poets-writers

Toufic Youssef Awwad

poet and writer

ولد توفيق يوسف عواد العام 1911 في بحرصا ف - المتن - جبل لبنا ن- تعلم مبادىء القراءة والكتابة في قريته وفي بكفيا ثم انتقل الى كلية القديس يوسف في بيروت لمتابعة دروسه الثانوية التي انهاها العام 1928 - التحق بمعهد الحقوق في دمشق ونال اجازته منه العام 1934.

عمل في الصحافة فكانت منبراً للدفاع عن الحقوق التي درسها وتمرس بها ومجالاً للتعبيرعن موهبته الأدبية التي تفتحت من على مقاعد الدراسة. حررفي صحف عديدة منها "العرائس"، "البرق"، "البيرق"، "النداء" و"القبس" - أمضى زمناً طويلاً رئيساً لتحرير"النهار" منذ تأسيسها العام 1933 حتى العام 1941 سنة تأ سيس "الجديد" المجلة التي أنشأها توفيق يوسف عواد تحقيقاً لحلمه بأن يجمع المواهب الشابة والجريئة في مجلة أسبوعية ما لبثت أن تحولت جريدة يومية. الى جانب عمله في "النهار" كان أحد أعضاء أسرة "المكشوف".

في العام 1946 انتقل توفيق عواد الى العمل الدبلوماسي فكان قنصلا   للبنان في ايران واسبانيا ثم سفيرا  في مصر المكسيك واليابان وايطاليا.

العام 1975 تقاعد توفيق عواد من العمل الدبلوماسي ليتفرغ للكتابة مجددا ، حتى وفاته بسبب القصف على بيروت العام 1989.

كتب توفيق عواد الرواية: "الرغيف" (1939) "طواحين بيروت" (1973) وسيرة ذاتية بأسلوب روائي: "حصاد العمر" (1983).

كتب المسرحية: "السائح والترجمان" (1962).

وكتب المقالة الاجتماعية والنقدية والفنية: "فرسان الكلام" (1963) "غبار الأيام" (1963).

وكتب الشعر: "قوافل الزمان" (1973).

لقد كان أبرز رواد القصة القصيرة التي أدركت على يديه مرحلة من النضج الفني المتقدم .

أهم مجموعاته: "الصبي الأعرج" (1936)." قميص الصوف" (1937) – "العذارى" (1944) "مطارالصقيع" (1983).

انطلق أدب توفيق يوسف عواد من واقع الانسان اللبناني والبيئة المحلية ليبلغ، بحرارته وصدقه ونفاذه، عمق التجربة الانسا نية الشمولية وكان لثقافته العميقة المنفتحة أثرها البا لغ في صقل هذا الادب الذي أوصت منظمة الأونسكو بترجمة نموذج منه اعتبرته من "آثار الكتا ب الأكثرتمثيلا   لعصرهم" عنينا روايته طواحين بيروت.

كتب القصة القصيرة التحليلية ذات الأبعاد النفسية والاجتماعية وكان يهدف الى تمزيق الأقنعة التي يختبىء ورواها الناس المسطحون والمزيفون... قال له مخائيل نعيمة في رسالة على أثر صدور "الصبي الأعرج"، كأنك ما خلقت الا لتكتب القصة.

من أعماله:

مطار الصقيع

أعرف قبل كل شيء أنني لست بطلا ،

وأنا أكره الأبطال.

ترجع عداوتي لهم الى عهد التلمذة. كان رفاقي يعشقون الاسكندرأبا القرنين ونابليون وهتلر وأضرابهم ويحفظون سيرهم عن ظهر قلب، وآخذ صفرا  في التاريخ.

وكنت أجفل من الألعاب العنيفة وأرفض الاشتراك فيها ربما لأنني كنت هزيلا  ضعيفا  أو هكذا كان يقول أساتذتي.

حتى أمي كانت تعيرني : "الدجاجات تأكل عشاءك!" عندما تراني أتهرب من مواجهة الخصوم وأترك لهم حقي شرط أن يعفوني من المباطحة.

اليوم سأنتقم.

وسأريهم كيف أن هذا الجبان قادرأن يكون عند اللزوم بطلا عالميا  .

عند اللزوم قلت،

أوبمحض المصادفة،

أواذا خطر له، بين الجد واللعب،أن يلعب الأشياء الجادة.

حتى هذا الصباح، مثلا ، لم أكن أتمنى، وأنا ذاهب الى المطار في لندن، الا رحلة هادئة وأن أصل بالسلامة الى بلدي وأهلي.

تأخرت الطائرة في الاقلاع خمسا  وثلاثين دقيقة. وهذا كثيربالنسبة لطباع الانكليزوتقاليدهم في ضبط المواعيد. ولكن يجب الاعتراف أن الظرف كان غيرعادي ،نظرا  لأهمية الركا ب، فقد كانوا في أكثريتهم الساحقة من كبارالشخصيات الرسمية، جاء لوداعهم في المطار الوزراء واللوردات، وازدحم الناس يهتفون لهم ويصفقون، فضلا  عن عشرات الصحفيين والمصورين الذين كانوا يدورون حولهم ويقفزون كالقرود.

ولم ألبث أن علمت أن الجماعة هم مندوبو الدول التي اشتركت في المؤتمرالعالمي للبحث في الوسا ئل الكفيلة بمنع استعمال الأسلحة النووية - وقد انعقد في لندن أثناء وجودي فيها - وأنهم يعودون بعد ارفضاضه كل الى بلده بمراسم التعظيم التي استقبلوا بها لدى الوصول.

لم يكن بين المسافرين من عباد الله العاديين الا أربعة أشخاص ونصف.

أنا - واحد.

عريس وعروس في رحلة شهر العسل، مشغولان عن الد نيا، ما يفتآن متخاصرين - ثلاثة.

امرأة درويشة، بأكياس وعلب تحت ابطيها وفي يديها الاثنتين تعيقها في المشي وتربكها في ابراز أوراقها - أربعة.

والنصف الباقي ابنها. صبي في الرابعة أو الخامسة من عمره منهمك بلعبته، مسدس فلين، يقلد به الكوي بوي، يديره بين أصابعه بخفتهم البهلوانية ويطلقه بوجه كل من يطلع بوجهه. لم يوفر رئيس المفتشين أبا الشاربين الوقورين – بوم! بوم ! بوم! ثلاثا بين شاربيه.

صفعته أمه معتذرة لحضرة الرئيس. ولكن الرجل ضحك للصبي وانحنى فمسح جبينه بشاربيه. واكراما  له أعفى الأم من فتح بقية كراكيشها.

لم أوفق في سفرتي الى العاصمة البريطانية. كنت عائدا منها بخيبة كبيرة، من جملة خيبا ت حياتي التي لا تعد، اذ رفضت فبركة الملا بس الجاهزة أن تعيد وكالتها الي. وكان قد سلبني اياها تاجرفاجر، من هؤلاء التجار الجدد الذين طلعوا في آخر زمان،بدون أي مبرر سوى أن رصيد ه
في البنك أكبر من رصيدي. وعبثا  حاولت اقناع الفبركة بأن لا تقطع رزقي فقد أصرت بعناد الانكليز على رأيها. ومع أنها تنتج فئات الملابس الثلاث، للرجال والنساء والأولاد، فقد اعتذرت عن التعامل معي حتى بأقماط الأطفال.

وهكذا صعدت الى الطائرة أنوء بأكداس من الخيبة والانكساروالمرارة،كما كانت تنوء تلك المرأة بأثقالها. وللشبه بين الحالين رق لها قلبي، وحملت ابنها بذراعي على السلم، وزد ت فأجلسته الى جانبي في الطائرة ألاعبه مرفها عن نفسي.

رفاقنا الشخصيات الرسمية انقسموا قسمين: أصحاب الاكسلا نس احتلوا الدرجة الأولى بكاملها. أما معاونوهم، حملة الوثائق والتقارير، فقعدوا حيث ينبغي لهم ، في الدرجة الثا نية، معي ومع من ذكرت آنفا  .

نحن الآن فوق بحر المانش. وبامكانكم أن تشاهدوا الشاطىء الفرنسي . الطائرة تحلق على ارتفاع ثلاثة آلاف قدم . الطقس في باريس صحو والحرارة فيها...

لم أسمع البقية، لم يكن عندي وقت ولا تهمني باريس ولا حرارتها. لقد حان وقت العمل. فوضعت
كفي على فمي وتنحنحت عا ليا  لأنبه المرأة.

فدارت بوجهها الي، فغمزتها بطرف عيني اليمنى الغمزة المتفق عليها ، فد ست يدها في كراكيشها وهي تنظر الى العروس والعريس، فيما كنت أنا أشير اليهما بطرف العين الأخرى، فمدا يديهما من تحت الكرسي وتناولا من المرأة ...

كانت المسألة غاية في البساطة. قام العريس فسار بهدوء الى غرفة القيادة ليبلغ ملاحيها الأمر والقذيفة في يده، وتمترست العروس بمؤخرة الطائرة وقذيفتها في يدها. وانتصبت أنا على الباب
الفاصل بين الدرجتين شاهرا  مسدسي.

- مكانكم! أي حركة أو نأمة أطلق الرصا ص! وأي اعتراض ننسف الطائرة!

ونتقت برأسي الى المضيفة فأ قبلت با بتسامتها، فكلفتها أن تبلغ الركاب بواسطة المذياع وبجيمع اللغات أن الطائرة مخطوفة.
أدت المضيفة الرسالة برباطة جأش أدهشتني. وزادت، تلطفا   منها، فأبلغتهم أن خطف الطائرة لا بد أن يكون لقصد نبيل، وأن عليهم فقط أن لا يحاولوا المقاومة، وأن ينقطعوا خصوصا - وكانت هذه تعليماتي الصريحة - عن تدخين السيكار. لا مانع من السيكارة.

لست أدري أي سحر كان ينبعث من عيني في تلك اللحظة فيسقط على الجماعة ويحبس حتى أنفاسهم في الصدور. كل ما أعلمه أنني كنت سكران بخمرة عجيبة، مغمورا   بغبطة لم أذقها في حياتي.

كنت، بكلمة واحدة، بطلا  .

ثم فكرت في نفسي وقلت ان المسد س بيدي، والفعل ربما كان فعله لا فعلي، فالجماعة يرددون أنظارهم بين النار المنبعثة من عيني والنار التي قد تنبعث في أي لحظة من فوهة المسد س. خصوصا ركاب الدرجة الأولى. فقد استولى الخوف على أصحا ب الاكسلانس بأشكال يرثى لها حقا ، ولمحت سكرتيرا  صغيرا   من معاونيهم في الدرجة الثانية يلكز زميلا   له على واحد برتبة مارشال يرتعد كالدجاجة المبلولة. ماذا لو رأى الآخر- وهو برتبة فيلدمارشال - يشقل بنطلونه بيديه الاثنتين ويشير برأسه الى المضيفة، خانقا  تكشيرة ، والمضيفة تشير الي خانقة ضحكة ، وأنا بينهما يا جبل ما تهزك ريح...

وخطرت لي أمي ورأيت وجهها نصب عيني. آه! أين أمي لترى ابنها أي ديك هو بين دجاجات!

البطولة! الآن أنا أعرف من أي شيء تتألف. طبعا الجرأة! الجرأة! الجرأة! كما أوصى ميرابو. ولكن هذه ليست كل شيء. ثلاثة غرامات. يجب أن تزيد عليها أربعة غرامات من الاستهانة بالقوانين والشرائع، وضعفها أي ثمانية غرامات من الاستهانة بأرواح الناس بما فيها روحك. وغراما واحدا  من النباهة أو الحكمة أو الدهاء - ما يقع تحت يدك من هذه المواد - اخلط الكل جيدا  ثم رش عليه رشة من بهارالمثل العليا والمبادىء السامية. واذا كان الكذب ملح الرجال فالمبادىء والمثل هي بهارالأبطال.

ولا تنس أن تضع كل ذلك في آنية جيدة: مسدس أو قذيفة. اذا نسيت فالجبن الذي هو تحت ابطك كفيل بتذكيرك.

لم تخدع المضيفة الخفيفة الدم ركاب الطائرة. فالقصد نبيل وأكثرمما يتصور هؤلاء الرعاديد.

وأي قصد أنبل من تدمير الأسلحة النووية وانقاذ البشرية من ويلات حرب تدك الحضارة وتعيد الكون الى عدمه كما كان؟

على أني لم أبح بقصدي على الفور. تركت الجماعة يعدون معي. خمس دقائق. سبع دقائق. تسع دقائق. تسع دقائق ونصف - كانوا هم يعدونها بالثواني - عشر دقائق. وأنا لا أنبس بكلمة.

"سوسبانس"!

بعدها رأيت أن أكشف نيتي وأشرح لهم خطتي.

أعدت في ذهني خلال هذه الدقائق العشر، مرتين أو ثلاثا ، الخطاب الذي كنت قد هيأته لهذه المناسبة، ولكني في النتيجة لم أقل حرفا  منه.

وبكل بساطة أجلت أنظاري هنا وهناك من أقصى الدرجة الأولى الى أقصى الدرجة الثانية وقلت:

- آسف أن أبلغكم أن الطائرة لن تحط في باريس. أنا أعرف جيدا   أنكم كنتم تمنون النفس كلكم بليال عامرة، ليلة واحدة على الأقل، تقضونها في مدينة النور وعاصمة الهوى والشباب ، قبل أن تتوزعوا منها الى بلدانكم المختلفة. اعلموا الآن أن الطائرة لا تتجه الى مطارأورلي في العاصمة الفرنسية بل الى مطار الصقيع في القطب الشمالي.

مطار الصقيع؟ الفكرة جاء تني بعد أن رفضت فبركة الملابس الجاهزة اعادة وكالتها الي. واذا كان المسافرون الأجلاء يجهلون العلاقة بين الأمرين، وأنا طبعا  لم أفتح لهم هذه السيرة، فسيتضح لهم كل شيء لدى وصولنا الى مطار الصقيع.

كانوا، بالفعل، يفتحون عيونهم بالدهشة، وينظر بعضهم الى بعض بكثير من البلاهة، متسائلين عن هذا المطار وأين هو بالضبط من القطب الشمالي. ورفع أحدهم اصبعه الى المضيفة، ثم آخر، ثم آخر، فرفعت اصبعها الى فمها تدعوهم الى السكوت، فخفضوا أصابعهم بخيبة لا تخلو من غيظ. ثم جمدوا... فليكن مطار الصقيع ما كان وأينما شاء. في الطائرة بطانيا ت من الصوف الجيد - هكذا سمعتهم يقولون في قلوبهم - شرط أن لاينسف بنا هذا المجنون الطائرة أو يطلق علينا مسدسة.

- قوس! قوس! كان يهتف بي الصبي وهو بين ذراعي أمه تحبسه بهما وتمنعه من الوثوب الي.

كان متحرقا   لا يفهم لماذا أصوب المسد س هكذا ولا أطلقه، ويطلب مني أن أعطيه اياه ليقوس هو. فابتسمت له وأشرت عليه أن: اصبر.

- نحن نقترب من مطار الصقيع وسنبدأ بالهبوط بعد دقائق. الرجاء من الركا ب أن ينقطعوا عن التدخين ويربطوا أحزمتهم.

لا لزوم للقول ان مطار الصقيع لم يكن له وجود. اخترعته أنا، وكان من الهام البطولة ووحي الانتقام. قلت للعريس "مر قائد الطائرة أن يتجه صوب القطب الشمالي وينزل على الجليد في أي مكان يتيسرله. نعمد المطار باسم: مطار الصقيع".

- أصحاب المعالي والسعادة، ممثلي الدول العظمى المحترمين، حضرات أعضاء الوفود من مستشارين وسكرتيرية ودكتيلو وسائر حملة الحقائب والمتاعب. مطلوب منكم الاتصال بدولكم الموقرة، ولا لزوم للشيفرة لأن العالم كله عرف الآن أن الطائرة مخطوفة وعرف القصد من خطفها، وأن تقولوا لها بصراحة أن تبادر الى اتلاف الأسلحة النووية التي لديها اذا كا نت من صاحباتها، وأن تحرق، اذا كانت من صاحبات الاستعداد لها، كل الدروس والتقارير والوثائق المسروقة التي لديها وتهدم مختبراتها. وأنتم رهائن لدي ولدى العصابة التي أنتمي اليها لأربع وعشرين ساعة في مطار الصقيع. بعدها، اذا لم تنفذ دولكم الأمر، نأخذ منكم بطا نيا ت الصوف ومعها ثيابكم التي عليكم ونترككم عراة في مطار الصقيع، عائدين بالطائرة الى أشغالنا مع قائدها وملاحيها والمضيفة اللطيفة التي لا أنسى لها خدماتها.

لم أكد أتفوه بهذه الكلمات الرهيبة حتى تعالت في الطائرة، خصوصا  من صوب الدرجة الأولى، تكتكة حسبتها لأول وهلة خرطشة مسدسات، فضغطت على زناد مسدسي. ولكني لم ألبث أن تبينت أن الجماعة يتكتكون بأسنانهم، سلفا ، من الصقيع. فاطمأن قلبي وأحسست بدفء عظيم بين أضلاعي، لأن هذا هو بالذات ما كنت أنشده وأصبو اليه.

كيف علموني في المدرسة أن غيوما  كثيفة سوداء تغطي القطب الشمالي طول السنة ، وأن صيفه كشتائه معتم كئيب؟ كنت أنظر من النوافذ فأرى عكس ذلك، شمسا   لم أر في حياتي أشد شعشعانا   منها ولا أجمل ولا أبهج. سلطانة تتلألأ بما لا يوصف من أنواع الابريز والماس والياقوت، والأرض تحتها ترد لها لألاءها بأحسن منه، وفي الجو ملايين من الذرات تتراقص أشبه برؤوس العصافير وأجنحتها الا أنها كلها بيضاء من ثلج ونور. فلم أتمالك أن أهتف بجماعتي:

- بامكانكم أن تستمتعوا بالمنظر الرائع.

فحاولوا التطلع من النوافذ. ولكن رقابهم كانت مشنجة من شدة الفزع ورؤوسهم جامدة كالتماثيل.
وحدها العروس بادرت الى أقرب نافذة وارتمت عليها تضاحك الشمس وتريد طرح نفسها على هذا البساط النا صع الناعم الذي يغطي الأرض حتى الآفاق الأربعة، ثم تنظر صوب غرفة القيادة وكأنها تدعو عريسها: "ما أحلى أن نتمرغ معا هنا ولا يكون علينا رقيب الا هذه الشمس الدافئة."

أما الصبي فجعل يقفز من نافذة الى نافذة ولا يصدق عينيه المنبهرتين بكل هذا الثلج. ورأيته يدق بقدميه ويكوركفيه واعدا نفسه ولا شك بلعبة التقاذف بأكر الثلج، فأومأت اليه برأسي أن سنلعبها معا بعد أن ننزل في المطار ، فأمامنا أربع وعشرون ساعة "كران كونجه" Grand congé، وسنلعب ما شئت من الألعاب، وأعلمك أن تعمل من الثلج أغرب من هذه التماثيل التي تملأ الطائرة وأعجب.

الأم كا نت مشغولة بتسوية كراكيشها. ولعلها انتبهت الى ما كان يتشوق اليه الصبي وخافت عليه البرد فخلعت شالها ولفت به عنقه.

في تلك اللحظة أطل العريس من غرفة القيادة فطمنني أن كل شيء يسير على ما يرام، وأن القائد يسألني هل أسمح له بالهبوط.

لم أعرف في حياتي، على كثرة ركوبي الطائرات وتجوالي جوا  في أنحاء العالم، أهدأ ولا أهنأ من النزول في مطار الصقيع. هذا، على الأقل، ما يجب أن لا ينساه لي الركاب الأماجد وحتى الملاحون بمن فيهم القائد. فقد حطت بنا الطائرة على البسا ط ، اياه، كما يحط العصفور في عشه، أو يرتمي الطفل في حضن أمه ، أو كما تقع قبلة المحب المشتاق على جبين حبيبه بعد غياب طويل.

قلت للجماعة ودائما بهدوء أعصاب:

آسف مرة أخرى أن أعلمكم أن الحرارة في القطب الشمالي 100 تحت الصفر وتزيد. لا تنفع الوحوحة ولا فرك الأكف. الى العمل فورا   وأرسلوا برقياتكم بأسرع ما يكون. مختصر مفيد. لا لزوم لكثرة الشرح. وأنا، عفوا ، نحن في انتظار الجواب. ستسألكم دولكم من نحن؟ بامكانكم أن تفشوا السر. الواقع أنه ليس سرا . نحن عصابة كما قلت لكم. عصابة أشقياء البشرية الواقفة على كف عفريت العفاريت المتأرجحة فوق جهنم الفناء. لا! لا! لست أنا الرئيس. ليس في عصابتنا ؤساء ولا ألقاب.

انما أنا عضو بسيط متواضع. واحد من مئا ت ملايين عباد الله، ولكني مفوض مطلق الصلاحية أنطق باسم هؤلاء الملايين من شرق الأرض الى غربها.

سأنتظر جواب دولكم الموقرة. أطلعوها مع الشروط على الكيفية أيضا  . أترككم في مطار الصقيع في القطب الشمالي عرا ة  اذا... لا لزوم للاعادة.

ثم زدت على سبيل الايضاح:

- معاوني من أعضاء العصابة الحاضرون هنا عرفتموهم. بامكانكم أيضا   أن تذكروهم لدولكم، ولكن لا حاجة الى ذكر الأسماء. الأم هي كل أم من عصابة البشرية. والصبي طفل من ملايين أطفالها الأبرياء. وكذلك العريس والعروس فهما يمثلان عرسان العالم وعرائسه - ان شاء الله تفرحوا من أولادكم - الذين يريدون العنا ق والحب والفرح ويفضلونها على الموت بالقنا بل النووية.

في حياتهم لم ينكب أصحا ب الاكسلانس على العمل بمثل هذا الجد والاجتهاد. فجعلت أنظر اليهم وأنا راض عن نفسي كل الرضى.

ولا شك أن أمي في قبرها كا نت تباركني.

بأقل من خمس دقائق كانوا قد هيأوا برقياتهم ، وتوجهوا الي راجين مني تلاوتها لتنقيحها، اذا شئت، وصياغتها على ذوقي أزيد أو أنقص ما أراه. وكانوا يتزاحمون على ذلك ويتفننون في التوسل الي بأشكال مخجلة حقا . كانت خبرتي معدومة في هذا المجا ل ، فأنا عمري لم أتعاط الديبلوماسية ولا أعرف شيئا   من أصول مخاطبة الملوك ورؤساء الجمهوريات (بين هلالين أصررت أن توجه البرقيا ت مباشرة الى هؤلاء) وبالرغم من ذلك هززت رأسي بعد الحاحهم بالموافقة.

يا للغلطة التي ارتكبتها! هبوا هبة واحدة يريد كل منهم أن يكون الأول في تلاوة نصه، وحصلت بينهم الفوضى التي تحصل عادة في المؤتمرات. لم أكن أملك جرسا  أدقه وأعيدهم به الى النظام. ولكن المسدس كان بيدي فجعلت ألوح به في الهواء بما معناه بالعربي الفصيح:

- على رسلكم! على رسلكم!

ويظهر أنني نطقت بها بالفعل، فلم يفهموا، وتبادلوا النظرات وكأنهم يتساءلون ماذا أعني وبأي لغة أتكلم، فالتفت صوب الدرجة الثانية وقلت: - من في عداد التراجمة يعرف العربي الفصيح فليرفع اصبعه.

فرفع شا ب هزيل اصبعه، فأمرته أن يتقدم ويترجم. قال:

- على رسلكم! على رسلكم! يعني أنكم أزعجتم الرجل بضجيجكم وأوجعتم رأسه.

ثم سألني هل من خدمة أخرى ، فصرفته بقفا كفي، وعدت الى الجماعة أقول لهم:

- أكتفي بواحد منكم – مسطرة - يتلو نصة. وبما أنكم لم تتفقوا على واحد ليختر الصبي من بينكم أي واحد يقع عليه اختياره.

وأشرت الى الصبي أن يد ل على واحد، فكادت الفوضى تسود من جديد، لأن كلا  منهم أراد أن يطبق الصبي - على عادتهم في المؤتمرات - فبادرت الى حسم الأمر وقلت لأقربهم:

- أنت.قم.

الخلاصة كان النص على ذوقي تماما  فلأول مرة عمل رجال السياسة بقول السيد المسيح فسألوا سؤالهم طالبين الجواب على الطريقة التي أوصى بها: لالا، أو نعم نعم، والباقي من الشيطان.

أرسلت البرقيات بواسطة جهاز الراديو الذي في الطائرة الى أربعة أقطار العالم، وقعد الجماعة مكتفي الأيدي ينتظرون.

كان الصبي قد عيل صبره في هذه الأثناء وهو يشد بثيابي طا لبا  الخروج ليلعب على الثلج. فرأيت أن ألبي طلبه. وهكذا كان شأن العروس التي كا نت تجر عريسها صوب باب الطائرة. ولكني لم أنس أن أربط الجماعة ، بمن فيهم قائد الطائرة وملاحيها، كلا  الى كرسيه ويداه الى ظهره. وساعدتني مضيفتي في هذه المهمة الشاقة وقلدتني فضلا  الى أفضالها السابقة.

الأم خافت من الرشح وفضلت البقاء في الطائرة. أو ربما لكي لا تفارق كراكيشها. هكذا ظن البعض. لا هذا ولا ذاك. بقيت لتقوم بالدور الملقى عليها أي مراقبة الركا ب في غيابنا.

على باب الطائرة أدرت وجهي وقلت بصوت عال أغا لب به رياح القطب الشمالي:

- بانتظار الجواب بامكانكم أن تقتلوا الوقت بشيء مسل ومفيد. اطلبوا الى رئيس وفد اليابان أن يحكي لكم حكاية القنبلة "النونو" التي سقطت على هيروشيما. فهو من أبنائها واختارته دولته خصيصا  باعتبار أنه فقد امرأته وأولاده الأربعة بفعل تلك القنبلة. واذا كان سعادته قد تكلم في المؤتمر بلغته تاركا   للتراجمة أن يترجموا أقواله الى لغا ت العالم بداعي أنه لا يعرف الا لغة الميكادو فلا تصدقوه. وسترون أنه يحسن الانكليزية والفرنسية والروسية والاسبا نية الخ. أكثر من شكسبير ودي غول وخروتشوف وسرفنتش.

كان الصبي يشدني من كمي بيد، وبا ليد الأخرى ينزع شيئا  من بين أصابعي. ففتحت عيني فاذا هو مسدس الفلين.

كنا قد وصلنا الى مطار باريس.

مطار الصقيع لتوفيق يوسف عواد

الصبي الأعرج

كان اسمه خليل . ولكن الناس لا يعرفونه بهذا الاسم. هم ينادونه أعرج ، حتى كاد هو نفسه ينسى اسمه الحقيقي .

في الثالثة عشرة من عمره، على وجهه بقع من الغبا رالمزمن، وأخاديد من الذل. يجر، طول النهار وقسما   كبيرا  من الليل، رجله العوجاء من مكان الى مكان. الرجل اليمين مبرومة عند الركبة الى الوراء يدوس بها الأرض على ابهامه. والابهام ضخمة شققها المشي على الحصى، وعشش بين شقوقها وحل الشتاء الماضي.

كلما خطا خطوة اندفع رأسه الى الأمام وراء العرجة اندفاعة تكاد تخلع رأسه من بين كتفيه. وهو مضطر الى الدوران في الشوارع، من شارع الى شارع، ومن دكان الى دكان، من رجل الى رجل، ومن امرأة الى امرأة. ويمد كفه ويبتسم ابتسامته الباكية.

رفاقه الشحاذون، صغارا  وكبارا  ، لكل واحد منهم أغنية يرددها على المحسنين. يطلبون من الله أن يطول لهم عمرهم، أن يخلي لهم عافيتهم، أن يعوض عليهم ، أن يرزق المرأة ولدا والفتاة عريسا ، وأن يكافئهم خيرا   في الآخرة. يثرثرون دائما  ، ويلصقون بالمحسنين لصقا ، فلا ينزعهم الا القرش.

أما هو فلا يجيد الثرثرة بل يبقى صامتا   كالأخرس. لولا ابتسامته الحزينة ولو لا عيناه الناطقتان بألف لغز ولغز من ألغازالطفولة المقهورة، ولو لا يده الممتدة، الراجفة، الممصوصة كورقة الخريف، لولا ذلك لظنه النا س صنما  .

والبشر يحبون الثرثرة، يحبون الدعاء، لا يعطون الصدقة الا بثمنها عدا  ونقدا  . ولكن الأعرج لا تتحرك له شفتان بدعاء ولا رجاء، كأنما في قلبه ايمان بأن له على هؤلاء البشر ضريبة. يمد كفه الى واحد ثم يجوز الى غيره جارا   رجله العوجاء. واذا ظفر بقرش أو نصف قرش حدق اليه وقلبه ثم وضعه في جيب قمبازه القذر المرقع، ومشى.

الصبي الأعرج لتوفيق يوسف عواد