Ali Ahmad Saïd Esber (Adonis)

ادونيس والمواءمة الحضارية

أدونيس والمواءمة الحضارية

اذا ذكر أدونيس - علي أحمد سعيد - في أيامنا هذه، ذكرت معه المواءمة بين الفكر العربي المستمد من تراث العرب الثقافي وبين الفكر الغربي المتطور وذي الحركة الدؤوبة الذي يهيمن بشكل مطلق على الفكر الانساني العام، ويدفع بكل الأفكار الناتجة عن الحضارات القديمة الى التركين والتخزين المنفصلين عن الحياة اليومية المتحركة للانسان المعاصر... وقد ظهرت بوادر هذا الانفصال منذ ما يقارب المائتي سنة الماضية، بدءا ً بمجيء نابليون للبلاد العربية المطلة على شواطىء البحر المتوسط المقابل لأوروبا وانتهاءً بالاستعمار الأوروبي للأمة العربية وما نتج عنه من تناقضية واضطراب في عموم الأفكار والمفاهيم...

ولا أعتقد أن أحدا ً من المفكرين العرب اليوم، أو هذه الأيام، يستطيع أن يقارع أدونيس ويحاذيه فوق منبر واحد، ويتحدث مثله عن المواءمة الحضارية، بذات اللغة التي يتكلم بها فكر أدونيس، وفي نفس الاطار أو البرواز الذي يضع فيه أدونيس خطوطه وأبعاده الفكرية... فأدونيس هذه الفلتة التي برزت منذ ما يقارب نصف قرن مضت، استطاع بثاقب فكرعميق الغور، وبثقافة ذات مقاييس انسانية متعددة ان يكون هو الوجه ذو السحنة العربية الذي يبرق في سماء الغرب ملفتا ً الأنظار الى أن الديجور الحالك السواد الذي يظن الكثيرون من مفكري الغرب الأوروبي بوجوده في التراث العربي، ليس واقعيا ً تماما ً، وان التراث العربي يتمتع بامكانيات واسعة للتطور، وبالتالي الى الالتقائية والتفاهمية الموصلتين الى العمل المشترك والمساهمة المشتركة في الحضارة الانسانية القائمة والمتطورة...

ومن الواضح ان ادونيس يختلف عن معظم مفكري العرب المعاصرين، اذ ليس هم على شاكلته واستعداديته للأخذ والعطاء في مجال المواءمة...فهم في رأيي ينقسمون الى فئتيين متناقضتين، الأولى، هي الفئة المنبهرة بما في الغرب، الى حد الانجرارية والايمان الكامل بالمثل الشعبي الشامي،- كل فرنجي برنجي- ولا مجال لأي مقارعة بين الحجة والحجة... وأما الفئة الثانية، فهي الرفضية أو التصادمية التي تعتبر أن ما لدى الغرب لا يخرج عن كونه، رجس من عمل الشيطان، في الوقت الذي تعجز فيه هذه الفئة الرافضة أو التصادمية حتى من صناعة الملابس التي ترتديها ما لم تستعين بآلة صناعتها من الغرب أو من الذي هو الشيطان الرجيم...

ومن هنا ياتي أدونيس واسطة العقد الحضاري المتمكن من المواءمة بين الحضارات، وتقديم ثقافة العرب الى الغرب، وكذلك تقديم ثقافة الغرب الى العرب، في اطار من الذهنية المتوقدة التي تدرك السالب والايجاب في كلتا الثقافتين، وتحاول التوفيق بلغة علمية واقعية لا تشوبها الانجرارية وراء الانفعالات العاطفية التي تولدها الموروثات من عقائدية وانتماءات تاريخية... ومن يقرأ حتى ولو الشيء القليل من كتب أدونيس، ويستمع الى شرح أدونيس، يدرك مدى الدور الواسع الذي قام ويقوم به هذا المفكر الكبير من أجل نبذ التضادية، وايجاد التجانسية والتقاربية بين الثقافتين العربية والغربية...

ومن حسن الحظ ان هناك ادراكا ً بين شرائح واسعة من المثقفين في المجتمعين العربي والغربي، أن المدرسة الأدونيسية قد أتت باكل طيب أو أعدت لمائدة من الطعام الجيد المغذي للفكر...والذي يجعل من هذا الفيلسوف العالم ان يكبر في نظر كل منصف، أنه مقارع شديد المراس، لا تلين له عريكة في ميدان الايمان بفكره ومرامه، وعرض هذا الفكر وهذا المرام في بساطة متناهية لغة وأسلوبا ً واداءا ً وتقديما ً، يفهمها الجميع ولا يشعر أحد حيال فهمها بالغربة...

وفي هذه الاحتفالية التي تحويها هذه النشرة التي بين أيدينا والتي أعدها مركز هنر جاليري في دبي، عن الأستاذ الكبير أدونيس، تبرز ناحية جديدة في نشاط أدونيس الفكري قد لا يعرفها الكثيرون عن هذا المفكر العربي العالمي، وهي ناحية الفن، فن التجسيد الحروفي والرسم بالكلمات، التي يبرز فيها ادونيس ليس كمقلد دقيق التقليد في هذا الفن الحديث الذي تولد كنتيجة للاحتكاك الحضاري واختلاط الثقافات المعاصرة، بل كمبتكر ايضا ً، وكلتا الصفتين، الابداع والاتباع لهما في أي عمل جماليات واستحسان في التعبير الفني...

يذهب مفكرنا الكبير في رسم حروفياته الى التأملية واختيار الخطوط المعبرة عن ذاتية من يقتبس له جملا ً يضعها في لوحاته المعروضة في هنر جاليري والتي تعرضها أيضا ً هذه النشرة... كما أن أدونيس يحاول برسم هذه اللوحات المعبرة أن يخلد هو شخصيا ً الى جانب من ذاتية خاصة، وليقول لنا أنه في خضم اهتمامه بالشؤون العامة للانسان في كل مكان، ها هو يقتنص ساعات مع نفسه، ويجسد الخلجات التي تمر بخاطره من خلال هذا الفن، فن الرسم بالحرف والكلمات الذي يتربع على عرش الجمال والفنون في ثقافتنا الفنية الحديثة.

عبد الغفار حسين – أديب وكاتب من الأمارات

معلقات أدونيس

تبدأ اللوحة، وربما القصيدة أيضا ً، في تحريضات لا ضابط لها سوى عبث المصادفة: وما أجمل أن تبحث بوعي عن المصادفة.

التقاط أشياء صنعتها الطبيعة بآلات الزمن وبأكاسيد المطر والغبار، أوراق نحتها تمزيق لهو الريح، وحصى صقلها خفيف الرمال، جمع أشباح هيئات من كرتون مطبوع بلغات الصناعة والتغليف، محنط بخيوط القنب وبخرازات النحاس، صفائح معدنية مرققة بعجلات السيارات، بلاستيك معجون بسخام نعال المارة.

وهناك على طاولة كتابة الشعر تنصب ورشة صناعة الطواطم، انها لعنة الشعر الجميلة، الشعر في وظيفته الأولى: الكلام الساحر.

ألم تكن التمائم خليطا ً من الكتابة والورق والخيوط؟
ألم تكون التميمة شعرا ً عصى القراءة؟
تبقى الكتابة في رقيمات وألواح أدونيس شبكات في نسيج تكوين العمل كمثل تهشيرات أفقية تحمل ذلك الطواطم على صدرها في محور بنائها، وهي عندما تكون مقروءة، مزدوجة الغرض في اختيار النص وفي الوظيفة الغرافيكية.

حوار مع المعري والمتنبي والنفري، مع ديوان الشعر السالف القابع في الذاكرة، نص الآخر رسميا ً وسمعا ً، تعقبا ً وتنويطا ً بأدوات المرسم، فالمعرفة علبة ألوان وأقلام تعرت من الضوء لتصير مساحات سوداء ورمادية تنظم تكوين اللوحة الأولى أعمدة النصوص هي أعمدة البناء التشكيلي، أرجوحة لاطلالة على ما وراء جداري حديقة الواقع: والشعر والرسم، جدل الكتابة الخارجة عن الكلمة مع ما تلتقطه اليد جدل الفكر والملموس تحت غواية العين.

اذا شعر أودنيس شعرا ً ملحميا ً يسأل الكون والانسان والجمال والصيرورة ويحتار في نبوءة الأشياء والطبيعة، شعرا ً يحمل ذاكرة اللغة وفنونها براعتها، ويعتنق البلاغة مذهبا ً للاختزال في الوصول الى الجوهر، فان الشاعر في رسوماته يكتب قصائد غير مقروءة يحضر العالم على سطحها بأشيائه الموشومة بأثر الانسان أو بأثر الطبيعة أشياء- مادة للتأمل أكثر مما هي أشياء للرسم، الشاعر يجد في خربشات الرسم سلاسة الكتابة خارج القواعد المملوءة وخارج الصرف والنحو والوزن، يجد لغته البيولوجية والحسية لا لغة القاموس والماضي والدلالات.

يندر أن يلجأ أودنيس الى اللون مادة تصويرية وعجينة انما يأتي اللون مع المادة الملصقة، أسودا ترابيا ً أرجوانيا ً صدأ خشبيا ً، ألوان مستعارة من تقاليد الكولاج، من قصاصات القماش وتعريقات عبس التآكل لما يمكن استعماله وما يتيح للصمغ أن يثبته على الورق.

وربما في سيطرة الأسود تذكير بحبر الكتابة.
وربما في تقشف الألوان اخلاص لتقاليد المخطوطة وكيف لنا أن ننسى أن بالحبر والورق وحدهما يعمل الشاعر.
في اللجوء الى الكولاج، والذي هو ضرب من ضروب النحت البارز والنحت الغائر، تضاد وتعاكس مع الكتابة، الكتابة ملساء، صقيلة، كرافيكية، تسير على سطور أو في أتساق منضبطة، وفي اللغة العربية هي أفقية وحصريا ً، وأما الكولاج في قبالتها عفوي، شاقولي، أفقي، ذو سماكات وملامس لا نهائية، مسوغ استعماله كسر النسق الكتابي أو تحويل مساره.

وهو بذاته ليس توضيحا ً للنص وليس من صلبه بل ونقيضه ومكمله في آن، كان به غاية في تغير ورق الكتب الى صفحات الرسم والنحت، صفحات تتذكر للكتابة باعتبارها كلاما ً مرصوفا ً وترى بها شبكات غرافيكية تدور حول الشكل الملصق، تتقاطع معه، أو تجري من تحته. تلتصق مقومات العمل بالصمغ أو بالمعنى أو بترتيب الفوضى والاحتمالات، ولكنها مقومات تبدو، دائماً، مهددة بالانهيار، هشة، مائلة نحو مصدرها الأولي: الأرض.

محتويات صلبة الجسد ولكنها ترتدي ثياب الزوال.

يندرج عمل أدونيس التشكيلي في باب اللعب كمثل سائر الفنون، وفي تحيد آخر، لا ينفصل عن تقنية الكتابة بمعناها الكبير، فاذا كانت الكتابة في شأنها الأولي تجريدا ً وترميزا ً فهي في حالتها المطلقة.
يلاحظ الرسام: ما أكبر سرير القصيدة في الكتاب وما أعلى منبر الشاعر: ألم يحن عودة القصيدة الى الجدار؟
كم هي متفردة تلك المعلقات.

زياد دلول – باريس 10 ابريل 2007

الكولاج عند ادونيس رسوم ذاتية لأشياء متعددة

منذ بداية التسعينات حقق أدونيس ما يربو على مئة عمل أو أكثر من الكولاجات، تميزت جميعها بقراءة واضحة، ويظهر في هذه الأعمال مرتاحا ً، رشيقا ً عميقا ً، جليا ً، ومحيرا ً، كعهدنا به دائما ً، ونكتشف نحن هذه اللوحات كمن يكتشف بلدا ً للمعرفة، كما لو أننا عدنا لأكتشافها بعد أن نسيناها، نقع على أثره بعد مغادرته لها، نتعرف على نظره، وبصمته، ونحن ننتقل من عمل الى آخر، على الطريق المتعرجة، المستقيمة، الوعرة، السالكة نفسها، انها ذات الطريق التي يفتتحها من قصيدة الى أخرى، ومن كتاب الى أخر، في هذه الكولاجات، يجعلنا أدونيس نرى ما تجعله الكلمات أحيانا ً حاضرا دون أن نراه، محسوسا ً ولكنه عصي على الادراك، تشكل هذه الأعمال مجتمعة ما يشبه مساحة أرض، هو مالكها، انها مسلسلات صغيرة تقود سيرنا داخل المتاهة الشاسعة لأعماله المكتوبة.
المبدأ السائد في هذه اللوحات بسيط، اذ أن أدونيس يجمع، أينما مر، مواد صغيرة بقايا من خشب وحجر وخرق وورق ومقتطعات غير مرمزة من واقعنا العادي، ان هذا النهج من القطف الجسور للأشياء التي لا نراها عادة، ويمر بها العابرون والسائرون دون أن يلحظوها، يلحظها هو ويجمعها في حقائب سفرة ليعود لرؤيتها من جديد، هذه الأشياء تذكرنا بكولاج ال (ميرز) لكورت شويترز، الذي قال لنقاد الأدب سنة 1922: (ان اقتطاع العمل الفني من الطبيعة، والذي من الناحية الفنية لا يمكن الاعداد له، يتطلب معرفة أكبر من تلك التي يتطلبها تكوين عمل فني يعتمد على قواعد الفنان الخاصة، وذلك بفضل مواد لا قيمة لها، الفن لا يعير أهمية للمادة، ويكتفي بتكوينها ليخرج العمل الفني منها) فهل بوسع ناقد الأدب فهم هذا؟ في واقع الأمر، استطاع هذا ال (الخطف) للاشياء الواقعية، ان كانت من الطبيعة أو من طبيعة صناعية – بموازاة خط أعمال مارسيل دوشامب المعدة سلفا ً، مع اختلاف كامل في الأسلوب – أن يوفق بين أمرين ما تزال الثنائية الغربية تفصل بينهما: الفن واللافن، المعنى واللا معنى، المرئي واللامرئي، أما أدونيس فهو يقف بكولاجاته على الخط الموحد بينهما، الذي على الرغم من كل ما قيل عنه بقي غير مفهوم.

لا يكتفي أدونيس بتجميع لقاه وترتيب بعضها مع بعضها الآخر، طبقا لمعايير الشكل والمادة واللون، على غرار العديد من فناني التجميع، ولا يرضى بالتوقف عند هذا الحد، انما هو يلصقها على خلفيات من ورق أو ورق مقوي ويخط عليها، لا قصائده هو، بل قصائد مكتوبة لمن أعجب بهم من شعراء عرب، ويقدمها لنا لنقرأها في آن واحد، كما لو أن كلمات الآخرين الأشياء المجهولة تكون كلا ً واحدا ً يحتاج من يفك رموزه.

أمامنا كولاج فوق لوحة الخط، وان كان الخط في بعض الحالات هو لكتابة مختلفة وغير مقروءة، تعوضه عن الاستشهاد بنصوص بينة، وهكذا نجد أن اللغة المكتوبة تستخدم كخلفية أولى الأشياء التي انوجدت صدفة، وهنا يكمن الابتكار الأساسي لأدونيس في هذا المجال الذي باتت الابتكارات الحقيقية فيه نادرة.

لكننا نميل مع ذلك لتصنيف الكولاج عند أدونيس طبقا ً للألوان السائدة فيه، فهنالك على سبيل المثال، الأسود والأحمر، الأسود والأبيض، الماروني والبيج أو الأحمر، الرمادي والأسود، ولكن هذا التصنيف لأعماله، وان سهل اجراؤه، لا يخدمنا كثيرا ً في قراءتها أو تفسيرها، ان الغاية التي يضعها أدونيس لنفسه في هذه اللوحات هي ليست بالغاية الجمالية حصرا ً، مثلما لا يمكن اختزال الغاية في قصائده بالاغواء الأدبي.

وهو في هذا أيضا ً يخترق خلسة الأنظمة والمراتب، فما هو دقيق ولا شكل له يملك القيمة نفسها للكبير وللذي له شكل.

ويقينا ً هو لا يريد أن يوحي لنا بأن الكل مكافىء للكل، مما سيفسر على أن بامكان أي شيء أن يمتزج بحقيقة كبرى، في حين أن بامكان أي شيء، بالنسبة له، أن يقود الى شيء جسيم الى أي شيء)، شريطة أن نبقى متيقظين، وحذرين ايزاء كل ما نفعله ونقوله، أي أن نكون في حالة تيقظ دائم ازاء الواقع، وهذا هو حاله على الدوام، ان كان يكتب أو يلصق، أو يجول الدروب بحثا ً عن لقاء مع العالم، أو جالسا ً على طولة العالم يستجمع أفكاره، ان هذه المواد المنضدة على لوحات الخط تكون على سبيل المثال، شخصيات وقامات بشرية، أو هي حيوانات حقيقية أو خرافية، أشكال معمارية، أبواب، وشبابيك، ومسلات، ومنازل، وصروح، هذه الشخصيات هي أما واضحة للغاية أو خفية، عندئذ علينا معرفة قراءة هذه الكتابة التي لا كلمات فيها، فهي، كما يبدو، مواد لا ترتبط فيما بينها الا بعلاقات قليلة، ان شئنا التعرف عليها أم لم نشأ، الأمر سيان، لأن حضورها المستتر كائن، ويعبر عن اختيار طوعي.

على الناظر لهذه الأعمال أن يبحث ليعثر على ما شاء لنفسه من تفسير، وهنا يحضر القول الشهير لدوشامب، وان كان هو حاضرا ً في كل زمان ومكان ( انهم الناظرون الذين يصنعون اللوحة) ولكن المرء عندما يتعرف في أحدى لوحات الكولاج لأدونيس المنجزة في 1998 على عين بؤبؤها، وقرانيتها، أهدابها، حاجبها، لا يحتاج الى بذل جهد كبير ليشعر أنها تنظر اليه في العمق، ان أدونيس يخاطب كل ناظر من الناظرين، لا سيما عندما يستحضر تلك الشخصيات البشرية، الراقصة أو المحاربة، أنه يخاطب كل ناظر وفي الوقت نفسه كل قارىء. ويدعوه لخلق الواقع من جديد، العالم برمته في حاجة لاعادة تأويل، الكل يعلم ذلك، أو لنقل عليه أن يعلم ذلك.

ثم لو أننا أمعنا النظر، ألا نجد أن جميع هذه التكوينات، هي في المقام الأول والمقام الثاني (وهل للاحساس مقام أو ومقام ثاني، هناك أيضا ً ينبغي التشكيك) رسوم ذاتية مختلطة، لها حجم المرآة الشخصية؟ ولكن أدونيس لا يرى نفسه فيها (فريدا ً)، بل متعددا ً، انه على التوالي راقص الحبل، المحارب، مطلق طيارة الورق، خطيب، متفكر، متأمل، متسائل، مقنع، وهو أيضا ً طير، مارد البحر، حشرة، حصان، أوشبه حصان، دب أو شبه دب، وهوحامل الكتاب، أو عاشق بحضرة معشوقة، أنه كل هذه الشخصيات بالتعاقب والتناوب، ينتقل من الأولى الى الثانية، من دون التشخصن بأية واحدة منها، كممثل قادر على تأدية الأدوار بما في ذلك شخصيته الساكنة الصموتة، انها شخصيات وضعت وستبقى أمام النص، لأنه نص الآخرين الذي لا ينتهي وهو المصدر لجميع النصوص الحلية والقادمة.

أن هذا الحضور الكلي للنص، المقروءة واللامقروءة، المكتوبة بالعربية أو القادمة من حضارة مجهولة (الأولى) ينم عن ارادة تسعى لضم اللغة المكتوبة الى الأشياء بذواتها، مما يشير، وبطريقة غير مباشرة، الى أن أدونيس لا يؤمن بوجود لغة مطلقة، الكلمات، بنظره، مثل البحر الذي يسمح للأشياء أن تقف على سطوحها، اذ أن كل كولاج مصمم على شكله لغة مائية مزخرفة بالاربيسك، حاملة للأشياء، طوق أنقاذ لحطام الواقع الذي انسحق، وتبعثر بعد تحلل المعني، وعلى الشاعر بالأخص، عليه هو وليس على غيره، أن يلملم الجسد المبعثر للعالم ويمنعه من أن ينطمر في صمت نهائي، وهدام بالتالي لكل معنى...

بمعية أدونيس، نلج في الدوام الوقتي وملازمة المحتمل والممكن، جماعات وفرادى، نحن في سبيلنا الى ولوجها، ان الصدف واللقاءات العرضية التي هي وراء كولاجاته قادته الى أن يحمل بالمعني كل نظام مرصود ومثبت بقانون ديني آخر، ليحرمنا في المواقع من كل معنى حي.

دعونا لا ننسى أن كلمات كل لغة هي ملك للجميع، لانها تنبثق من الجميع، انها جزء من الزمن وأن وقعت خارج الزمن، وهي جزء من الفضاء وأن أنتقلت من الفضاء، في المكان الآخر المنجرف مع التيار، وللتذكر فان المكان هنا هو كل الأمكنة، كما أن اليوم هو كل الأزمنة، ان اضفاء المعنى على الأشياء، أو أضفاءه من جديد عليها أو لنقل أكتشاف معنى جديد لها هو أسمى أفعال الحرية، هذه هي، بالخلاصة الغاية من العملية المشتركة والسرية التي ينجزها أدونيس في لوحاته، ولكن هذه العملية لا تمت الى التوحيد أو للنرجسية بصلة، أو حتى الى الاحتفاء بالذات، بل انها وثيقة الصلة بمعرفة أدونيس بالرسامين والنحاتين العرب الذين طالما أدهشونا برسوماتهم التزيينية لكتبه النفسية، وهم: منى السعودي، اتيل عدنان، شفيق عبود، مهدي قطبي، زياد دلول، سعيد فرحان، آسادور، كمال بلاطه، ضياء العزاوي، أحمد جريد، فريد بلكاهية، اضافة الى الرسامين الغربيين المعاصرين، مثل آشيل بيرلي، مارك بيسان، آن سلاسيك، هذه المعرفة هي التي حفزته الى أن يدعو اليوم سولاج، وفليسكوفيك، وكريستيان بوبيه ليؤشروا على محطات رحلته الفنية في معرضه المقام في معهد العالم العربي، وان كان سولاج قد رد بلوحته (أسود/ضوء) المحملة بالمعنى المتكاثر، والميتافيزيقي وغير الميتافيزيقي، على جميع أعمال أدونيس، وان كان فليسكوفيك قد أجاب على هذه الدعوة بات رحلته الفنية في معرضه المقام في معهد العالم العربي، وان كان سولاج قد رد بلوحته (أسود/ضوء) المحملة بالمعنى المتكاثر، والميتافيزيقي وغير الميتافيزيقي، على جميع أعمال أدونيس، وان كان فليسكوفيك قد أجاب على هذه الدعوة باحدى أعظم لوحاته المكرسة للحرب ودمارها منذ ثلاثين عاما ً، فان كريستيان بوبيه قد أجاب بدوره، بأكثر لوحاته ادهاشا ً، ومأساوية، ومرحا ً، لا يعرف سرها سواه، فكان من المنطقي، أن يشارك أدونيس بكولاج يضمه الى هذه اللوحة العظيمة لكريستيان بوبيه التي تلقى اضاءة على الحقبة الباريسية من حياة أدونيس وأعماله.

ان أدونيس الموحد دائما ً وأبدا ً، لا يفصل بين الرسامين العرب والغربيين، فهو يشترك معهم بذات الحماسة الوجدانية، واللحمة والتواطؤ، وهذا يتجلى في جميع كولاجاته، ونقرؤه في كتاباته، وهذا بالنسبة له قدر المعنى الجديد الذي علينا اضفاءه على وجودنا العرضي على هذه الأرض، وهو يرى أنها ليست الحياة التي علينا أن نغيرها فقط، ولا هو العالم الذي علينا تحويله فقط، بل أنه وقبل كل شيء موقفنا الجذري، وتفكيرنا الجذري بجميع الأشياء، وجميع الرجال، مهما كانوا من أينما أتوا.

من الفرنسية – الان جوفروي – كاتب وشاعر فرنسي – ترجمة د. مي محمود

السحر الشرقي والغربي

(...كائنات أسطورية راقصة، وروابش أو تكوينات صخرية، رموز بخط سري في السحاب والطحلب والرمل: مضمون اللوحات التشكيلية للشاعر أودنيس، وما يحدث في ذلك العالم من الصور الغربية يبقى بكل ما في الكلمة من معنى، بعيدا ً بشكله الساحر عن امكانية قراءته، وتشكل هذه اللوحات وفي الوقت نفسه جزءا ً من كيان مستمر مكتوب، يبدأ بالقصيدة ويقوم بالوساطة بشكله الراقص، بين الشعر والخط والصورة وبين اللغات الصورية في الشرق والغرب، كذلك.

لا يتعامل الشاعر(.....) مع الأبيات والمقاطع الشعرية الغنائية ومنها، بل كذلك مع المقص والورق المقوى، ومع قطع من الجوخ والأقمشة، ومع أبر صغيرة، وخيوط، ويشكل المعرض الفني الذي، افتتح أخيرا ً في معهد برلين للعلوم العرض الرابع تلك اللوحات التشكيلية (الكولاجات/قائم)، لكنه الأول في ألمانيا بعد أن سبقه ثلاثة عروض في باريس، موطن أدونيس.

وابتدء، يتعمق النظر في التشكيلات الناعمة الصغيرة ذات الألوان النباتية الترابية القوية تتضح أضواء اللعب في النصوص الشعرية بوصفه نوعا ً آخر من الجدل بين الموروث الثقافي في العربي وفردية الحداثة ذات الطابع الغربي.

بالشكل نفسه الذي اتصل شعر أدونيس منذ بدايته في الخمسينات القصيدة العربية الكلاسكية والسوريالية الفرنسية والتصوف الاسلامي وزاردشت بنتشه في علاقة مثيرة معادة، تتأرجح كذلك اللوحات التشكيلية المعروضة في برلين، حيث رسم عدد منها بين غيبة منع الصور ومتعة التلذذ بها.
للوهلة الأولى يبدوا كثيرا ً من تلك الاشكال مهددا ً من الكتابات الخطية التي تحاول استبدال الصورة بتخطيطات الكلمة المكتوبة، غير أن المنمق يظهر أنها، على العكس في توازن حيوي لطيف، يزخرف يحتضن بعضها بعضاً في حركة راقصة، ومن يستطع قراءة المكتوب، فلن يجد نصوصا ً تراثية، بل سيجد بعض أبيات لاودنيس نفسه تمتد هنا الى داخل الصورة، وتذوب فيها أيضا ً، وكثيرا ً ما تنسحب الكلمات، بأشكال منظمة أو ممزقة الى داخل الشذرة التخطيطية، وتهرب صورة الخط المكتوب أما الخط المصور الذي لا يحدده المعنى، في حين أن اللوحات الصغيرة تقدم نفسها بشكل جزئي على أنها بطاقات بريدية تزداد مع زياد قياس اللوحات أيضا ً، استقلالية التشكيلات المشخصة والتي تخلو أحيانا ً من الكتابة، تماما ً ، فما عبرت عنه مجموعة شعرية تحول عبر هذه اللوحات التشكيلية الى صور: يصبح الأشخاص (أوراق في الريح قابلة أن تتحرك، وكتب الاسم المستعار للشاعر الذي يعود الى أسطورة نباتية - شرقية يونانية) معنى جديدا وفنيا ً.

هاينريخ ديشيرينج