Khalil Hawi

خليل حاوي شاعر الحضارة - د. أنطوان شكيبان - من كتاب رواد لبنانيون - جامعة سيدة اللويزة

تستأثر الحياة المدينية باهتمام الغالبية العظمى من الشعوب التي كانت ولا تزال، على مر العصور، تنزع الى استكمال نموها الاجتماعي والحضاري. ولعل ظاهرة النزوح من الأرياف الى المدن، وظهور تلك الكثافة السكانية الهائلة فيها ما يؤكد تفضيل هؤلاء البشر العيش في المدينة، حيث تتوافر الخدمات العامة، ومجالات العلم والعمل، وغيرها من وسائل الترفيه والترف و (التنعم في الحياة).

ولقد أدرك أفلاطون، قديما ، الميزة الحضارية وأهميتها في المجتمع المديني حيث قال: "لا يستطيع الانسان أن يبقى، وأن يبلغ أفضل كمالاته الا في المجتمع. والمجتمعات البشرية منها ما هو كامل، ومنها ما هو غير كامل. فالكامل منها ثلاثة: العظمى (وهي المعمورة)، والوسطى (وهي الأمة)، والصغرى (وهي المدينة). وغير الكامل منها ما يتمثل في القرية والمحلة والسكة والمنزل. والخير الأفضل والكمال الأقصى ينال بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها".

لكن خليل حاوي لم يجد في مدينة القرن العشرين ما كان يأمله، أو يتصوره في ميدان الحياة العملية؛ اذ لم يلق فيها ما يلبي حاجات الانسان وطموحاته في التقدم والرفاهية والسعادة؛ فلقد خبرها شاعرنا، وعرفها حق المعرفة في مواطنها المختلفة. ولعل ما يدعو الى العجب هو تناقض العلة والمعلول في منطق الابداع الحضاري في ميدان الحياة الواقعية؛ ذلك أنه بعد أن كان الابداع وليد الحاجة الى الكفاية والتقدم والسلام – من خلال السيطرة على منابع الطاقة وخيرات الأرض، ومن خلال التمكن من تجنب الكوارث الطبيعية والبيئية، والتغلب على صعاب الحياة – أصبح فيما يبدع قوة  معاكسة تخلخل أمن الانسان، وتفسد هناءه واستقراره.

وهكذا يتوضح رأي حاوي في المدينة المعاصرة، موطن هذا الابداع، من خلال ما تكشف له حقيقتها عن الأمور التالية:

أ- الخداع والتزييف: فهي عالم يتلون بمظاهر خارجية براقة، ويتفنن بأحدث وسائل الاغراء والترغيب، حيث ينتهي الأمر بوقوع الانسان أسيرا  للضيق والحرمان بدلا  من بلوغ حالة الاستقرار النفسي والفرح:

عاينت من مدينة
تحترف التمويه والطهاره
كيف استحالت سمرة الشمس
وزهو العمر والنضاره
لغصة، تشنج وضيق...

حضارة التمويه هذه التي تقدم الى الانسان بطبق العيش المحمل بأنواع اللذائذ، ما زادت الجائع الا جوعا ، وما عالجت التخلف بل عاجلته بما أثقله وعمقه. وهي اذا ما احتضنت المجتمع الانساني في مرضه ما أزكته الا توجعا  وتآكلا .

ولعلها تبلغ قمة الخداع والتزييف حيث تتمثل في:

الخصب الذي ينبت
في السنبل أضراس الجراذ
امسحيه تمرا  من سمرة
الشمس على طعم الرماذ
امسحي الميت الذي ما برحت
تخضر فيه لحية، فخذ وأمعاء تطول...

هذه المدينة تتلبس الوجه الحضاري المزيف الذي يظهر عكس ما يضمر، والذي:

"كان في هوة عينيه
صدى الجن يغني الدر والياقوت
في قاع البحار
وفم الأفعى متى ينشق
عن ورد وتغريد وحب
للعصافير الصغار..."

و ليست مأساة الانسان منحصرة  في مدينة الغرب، اذ لم يتردد شاعرنا في اظهار امتدادها الى بيروت التي رأى فيها الصورة المزيفة للتحضر الذي لم يكن انجازا  أوجدته تطلعات أبنائها وطموحاتهم. فحاضرها يمثل ذلك التفاعل الخاطىء والغريب على أرضها، التي التزمت نتائجه ومعطياته، وهي ما زالت تدعي الخلق والبكاره:

"نحن لم نخلع ولم نلبس وجوه
نحن من بيروت، مأساة ولدنا
بوجوه وعقول مستعاره
تولد الفكرة في السوق بغيا 
ثم تقضي العمر في لفق البكاره..."

هذه الحضارة التي يهرع اليها المرء، سابغا  عليها جلال المنقذ بينما هي تحمله عبر منجزاتها مرهقة  اياه في زوغة الاستكشاف، حيث تنتهي به الدهاليز المعتمة، في علب الليل، هناك حيث يستقر مرماها الأخير، وتميط اللثام عن حقيقتها الفاسدة في غفلة من اليقين، حيث جعلت من أحضان الخطيئة أركانا  لهيكلها.

ب- السحق: تتبدى مشاهد هذه الدراما الانسانية، في شعر حاوي، على مسرح التمدن العصري، من خلال الانسان قدرة توجيه أمور حياته، وفقدان الأمل في تخطي الواقع المشؤوم الذي يفرض عليه الانقياد والخضوع له، والتخلي عن طموحاته وأحلامه المستقبلية، فينصاع معتقدا  بامكان الحصول على مردود لقاء تبعيته وتقبله العيش في حظيرة العبودية واللا انسانية:

عمرنا الميت ما عادت تدميه الذنوب
والنيوب
ما علينا لو رهناه لدى الوحش،
أو لدى التعلب في السوق المريب
وملأنا جوفنا المنهوم
من وهج النضار
ثم نادمنا الطواغيت الكبار
فاعتصرنا الخمر من جوع العذارى
والتهمنا لحم أطفال صغار،
وغفونا غفو دب قطبي
كهفه منطمس أعمى الجدار...

وتبقى الحياة المدينية، في عيني حاوي، حياة  جحيمية تفوق طاقة التحمل، حيث تنتهك جوهر الانسان، وتذيب قيمه التي طالما تسلح بها للحفاظ على عزة عنصره الخلاق، ولصون تلك الهالة الانسانية المميزة بنفحة الهية، والتي تسمو به على التفاهات، وتجنبه الوقوع والتلاشي في هاوية الرذيلة والمهانة:

"ومتى يحتضر الضوء المقيت
ويموت
عن بقايا خرق شوهاء،
عنا، عن نفايات المقاهي والبيوت؟
حشرت في مصهر الكبريت،
في مستنقع الحمى،
رست في جوف حوت
مضغة  يجترها الغاز الجحيمي السعير...

وتتوالى مشاهد هذا السحق الحضاري في ما تعانيه الجماهير التي يعلكها دولاب نار من جراء انجرافها بتيار الحضارة العصرية، الذي يعود ليتمثل في طاحونة حمراء.
كما أن الانغماس في أجواء "مدينة الأفيون"، هو ما أدى الى تعكير صفاء الرؤية، والى خنق التوثب، والعمل لدى الأجيال الطالعة، حيث استحال هذا الرواق الحضاري "مأوى" لعجزهم، فينقطعون فيه عن أسباب حضورهم وتقدمهم في التاريخ.

ولعل موقف حاوي يتبدى أيضا ، في مواجهة هذه الحضارة، في استنجاده بأشباح المغول، كردة فعل طبيعية، وعفوية تعبر عن الحاجة الملحة الى الخلاص من حالة السحق بازالة لعازر أسبابه.

ج- السأم: لم يتذمر الشاعر من الحياة في المدينة، ويعاني ضيقا  وتوترا  ؟ لم لم يشك الضجيج، الا بعد اقامة طويلة، وفي وقت متأخر...؟ لم بات يشعر وكأن الأسلاك في صدغيه من صدغ لصدغ"؟

انه السأم المحموم، والوحشي الرهيب، الناجم عن عبثية الجهود التي بذلت من أجل حياة فضلى:

"أنجر العمر مشلولا  مدمى
في دروب هدها عبء الصليب
دون جدوى، دون ايمان
بفردوس قريب"

وينحصر معنى الحضارة العصرية، في خلاصة منجزاتها الضخمة، في حياة مادية يغشاها ضباب التبغ والخمر، وتقتصر على هنيهات من اللذة الجنسية بين أحضان مومس باتت محورا  حضاريا . ومع هذا، فهي وان أخدمت نار الشهوة، فانها لن تلبث حتى تضاعف حدة السأم الذي لا تملك له علاجا :

"أه ما يجدي ضحايا السأم الملعون
ما يجدي نداماك الحيارى
آه ما يجدي جلاميد الصحارى
نغم نديان يحكي
عن صبابات العذارى
آه ما يجديك أنت
أنت يا نعش السكارى؟!

د- الغربة: ليست الغربة وليدة التغيير أو الانتقال المفاجىء من بيئة اجتماعية مألوفة الى بيئة تختلف عنها من حيث المكان، أو من حيث المفارقة الطبيعية بين ريف ومدينة، بالنسبة الى حاوي، وهو القائل:

"نحن من بيروت، ولدنا
بوجوه وعقول مستعارة"

فهو ابن مجتمع منفتح حضاريا ، لا يؤثر الانعزال أو الانغلاق على نفسه، بل يشكل مصبا  تلتقي فيه معظم الروافد الحضارية الجارية، ويشكل مرآة تنعكس فيها جميع وجوه المدينة الغربية وغيرها. ولعل خير ما يؤكد وجود تلك الالفة الحضارية التي عناها الشاعر، وقدمها ما قاله المعلم بطرس البستاني: "نرى أن العلوم والفنون الافرنجية المبنية على مبادىء حقيقية قادمة الينا من كل فج عميق، وما مكث فيه الافرنج السنين العديدة يمكن للعرب أن يكتسبوه في أقرب زمان مع غاية الاتقان والاحكام. فالعلوم اذ قد أكملت دورتها بوصولها الى العرب عن طريق الاسكندرية واسلامبول والهند وبيروت".

ونجد ذلك أيضا  في ما قاله فرنسيس مراش في دعوته أبناء وطنه "الى النهوض لتحصيل العلم، وتشييد مدارسه، وتوطيد مكاتبه، ولا نلتفت الى أعدائه الذين اما لجهلهم أو لبعض أغراض لهم يسعون في تدمير العلم ودك مبانيه".

لكن الغربة متحصلة لدى الشاعر من جراء النضوب الروحي في الجسم الحضاري ضمن اطار الواقع المديني الحديث، الناجم عن انحراف مسيرة التطور عن اتجاهها الصحيح، وانتهائها بالمراوحة وسط حلقة من المفاهيم المادية التي تتنافى والمفهوم الانساني الأصيل للحضارة. فالانسان وان كان "من التراب والى التراب يعود" انما هو يحمل هذه التسمية في كماله الوجودي، بامتياز ماهيته بالعقل والروح... غير أن حاوي، من خلال تجربته الواسعة لأفانين الوجوه المدينية في مواطنها، بباريس، ولندن، وروما، وبيروت... ما عاد ليرى فيها سوى بؤر نفي لتوهج وحضور الانساني فيها، حيث استحالت الحياة كابوسا مرعبا  لا يطاق، والذي "يكب الصخر في عينيه"، فخرج به عن وضعه النفسي الطبيعي اذ بات يتملكه احساس موجع بالغربة الداخلية؛ انها الغربة بينه وبين ذاته التي تحولت الى "حجر تحمله الدوامة الحرى".

الرفض لواقع الحضارة العصرية العامة:

لم يكن حاوي ليرفض حضارة الغرب اذا ما تمثلت في قمة التعامل بما حققته من التقدم العلمي والتكنولوجي، بل لأنها أضحت تمثل الحركة الآلية المتحكمة بحياة الناس، والتي تفرض عليهم اتباع أساليب عيش آلي مغاير للمألوف، بالاضافة الى ما تسببه من الحرمان من فرح العيش.

غير أنه في المقابل، لم يتطلع الى الشرق العريق على أنه المنفذ الأخير والعلاج الأنجع الذي يمكن أن يعتمد كمثال حضاري يتجاوب وتطلعات انسان هذا العصر، لأن حضارة الشرق العتيق هي وليدة عقليات، وظروف ومعطيات تختلف عنها في هذا الزمن، فهي تتمثل بالدرويش الذي:

"شرشت رجلاه في الوحل وبات
ساكنا ، يمتص ما تنضحه الأرض الموات،
في مطاوي جلده ينمو طفيلي النبات:
طحلب شاخ على الدهر ولبلاب صفيق.
غائب عن حسه لن يستفيق.
حظه من موسم الخصب المدوي
في العروق
رقع تزرع بالزهو الأنيق
جلده الرث العتيق.

ولم ينشد حاوي الهروب من المدينة، التي تمثل الغرب، الى الريف يمثل الشرق، في هذا العصر. ذلك أن الشرق بات مستنقعا  تنصب فيه رواسب المدينة الغربية، حيث باتت دار الشاعر بورة تجمع لمفروزاتها الفاسدة:

"كأن في داري التقت
وانسكبت أقنية الأوساخ في المدينة،
تفور في الليل وفي النهار
يعود طعم الكلس والبوار"

ولأن الشرق صار عاجزا  عن خلق حضارته المميزة، يحاول تمثل الغرب، واللحاق بركبه السباق الذي لا يبارى في الزمن الراهن، والذي ما كان الاقتداء به، في العصر الحديث، الا نذير شؤم ودمار:

"ودوت جلجلة الرعد
فشقت سحبا  حمراء حرى
أمطرت جمرا  وكبريتا  وملحا  وسموم
وجرى السيل براكين الجحيم
أحرق القرية، عراها،
طوى القتلى ومر...

لذا هو طلب الفرار رافضا  ليس الواقع الحضاري في الغرب فحسب، والذي يشهد مرحلة غليان وتأجج بركاني مدمر ينتهي بما آلت اليه حضارات الروم واليونان القديمة، حيث شذت، من الاندثار الذي يطال الشرق المقلد للغرب، بل هو يرفض أيضا  واقع الشرق المتخلف حيث قال:

"خلني أمضي الى ما لست أدري
لن تغاويني المواني النائيات
بعضها طين موات
آه كم أحرقت في الطين المحمى
آه كم أحرقت في الطين الموات
لن تغاويني المواني النائيات..."

هكذا أعلن حاوي عدم انتمائه الى عالم الحضارة القائمة، من خلال تمثله انسان العصر بشكل عام، والانسان الشرقي بشكل خاص؛ وذلك في ما يقاسي من اضطرابات الحياة وسرابها، وشعور بالضياع واليأس من الخلاص في هذا الجو الحضاري العام، الذي عقدت عليه الآمال الخائبة من أجل بناء حياة جديدة وسعيدة، حين تكشف عن حقيقة مخادعة فاسدة كانت بمثابة ضربة قاصمة في صميم الانسان الشغوف بها، فزادته تطيرا  ويأسا :

"من ترى زحزح ليل السجن عن صدري
وكابوس الجدار؟
أنكوى العميا يغطيها
سواد رطيب، طين عتيق
أنكوى ما للكوى تنشق
عن صبح عميق
وصدى يهزج من صوب الطريق...
طالما أغرى الصدى قلبي وجفني
طالما راوغني صوت المغني
طالما أدمت يدي جدران سجني
طالما ماتت على كيد الجدار
رد باب السجن في وجه النهار
كان قبل اليوم يغري العفو أو يغري الفرار
كيف تخضر خيوط العنكبوت
نتشهى عودة للموت في دنيا تموت...؟

ان هذا التأزم الداخلي هو الدليل الطبيعي والبرهان العملي على اللا انتماء الى الحضارة الراهنة، وبداية المخاض لولادة جسم حضاري سليم تركن اليه النفس وترتاح. ولعل كولن ولسن يوضح ذلك في قوله:

"يميل الانسان الى أن يكون على طبيعة محيطه، واذا كانت الحضارة مريضة روحيا  فان الفرد يعاني من المرض ذاته، واذا كانت صحته الروحية تساعده على تحمل أعباء الكفاح فانه يصبح لا منتميا ".

لكن حاوي، في رفضه التسليم بالأمر الواقع، يعود ليعبر عن انتمائه، ولكن الى عالم آخر يبحث عنه في رحيله الشاق في دنيا المغامرة:

"خلني للبحر، للريح لموت
ينشر الأكفان زرقا  للفريق
مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق.

وهذا ما عبر عنه ولسن في اشارته الى أن "اللامنتمي يكف عن كونه لا منتميا  حين يشغله أمر، حين تقلقه قلقا  جنونيا  الحاجة الى الخلاص".

هكذا، وحيث تتحقق فلسفة الالتزام بالواقع، والوجود مع خليل حاوي، بتغنيه بأوجاعه وهمومه الذاتية التي ينطلق منها الى العالم، والى رؤيا حضارة جديدة:

"في شاطىء من جزر الصقيع
كنت أرى فيما يرى المبنج الصريع
صحراء كلس مالح، بوار
تمرج بالثلج وبالزهر، وبالثمار...

كان لا بد للشاعر حاوي، من أجل العبور بالمجتمع الانساني من واقع المأساة الحضارية الى عالم حضاري أمثل، أن يعتمد خطة فكرية يترسمها شعره، حيث تتفجر من صلب المعاناة ملحمة  رؤيوية مشعة في صميم الذات الانسانية. وهذه الذات انما هي تمثل الطاقة الانسانية الخام، التي ينطلق منها في بناء عالمه المنشود، متحررا  من قيود الواقع العصري والبيئي الراهن، ومستفيدا  من تجربته في آن معا .

فهو عمل على تجريد الواقع الوضعي العام من خلال خبرته، وتقصيه أبعاد معاناته، حيث يتسنى له ادراك الجوهر الانساني، الذي يشرع منه في بناء ذلك الصرح الحضاري الجديد، في جو ميتافيزيقي تتوحد أرجاؤه ضمن اطار من الرؤى الفلسفية الواقعية.

وليس ذلك من الغرابة في شيء على المستوى الشعري المطروح، اذا يصرح الدكتور زكريا ابراهيم قائلا :

"حقا  ان في الميتافيزيقا خيالا  شعريا  ضمنيا  كما في الشعر تفكير ميتافيزيقي ضمني"

والرؤيا التي باتت تعريفا  للشعر الحديث عند أدونيس حين يقول: "اذا أضفنا الى كلمة رؤيا بعدا  فكريا  انسانيا ، بالاضافة الى بعدها الروحي، يمكننا حينذاك أن نعرف الشعر الحديث بأنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفاهيم القائمة. هي، اذا ، تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر اليها".

وهكذا نرى حاوي، شاعر الحداثة، وفي سبيل بلوغ ذلك البعد الحضاري السامي، يتناول الحياة الانسانية كوحدة متكاملة، غير قابلة للتجزؤ أو التصنيف. وهو يتجنب مسلك النزاعات الدماغوجية الحادة، واثارة الأحقاد، والثورات الغوغائية التي لا يمكن ان تؤدي الى النتيجة النبيلة المتوخاة؟ ذلك أنه يعتمد مبدأ المحبة، الذي يستغرق سائر المبادىء الانسانية، وسيلة وجوا  في عملية تمخض طبيعي، حكيم ومأمون، يتولد عنه واقع حضاري جديد، أفضل ومعافى.

لذلك يلاحظ اعتماد حاوي جدلية رؤيوية ترتكز على الأسس التالية:

1- النقد الذاتي الذي يقوم على:

أ- الحوار بين الذات والموضوع.
ب- ثبات العودة الى الذات.
ج- الفطرة التي هي يقين العودة.

2- مبدأ الارادة الخلاقة التي تستوجب:

أ- تخطي العوائق العاطفية.
ب- الخروج على العصر والتاريخ

3- المحبة.

1- النقد الذاتي:

لقد أدرك، وهو يعاني مرارة الواقع الذي لم يكن من صنع يديه، ولا هو يرضى عنه، أن له وجها  أصيلا ، ذاتا  انسانية  تمج أصباغ الحضارة المزيفة، التي لونتها وطمست معالم وجودها، فتسببت بضعفه كما أدت به الى الضياع:

"أدري أن وجها  طرياً
أسمر لا يعتريه
ما اعترى وجهي
الذي جارت عليه
دمعة العمر السفيه
وجهي المنسوج من شتى الوجوه
وجه من راح يتيه.
وهو أدرك أيضا  أن ما آلت اليه حاله من الضعف والانحراف، هو مسؤولية تقع على عاتقه لمجرد تعامله أو تبنيه لوجوه الوضع الحضاري القائم والفاسد؛ اذ "ليس شيء من خارج الانسان اذا دخل فيه أن ينجسه، ولكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الانسان".

فالتعامل انما هو فعل ارادة تقدم عليه وتعيه، وبالتالي تمهد له فرص البقاء:

"ويدي تمسك في خذلاتها
خنجر الغدر، وسم الانتحار
رد لي يا صبح وجهي المستعار..."

ان الانسان، في رأي سارتر: "يستطيع أن يريد تعديل الشخصية في مجتمع معطى، ولكن اذا أراد ان يغيرها فعليه أن يتلبسها أولاً". غير أن حاوي لم يبادر الى تغيير واقعه الا بعد تمرسه ومعاناته؛ فهذا التمرس الذي يبدو في شخصيته الراهنة جليا  انما هو ظاهرة عامة أوجدت من خارج حقل طاقته الذاتية التي تتنافى واياها، وبات من المستحيل أن يقوم بينهما انسجام أو تلاؤم. انه يعاني ازدواجية كيانية متقابلة تتمثل في الحوار الداخلي، أو النقد الذاتي، في عمليه تفاضل بين ذاته وشخصيته:

"كنت أمشي معه في درب "سوهو"
وهو يمشي وحده في لا مكان
وجهه أعتق من وجهي ولكن
ليس فيه أثر الحمى
وتحقير الزمان،
وجهه يحكي بأنا توأمان"

لذا كان لا بد من نشوء صراع داخلي بين ذات الشاعر الباحثة عن اليقين، والتي تستسيغ مرارة المحاولة ومشقاتها، وبين شخصيته المتمثلة "بالناسك"، من الحضارة القائمة والمتزمتة، والتي تتحصن بمظاهرها السائدة في حياة البشر وأفكارهم. فهي ترميه بتهمة التخلف والجنون اذا ما حاول التخلي عنها، والتحرر من قيودها:

- هل جننت فرحت تحلم في النهار...؟
- وحدي مع البدوية السمراء
- كنت مع العبارة
في الرمل كنت أخوض
عتمته وناره
شرب المرارات الثقال بلا مراره..
"ألغاز مجنون" وعاد
لغرفة الآثار في رأسي
وللسلع العتيقة،...

اذا  هو يسعى، من خلال معرفة نفسه، الى الخروج من أسره الشخصي معلنا  لا أنتماءه لواقع العصر، لكي تتوضح له معالم الرؤية في توجهه الى بناء الشخصية الجديدة، والحضارة الجديدة؛ وكأنه ينقل الى الصعيد العملي شعار سقراط "أعرف نفسك بنفسك"

وهو يؤثر التشرد، وأن يكون منبوذا  يحيا بذاته، ويدرك ما يريد، ويسعى اليه، على أن يرضخ لارادة تكفر بالقيم، وتخمد جذوة طموحه:

"أنا لست منكم طغمة النساك
واللحم المقدد في خلايا الصومعة"

ان العودة الى الذات حالة تمهيدية لانطلاقة تأملية فلسفية تؤدي بدورها الى ادراك الانبعاث الحضاري المرتجى؛ حيث يتم ادراك اليقين، وتتكشف معالم الرؤيا.
ولعل الشاعر يقر بما أثبته أفلاطون من "أن المعرفة هي فعل تذكر" أي أنها موجودة أصلا  في أعماق الذات، وما على الباحث الا أن يستخرجها بفطنة وقادة، واستنتاج محكم حتى تسفر الرؤيا عن الحقيقة المنشودة:

"واليوم، والرؤيا تغني في دمي
برعشة البرق وصحو الصباح
وفطرة الطير التي تشتم
ما في نية الغابات والرياح
نحس ما في رحم الفصول
نراه قبل ان يولد في الفصول،
تفور الرؤيا، وماذا،
سوف تأتي ساعة
أقول ما أقول...

2- الارادة الخلاقة:

ولا تنتهي مهمة العبور، لدى حاوي، عند حدود بعث الذات الانسانية وفطرتها، بل من هنا تبدأ، لأنه لا يدعو الى الرفض المطلق، أو الى اللا انتمائية المطلقة، كما انه لا يؤمن بالحظ، ولا يعتمد الارجاء الزمني الى حيث يقضي الحدث اللا ارادي في مجال التحول الحضاري، فالزمن يدور غير آبه لعمر الانسان أو الأجيال التي تمضي دون تحقيق الأماني، بل هو يصر على اختيار مصيره وصنعه بيده، حيث يجعل من تلك الرؤيا واقعا  ناجزا  وجديدا ، ومتمثلا  في شخصية عصرية فذة:

"ملء دمي وساعدي
أطيب ما تزهو به الفصول
في الكرم والينبوع والحقول
العمر لن يقول
يا ليت من سنين..."

ولعله يتوافق في ذلك مع نيتشه، في مذهبه الداعي الى التخطي التقييمي لكل القيم، "اذ يتمثل الانسان الأعلى الذي هو وراء الخير والشر، الصلاح والفساد"، بيد أنه يفترق عنه عند حدود مبدأ الارادة من أجل القوة، الذي يتحول مع حاوي الى مبدأ الارادة من أجل الخلق، حيث يخرج من الطين ما كانت تعجز عنه الظنون:

"ما يشتهي قلبي تجسده يدي
في الطين يخفق ما تغيبه الظنون
حور، يواقيت، عمارات
بضربة ساحر"كوني تكون".

يقول حاوي: "بديهي ان يتعطل تطور الحياة متى انشقت الى مثالية غيبية ومادية مستغلة، متى تغورت الحيوية، وخلع الوهم ظله المخدر على فجائع الواقع"

اذاً لا بد من تكامل الطاقات الفكرية والارادات العملية، ضمن اطار من القناعات التي لا رجوع عنها، والتي تكتسب طابع الجدية من حاجة الشعوب الى النهوض، وبالتالي الى بناء الصرح الحضاري الانساني الصحيح، حيث يعود الخير والجمال بسمة فرح على ثغر الحياة:

"داري تعاني آخر انتظار
وقع الخطى الجريئه
تفتق المرجان والمرج
بأرض الدار والجدار...

وفي حركة العبور رأى الشاعر في العادات والتقاليد البالية قيودا  تعيق الانسان في ممارسة حرية اختيار نمط حياة جديدة، فكان لا بد من التحرر منها، ومن مؤثراتها العاطفية المستبدة، كما لا بد من التغلب على النعرات الطائفية، والشعوبية، التي كانت السبب المباشر في ضعف أمم الشرق، التي باتت مجالا  حيويا  لامتداد حضارات الغرب وغيره اليها، ولتغلغل مفاهيمها المتصارعة:

"البيت المخرب
فيه اطار أبي، عكازه
ويضيء البيت خفاش مذهب
دونه يخشع أهلي، أخوتي..
نسل السبايا
خلفتهم غزوات الشرق والغرب
خرقاً ، ممسحة  في فندق الشرق الكبير".

ويجد الشاعر نفسه أيضا  وجها  لوجه أمام التاريخ، أمام أجيال فارغة الا من البؤس والتخلف الحضاري، ذلك التاريخ الذي عاد متقمصا  هذا العصر، ضاربا  بآلاته ومتسترا  بمظاهره البراقة وحلله الخادعة؛ لذا نراه عاصيا  متمردا  عليه:

"اخرسي يا بومة  تقرع صدري،
بومة التاريخ مني ما تريد؟
في صناديقي كنوز لا تبيد:
فرحي في كل ما أطعمت
من جوهر عمري
فرح الأيدي التي أعطت، وايمان وذكرى،
أن لي جمرا وخمرا 
أن لي أطفال أترابي
ولي في حبهم خمر وزاد...
يا معاد الثلج لن أخشاك
لي خمر وجمر للمعاد...

ولعل صورة الانقلاب التاريخي والعصري، الذي لا بد من أن تحدثه الشعوب في انطلاقتها، تتمثل بأسطورة العنقاء، ولكن على صعيد الواقع الحضاري والانساني:

"ان يكن رباه،
لا يحيي عروق الميتينا
غير نار العنقاء، نار
تتغذى من رماد الموت فينا،
في القرار،
فلنعان من جحيم النار
ما يمنحنا البعث اليقينا...

3- المحبة:

يستدرك حاوي، في خضم التمرد، ويتنبه لخطورة الأمر اذا ما تمادى واستحال الى عنف وقهر، لأنه يأبى الشر وسيلة  أو قوة  محركة للتغيير الحضاري، والنمو التاريخي، وهو يرى أن العالم يشهد نزوعا  الى الاندثار بما تصنعه أيادي الحقد، وما تشيع من الرعب.

كما انه يأبى أن تكون الثورة هدفا  لذاتها، وعلى تلك الصورة القسرية، أو أن يقوم الرفض بغير ايجابية بناءة؛ لأنه ينشد سعادة الانسان التي لا تتحقق بغير المحبة، التي تتمثل في التفاهم والتضحية والعطاء.

فالحب هو الثورة الحقيقية، وهو الذي يمنح قوة التغيير الفعالة والمثمرة، فيجعل يده قادرة - كعصا نوفاليس السحرية - على مسح الذنوب والقضاء على قوى الشر، من أجل انقاذ الانسان والأوطان، ومن أجل ابدال الواقع الرديء والخطير بواقع راق وخير:
"ربي لماذا شاع في الرؤيا
دخان أحمر ونار؟
أحببت لو كانت يدي سيلا ،
ثلوجا  تمسح الذنوب
من عفن الأمس ننمي الكرم والطيوب،
تضيع في بحري التماسيح
وحقد الأنهر الموحله
وينبع البلسم من جرح
على الجلجله...

هذه المحبة هي أساس التقدم الصحيح، وقاعدة كل تطور سليم، في رأي حاوي، فهي توجه انتقاضة الشعوب كي تسير في الصراط السوي، فلا تكون ثورتها انفجار بركان دم ونار، بل شعلة خضراء، تموز، تبعث السلام والخير والفرح. والمحبة هي القادرة على صنع المعجزة، معجزة انبلاج فجر حضاري جديد:

"أترى يولد من حبي لأطفالي
وحبي للحياة
فارس يمتشق البرق على الغول
على التنين، ماذا هل تعود المعجزات؟
بدوي ضرب القيصر بالفرس
وطفل ناصري وحفاة
روضوا الوحش بروما، سحبوا
الأنياب من فك الطغاة
رب ماذا؟
رب ماذا؟
هل تعود المعجزات"

العالم الحضاري المنشود ( أو مدينة حاوي الفاضلة):

لقد وضعت الرؤيا الحاوية الحضارة المنشودة في اطار شمولي عالمي، ولعل الشاعر كان، في غمار صراع القوميات والحضارات، الرائد الشجاع الذي رفع راية حضارة السلام، والذي آمن بضرورة تكامل قيم الأمم الشرقية بأبعادها الانسانية لتشكل وحدة جوهرية تكون بدورها ناموسا  حضاريا  يبعث الأمل في شرق جديد حيث تتمكن هذه الأمم من أن:

"تنفض الأمس الحزينا
والمهينا، ثم تحيا حرة  خضراء تزهو وتصلي
لصدى الصبح المطل
وتعيد
من ضفاف الكنج، للأردن، للنيل
تصلي وتعيد:
يا اله الخصب، يا تموز، يا شمس الحصيد
بارك الأرض التي تعطي رجالا 
أقوياء الصلب، نسلا  لا يبيد...

فلقد عبر حاوي عن هذه الضرورة في قصيدة عنوانها: ( آسيا.. بعد الجليد) في مجلة الآداب، في العدد العاشر، كما عبر عنها في مواضع آخرى في المجموعة الكاملة.

ويتبلور موقفه الفلسفي الحضاري، وأبعاده السامية حين يتنكر لمبادىء التمييز العنصري والعرقي، مخالفا  دعاة العرقية، وعلى رأسهم كونت دي غوبينو حيث نادى بوحدة الانسان كمادة أولى للبناء الحضاري السليم، لأنه "لا يصح عبر البحر تفسيخ المياه" وحين يدعو الى (خلق فرخ النسر من نسل العبيد) فيما هو يدعو الى توثيق التكامل الحضاري العام، الذي لا تكون الحياة فيه جحيما  وضلالا ، والمدينة ساحة تجول فيها الذئاب، ويستبد فيها الطغاة، الذين يجورون على الضعفاء والبسطاء فيحيلونهم أذنابا  وخصيانا  ضئالا  ولصوصا  وبغايا، يؤيده في ذلك أحمد فارس الشدياق بقوله:

"اتخال أن التمدن معناه أن يكون الناس في مدينة، وفيها ذئاب وسباع، كلا ثم كلا".

بل لا بد من قيام الحضارة على العدل والمساواة، والسلام، حيث تسقط الحواجز أمام تواصل الشعوب وتفاعلها البناء:

"وسوف يأتي زمن أحتضن
الأرض وأجلو صدرها
وأمسح الحدود"

وهكذا يظهر حاوي كيفية التكامل الحضاري الذي لا يقوم الا على التوافق والتقارب الانسانيين، وليس على ممارسة الضغوط السياسية والاستبداد، أو فرض السخرة الحضارية لمصلحة فئة متسلطة. وكأنه يقصد الى القول بما عبر عنه جان جاك روسو:

"من البلاهة دائما  أن نقول: اني أعقد معك اتفاقا  كله على حسابك، وكله في صالحي، وسأنفذه طالما يروق لي، وانك ستنفذه طالما يروق لي"

ويتمثل الوجه الحضاري المنشود، لدى حاوي، بالعالم المديني الذي يشكل الانجاز الحقيقي للتقدم الانساني، حيث يقول:

"ماذا سوى أرض تعب
الحلم، تنبته كروما ، والكروم
لها عروق السنديان
ورفاه فيء البيلسان،
ماذا سوى عقد القباب البيض
بيتا  واحدا  يزهو بأعمدة الجباه
يزهو بغابات من المدن الصبايا
لين أرصفة وجاه...

لكن الشاعر في دعواه لا يتبنى الحضارة الغربية، تلك التي رفضها وثار عليها، ليس لأنها تتناقض والواقع الريفي، بل لأنها فقدت المضمون الانساني، حيث أن الانسان، كما يقول، في ثورة الآلة قد استحال الى آلة، واستبدت بمناقبيته قيم نفعية تجارية.

انه يطرح صورة مدينة مثالية جديدة، تتوضح ماهيتها بتزاوج القيم الروحية والانسانية الشرقية بطاقات الغرب العلمية والتكنولوجية، ضمن اطار اجتماعي شامل وموحد يحفظ للانسان كرامته واستقراره:

"تحتل عيني مروج، مدخنات
واله بعضه بعل خصيب
بعضه جبار فحم ونار،
مليون دار مثل داري ودار،
تزهو بأطفال غصون الكرم
والزيتون، جمر الربيع
غب ليالي الصقيع".

وهكذا يبدو خليل حاوي شاعرا  ملتزما  بقضية الحضارة الانسانية، والذي كان الشعر عنده "يقتضي من الشاعر وقف الحياة عليه وحده، وبخاصة عندما يكون شعرا  ملتزما  بثورة انبعاث حضاري مطلقة".

وقد عمقت الثقافة الفلسفية الرؤيا الشعرية لديه، دون أن يوشحها أي أثر من الفكر الذي يقرر تقريرا ، حيث آمن بما عبر عنه أفلاطون، والغزالي، وروسو، ومعظم المصلحين، من وجوب البدء من فطرة الانسان الأصلية، التي لا يمكن لمقومات الحضارة؛ من دين وأخلاق وعلم، أن تثبت على الزمن، وأن تحتفظ بفاعليتها، الا اذا استندت الى حوافز أصلية مغروزة فيها، واستمدت منها صفة الثبات والفاعلية.

وهذه الرؤيا هي نتاج تكامل حدسه الشعري بالحدس العقلي، الذي تولد من تلاقي الفكر والمعاناة، وما دعاه شلنغ موهبة العبقرية الفلسفية، وما سماه هيجل الفكرة الصحيحة المثلى.

ان عولمة الحضارة هي التي سعى حاوي الى بلورتها، والترويج لها، لأنها حضارة السلام المرتجى، حين تستقي جوهرها وديمومتها من القيم الشرقية، التي يكون للأمة العربية فيها دور الينبوع الدفاق الى جانب سائر الينابيع الطيبة.

أيها السادة. ان حاوي الذي كان شعره سمفونية  عنوانها "صراع الزمن"، وايقاعها صدى ايمان عميق بالانسان القيمة، مضى، لكن نداء الحياة في فنه لا يزال يتردد في ضمائر مريدي سلام الانسان وعزته