Ali Ahmad Saïd Esber (Adonis)

أدونيس ملخص سيرة – خالدة سعيد

أدونيس ملخص سيرة – خالدة سعيد

1930-1942: اسمه علي أحمد سعيد اسبر. أدونيس لقب اتخذه منذ عام 1948. ولد عام 1930 في قرية قصابين قرب مدينة جبلة، من محافظة اللاذقية على الساحل السوري. كان أبوه رجل دين وشاعرا ً ذا معرفة بالشعر العربي؛ كما كان فلاحا ً في الوقت نفسه. حفظ علي الصغير القرآن على يد والده، كما حفظ كثيرا ً من أشعار القدامى، جنبا ً الى جنب مع العمل في الأرض. ولم يعرف مدرسة نظامية قبل الثالثة عشرة من عمره.

عاش في قريته حياة تتداخل فيها أبعاد ثقافية متعددة، فتمتزج الصلاة بالزرع والشعر بالسمر. في تلك البيئة وذلك الزمن كان انشاد أشعار المتصوفين يستغرق النشاط الديني والثقافي الاجتماعي. وكان الشعر يتلى في السهرات مرتلا ً على نغم خاص. في هذه البيئة ظهرت بواكير شعره.

1943: لم تكن في القرية مدرسة، فأرسله أبوه الي قرية تبعد مسيرة ساعة، فتحت فيها مدرسة رسمية. كان يذهب بصحبة أولاد القرية، ويتوجب أن يعبروا في طريقهم نهرا ً. وذات يوم شتائي فاض النهر وكاد علي أن يغرق فيه لولا زميل له. منذ ذلك الوقت بدأ يحلم بمصادفة استثنائية تنقله الى مدرسة حقيقية، وعرف أن الشعر سبيله الوحيد الى ذلك ومدخله الى العالم.

1944-1954: ربيع 1944 سمع عن زيارة للمناطق السورية يقوم بها شكري القوتلي (1891 1967) أول رئيس للجمهورية السورية في عهد الاستقلال. وسمع عن استقبالات تعد له في مركز القضاء. فكتب قصيدة وطنية وتوجه وحيدا ً، سيرا ً في الوحل وتحت المطر، الى المدينة التي يجهلها واسمها جبلة. وهناك، بدأت مغامرة جديدة للفتى الريفي، من أجل الوصول، قبل فوات الوقت، الى المسؤولين واقناعهم بالسماح له بالقاء القصيدة. لكنهم بعد أن وعدوه أهملوه، وكاد القوتلي يتكلم في الختام، لولا أن موظفا ً شجاعا ً وشهما ً نادى الرئيس بأعلى صوته وأخبره عن الطفل القادم من أعالي الجبل ليقرأ له قصيدة. كان ذلك يوم 22 آذار/ مارس 1944).

القصيدة العمودية التي تحاكي الشعر العباسي، نالت اعجاب الرئيس وأدهشت الجمهور. وحين سأله الرئيس ماذا تريد يا ابني؟ أجاب: الذهاب الى المدرسة. وهكذا أرسله الرئيس الى القسم الداخلي في المدرسة العلمانية الفرنسية بطرطوس. وكانت تلك بداية دراسته النظامية. فقطع مراحل الدراسة قفزا ً. في ظروف النضال لاجلاء الفرنسيين عن سوريا منذ عام 1945 نشط وتميز بين الطلاب بسبب القاء القصائد في المظاهرات. وفي تلك الأجواء الحماسية انتسب الى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي برز أعضاؤه في ذلك الصراع. (وسوف يستمر في الحزب نفسه بضع سنوات الى أن ينسحب نهائيا ً وتنقطع علاقته بالحزب عام 1960).

ولما أقفلت مدرسة اللاييك الفرنسية مع جلاء الفرنسيين، تقدم بطلب منحة رسمية للدراسة في ثانوية اللاذقية. وهناك حصل على شهادة الباكالوريا عام 1949.

اتخاذ لقب أدونيس: في تلك المرحلة نفسها (1948) اتخذ علي أحمد سعيد اسبر اسم أدونيس لقباً، فغلب على اسمه الأصلي. يروي أدونيس كيف اختار هذا الاسم، وكان قد قرأ نصا ً حول أدونيس وعشتروت ومقتل الفتى أدونيس الذي هاجمه خصمه متنكرا ً في صورة خنزير بري. سمعت أدونيس في مرات عديدة يفسر سبب اعتماده هذا الاسم المستعار. يقول ان احدى الصحف لم تنشر قصيدته الموقعة باسم علي أحمد سعيد، (كما كان اسمه على عادة الريفيين الذين يعتمدون الاسم الثلاثي دون اسم العائلة). وكان قد قرأ كتابا ً حول أسطورة عشتروت وأدونيس، فتماهى بشخص المظلوم في الأسطورة، ووقع باسم أدونيس ونشرت القصيدة.

لن أشك في رواية أدونيس، ولكنني أعتبرها غير كافية ولا تشفي أسئلة عديدة. وفي رأيي هناك ثلاثة عوامل أساسية غير مباشرة في اعتماد الاسم المستعار نهائيا ً بحيث أنه غيب الاسم الأصلي: الأول هو أن اعتماد الشعراء ألقابا ً كان معروفا ً وحاضرا ً في التقاليد الشعرية، المحلية على الأقل؛ وأوضح مثال هو اتخاذ الشاعر محمد سليمان الأحمد (قريب أدونيس من جهة الأم) لقب بدوي الجبل حتى غيب نهائيا ً اسم العائلة. وكان البدوي، كما درج اسمه، شاعر المنطقة الكبير بل شاعر سوريا الكبير، وان لم يكن الوحيد الذي اتخذ لقبا ً مستعارا ً.

السبب الآخر الذي يفسر اعتماد هذا اللقب هو الشبه البنائي المأسوي (دون مضمون الصفات طبعا ً) بين مقتل أدونيس (البريء الجميل) ومقتلات الأبرياء من آل البيت؛ وهو موضوع حاضر في المحيط الريفي الذي نشأ فيه أدونيس.

السبب الثالث هو دهشة اكتشاف عالم الحضارات الدفين والتاريخ القديم المغيب وشخصياته الأسطورية الحافلة بالرموز، فضلاً عن افتتان هذا الشاعر بالغريب والتغرب وبالقناع اللعبي.

1949-1954: بعد نيل البكالوريا انتقل الى دمشق حيث انتسب الى الجامعة السورية. لكن كان عليه، في الوقت نفسه، أن يعمل لتأمين معيشته. في تلك المرحلة ولا سيما عام 1950 كان نشاط الحزب السوري القومي الاجتماعي قد تمركز في دمشق بعد اعدام مؤسسه أنطون سعادة. وأصدر الحزب في دمشق جريدة باسم البناء. فتسلم أدونيس تحرير الصفحة الأدبية. وتعاون معه عدد من الطلاب والكتاب اللامعين من أعضاء الحزب. مع ذلك كان يحرر معظم الصفحة مستخدما ً عددا ً من الأسماء المستعارة في الصفحة الواحدة، اضافة الى توقيعه باسمه.

كان في الوقت نفسه طالبا ً في الجامعة السورية. وتخرج صيف 1954 مجازا ً في الفلسفة. رسالة الاجازة كتبها حول "المكزون السنجاري" المتصوف الذيطا لما سمع أشعاره تنشد في السهرات ورددها هو نفسه منذ الصغر.

في الخدمة الالزامية 1954-1956: بعد التخرج من الجامعة السورية عام 1954 التحق (علي اسبر المعروف بأدونيس) بالجيش لتأدية خدمة العلم، وتنقل لوقت قصير بين الكلية العسكرية في حمص وبين الكلية في حلب. لكنه أمضى سنة من خدمته في السجن بسبب انتمائه الحزبي المشار اليه سابقا ً. كان ذلك في اطار اتهام الحزب بقضية الضابط الشهيد عدنان المالكي الذي اغتيل في دمشق عام 1955. وحين أطلق سراح أدونيس بقرار من المحقق العسكري يقضي ب "منع المحاكمة" نقل الى الجبهة بصفة "غير مسلح" وخارج البرامج العسكرية، فضلاً عن جهله الكامل بالسلاح. هناك اغتنم أوقات فراغه الطويلة ليقرأ الشعر ويكتب. قرأ أشعار بعض السرياليين وغيرهم من الشعراء الفرنسيين والبلجيك. وعلى الجبهة كتب قصيدة "مجنون بين الموتى" التي ستنشر في العدد الأول من مجلة "شعر" مطلع 1957. كما كتب عدداً كبيرا ً من القصائد التي ستنتخب منها مجموعة نشرت بعنوان "قصائد أولى". وقد صدرت عن دار مجلة "شعر" عام 1957. وبينما أدونيس على الجبهة سجن من جديد وأحيل الى محكمة عرفية، نتيجة وشاية تنسب اليه القول "هذه البلاد لنا كما هي لكم". وتبين كذب تلك "الوشاية"، على غرابتها، بعد أربعة شهور. في تلك القضية سجن أياما ً مع "ثلاثة مجانين"، في مرحاض، في سجن القنيطرة في الجولان السوري. ثم أطلق سراحه بدون محاكمة أو تحقيق أو استجواب. وفي تلك المحنة كتب قصيدة "السديم أو ثلاثة مجانين". وتركت تلك المحن المتوالية أثرا ً عميقا ً في شعره وفي حياته.

الى لبنان ومجلة "شعر" 1956- 1963: سرح أدونيس من الجندية وعاد من الجبهة يوم 10 تشرين الأول/ أوكتوبر 1956.

ويوم 25 من الشهر نفسه عقد زواجه على خالدة صالح التي كانت خارجة من السجن هي أيضا ً وفي اطار القضية نفسها. وغادر سوريا الى لبنان يوم 30 تشرين الأول، ليستقر في بيروت.

فور وصوله اتصل بالشاعر يوسف الخال، وكانت بينهما مراسلة سابقة. كان الخال قد أجرى المشاورات واتصل بعدد من الشعراء استعداداً لاصدار مجلة شعر. وهكذا انضم أدونيس الى المشروع منذ بدايته العملية؛ وشارك في تهيئة العدد الأول، ونشر فيه قصيدته مجنون بين الموتى السابق ذكرها. ونهض بقسم وافر من عملية التحرير منذ العدد الأول، واستمرت مشاركته في التحرير حتى العدد 26، أول اصدارات السنة السابعة.

المجموعات الشعرية الأولى التي يعتد بها أدونيس صدرت عن دار مجلة شعر. وكان قد صدر له في دمشق عام 1954 كتاب بعنوان "قالت الأرض" قدم له الكاتب الكبير سعيد تقي الدين. في العام الأول لمجلة شعر نشر أدونيس مجموعته "قصائد أولى" ثم في العام الثاني نشر "أوراق في الريح". أما ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" فقد صدر عن مجلة شعر مطلع عام 1961.

معركة مجلة شعر

وصل أدونيس الى بيت أحلامه. ألقى بنفسه في معركة مجلة شعر. أقول معركة لأنها كانت أكثر من سجال بين تيارات مختلفة. اتخذ السجال شكل اتهام المجلة بالتخريب و تهديم التراث العربي واللغة العربية والتأثر بالحضارة الغربية، وتبني قيم هذه الحضارة. بل أطلقت في بعض المواقع اتهامات ذات طابع ديني. وطاولت الاتهامات والانتقادات العنيفة جميع الشعراء المشاركين في المجلة. وكانت اللقاءات التي عرفت ب "خميس مجلة شعر" ساحة للهجوم والدفاع. في تلك الجلسات التي كانت تعقد، في السنة الأولى، في فندق بلازا في شارع الحمراء، كان يلتقي المعنيون بالشعر، بين مناصرين لقصيدة التفعيلة الحرة ومناصرين لقصيدة الشطرين. وفي سياق تلك النقاشات تبلورت بعض المرتكزات النظرية للشعر الجديد. وكانت هناك نظرات تطرح دون أن يكون أساسها واضحا ً أو مبنيا ً على أسس مدروسة.

معركة ما سمي ب "قصيدة النثر"

النقد العنيف الجارح الى المجلة واتجاهها ازداد حدة منذ 1958 مع ظهور "قصائد النثر" الأولى ومع تسمية "قصيدة النثر". بينما لم تكن النصوص التي حملت تسمية "شعر منثور" تثير كل ذلك الهجوم لكونها لا تزاحم الشعر المنطوم على موقعه. كان النقد يوجه الى قصيدة النثر على جميع المنابر، ولا سيما على صفحات المجلات والصحف اليسارية والعروبية ولا يوفر اتهاما ً، بدءا ً من تهمة "الفن للفن" و "البرج عاجية" و تهديم التراث العربي والهوية العربية وصولا ً الى الاتهام بالتبعية للثقافة الغربية وحتى للسياسة الغربية. بل كان الاتهام يصيب شعراء يساريين لمجرد أنهم نشروا في مجلة شعر وساندوها، كما حصل للسياب.

استقطبت مسائل الوزن والتفعيلة الحرة والنثر الشطر الأكبر من السجال. وفي ذلك المناخ كتب أدونيس (عام 1958) أول دراسة حول قصيدة النثر. وان كانت مقدمة الشاعر أنسي الحاج لمجموعته "لن" (عام 1960) ستقدم نوعا ً من مانيفستو لهذه القصيدة. وربما كان أنسي هو الأعنف في هذه المعركة. وما بنبغي التوقف ازاءه هو اهتمام أدونيس في اطار مجلة شعر بالترجمة. وأشهر ترجماته بالطبع، قصيدة الشاعر الفرنسي سان جون بيرس بعنوان "ضيقة هي المراكب". وهي قصيدة لقيت أصداء وقرئت بشكل واسع، وتركت أثرا ً مهما ً في قرائها، حتى بات صاحبها معروفا ً لدى القراء العرب أكثر مما هو معروف في فرنسا والبلدان الفرانكوفونية. ولأدونيس في مجال الترجمة أعمال عديدة. أواخر عام 1958 ولدت ابنته الأولى أرواد.

الدعوة الأولى الى فرنسا

وفي عام 1960 وجهت السفارة الفرنسية في بيروت دعوات الى عدد من الفنانين والكتاب والشعراء اللبنانيين، وكان أدونيس بينهم. وبما أنه لم يكن قد اكتسب الجنسية اللبنانية ولا يحمل أي جواز سفر، فقد منحته السلطات اللبنانية جواز مرور. هكذا تمكن من السفر والاقامة في باريس مدة سنة. تلك المنحة جعلته يعمق صداقته بالفنانين التشكيليين المبعوثين معه. كما تعرف الى نخبة واسعة من الشعراء والكتاب الفرنسيين. وبعض هذه الصداقات مستمر حتى اليوم.

"أغاني مهيار الدمشقي" وجائزة مجلة "شعر"

عام 1961، ولدى عودته من باريس، نشر أغاني مهيار الدمشقي عن دار مجلة شعر كذلك. وأول جائزة مهمة حصل عليها أدونيس كانت جائزة مجلة شعر عن الكتاب المذكور. وكان السياب قد حصل عليها عن ديوانه أنشودة المطر عام 1960.

عام 1963 حصل أدونيس وأسرته على الجنسية اللبنانية. ومع أن أدونيس انفصل عن مجلة شعر عام 1963 فان الصداقة مع يوسف الخال لم تنقطع بل تجددت في أواخر السبعينات ولا سيما في الثمانينات في باريس حيث ذهب يوسف للعلاج.

مأزق الهوية

1963-1967: في الستينات سئل الشاعر الراحل نزار قباني، في اطار حديث أجرته معه احدى الصحف اللبنانية عن رأيه في عدد من الشعراء، فقال عن أدونيس: أجمل هدية قدمتها جبال سورية الى جبال لبنان. لكن زهرة الدراق على صدره أجمل من زهرة الكيمياء. وهو يشير الى قصيدة بعنوان زهرة الكيمياء في كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل، الذي صدر عام 1965، وكان أول كتاب يصدر له باستقلال عن مجلة شعر منذ وصوله الى لبنان. بالطبع لا يعني أدونيس في قصيدته تلك كيمياء المصانع الحديثة، بل السيمياء القديمة وما اقترنت به من الغموض وفنون السحر ولا سيما اقترانها بالتصوف وتداخلها بمعاني التحول الارتقائي اللا متناهي وبلوغ الجوهري (قياسا ً على السيمياء التي هي تحويل المواد الى ذهب). ففي تلك المجموعة تستيقظ المؤثرات الصوفية التي أحاطت بنشأة أدونيس في شعره.

وكان ذلك المناخ الصوفي، في شعر أدونيس، في مستواه الفكري الفلسفي مجردا ً عن المضمون الديني العقدي أول عودة حديثة الى ذلك التراث، وأول اعادة اعتبار واعادة قراءة لذلك الموروث الفلسفي في اطار الحداثة. بينما كانت النظرة الى الصوفية، على الأقل لدى دعاة الحداثة منذ العشرينات باستثناء جبران لا ترى فيها غير العزلة والانكفاء والغيبوبة والسلبية. أستحضر هذه الالتفاتة الأنيقة المرهفة من الشاعر الكبير نزار قباني لأقول انها تمثل أجمل وصف لما يبدو، لدى البعض، معضلة هوية أدونيس على المستويين الفكري والوطني: اذ كيف يكون وارثا ً لفكر التصوف وفي الوقت نفسه صاحب فكر حديث يتبنى نيتشه وهيراقليطس. كما يوجد وصف قباني جوابا ً لهذا السؤال الذي يعرض أحيانا ً:

هل أدونيس سوري أم لبناني؟ ولماذا يصف نفسه بأنه لبناني وقد ولد في سورية؟

أظن أن نزار قباني أعطى جانباً من الجواب. لكن هناك جانباً آخر يتصل بنشأة أدونيس الثقافية. اذ لو قرأنا أشعار أدونيس بين 1950و1955 لما خفي علينا تأثره بالمدرسة اللبنانية في الشعر، ولا سيما بشعر سعيد عقل. وينبغي القول انه منذ مرحلة مبكرة جداً، ولا سيما أيام مجلة القيثارة التي أصدرها كمال فوزي الشرابي وجماعة من الشعراء الجدد في اللاذقية لزمن قصير (1946-1948) كان حضور المدرسة اللبنانية ظاهراً لدى الشبان ولدى أدونيس بشكل خاص، وذلك على الرغم من الارث العربي الذي يحضر في عمق شعره.

ومنذ وصل أدونيس الى بيروت في نهاية تشرين الأول عام 1956 رمى بنفسه كليا ً وباندفاع، في الميدان الثقافي اللبناني. وتميزت مسيرته في لبنان بانشاء المؤسسات الثقافية كما سنرى. وأدونيس في ذلك كله قد جسد، بشكل لا واع، الخصائص الثقافية اللبنانية. اذ لا يغيب عن أحد أن لبنان يتميز بالمبادرات الفردية، الثقافية منها والاقتصادية، وبطموح الأفراد ومبادراتهم الجريئة والرائية السباقة وتطلعهم الى التجديد، وحضورهم في مفترقات الطرق الحضارية العالمية. أما أدونيس، فقد أنشأ في عام 1960، وكان بعد من صميم مجلة شعر، مجلة آفاق الثقافية التي تعنى بالفكر الفلسفي والسياسي وبالأدب اجمالاً. لكنها لم تعمر أكثر من سنة لأسباب مالية. الانخراط في النشاط الثقافي اللبناني منذ انفصال أدونيس عن مجلة شعر أسهم في نشاطات ثقافية متنوعة، بينها أعمال الندوة اللبنانية التي أسسها ميشال أسمر عام 1946 ولا سيما في ندوات الحوار الاسلامي المسيحي عام 1967 وفي محاضرات "بعد السادس من حزيران 1967، أي لبنان؟".

وفي عام 1967 كان أدونيس بين الأعضاء المؤسسين لاتحاد الكتاب اللبنانيين. وفي 1968 كان بين مؤسسي اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا. وفي ما بعد شارك في نشاط دار الفن والأدب لما أنشأتها جانين ربيز وتولت رئاستها. ولا بد من الاشارة الى أن أدونيس هو الوحيد الذي نال جائزة الدولة اللبنانية عام 1974. وهي جائزة أعطيت لمرة وحيدة، اذ جاءت الحرب الأهلية في السنة التالية وأوقفتها.

ديوان الشعر العربي 1963 - 1968

بعد انفصال أدونيس عن مجلة "شعر" ألقى بنفسه في مشروع ثقافي كبير هو قراءة الشعر العربي بكامله، المخطوط منه والمطبوع، كانت نتيجته انتخاب ديوان الشعر العربي ونشره بأجزائه الثلاثة. ولم يهدف ذلك العمل الى مجرد جمع منتخبات شعرية، بل كان هدفه ارساء اتجاه جديد لقراءة الشعر العربي وتأسيس ذائقة جديدة ومعايير جديدة. فقد استبعد أدونيس في اختياراته الأغراض غير الشعرية وغير الشخصية أوغير الانسانية كالمديح خاصة والشعر السياسي، واستبعد ما اكتسب قيمته التاريخية من القيم القبلية المحلية كالمفاخرة والهجاء؛ وألح في معايير انتخابه وفي مقدماته لهذه المختارات على الآفاق الانسانية واللمسات الشخصية الصميمية والخصوصيات الفنية وحتى الفلتات الهلاسية والصور الشعبية والساخرة. فقدم شعر الحب والتأمل وأشعار الصعاليك والحالمين والمجانين وأصحاب الرؤى. وبذلك كشف الغطاء عن الكم الهائل المجهول في هذا الشعر، وكشف بشكل خاص عن منزلته ومضاهاته لأكبر الآثار الشعرية في التاريخ.

استقبل "ديوان الشعر العربي" استقبالاً خاصاً. والأوساط الأدبية وحتى السياسية التي كانت مغلقة في وجه مجلة "شعر" وأدونيس رحبت بهذا الديوان. وفي وقت قصير غير نشر هذا الديوان المعايير وخطوط الصراع. لم يعد الأمر صراعا ً بين قديم وجديد، بل صار الأمر مسألة اختيار موقع التقويم ومعاييره. كأنما برهن أدونيس أن الحداثة ليست هدما ً للقديم وتنكراً له بل هي نظر فني مختلف ومتطور ومرتكزات انسانية حديثة.

بيان من اجل 5 حزيران 1967

1967- 1970 بهذا البيان افتتح أدونيس ما وصف بأنه النقد الذاتي بعد الهزيمة. وكان ذلك في تاريخ 10 حزيران حين نشر في جريدة "لسان الحال"، التي يحرر صفحتها الأدبية، ذلك البيان.

كانت تلك صيغة أولى موجزة عاد ووسعها لما نشر البيان في مجلة الآداب، عدد أغسطس- آب 1967؛ نشر بعد ذلك في مجلة، عدد مارس 1968. هذا البيان يعكس بشكل واضح جانباً أساسياً من ملامح أدونيس الفكرية، وهو امتداد ظاهر لملامح بطله "مهيار الدمشقي" الذي يصفه بأنه "الريح لا ترجع القهقرى"، وفي خطواته جذوره. بل ان ذلك البيان امتداد للمنحى النقدي التاريخي الحضاري الذي ظهر واضحا منذ عام 1958 في قصيدتي مرثية الأيام الحاضرة و مرثية القرن الأول الى أن بلغ ذروته في "الكتاب" (1995-1998-2002).

وفي رأيي أن ما فتح لهذا البيان الباب على القراء العرب وشفع لما فيه من العنف والهجوم، كان هو نفسه ديوان الشعر العربي.

1968 مجلة مواقف

أصدر أدونيس، بالتعاون مع عدد من الأصدقاء الكتاب والفنانين، مجلة مواقف بين 1968 و1994. وكانت بوضوح نوعاً من الامتداد والاستمرار الميداني لبيان من أجل 5 حزيران. ظل شعارها الثابت "للحرية والابداع والتغيير". استمر صدور "مواقف" على مدى ربع قرن. بدأت بالصدور مرة كل شهرين وبعد السنوات الأولى صارت فصلية. قرئت مواقف في البلدان العربية كلها وان لم تكن واسعة الانتشار بمعيار توزيع الأعداد؛ قرئت رغم أنها كانت ممنوعة بشكل قاطع ونهائي في ستة بلدان عربية على الأقل، ولم تسلم أعدادها من المنع المتكرر الا في لبنان والمغرب وتونس. أيدها وشارك في تحريرها كتاب وفنانون كبار؛ وواصل الكتابة فيها أهم الكتاب والشعراء العرب فضلا عن عدد من الكتاب الغربيين المهمين. ونادرة جداً هي الأسماء العربية الكبيرة والجذرية التي غابت عن مواقف، دون أن يعني هذا اتفاق الجميع مع مواقف أدونيس أو اتفاق أدونيس معهم.

وكانت مواقف، بشكل خاص، المنبر الذي تخصص باكتشاف المواهب الشعرية الجديدة المختلفة واحتفى بظهورها وشجع تمردها وتجاوزها.

التدريس والدراسة في أوائل الستينات دخل أدونيس لأول مرة حقل التعليم. بدأ تعليم الأدب العربي لصف البكالوريا في مدرسة "زهرة الاحسان" منذ 1962. ثم انتقل الى تعليم مادة الفلسفة في المدرسة نفسها عام 1967 واستمر فيها حتى عام 1971. عام 1971 ولدت ابنته الثانية نينار.

1971-1985 بدأ أدونيس التدريس في الجامعة اللبنانية، كلية التربية. ولم يكن يحمل شهادة دكتوراه. فانتسب الى جامعة القديس يوسف وأعد أطروحة حول موضوع "الثابت والمتحول في الفكر العربي" وكانت باشراف الأب الدكتور بولس نويا. هذه الأطروحة التي ناقشها عام 1973 أثارت جدالاً طويلاً ونقاشاً في الصحف والمجلات في العالم العربي. وقد نشرت في ثلاثة أجزاء أضيف اليها جزء رابع. استمر أدونيس في التدريس في الجامعة اللبنانية حتى عام 1985. لكن بشيء من التقطع اذ تخللت ذلك دعوات له كأستاذ زائر.

في السنوات العشر الأخيرة من هذه المرحلة عاش الحرب الأهلية، بما في ذلك الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان وعاصمته بيروت عام 1982. وكتب خلال الحصار مجموعته الشعرية "كتاب الحصار". ولم يتوقف اصدار مجلة "مواقف" خلال تلك المرحلة.

1981 دعي الى جامعة السوربون كأستاذ زائر، فأمضى سنة كاملة.
1984 دعاه الشاعر ايف بونفوا، أستاذ كرسي الشعر في الكوليج دى فرانس ليلقي أربع محاضرات حول الشعرية العربية. وقد صدرت المحاضرات باللغتين الفرنسية والعربية. عام 1984 كذلك صدرت ترجمة كتابه "أغاني مهيار الدمشقي" الى الفرنسية بعد سنوات من الترجمات غير المرضية، فكانت فاتحة ترجمات ودراسات وندوات حول شعره.

1986 في ذلك العام دعي أدونيس ليكون ممثلاً لبعثة الجامعة العربية في اليونسكو فانتقل مع الأسرة الى باريس. وبقي في هذا المنصب حتى عام 1991.
1991 تولى تدريس الأدب العربي في جامعة جنيف بين عام 1989 وعام 1995.
1996-1997 أمضى سنة كأستاذ زائر في جامعة برنستن بالولايات المتحدة.
1998-1999 أمضى سنة كباحث في معهد الدراسات المتقدمة ببرلين
2000-2001 دعي ثانية الى معهد الدراسات المتقدمة ببرلين.

1986-2008 باستثناء مرحلة العمل في الأونيسكو كانت اقامة أدونيس في فرنسا متقطعة عملياً، ولم تكن هجرة. بما أن مركز حركته ونشاطه لا يزال يتراوح بين باريس وبيروت. ومدار اهتمامه الفكري ونشاطه الكتابي عربي بالطبع.

في هذه المرحلة ترجمت أعماله الى ثلاث عشرة لغة أوروبية. فضلاً عن الترجمة الى لغات شرقية كالتركية والكردية والفارسية والأندونيسية والصينية.
ويتحرك بصورة مستمرة محاضراً أو لاحياء أمسيات شعرية بين المدن الأوروبية وباريس، ولا سيما المدن الايطالية والألمانية والاسبانية والانكليزية والسويدية والنروجية والبلجيكية، فضلاً عن بقية المدن والعواصم الأوروبية والتركية والأميركية الشمالية والجنوبية.
بين 1961 و 2008 كرم أدونيس بست وعشرين جائزة أدبية دولية وشهادتي دكتوراه فخرية، الأولى من جامعة جنيف والثانية من الجامعة الأميركية ببيروت.

والآن في هذه السنوات. حين لا يكون أدونيس مسافراً، ينفرد في مكتبه الصغير في الطابق الخامس والثلاثين من المبنى الذي تقيم فيه الأسرة بضاحية كوربفوا، من الصباح حتى المساء. يذكرني هذا الانفراد بالعرزال الذي كان يبنيه في شجرة الزنزلخت أمام البيت في القرية وينام فيه خلال أشهر الصيف، حيث ينصرف للقراءة والشعر. كما يستحضر ما سمعته من أمه عن أخبار اختفائه طفلاً بين شتلات التبغ، يمضي الساعات في تنضيد الحجارة وتغيير مواقعها. وحين كانت أمه تفتقده وتبحث عنه تجده غارقاً في اللعب. تسأله عن تلك الحجارة وما يفعله، فيجيب بكلمات غامضة لم تعرف معناها ، اذ يقول "أعمر بابور حكيم".

في هذا المكتب الذي يختفي فيه أدونيس كان حين يضجر من الكتابة يشتغل من الأشكال واختراع الأشكال والخطوط فوق ألواح من الورق. وكلما سألته عنها أجاب: أتسلى. وعلى مدى ثماني سنوات أو تسع لم يكن يسمح لأحد باستخدام كلمة رسوم أو لوحات أو كولاج. وكان يغضب حين أشير الى العرض. لكنني فوجئت عام 2000 بمعرضه في برلين ثم في معهد العالم العربي بباريس. وبات هذا العمل الفني الذي يميزه باسم رقائم يشغله ويأخذ من تفكيره أكثر مما تخيلت. أذكر يوم كان عام 1998 أستاذاً زائراً في برنستن؛ كنت أراه طول السهرات واقفاً يرسم، حتى رسم عشرات الدفاتر في تلك السنة. وفي طريقه الى الجامعة كان يعبر الغابة وعيناه تبحثان عن قطع وبقايا مهملة، عن كل ما خرج من الفائدة والوظيفة والاستعمال ومن المتشكل، ليجرد هذا الشيء من ذاكرته وهويته ويعيد له حياة جديدة وعلاقات جديدة تنقله الى أفق آخر من الحضور؛ ليعطيه شكلاً آخر ومصيراً غريباً عن منشئه ووظيفته الأولى، بل ليخرجه من كل وظيفة ويدفع به نحو خطر التعدد والخضوع للتأويل ويمنحه معنى آخر للوجود.