية او ننفيها، انما الذي نقوله: ان "الايام" قصة حزينة، كتبها كاتب حزين، فوصف حرمانه واملاقه ومظهره الشعبي، وصور استهزاء اخوانه واخواته به لانه كلن ضريرا  اتكاليا ، تعاونه والدته في تناول طعامه، وتعطف عليه عطفا شديدا .

والكتاب صفحة مثيرة، فيه غذاء للنفوس المعذبة الشاردة، وفيه عزاء وصبر للارواح المتمردة، لكن الكتاب كان يفتقر الى التفكير العميق والتحليل النفساني الناجح، اذ لا يهدف الى اي مذهب.

وللدكتور طه حسين طائفة من القصص الى جانب سيرة حياته منها: "دعاء الكروان" حيث اجاد في تحليله لنفس تتنازعها عوامل الانتقام والحب. اما "الحب الضائع" فهي قصة حالمة مثالية عالجها بأسلوب طلي سلس - قصة امرأة تمثل ضعف الحنان ثم انتقل الى التاريخ فوضع كتابه "على هامش السيرة" فرسم صورة حقيقية للكفاح الاسلامي في حياة النبي، اذ ليس في الكتاب ما يجذب النظر من حيث التحقيق العلمي. وانتهى اخيرا  الى كتاب "المعذبون في الارض" حيث جاء بأفكار جديدة مستمدة من واقع الحياة؛ لقد اثبت في كتابه ان هناك كنوزا  مدفونة لم يقربها الادباء الى عقول القراء والناشئة، انما تركوها وشأنها طي النسيان. لقد نجح طه حسين في الكتابات العاطفية لانها كانت اقرب الى روحه وذوقه من بقية الكتابات.

الحكم النهائي

وقصارى القول اقول: ان توفيق الحكيم هو احسن من كتب في الحوار والمسرح، وتصوير الشخصيات. وان محمود تيمور هو في مقدمة من عالج القصة القصيرة التوجيهية، كما تلاقى كل من يوسف السباعي واحسان عبد القدوس في نهج واحد ولون واحد من التوجيه الاجتماعي، والثورة على الاستقراطية، ومعالجة الحياة المصرية الحاضرة