عن شخصيّة "ريتشارد الثالث" لشكسبير بعد اكتشاف جثة الملك المريب
عن شخصيّة "ريتشارد الثالث" لشكسبير بعد اكتشاف جثة الملك المريب لجلال خوري
منذ أكثر من أسبوعين، شغفت الأوساط الثقافية في المملكة المتحدة والعالم بإعلان جامعة ليسّتر في وسط انكلترا أن رفات ريتشارد الثالث بلانتاجينيه (1452-1485)، آخر المتحدرين من سلالة يورك الذي خلدته، ولو كسفّاح، مسرحيّة شكسبير الشهيرة، قد تم التعرّف اليه بواسطة الحمض النووي وفحوص مخبريّة مختلفة بما فيها برنامج معلوماتي متطور يعمل على تحديد المعالم انطلاقاً من الهيكل العظمي.
وُجِدت بقايا الملك في الصيف الماضي تحت أنقاض مرأبٍ للسيارات، مما يُنهي خمسة قرون من الغموض حول جثة العاهل المذكور. المسرحيّة التي كُتبت عام 1592، تناولت بشكل لاذع صعود ريتشارد وسقوطه المدوّي بعدما قضى عليه هنري السابع في معركة بوسوورث، منهياً بذلك "حرب الوردتين" التي دامت ثلاثة عقود.
كان شكسبير قد صوّر ريتشارد كمجرم، خدّاع وماكر، بالإضافة إلى كونه كسيحا وقبيحا، اقدم على تصفية كل من كان متقدماً عليه في التتابع إلى العرش، بمن في ذلك الأبناء القُصّر لشقيقه الملك إدوارد الرابع، وشقيقه كلارنس.
ريتشارد شكسبير يُعرّف عن نفسه، في بداية المسرحيّة، بالعبارات الآتية: "ولكن أنا! أنا المطبوع على الجفاء والقسوة، المجرّد من كل تناسق جميل،/ أنا الذي حرمتني الطبيعةُ الماكرةُ من مفاتنها،/ أنا الذي قذفت بي الى عالم الاحياء، مشوّهاً، مسخاً،/ بلغت من البشاعة حدّا جعل الكلاب تنبح عندما أتوقّف بالقرب منها/ أنا اذاً، في هذه الفترة الهادئه، لا أجد لقتل الوقت،/ سوى مراقبة ظلّي تحت أشعّة الشمس، ووصفِ دمامتي وقبحي.../ لذلك، وطالما أني عاجزٌ عن أن أكونَ ذلك العاشقَ الذي يملأ هذه الأوقاتَ سحراً،/ فإني عازمٌ على أن أكونَ مجرماً، وأن أكدّرَ صفاءَ هذه الأيامِ التافهة".
شكّل ريتشارد كما ابتدعه الشاعر الانكليزي الكبير، النموذج الأكثر تعبيراً للطاغية الماكيافيلي والغادر. ولكن ما هي الحقيقة التاريخيّة حول الرجل ومسيرته، وكيف، ولماذا صوّره شكسبير على هذا النحو حتى جعل منه الشخصية المسرحية الفذة والفظة، والأكثر حضوراً ونفوراً وذكاء وإجراماً؟
في الوقائع أولاً
في الستينات، قرأت سيرة لريتشارد الثالث كتبها بول موريّ كندَل، من جامعة أوهايو، اعتُبرت آنذاك أهم ما صدر عن تاريخ الملك المذكور. المفاجئ، لي على الأقل، أن وصف كندَل لريتشارد جاء مخالفاً بشكل كلّي للصورة الواردة في المسرحية. فبحسبه، لم يكن ريتشارد التاريخي قبيحاً ولا أحدب ولا أعرج ولا مشوّهاً ولا ثرثاراً. صحيح، كما بيّنت الفحوص التي كُشفت حديثاً، ونقلت نتائجها الوكالات. أنه كان مُصاباً بما يُسمّى طبياً بانحراف في الهيكل العظمي، لكن هذا التشوّه لم يشكل إعاقة بارزة بالقدر الذي منحه إياه الكاتب.
كما أنه كان، باعتراف العديد من المؤرخين، سياسياً محترساً ومحنكاً، "واداريا ماهرا لشمال انكلترا دحر هجمات الاسكتلنديين، بالإضافة إلى أنه كان يهتم بالفقراء، مما اثار كره قسم من الأشراف له"، على قول المؤرخة ليندا بيدجون، التي تعمل لحساب "جمعيّة أصدقاء ريتشارد الثالث" التي تكونت عام 1924 بهدف اظهار الحقيقة التاريخيّة عمن أعتبره اعضاء الجمعيّة، مظلوماً. ولكن، ما الذي دفع شكسبير لأن يعمل منه الرجل الشرّير، البغيض، القبيح في جسده كما في أخلاقه وتصرفاته، وفي الوقت نفسه، الداهية الفائق الذكاء المتلاعب بالعقول والمتحكّم بالنفوس بمهارة نادرة؟
يبدو أن شكسبير رسم الشخصيّة على النحو المعروف لأسباب عدة، أولها أن العمل أبصر النور في ظل حكم الملكة اليزابيث الكبيرة (1533-1603)، حفيدة هنري السابع، قائد الحملة التي أتت على الملك الكاثوليكي ريتشارد في بوسوورث كما أشرنا، وهي ايضاً ابنة هنري الثامن الذي أقدم على فصل انكلترا عن البابوية نهائياً عام 1531، مطلِقاً بذلك سلسلة من الصدامات الدمويّة مع أتباع روما في الداخل والخارج. إذاً، كان من الضروري إظهار ريتشارد بأسوأ صورة، في زمن بدا فيه المزاج العام مناهضاً لكل ما له علاقة بالأُسَر التي حكمت قبل سلالة تيودور، مع الأخذ في الاعتبار أن المسرح في تلك الحقبة كان يلعب في الوقت نفسه دور كتاب التاريخ والمدرسة والصحافة ودائرة التوجيه التابعة للحاكم. لكن كيف يمكن أن يثير ريتشارد الاصيل، وهو شخصيّة عادية لا بل باهتة، حتى كمجرم، اهتمام جمهور المسرح الاليزابيتي الذي يتوق بقوّة إلى كل ما هو باهر، مثير ومدهش؟ هنا تدخلت عبقريّة شاعر ستراتفورد.
و... في المسرح
في السبعينات، في برلين الشرقية، عَلِمتُ من البروفسور روبرت فايمن الذي تناول شخصية ريتشارد في إطار كتاب بالغ الأهميّة، شكّل في ما بعد، عندما تُرجم إلى الإنكليزيّة، مرجعاً عالمياّ يهتدي به كل من يريد التعامل الجدي مع التراث المسرحي الانكليزي في ذلك الزمن. الكتاب الذي صدر في الأساس تحت عنوان "شكسبير وتقاليد المسرح الشعبي" جاء فيه أن الكاتب، بهدف إمرار الشخصية السلبيّة المرفوضة وإعطائها الزخم المطلوب لإثارة اهتمام، تالياً متعة الجمهور، شابكها مع نموذج نمطي شعبيّ محبب اسمه فايس، فدمج شخصيتين في واحدة، فكانت النتيجة هذا النموذج المركّب الخارق والفريد في عالم الأدب. ولكن من هو هذا الفايس الذي أتى على ذكره شكسبير نفسه عندما يُقوّل ريتشارد في بداية الفصل الثالث: "هكذا مثل المتصنّع فايس في خداعه/ أوصي معنيين في كل كلمة".
في الواقع، فايس هو وجه من تراث المسرح الديني الإنكليزي، ظهر في القرن الرابع عشر مجسداً في إطار ما يُعرف بمسرح الأسرار الذي شاع في الغرب في رعاية الإكليروس. وكما يدل اسمه، فإنه كان في الأساس، رمز الفسق والفجور والشذوذ، جدّي النبرة لا بل حِكَميّاً في بداياته، فتحوّل مع الزمن ليصبح البهلول المضحك الذي شكل في ما بعد النموذج الأصيل للعديد من مهرّجي الأدب الدرامي الانكليزي. بعدها أُلبِسَ مظهر الأحدب والأعرج كي يتعرّف إليه الجمهور لحظة ظهوره، كما بدا كمهرّجي الملوك، صاحب طلاقة وقريحة وبديهة وذكاء فائقة في الرد على محاوريه. إلى ذلك، وبفعل معايشته الملوك والنبلاء ومراقبتهم، وصل بالفطرة إلى إدراك عميق لألاعيب أهل السلطة وقلوب البشر. حتى أن عدوى هذا الفايس، انتقلت إلى شخصيّة ميفيستو كما وردت في مسرحيّة "الدكتور فوستوس" لخريستوفر مارلو (1564-1593) والعديد غيرها في ما بعد.
في مسرحيّة ريتشارد لا يوجد مهرّج كما هي الحال في التراجيديات ("الملك لير" خصوصاً، وأيضاً بصيغة مختلفة بولونيوس في "هاملت") لأن ريتشارد هو البطل المأسوي والمهرّج معاً، كما لا يوجد من يقدم للتراجيديا لأن ريتشارد يأخذ على عاتقه الأمر منعاً لأي التباس ولأي تماثل معه. ألم يُقدم منذ اللحظة الأولى على إبراز هويته كعدو عندما قال: "والآن ها أن شتاء استيائنا يتحوّل مجداً تحت شمس يورك"؟ ليثير في ما بعد، في صفوف الحضور، مشاعر مزدوجة تجمع الإعجاب بذكائه بالخوف والاشمئزاز منه. (ألم يتمكّن، هو الرجل القبيح، بإغراء الليدي آن، وهي تواكب نعش زوجها الذي قتله بعد أن قتل أبيها، باللعب على الأنا النسائي ورد السبب إلى جمالها الذي أفقده كل وعي ؟)
هكذا تمّ تركيب هذه الشخصيّة الاستثنائية بفضل شاعر عظيم طبع تاريخ المسرح بعبقريّته (شخصياً، وبعدما اطلعت سريعاً على ما توصل إليه البروفسور فايمن في خصوص تركيبة ريتشارد الثالث، ابتكرت عام 1974 "الرفيق سجعان" بدمج شخصيّة والدي، ذي الهوى الشيوعي، الأممي التطلع حتماً، مع شخصيّة جدّي، العشائري النزوع، الذي كان يتزعم رَبعه في الصراعات العصبيّة المزمنة في بلدته الصفرا، كسروان).
من الواضح أن الذي فعله شكسبير ابداع قد لا يمت بدقة إلى الحدث التاريخي بقدر ما يغني الأدب برؤية نادرة للإنسان. لم يُغتَل يوليوس قيصر على درج الكابيتول أمام تمثال خصمه بونبيوس كما جسّد الشاعرُ المشهدَ، بل في زقاق ضيّق، وأيضاَ لم يصرخ ريتشارد بلانتاجينيه في نهاية معركة بوسوورث: "جواد... مملكتي مقابل جواد". هذا كله من نسج خيال شكسبير الذي كان يعلم تماماً أن الفن لا يتعاطى مع ما هو واقع فقط بل أيضا مع ما هو ممكن.