Khalil Hawi

هذا الكلام هو المقطع الأول، من ديوان حاوي الأول

"نهر الرماد" ومن قصيدته الأولى الموسوعة: "البحار والدرويش". وقد قدم لها الشاعر بفقرة نثرية قصيرة جاء فيها: "طوف مع يوليس في المجهول، ومع فاوست ضحى بروحه ليفتدى المعرفة، ثم انتهى الى اليأس من العلم في هذا العصر. تنكر له مع "هكسلي" فأبحر الى ضفاف "الكنج"، منبت التصوف. لم ير غير طين ميت هنا، وطين حار هناك، طين بطين".

هذا الكلام الوجودي ممهور ببصمات الزمن هو مشكلة الانسان الحقيقية التي تحتاج الى حل، وفيه الشك والقلق، والمجهول واليأس، وطين ميت كما ورد في مقدمة القصيدة، ومعاناة دوار البحر، وعتمات الطريق، "ومدى المجهول ينشق عن المجهول عن موت محيق" وفراغ الأفق، وأشواق الكهوف، ووهج الحريق كما ورد في المقطع الشعري المستل من بداية القصيدة.

ونمضي مع الشارع وبحاره، المتقمص شخصية السندباد، فاذا بهذا البحار الذي طوف مع يوليس، وعانى دوار البحر: حط في أرض حكى عنها الرواة / حانة كسلى، أساطير صلاة / ونخيل فاتر الظل رخي الهيمنات / مطرح رطب يميت الحس / في أعصابه الحرى، يميت الذكريات / والصدى النائي المدوى، وغوايات المواني النائيات / آه لو يسعفه زهن الدراويش العراة / دوختهم حلقات الذكر / فاجتازوا الحياة / حلقات حلقات / حول درويش عتيق شرشت رجلاه في الوحل وبات / ساكنا  يمتص ما تنضحه الأرض الموات /في مطاوي جلده ينمو طفيلي النبات / طحلب شاخ على الدهر ولبلاب ضعيف غائب عن حسه لن يستفيق / حظه من موسم الخصب المدوي في العروق / رقع تزرع بالزهو الأنيق / جلده الرث العتيق / هات خبز عن كنوز سمرت عينيك في الغيب العميق / قابع في مطرحي من ألف ألف / قابع في ضفة الكنج العريق / طرقات الأرض مهما تتناءى / عند بابي تنتهي كل طريق / وبكوخي يستريح التؤأمان / : الله والدهر السحيق ".

ان التعابير التي تحمل في طياتها بصمات الزمن وآثاره، كثيرة في هذا المقطع، منها: حكى عنها الرواة، يميت الذكريات - اجتازا الحياة - درويش عتيق - الأرض الموات - شاخ على الدهر- جلده الرث العتيق - الغيب العميق - قابع في مطرحي من ألف ألف - الدهر السحيق.

أما القلق الوجودي، والمعاناة القاسية، والشك والحيرة واليأس، والموت وأكفانه، وفعل الزمن الذي لا مرد له فتتجلى في قوله: واذا بالأرض حبلى، تتولى وتعاني / فورة في الطين من آن لآن / فورة كانت أثينا، ثم روما... / خلفت مطرحها بعض بثور، ورماد من نفايات الزمان / خلني، ماتت بعيني منارات الطريق / خلني امضي الى ما لست ادري / لن تغاويني الموانىء النائيات / بعضها طين محمى / بعضها طين موات / آه كم أحرقت في الطين المحمى / آه كم مت مع الطين الموات / خلني كالبحر، للريح، لموت / ينشر الأكفان زرقا  للغريق، مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق / مات ذاك الضوء في عينيه مات / لا البطولات تنجيه ولا ذل الصلاة.

ان صورة الدرويش هذه لم تغادر خليل حاوي طوال حياته الا في لحظات نادرة، هي لحظات التجلي والزهوة والشعور بآمال عارمة كانت تنتاب الشاعر من حين الى حين، سوف نتحدث عنها ابان الكلام على الانبعاث الحضاري، والتزام قضاياه عند خليل حاوي طوال أيام عمره.

لكن السأم واليأس، والمعاناة الفكرية، والقهر الوجودي، وشبح الموت، والانهيار والفناء، كانت تخيم على الشاعر وتستبد به، وتنغص عيشه وآماله وأمانيه.

وها هي قصيدته الثانية من ديوان نهر الرماد: "ليالي بيروت" تنضح بكل ذلك. فاذا بالكائن المهزوم بارادته واختياره، يطل برأسه المندحر، عامل تثبيط واحباط ينزل المدينة وهي هنا مدينة بيروت، لكنها في الواقع كل مدينة أخرى من مدن العالم - ينزل فيها السندباد، قانطا  مرتعبا  فيراها مقفرة رغم ازدحامها بالسكان يهيمن عليها السأم وهو وحش قاتل، يفترس من الأحياء أينما كانوا في هذه المدينة.

" في ليالي الضيق والحرمان / والريح المدوي في متاهات الدروب / من يقوينا على حمل الصليب / من يقينا سأم الصحراء / من يطرد عنا ذلك الوحش الرهيب / عندما يزحف من كهف المغيب / وأجما  محتقنا  عبر الأزقة / أنة تجهش في الريح وحرقة / أعين مشبوهة الومض / واشباح دميمة / ويثور الجن فينا / وتغاوينا الذنوب / والجريمة / ان في بيروت دنيا غير دنيا / الكدح والموت الرتيب / ان فيها حانة مسحورة / خمرا  سريرا  من طيوب / للحيارى في متاهات الصحارى / في الدهاليز اللعينة / ومواخير المدينة".

هنا يطل علينا الشاعر بانفعال أقوى، ويأس أشد، ومرارة اكثر قهرا ، وشعور بالهزيمة التي تؤدي الى أقصى الاحباط والتدمير.

ليالي بيروت هي ليالي الضيق والحرمان والضياع في متاهات الدروب، وحمل الصليب المضني في سأم الصحراء، ووحش رهيب يزحف من كهف المغيب، تبا  لهذا الزمان المفعم بالذنوب والجرائم والموت الرتيب، ومتاهات الصحارى في الدهاليز اللعينة، ومواخير المدينة. تبا  لهذا العيش المنغص.

أين ظل الورد والريحان / يا مروحة النوم الرحيمة / آه من نومي وكابوسي الذي / ينفض الرعب بوجهي وجحيمه / مخدعي ظل جدار يتداعي / ثم ينهار على صدري الجدار / وغريقا  ميتا  أطفوا على دوامة / حرى ويعميني الدوار / آه والحقد بقلبي مصهر / أمتص أجتر سمومه / ويدي تمسك في خذلاتها / خنجر الغدر وسم الانتحار / رد لي يا صبح وجهي المستعار / رد لي، لا أي وجه، وجحيمي في دمي كيف الفرار / وأنا في الصبح عبد للطواغيت الكبار / وأنا في الصبح شيء تافه / آه من الصبح وجبروت النهار.

ان هذه المشاعر والأحاسيس والصور التي يبثها حاوي في قصيدته، ليست وقفا   عليه، وعلى زمرة من الأصحاب يتسكعون في أزقة بيروت، وانما هي حال الجيل كله الذي كان يعيش معه ذلك الزمان، لا في بيروت وحدها، ولكن في عواصم العالم العربي كله من الخليج الى المحيط، وقد اختار خليل حاوي بوعيه وارادته وعن سابق تصور وتصميم، أن يحمل عبء تلك الحياة الرديئة، وذلك العصر العربي الذي يلفه الضعف والتخلف والقهر من كل حدب وصوب، وفي كل وجه من وجوه عيشه.

وهنا تتداخل العوامل المتباينة، زمنا  وفكرا  وممارسة عملية، وتقاطعا   بين الذات الفردية والذات الجماعية، وبين الوجود والعدم، والسعادة والشقاء، وتتفاعل الحتميات ضمن الجبر والاختيار، والثابت والمتحول، والمرغوب والمرفوض، في معمعان يحاول خليل أن يتمكن من القبض عليه أحيانا ، ويعبر عنه بأسمى انواع التعبير في السلب والايجاب، وفي ظل الهزيمة وظل الانتصار على نحو ما يبدو ذلك في قصيدته الموسومة: "في جوف الحدث" وفيها يقول:

ومتى يهملنا الجلاد والسوط المدمى؟ / فتموت / بين أيد حانيات / في سكون في سكون / ومتى يخجل مصباح الخفير / من مخازي العار / والدمع المدوي من سرير لسرير / ومتى يحتضر الضوء المقيت / ويموت / عن بقايا خرق شوهاء / عنا، عن نفايات المقاهي والبيوت / حشرت في مصهر الكبريت / في مستنقع الحمى / رست في جوف حوت / مضغة يجترها الغاز الجحيمي السعير / حشرجات تتعالى / سحبا  صفراء في وجه القدير / والضمير / ذلك الجو الجحيمي السعير، في مداه لا غد يشرق / لا أمس يفوت / غير آن ناء كالصخر على دنيا تموت / .. كل ما أذكره أني أسير / عمره ما كان عمرا  / كان كهفا   في زواياه تدب العنكبوت / والخفافيش تطير / في أسى الصمت المرير / وأنا في الكهف محموم ضرير / يتمطى الموت في أعضائه / عضوا  فعضوا  ويموت / كل ما أعرفه أني أموت / مضغة تافهة في جوف حوت.

فبعد أن كان يقول هذا القول وما شابهه في جملة من قصائده كنعش السكاري، والجروح السود، والسجين، وسدوم، وسواها، نراه ينتقض في قصيدته: "بعد الجليد" ليعبر عن معاناة الموت، والبعث من حيث هي أزمة ذات وحضارة، ومظاهرة كونية كما يقول في مقدمة هذه القصيدة، ويفيد من أسطورة تموز، وما ترمز اليه من غلبة الحياة والخصب على الموت والجفاف، ويفيد من أسطورة العنقاء التي تموت، ثم يلتهب رمادها فتحيا حياة جديدة.

يقول حاوي في مطلع هذه القصيدة:

عندما ماتت عروق الأرض / في عصر الجليد / مات فينا كل عرق يبست أعضاؤنا لحما  قديد / عبثا  كنا نصد الريح / والليل الحزين / ونداري رعشة / مقطوعة الأنفاس فينا / رعشة الموت الأكيد / في لهاث الشمس / في ما ترشح الجدران / من ماء الصديد / رعشة الموت الأكيد.

هكذا كانت الحالة العربية في عصر الجليد ، يغلفها العقم والشلل والركون الى التخلف، مع ان العرب أصحاب حضارة ومجد عريق، ففي تاريخهم ما يدل على أنهم قادرون على الخروج من هذه الأوضاع السيئة الى أوضاع أفضل - حبذا لو التفتوا الى ذلك الماضي العريق، واتخذوا منه منطلقا  لنهضة جديدة يستعيدون فيها مكانتهم الحضارية السالفة، ويعالجون أسباب تخلفهم التي هي علة العلل، والذي تحدث عنه الشاعر في قصائده الواردة في "نهر الرماد"، ما هو الا من قبيل النقد الذاتي، ومحاسبة الذات على خمولها، وقعودها عن بناء مستقبل يليق بها، ويجعلها جديرة بالحياة.

يجب أن يتخذ العرب موقفا  من هذا التخلف، وأن يتحول موقفهم الى توق شديد للانبعاث، ان قيمة الشعوب لا تكون بعدد أفرادها، بل بثقافتهم، ونوعية مطامحهم. فمن ذا الذي يعتمد عليه في اجراء هذا التحول نحو الأفضل؟ انهم النخبة المثقفة ولا ريب التي تصوغ مشروع الوعي، وتقف على مشاعر الأمة وآمالها، وأمانيها وحاجاتها حاضرا  ومستقبلا ، وتثبت الوعي والرغبة في النهوض بين أفراد الأمة. والشاعر واحد من النخبة المثقفة التي تستطيع ان تقود الأمة كلها، ويسعى الى صياغة مشروعها الحضاري سياسيا  واجتماعيا  واقتصاديا  وفكريا  وعسكريا  وعلميا  وحضاريا ، وهذا ما نشهده في محاولات خليل حاوي لاحياء التراث العربي الحضاري.

لقد بدأ الشاعر هذه المرحلة بالتمنى، ثم بتصور العوامل التي تحول هذا التمني الى فعل والى واقع في الحياة وفي الوجود. ولما كان حاوي قد مر بتجربة سياسة في الحزب القومي السوري الاجتماعي، وكانت له أهداف وأحلام وتصورات من شأنها ان تنقله من حيز التمنى الى حيز الفعل، فقد استيقظت هذه التصورات في نفسه، فراق له أن يفيد منها في موقفه الجديد. ولاح له بارق الأمل في اله الخصب تموز، فراح يناجيه بقوله:

يا اله الخصب، يا بعلا  يشق التربة العاقر / يا شمس الحصيد / يا الها   ينفض القبر / ويا فصحا  مجيد / أنت يا تموز يا شمس الحصيد / نجنا / نج عروق الأرض / من عقم دهاها ودهانا / أدفىء الموتى االحزانى / والجلاميد العبيد / عبر صحراء الجليد / انت يا تموز يا شمس الحصيد.

ولقد تعهد له باستعداد قومه المعذبين في الأرض، لأن يبذلوا جهودهم ليستحقوا هذه النعمة مهما يكلفهم ذلك من عناء.

يا حنين الأرض لا تقس علينا / ... ان يكن رباه / لا يحيى عروق الميتينا / غير نار تلد العنقاء، نار / تتغذى من رماد الموت فينا / في القرار / فلنعان من جحيم النار / ما يمنحنا البعث اليقينا / أمما تنفض عنها عفن التاريخ / واللعنة والغيب الحزينا / تنفض الأمس الذي حجر / عينيها.. يواقيتا بلا ضوء ونار / وبحيرات من الملح البوار / ثم تحيا حرة خضراء تزهو وتصلي / لصدى الصبح المطل / وتعيد / من ضفاف الكنج للأردن للنيل تصلي وتعيد / يا اله الخصب يا تموز، يا شمس الحصيد / بارك الأرض التي تعطي رجالا ، أقوياء الصلب، نسلا  لا يبيد / يرثون الأرض للدهر الأبيد / بارك النسل العتيد / بارك النسل العتيد / يا اله الخصب، يا تموز، يا شمس الحصيد. ان الشاعر لا يقف في هذه القصيدة عند حد التمني، وانما يتجاوزه الى العقل المنتج الذي تضطلع به الأجيال الجديدة، وهي التي يعلق عليها الآمال في تحقيق ما.

يرجوه من اله الخصب تموز، ففي قصيدة العودة الى سدوم يتساءل حاوي:

"ما الذي أبقت عليه النار / من بيتي وأتعابي، ومن تاريخ عمري / ما الذي ينبض محرورا  طريا  / في مكان المطروح الخاوي بصدري؟ / كدت أبكي لابتسامات الصغار السمر / أطفالي وابناء حنيني / انها أصفى من النار / وأقوى من أعاصير جنوني / طالما روضتهم في الريح والثلج / وفي الشمس على جمر الرمال / شئنهم من معدن الفولاذ سمرا  ورياحينا  طوال: وأنا من أجلهم أحرقت تاريخي / كل جيل كنت أبنيه من السمر الطوال / وتذكرت الصغار السمر حولي / والوجوه اليانعة / معهم في الكدح والضحك / ووجدي موجع / وجهي بوجه الفاجعة / من خلال الورد والحور / آراها، خلف سور الجامعة".

في هذا المقطع يتجلى خليل حاوي شاعرا  ملتزما ، يتماهى مع أبناء أمته "ويجعل نهضتهم هاجسة، وهمه وغايته في الحياة، فبيوتهم بيته، ومعاناتهم معاناته، وتاريخهم تاريخ عمره وأبناؤهم الصغار السمر أبناء حنينه، لقد رباهم وروضهم في الريح والثلج والشمس وعلى جمر الرمال الصحراوية المحرقة، وشاءهم من معدن الفولاذ رماحا  سمرا  ورياحينا طوال" من أجلهم عاش، ومن أجلهم سيبقى يعيش، انهم في حاجة الى قائد يقودهم في طريق الانبعاث.

أترى يولد من حبي لأطفالي / وحبي للحياة / فارس يمتشق البرق على الغول / على التنين، ماذا؟ هل تعود المعجزات؟ / بدوي ضرب القيصر بالفرس / وطفل ناصري وحفاة / روضوا الوحش بروما / سحبوا الأنياب من فك الطغاة / رب ماذا؟ رب ماذا؟ / هل تعود المعجزات؟ / باسم ما احرقت من نفسي بنفسي / باسم هذا الصبح من صنين / والعتمة خلفي، وجحيم الذكريات / ليحل الخصب، ولتجر الينابيع / ويمضي الخضر في اثر الغزاة / فارس يولد من حبي لأطفالي / وحبي للحاية / لتحل المعجزات / رب ماذا؟ رب ماذا؟ هل تعود المعجزات؟ نعم، نعم، انها تعود عندما يولد في الأمة ذلك القائد.

وربما كان هو الشاعر نفسه الذي يتراءى له أنه نبي قومه، وتتوضح هذه الرؤياوتشرق في قصيدة "الجسر"، وهي خاتمة نهر الرماد.

موضوع هذه القصيدة هو الانبعاث الحضاري الذي كرس له حاوي عمره وفكره وشعره، وراح ينتظر حدوثه بفارغ الصبر. ففيها يظهر الالتزام الحقيقي في أجلى صوره وأسماها، حين جعل خليل حاوي من قضية امته، قضيته الشخصية، ومن معاناتها معاناته، وجعل الكلمة فعلا ، والحياة قصيدة، ووحد بين شعره وعيشته حتى غدا هذا الشعر ينبض بالحيوية كما ينبض القلب بالدماء، والجدير بالذكر أن حاوي لم يعقد أمله في الانبعاث على الأجيال الراهنة، لأن هذه الأجيال قد تدجنت على الذل والتخلف والعبودية، وانما عقد الأمل على الأجيال الجديدة الطالعة، فهي التي ستحقق هذا الانبعاث الحضاري في أبهى صوره، وهكذا بدأ الشاعر قصيدته متفائلا  بالمستقبل، مكتفيا  بالأطفال الجدد الذين يولدون " كلما ضوأ في القرية مصباح جديد" فهذه الأضواء التي تنبلج من بيوت القرية ترمز الى تكاثر النسل، وامداد الحياة بأجيال جديدة.

و"كفاني أن لي أطفال أترابي / ولي في حبهم خمر وزاد / من حصاد الحقل عندي ما كفاني / وكفاني ان لي عيد الحصاد / أن لي عيدا  وعيد كلما ضوا في القرية مصباح جديد / غير أني ما حلمت الحب للموتى / طيوبا ، ذهبا  ، خمرا  كنوز / طفلهم يولد خفاشا  عجوز. للشاعر عيدان، عيد الحصاد، وعيد الولادات الجديدة. غير أن فرحه بالأجيال الجديدة تقابله نقمة على الأجيال الراهنة، فهي أجيال من الموتى، لم يحمل لهم طيوبا  ولا ذهبا  ، ولا خمرا  ولا كنوزا ، بمعنى أنه لا يحمل لهم حبا ، ولا احتراما  ، ولا فرحا  بأعراسهم أو نسلهم، فطفلهم يولد خفاشا  عجوزا  مستبعدا   كالذين نسلوه. حبذا لو كان هناك " من يفني ويحيي ويعيد، يتولى خلقه خلقا  جديد، ويطهره من نتن آبائه وقذارتهم، فيغسله بالزيت والكبريت، ليجعل منه فرخ نسر، يحتضن الحرية ويقدسها، بخلاف آبائه العبيد، هنا يصبح الابن مغايرا  لأبيه وأمه متنكرا  لهما، ثائرا  عليهما.

ازاء ذلك، تحدث الثورة الفعلية الداخلية، وينشق البيت الواحد على ذاته، ويجري البحر بين جديد الأجيال وعتيقها، وترتفع صرخة الاحتجاج على التدجين والتخلف، وعلى كل من الأنظمة والتقاليد البالية، وتقطيع صلات الأرحام القائمة على السخيف من الموروث المتعفن، وهنا يتجلى الصراع واضحا  بين الأجيال، تنقطع فيه الأرحام والعروق، ويستحيل معه عيش الأجيال الجديدة مع الأجيال الحاضرة. تحت سقف معه عيش الأجيال الجديدة مع الأجيال الحاضرة، تحت سقف واحد. ويضحي الفاصل بين طرفي الصراع بحارا   وأسورا  وصحراء رمل وبارود، وسدودا  من الجليد، ونزوعا  الى التحرر، وخروجا  من قبو التخلف وسجنه الى بناء البيت الحر الجديد، الذي يوفر للانسان كرامته وحريته.

ان الثورة المحتملة التي عرضها الشاعر في صراع الأجيال، تولد في خاطره رؤيا الانبعاث الفعلي، فيشاهد بأم العين أجيالا  جديدة، نقية من أدران العبودية، فاتحة صدورها للعيش الحر الكريم، تعبر جسر التحرر جماعات جماعات، رافعة رؤوسها، شامخة القامات.

هذا الجسر الوطيد يحتضن ضلوع الشاعر الذي انكشفت له رؤيا الانبعاث الحضاري، وانطلاق الأجيال الطالعة من أطفال اترابه، وهي خارجة من كهوف الشرق المظلمة، ومن مستنقعه الآسن، الى الشرق الجديد المليء بالحرية والحيوية والطهارة من كل تعفن ونتن وفساد.

لمثل هذه الأجيال، يمد الشاعر ضلوعه جسرا  كي تعبر فوقه، لتحقق الانبعاث الحضاري الذي يحلم به، والذي مات بسببه عندما حدث الاجتياح الاسرائيلي لمدينة بيروت "يعبرون الجسر في الصبح خفافا  / أضلعي امتدت لهم جسرا  وطيدا .

بينما كان خليل في هذه الحال من النشوة، سمع صوتا  من التاريخ يثبط عزمه ويقول له: مهلا ، لا تتسرع في أوهامك، سوف يمضون وتبقى / فارغ الكفين مصلوبا  وحيد / انه صوت بومة تنذر بالشؤم، فيتصدى لها الشاعر بقوله:

اخرسي يا بومة تقرع صدري / بومة التاريخ مني ما تريد؟ / في صناديقي كنوز لا تبيد / فرحي في كل ما اطعمت من جوهر عمري / فرح الأيدي التي أعطت، وايمانا  وذكرى / ان لي جمرا  وخمرا  / ان لي أطفال أترابي، ولي في حبهم خمر وزاد / من حصاد الحقل عندي ما كفاني / وكفاني أن لي عيد الحصاد / يا معاد الثلج لن أخشاك / لي خمر وجمر للمعاد.

لن يخيفه نعي بومة التاريخ، فهذا التاريخ الرديء سوف يتغير، ولن تنال البومة من رؤياه المتفائلة، فهو على يقين من ان في صناديقه كنوزا  لا تبيد، من تراث حضاري تختزنه امته على مدى الأزمان، هذا التراث سوف ينبعث مستقبلا  متجددا  يانعا  على أيدي الأجيال الطالعة، بعد ان حفظته صناديق التاريخ المتواصل، وأطعمت منه بفرح، هو فرح الشاعر الذي تقمص أمته، وفرح اليدي التي أعطت، فتحول عطاؤها ايمانا  وذكرى، وآمالا   معقودة على الأجيال الجديدة. وفي ختام القصيدة، يتجلى الشاعر معتزا  ومعتدا  بتراث أمته الحضاري، الذي يرمز اليه بالنار والخمر. أما النار فطاقة تولد الابداع، وأما الخمر فخميرة تفعل في حياة الأمة مثلما يفعل الخمير بالعجين. وهو معتز ومعتد بأطفال اترابه، رجال المستقبل، فله في حبهم خمر وزاد من ذلك الارث الحضاري المتألق على صفحات التاريخ. ان قصيدة الجسر تعبر أوضح تعبير عن ثقة الشاعر بالحياة، وعن موقفه من مظاهر الانبعاث، وتغلب العناصر الفاعلة في تجدد الحياة والرزق، فهو يذكر الأطفال في حالة تتعدى الظاهر الموقوف على الولادات، الى الاحساس بأن الحياة لا تتوقف في حال من التكرار والجمود، وانما تبتدع وتتجدد بالنسل الجديد الذي يعلن عن ولادة حياة جديدة. واذا كان الأطفال رمزاً للنسل والتكاثر، فان الشاعر يتخذهم في تجربة وجودية تعالج العناصر الخالدة في الحياة، والعناصر المتجددة، وأن الحياة تحمي ذاتها بذاتها. ولقد كان القدماء يقيمون أعيادا  للأطفال على الساحل الفينيقي، فيحملون الأطفال على أكتافهم من جبيل الى أفقا، عبر مهرجان الربيع المتفتح، والأغاني والأهازيج تعبيرا  عن ولادة عنصر الوجود والديمومة وتجدد الحياة، وهنا ترد قضية الحصاد، وهي وثيقة الصلة بالأطفال، وان كانت لا تتصل بهم ظاهرا . الحصاد هو تعبير عن الغلال الجديدة التي تؤمن الرزق للحياة، ويرد في سياق التعبير عن انتصار الحياة على الفقر والاملاق، فالغلال كالأطفال هي مظاهر وعناصر طبيعية، تدافع فيها الحياة عن ذاتها، وتمنع عنها أسباب التخلف والفقر والفاقه، وأعياد الأطفال، وأعياد الحصاد كانت شائعة في الزمن القديم، وكانت الشعوب تفرح وتغتبط بها، وتعيد لها احساسا  منها بأن عاهات الفقر والتخلف والانقراض هي المظاهر العابرة، ولا تقوى على ازالة الحياة التي تنتصر بالغلال والأطفال على عوامل الظلام والموت.

لم تكن صلة خليل حاوي بالقومية العربية، وحضارة العرب وتراثهم وتاريخهم صلة سياسية مقيدة بنظام أو حزب، وانما هي حالة ثقافية وحضارية. وفعل وجود ضد العدم. لقد أحب في العرب ثقافتهم وحضارتهم وأمجادهم وقيمهم، وكره فيهم التخلف والتخاذل والعقم، وآلمته نكبتهم في فلسطين التي شكلت وصمة عار في جبين كل عربي، لقد أحس بأنه أصل في تراث العرب، وأن هذا التراث يجري دما  في عروقه، فالتزم الدعوة الى بعثة من جديد التزاما  لم يماثله سوى التزام الأنبياء.

ولا نكران أن المرحلة الزمنية التي ظهرت فيها قصيدة الجسر وسائر القصائد التي تحمل في ثناياها فرحا  وآمالا  ومشاعر ايجابية، هي المرحلة التي ظهرت فيها الثورة المصرية، وتألق فيها الرئيس جمال عبد الناصر، وأفكاره النابضة بالقومية العربية، والثورة التي كان يشعل أوارها في النفوس، ويحقق الانتصار تلو الانتصار في منجزات كبرى، كتأميم قناة السويس، وطرد الانكليز من مصر، وانهاء عهد الباشوات والاقطاعيين، واصلاح السياسة والادارة والجيش، وتطبيق الاشتراكية في صفوف الشعب، والصمود امام الهجوم الثلاث على مصر. هذه العوامل كان لها تأثيرها الايجابي في شعر خليل حاوي. وفي جوها نظم ديوانه الثاني: "الناي والريح"، الذي هو صوت الثورة والتغيير وتهديم القديم لاعادة الأرض الى بكارتها الأولى، فتصبح صالحة لابتناء عالم جديد متنام متطور.

انها ريح التغيير وصوت التحرر التي تتغلب على الناي، فيتخلى الشاعر عن أعراض الدنيا، ويتجه نحو عالم الكلمة (البدوية السمراء) عبر الزمان، ليهيىء لمنهج الانبعاث الحضاري في الأرض العربية من الخليج الى المحيط.

وحدي مع البدوية السمراء / كنت مع العبارة / في الرمل كنت أخوض عتمته وناره / شرب المرارات الثقال / بلا مرارة / ريح تهب كما تشير عبارتي / للريح موسمها الغضوب / للريح جوع مبارد الفولاذ / تمسح ما تحجر / من سياجات عتيقة / ويعود ما كانت عليه التربة السمراء في بدء الخليفة / بكرا  لأول مرة تشهى بحضن الشمس / ليل الرعد يوجعها وتستمري بروقه / ماذا سوى أرض تعب الحلم / تنبته كروما  والكروم / لها شروش السنديان / لها عروق السنديان / ورفاه فيء البيلسان / ماذا سوى قد القباب البيض / بيتا  واحدا  يزهو بأعمدة الحياة / يزهو بغابات من المدن الصبايا / لين أرصفة وجاه / أيصح عبر البحر تفسيخ المياه / وأرى، أرى الطاووس يبحر / في مراوح ريشه / نشوان يبحر وهو في ظل السياج.

هكذا يتفاءل خليل حاوي في الناي، والريح بامكان النهضة والانبعاث من خلال صنع الحضارة، والسير في طريق التقدم، والاغتسال من أدران النفس وخمولها، وأوضح ما يتجلى ذلك في قصيدته الموسومة " السندباد في رحلتها الثامنة". لقد قدم خليل لهذه القصيدة بقوله: كان في نية السندباد الا ينزعج عن مجلسه في بغداد بعد رحلته السابعة، غير أنه سمع ذات يوم عن بحارة غامروا في دنيا لم يعرفها من قبل، فكان ان عصف به الحنين الى الابحار مرة ثامنة. ومما يحكى عن السندباد في رحلته هذه أنه راح يبحر في دنيا ذاته، فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة، والمفاهيم الرثة، رمى بها جميعا  الى البحر، ولم يأسف على خسارته، تعرى حتى بلغ بالعري الى جوهر فطرته، ثم عاد يحمل الينا كنزا  لا شبيه له بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السابقة. والقصيدة رصيد لما عاناه عبر الزمن في نهوضه من دهاليز ذاته، الى أن عاين اشراقة الانبعاث وتم له اليقين".

هذه القصيدة هي الأخيرة من مجموعة خليل حاوي الشعرية: " الناي والريح" وهي خلاصة المرحلة الثانية من المراحل التي مرت بها حياة هذا الشاعر وشعره.

ومعلوم أن لفظة السندباد كثر استعمالها في الشعر الحديث رمزا  للمرحلة والمغامرة والغربة. واكتشاف الغرائب بعد أن تحدثت عنه حكايات ألف ليلة وليلة في رحلات سبع كانت معينا  لا ينضب من الوحي للأدباء والشعراء والفنانين في بلاد الشرق والغرب. لكن خليل حاوي قد ابتكر للسندباد رحلة ثامنة هي غير رحلاته السبع السابقة، واتخذ منه رمزا  يختلف عن سائر الرموز، هي رحلة رمزية وجودية تقوم على معاناة الشاعر جفاف الحياة وموت الحضارة في العالم العربي، يبحر فيها السندباد الى أعماق ذاته، ويجوب في دهاليز هذه الذات بغية تعريتها، والكشف عما تعفن فيها وأسن من جراء التخلف والانحطاط والخمول، والاستسلام للواقع الرديء، وانحلال الفكر والأخلاق والقيم، وليست التعرية مقصودة لذاتها ههنا، وانما المقصود منها تطهير الذات، والرجوع بها الى براءة الطفولة، لتبدأ حياة جديدة، ومسيرة جديدة يتحقق فيها الانبعاث الحضاري، وخصب العيش، ورسالة النهضة، وما ذات السندباد سوى ذات الشاعر نفسه التي هي أيضا  في هذه القصيدة ذات الأمة العربية - وما رحلته سوى هذه الرحلة التي يقوم بها الشاعر في دهاليز ذاته، لتكون نموذجا  لرحلة الأمة العربية في دهاليز ذاتها، وفي دهاليز وجودها الذي تعاني وطأته بقلق وحيرة وشقاء، والانبعاث الذي يتوخاه هو انبعاث هذه الأمة، لتعود الى خصب الحياة ونضارتها وتألقها في الوجود. ولقد توخى حاوي في هذه القصيدة أن يرسم للأمة طريق انبعاثها من خلال رؤياه الشعرية. وتتكون القصيدة من عشرة أناشيد تقع في خمس وأربعين صفحة من صفحات الديوان الذي نشرته دار العودة عام 1972، وكل نشيد من هذه الأناشيد حافل بمشاهد ومواقف وأحداث تصب في المنهج الانبعاثي الذي رسمه الشاعر لأمته كي تتخلص من أدرانها، وتبلغ شاطىء الأمان الذي دارت رؤياه حوله. لكن كلام الشاعر في بعض محطات هذه القصيدة يمكن أن يفهم على نحو آخر يتجاوز فيه نطاق القومية العربية ليدخل النطاق الانساني الرحيب، فلا يعود السندباد رمزا  عربيا  فحسب، بل يضحي رمزا  للانسان المعاصر في أزمته الوجودية الخانقة، الناشئة عن موت الحضارة، وعما صحبه من انحلال خلقي واجتماعي، وفساد في المقاييس والقيم، والنزاعات ودخائل النفوس، وتتوالى الأناشيد واحدا  بعد الآخر، شعرا  رائعا  غنيا  بالأفكار والصور والمشاهدات التي يحتاج الحديث عنها الى وقت لا تتسع له هذه الأمسية. لكننا نشير في هذا السياق الى أن السندباد قد مر بساعات من الحشرجة الوجودية الأليمة، وخيمت عليه في النشيد الثامن الوحشة والوحدة والصمت والظلام، وبدت له دقات قلبه مثل " دلف أسود يزيد أفق حياته سوادا ، فيعاني ما يشبه المخاض وهو في صراع مع الرؤيا، ويمضي عليه شهران من الصمت حتى تجف شفتاه، ولا تسعفه العبارة التي تتجسد فيها هذه الرؤيا. ويعجب من نفسه كيف كانت الألفاظ تجري من فمه شلال قطعان من الذئاب، حين كان يثور، وكيف تنحبس اليوم والرؤيا منه على قاب قوسين أو أدنى، "تغني في دمة" برعشة البرق، وصحو الصباح "وفطرة الطير التي تشتم ما في نية الغابات والرياح".

لكنه رغم ذلك واثق من أنه لا بد من أن تأتي ساعة يقول فيها ما يقول. وتأزف هذه الساعة في النشيد التاسع، فاذا بالرؤيا تنكشف، وتنبعث منها الأضواء التي تنير حنايا ذات السندباد، وذات الشاعر الوجودي الذي يعاني قضايا أمته، ويعاني بصورة خاصة انبعاثها الحضاري، وها هو الانبعاث قد أطل:

تحتل عيني مروج، مدخنات / واله بعضه بعل خصيب / بعضه جبار فحم ونار / مليون دار مثل داري ودار / تزهو بأطفال غصون الكرم، / والزيتون / جمر الربيع / غب ليالي الصقيع.

أما المروج فرمز لازدهار الزراعة في الوطن، وأما المدخنات فرمز لازدهار الصناعة، وأما الاله الذي بعضه بعل خصيب، وبعضه جبار فحم ونار، فالشعب الناهض الذي يتجه بعضه الى الأعمال الزراعية ليطورها، وبعضه الى الأعمال الصناعية ليطورها كذلك. وهذه الاشراقة جماعية قومية فيها مليون دار ودار "مثل دار الشاعر، تزهو بالأطفال وبغصون الكرم والزيتون، ودفء الربيع "غب ليالي الصقيق".

لقد تجلى الانبعاث الحضاري العربي في وجه خليل حاوي رواقا  شمخت أضلاعه، وانعقدت انعقاد الزنود الوطنية القوية التي راحت تبتنيه ملحمة للأجيال الصاعدة، وراحت تستنبت من غنى تربة الوطن بلورا  ورخاما  يبهران الأنظار بعدما مر عليها ألف عام وعام من الانحطاط والتخلف والتخبط في ظلمات الجهل والانحلال، ولقد ارتفعت أعمدة البلور والرخام ناصعة مشرقة، تنمو ويعلوها رواق اخضر هو رواق البعث الحضاري الجديد. رواق طاهر فسيح خال من المفاسد التي كانت تعج في الرواق القديم، صلب قوي، صامد في وجه الريح والثلوج، يقوم على أسس ثابتة، وترعاه أجيال واعية مثوثية مفتحة العيون، والملاحظ أن الانبعاث الجديد لم يكن من لا شيء وانما كان منبته التراث العربي الخالد، هذا التراث الحي الذي استطاع أن يعبر الدهور، والذي تأصل في تراب الأرض العربية فأغناها. ورب مشكك يقول: ان رؤيا الشاعر ههنا أضغاث أحلام. فلكي يزيل الشك، ويقضي على كل لبس، نراه يؤكد بما لا يقبل الريب بأن هذه الرؤيا واقع حقيقي.

"رؤيا يقين العين واللمس / وليست خبرا  يحدو به الرواة" وهذه الرؤيا عاينها، وتحقق منها في انحاء مختلفة من الوطن العربي: ما كان لي أن احتفي / بالشمس لو لم أركم تغتسلون / الصبح في النيل وفي الأردن والفرات، من دمغة الخطيئة.

هذا الاغتسال جرى في بعض الثورات العربية التي لم يقتصر عملها على تغيير ايديولوجي، وعلى تعديل في الأنظمة، أو تبديل لها، وانما اقتلع الفساد من جذوره، وقضى على الحكام القائمين به، قضى على التماسيح التي كانت تخيف الناس، وتظلمهم، وتقتلهم، وتحجب عنهم نور الحرية، ونور الوجود. غير أن الرؤيا الانبعاثية لم تقتصر على الاخضرار والنور والآزهار والخصب، وانما خالطها "دخان أحمر ونار"، فلقد جاءت نتيجة لثورات دامية وحروب، في حين ان الشاعر كان يؤثرها بيضاء كالثلج "تمسح الذنوب من عفن الأمس / تنمي الكرم والطيوب" وتجعل التماسيح، وحقد الأنهر الموحلة تضيع في البحر،"وينبع البلسم من جرح على الجلجلة" فتنتصر المحبة والتسامح وروح الأخوة بين العرب. وتمسح ما بين أقطارهم من حدود، فتكون ذروة الانبعاث الحضاري عند العرب قيام الوحدة بين أقطارهم، وازالة الحدود التي تفرقهم.

وفي النشيد العاشر نرى السندباد يقارن ما بين رحلاته السبع السابقة، وبين رحلته الثامنة والأخيرة، فاذا الرحلات الأوللى " روايات عن الغول، عن الشيطان والمغارة".

"عن حيل تعيا لها المهارة". أما الرحلة الثامنة، فابحار في دنيا الذات للتخلص مما ترسب فيها من أكداس الأمتعة العتيقة، والمفاهيم الرثة، وتعرية لهذه الذات بغية العودة بها الى ينابيع الفطرة الأولى، ومن ثم، تمرسها بالمعاناة التي تؤدي الى اشراقة البعث الحضاري في حياة الأمة. ولقد كلفته الرحلة الثامنة خسارة كنوزه كلها، لكنه مع ذلك ربح حين استعاض عن ثروته تلك بأنه ربح ذاته ايمانا  منه بالحكمة القائلة: "ماذا ينفع الانسان لو ربح كنوز الدنيا جميعها وخسر ذاته؟"

وفي نهاية الحديث عن هذه القصيدة نشير الى أمرين: أولهما أن خليل حاوي يؤمن برسالة الشعر القائمة على الالتزام، ويعرض بالشعراء الذين يجعلون الريشة " تجود التمويه، وتخفي الشح في العبارة " وثانيهما أنه يعتبر الشعر ضربا  من النبوة ومن الاشراق الذي يجعل الفطرة، تحسن ما في رحم الفصل، وتراه قبل أن يولد في الفصول. لكن الأيام قد توالت، وفعل الزمن الرديء فعله، فكانت هزيمة العام 1967، وما عقبها من أحداث مؤلمة، ثم كانت حرب تشرين في العام 1973 التي استرد فيها العرب بعض كرامتهم، واسترد فيها خليل حاوي بعض آماله.

ووقعت أحداث لبنان المشؤومة وصارت الآمال تتلاشى والأحزان تزيد، وخليل حاوي يتجرع الآلام والمرارة والاحباط والفجيعة، وينظم في جو من اليأس والانكسار بيادر الجوع والرعد الجريح، وجحيم الكوميديا، وبخاصة القصائد التالية: الكهف - العازر 1962 - الأم الحزينة - الرعد الجريح - قطار المحطة - درة المدينة - في سدوم للمرة الثالثة - أم المصطفى - أرض الوطن - شجرة الدر- التي تنتهي وينتهي بها كل شعر لخليل حاوي بقوله:

يا صبا يا الحي شيعن معي / خير الضحايا / يا صبايا / خلف الراحل ذكرا  لن يزول / سوف يحييه اله يتعالى / وفصول تتوالى / يلتقي في رحم الأرض الفصول / بطلا  غضا  يصول / سوف تحييه الفصول / يا بغايا القصر- والأنثى بغي / يا بغايا القصر- والأنثى بغي / يا بغايا كان ساقي صولجانا  بارعا  / يلهو بتاج ورعايا / كان قلبي شجرة / تورق أظفارا  نيوب / عبئا  أشتف لو يهطل ظلا  وطيوب / صرت درا  خالصا  / طيفا  خفيا  لا ينال / سكرة تصهر أضدادا  / وتجتاز محال / أتلوى تحت زخات نعال ونهال / طالما عانيت / أقسى من جنون الجن / في عمري صراعا  / ليس يجري / طالما عودت عيني / على ظلمة لحدي / درة حمراء، يمتد رماد فاتر قبلي وبعدي.

لقد كان عهد خليل حاوي بهذا الشاعر عام 1979، وسكت بعدها ثلاث سنوات يتجرع مرارة الاحباط والانهيار، حتى يأتي شهر حزيران في العام 1982، ويجتاح الجيش الاسرائيلي مدينة بيروت، فيطلق خليل حاوي على نفسه النار، ويموت واضعا  في ذلك حدا  لمأساته مع الزمن الرديء ومشروعه للانبعاث الحضاري الذي كان يحلم به، ومحققا  أقصى ما يصل اليه الالتزام الأدبي من درجات التضحية والنضال.