poets-writers

Abu Nawas

poet and writer

أبو نواس - الحسن بن هاني - ولد 760 توفي 816
لأنيس المقدسي - امراء الشعر العربي - 1946

بيئته وعصره

ولد شاعرنا في خوزستان من بلاد العجم، وانتقل به والداه وهو طفل الى البصرة فنشأ فيها. ويظهر أن أباه مات وتركه صغيرا  في كفالة امه، فسلمته الى عطار ليتعلم تلك المهنة. ولا نعرف شيئا  كثيرا  من عهده "العطاري"، فان التاريخ يتخطى ذلك سريعا  ويبرزه لنا في صحبة الشاعر والبة بن الحباب. ثم لا نلبث ان نراه حوالى الثلاثين من عمره، وقد استقر في بغداد ومدح الرشيد واتصل ببلاطه. ويقول ابن رشيق انه كان نديم الامين طول خلاقته. اما كتاب الفخري فينقل لنا انه كان من شعراء الفضل بن الربيع المنقطعين اليه. وليس من تناقض بين القولين: فان الفضل كان حاجب الرشيد ومن رجال دولته والوزير المقرب في دولة الامين، فقد يكون اتصل به اولا  ثم نادم الامين ومدحه. وتوفي في الفتنة قبل قدوم المأمون من خراسان.

نشأ أبو نواس في العصر الذهبي للخلافة العباسية - عصر القوة والرخاء. وقد رأينا في كلامنا عن تطور الحياة الاجتماعية كيف كانت بغداد في ذلك العصر، من حيث غناها وعمرانها وبذخ المترفين فيها. ومن يطالع اخبار الامراء والوزراء ومن اليهم من ارباب الغنى، وكيف كانوا يتمتعون باسباب الحضارة من عبيد وجوار وقصور، ويسترسلون في سبل اللهو من شرب وغناء ورقص، يعرف شيئا  عن الجو الذي وجد فيه شاعرنا والذي اثر في اخلاقه ايما تأثير.

طبع ابو نواس على الظرف والمجون، واوقعته الأقدار في صحبة ابن الحباب، فاخذ عنه مذهبه في الشعر والحياة. وكان الشعر آنئذ في ايدي عصبة من أهل الاسراف والخلاعة، نذكر منهم - مطيع بن اياس - حماد عجرد - مسلم بن الوليد - داود بن رزين - الواسطي - الحسين بن الضحاك - الفضل الرقاشي - عمر الوراق - الحسين الخياط - علي بن الخليل - اسماعيل القراطيسي وامثالهم. وفي القراطيسي يقول الاصفهاني "كان مألفا  للشعراء فكان ابو نواس وابو العتاهية (طبعا  قبل تزهده) ومسلم وطبقتهم يجتمعون عنده ويقصفون ويدعو لهم القيان وغيرهن من الغلمان.

في عصبة كهذه العصبة وقع شاعرنا. وليس شعره لدى التحقيق الا مرآة لحياته واحوال معاصريه. ولقد بلغ من التمادي في عبثه وتهتكه ان صار مثلا  في ذلك.

روى الحصري "انه لما خلع المأمون اخاه الامين ووجه بطاهر بن الحسين لمحاربته كان يعمل كتبا  بعيوب اخيه تقرأ على المنابر بخراسان. فكان مما عابه به ان قال انه استخلص رجلا  شاعرا  ماجنا  كافرا  يقال له الحسن بن هاني، استخلصه ليشرب معه الخمر ويرتكب المآثم ويهتك المحارم". ثم يقول... "ويقوم بين يديه رجل فينشد اشعار ابي نواس في المجون". واننا لنظلم ابا نواس اذا حصرنا حياته وادبه في هذه الدائرة التي وضعته فيها كتب المأمون. فقد كان غير ذلك (كما سنذكر في كلامنا عن مقدرته اللغوية) ولكن المجون غلب عليه، وفي سبيله صرف مواهبه.

قال ابو عبد الله الجماز يصف ابا نواس "كان اظرف الناس منطقا ، واغررهم ادبا ، واقدرهم على الكلام، واسرعهم جوابا ، واكثرهم حياءً". وبعد ان يصف شكله ولونه يقول "وكان فصيح اللسان، جيد البيان، عذب الآلفاظ، حلو التماثل، كثير النوادر، واعلم الناس كيف تكلمت العرب، راوية  للاشعار، علامة بالاخبار، كأن كلامه شعر موزون".
كان الرجل واسع المعرفة - متصلا  بحياة عصره السياسية والفكرية ولكن انصرافه الى الخمر واسترساله في الموبقات حالا  دون ان يترك لنا أثرا  ادبيا  كبيرا  في غير سخائف الحياة.

ميله في ادبه الى الشعوبية

قد تعجب من هذا الزعم بعد ان عرفت انه كان يلازم الفضل بن الربيع والامين بن الرشيد، وهما معقد العصبية العربية في ذلك الوقت. ولكن لا عجب فابو نواس كما مر معنا من ام فارسية، وقد ولد في بلاد فارس، ونشأ لا تعرف له عصبية واضحة في العرب. وهم ينسبونه الى قبيلة حكم اليمنية فيقولون الحكمي، ولكن ابن منظور صاحب اخباره يقول: "كان ابو نواس دعيا  يخلط في دعوته" اي انه لم يكن ثابت الانتساب الى اصل من الاصول، فهو تارة يدعي النسب اليماني، كقوله في حديث له مع الخمار

فلما ان رأى زقي امامي تكلم غير مذعور اللسان
وقال امن تميم؟ قلت كلا ولكني من الحي اليماني

وتارة يهجو اليمنية، كقوله في هجاء هاشم بن حديج وهو كندي من صميم اليمن

يا هاشم بن حديج لو عددت ابا  مثل القلمس لم يعلق بك الدنس

والقلمس احد رؤساء كنانة وهي من غير اليمن كما هو معروف. وفي هذه القصيدة يعدد كرماء نزار الذين يفتخر بهم، ويستغرب ذلك ممن له عصبية شديدة في اليمن. ونقل ابن منظور"انه كان يتنزر ويدعي للفرزدق، ثم انقلب على النزارية وادعى انه من جاء وحكم فزجره يزيد بن منصور الحميري خال المهدي وقال له انت خوزي (اي من خوزستان) فمالك ولحاء وحكم، فقال انا مولى لهم فتركوه. وقال بعضهم لبعض انه ظريف اللسان غزير العلوم فدعوه. وبهذا الولاء يتعصب لنا ويكايد عنا ويهجو النزارية، فكان كما قالوا. وكان يكنى اولا  بابي فراس فعدل عن ذلك واكتنى بابي نواس تشبها  بكنية ذي نواس، كما كانت اليمن تكنى وقيل غير ذلك. ويذكر في محل آخر انه كان في دعاويه يتماحن ويعبث ويخفي اسمه واسم امه لئلا يهجى، وذلك مشهور عنه. والمذكور من امره انه كان مولى الحكميين يفتخر باليمن ويمدحهم لذلك، ويمدح العجم ويذكرهم لانه منهم.

فما ذكر آنفا  نستدل ان ابا نواس كان من اصل وضيع وانه كان ينتسب الى الحكميين بالولاء. والامر الراهن انه فارسي الضلع ياخذ اخذ الشعوبية في الاستخفاف بالحياة العربية. ويزيدنا ثقة بذلك انه كان يأخذ العلم عن ابي عبيدة ويمدحه ويذم الاصمعي. والى ذلك يذهب ابن رشيق اذ يقول "وكان شعوبي اللسان وما ادرى ما وراء ذلك وان في اللسان وكثرة ولوعه بالشيء لشاهدا  عدلا  لا ترد شهادته. ويروي له ابن عبد ربه ابياتا  ويقول انه قالها على مذهب الشعوبية. ونقل الطبري ان الرشيد حبسه لهجائه قريش. وانك لتلمس في شعره استهزاءه بالعرب كقوله.

عاج الشقي على رسم يسائله وبت اسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من اسد لا در درك قل لي من بنو اسد
ومن تميم ومن قيس ولفهما ليس الاعاريب عند الله من احد

سخرية اليمة تظهر فيها شعوبيته الشعرية. وهو يكثر من هجائه الاعراب والاعرابيات، ولا سيما اذا قابل حالهم بحضارة الفرس الغابرة كقوله.

دع الرسم الذي دثرا يقاسي الريح والمطرا
وكن رجلا  اضاع العلم في اللذات والخطرا
الم تر ما بنى كسرى وسابور لمن غبرا
منازه بين دجلة والفرات اخصها الشجرا
لارض باعد الرحمن عنها الطلح والعشرا
ولم يجعل مصايدها يرابيعا  ولا وحرا
ولكن حور غزلان تراعي بالملا بقرا
فذاك العيش لا سيد بقفرتها ولا وبرا
اذا ما كنت بالاشياء في الاعراب معتبرا
فانك ايما رجل وردت فلم تجد صدرا

ويأخذ من هنا بذم اهل البادية رجالا  ونساءً. وشعره يعج بما يدل على شغفه بتاريخ الفرس واناقة الحضر، ونفوره من الحياة البدوية التي كان يتغنى بها الاقدمون. ومن ذلك ايضا  قوله:

دع المعلى يبكي على طلله وخل عوفا  يقول في جمله
وقل لكلثوم المفضل بالشعر يطيل الاعراض عن حلله
واغد على اللهو غير متند عنه فهذا اوان مقتبله
اما ترى جدة الزمان وما ابدع فيها الربيع من عمله
وافى وجوه الزمان غادية  عند اقتراب الشتاء من اجله
فاشرب على جدة الزمان فقد وافى بطيب الهوى ومعتدله
من قهوة تذكر السرور وتنسي الهم عند اعتراض مشتكله

وقوله

لقد جن من يبكي على رسم منزل ويندب اطلالا  عفون بجرول
فان قيل ما يبكيك قال حمامة تنوح على فرخ باصوات معول
تذكرني حيا  حلالا  بقفرة وآخية سجت بفهر وجندل

ومما يشعر بميله الى الفرس وانحرافه عن مذاهب العرب قوله من قصيدة

دع الاطلال تسفيها الجنوب وتبكي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء ارضا  تحت بها النجيبة والنجيب
ولا تاخذ عن الاعراب لهوا  ولا عيشا  فعيشهم جديب

ثم يصف خشونة عيشهم ويقابل ذلك بصفاء العيش في الحضارة والتمتع بالخمر، الى ان يقول

فهذا العيش لا عيش البوادي وهذا العيش لا اللبن الحليب
فاين البدو من ايوان كسرى واين من الميادين الزروب

كان النضال في عصره مستحرا  بين المحافظين والمجددين - بين الذين يرون التمسك بمقاييس الشعر القديمة، وبين الذين يرومون استبدالها بمقاييس اخرى فوقف الى جانب هؤلاء. على انه لم يفعل ذلك في كل شعره، وسنرى انه تابع المحافظين حينا  وجرى معهم في بعض سبلهم المعهودة.

قلنا ان ابا نواس كان يأخذ في شعره اخذ الشعوبية. وعلى ذكر الشعوبية نقول انها حركة قام بها في صدر الدولة العباسية جماعة من المنتمين الى اصل فارسي، وغايتهم تعظيم الفرس وحضارتهم ومقاومة ما كان قد نشأ في نفوس العرب (ولا سيما ايام الامويين) من روح التفوق والاستنثار بالمجد. وقد قام من الفريقين جماعة يناضلون عن مذهبهم ويرمون خصومهم باليم سهامهم. نذكر من الفريق العربي ابن قتيبة والجاحظ وابن دريد، ومن الفريق الشعوبي ابا عبيدة وسهل بن هرون والبيروني وحمزة الاصفهاني. ولقد كان لهذه الحركة السياسية الاجتماعية تأثير ملموس في الادب، وقد اشرنا الى تأثيرها على ابي نواس.

شخصيته في شعره

ليس لآبي نواس في غير شعره الطبيعي (الغزلي والطردي والخمري) شخصية خاصة. وقد مرت بنا صورته في غزله، وانه هناك يجلو لنا ضعف النفس والنزعات البهيمية السافلة, اما طردياته فاراجيز تصف الكلاب والفهود وطيور الباز، وما الى ذلك من اسباب الصيد والطرد. وهو فيها شاب مرح يتنعم بقوة الشباب وعشرة أهل الرخاء، ويقرن ذلك بجمال في الوصف ورشاقة في التعبير. واليك مثالين من طردياته - قال

لما تجلى اليل وابيض الافق وانجاب ستر اليل عن وجه الطرق
باكرني سهل المحيا والخلق ندب اذا استندبته شهم لبق
يدعو الى الصيد ألا - قلت انطلق باكلب غضف صحيحات الحدق
من اصفر اللون ومبيض يقق كانما اذناه من بعض الخرق

لو يصلق الخد باذن لالتصق

وقال ينعت كلبا  اسمه خلاب لسعته حية فمات

يا بؤس كلبي سيد الكلاب قد كان اغناني عن العقاب
وكان قد اجزى عن القصاب وعن شرائي جلب الجلاب
يا عين جودي لي على "خلاب" من للظباء العفر والذئاب؟
خرجت والدنيا الى تباب به وكان عدتي ونابي
اصفر قد خرج بالملاب كأنما يدهن بالزرياب
فبينما نحن به في الغاب اذ برزت كالحة الانياب
رقشاء جرداء من الثياب لم ترع لي حقا  ولم تحابي
فخر وانصاعت بلا ارتياب كأنما تنفح من جراب
لا أبت ان أبت بلا عقاب حتى تذوقي اوجع العذاب

وكل طردياته على هذا النمط، يصف فيها ما كان يتسلى به أهل الرخاء من صيد الغزلان وسواها. وهي صور رشيقة للبيئة التي كان يعيش بها الشاعر

قلنا انه في غزل ابي نواس تتجلى لنا "بهيميته"، وفي طردياته مرحه وترفه. على ان في شخصيته شيئا  اعمق من ذلك ننفذ اليه من خلال اقداحه ومجالس سكره. ففي شعره الخمري يقرن البهيمية والمرح بتشاؤم قاتم يذهب باناقة الحياة ويجردها من كل قيمة وجمال. وانك اذا دققت في تحليل شعره لتتعرف به الى نفسيته الحقيقية تجده - على حبه للحياة - مستخفا  بها. فهو من طلاب اللذة السانحة ينصرف الى الملاهي ليخدر اعصابه فلا يرى الام الحياة ومتاعبها قال:

غدوت الى اللذات منهتك الستر وافضت بنات السر مني الى الجهر
وهان علي الناس فيما اريده بما جئت فاستغنيت عن طلب العذر
رايت الليالي مرصدات لمدتي فبادرت لذاتي مبادرة الدهر

وقد نقل المرزباني القصة التالية عن الجماز قال

كنت عند ابي نواس. قال (ابي نواس) اسمع ابياتا حضرت، قلت هات، فانشدني

وملحة باللوم تحسب انني بالجهل اوثر صحبة الشطار
بكرت علي تلومني فاجبتها اني لأعرف مذهب الابرار
فدعي الملام فقد اطعت غوايتي وصرفت معرفتي الى الانكار
ورأيت اتياني اللذاذة والهوى وتعجلا  من طيب هذي الدار
احرى واحزم من تنظر آجل علمي به رجم من الاخبار
ما جاءنا أحد يخبر انه في جنة من مآت او في نار

فلما بلغ الى هذا البيت قلت له: يا هذا ان لك اعداء، وهم ينتظرون مثل هذه السقطات: فاتق الله في نفسك، ودع الافراط في المجون، واكتمها، قال: لا والله لا اكتمها خوفا ، وان قضي شيء كان. فنمي الخبر الى الفضل بن الربيع، ثم الى الرشيد، فما كان بعد هذا الا اسبوع حتى حبس

ومن قوله:

أعاذل اقصري عن بعض لومي فراجي توبتي عندي يخيب
تعيرني الذنوب واي حر من الفتيان ليس له ذنوب
غريت بتوبتي ولججت فيها فشقي الآن جيبك لا اتوب

هذي هي روح ابي نواس يرى الدهر واقفا  له بالمرصاد - يرى الموت نهاية كل شيء فيقول لنفسه وما نفع الحياة وماذا نجد فيها غير الشقاء؟ ويشعر بقوته وشبابه فيثب الى غمار المسرات الزائلة ويخوض فيها وهو يقول

طربت الى الصنج والمزهر وشرب المدامة بالاكبر
والقيت عني ثياب الهدى وخضت بحورا  من المنكر
واقبلت اسحب ذيل المجون وامشي الى القصف في مئزر

ولا يقف عند الاستخفاف بقيمة الحياة بل يقرنه باستخفاف بنواهي الادب والشريعة كقوله

ولاح لحاني كي يجيء ببدعة وتلك لعمري خطة لا اطيقها
لحاني كي لا اشرب الخمر انها تورث وزرا  فادحا  من يذوقها
فما زادني اللاحون الا لجاجة  عليها لاني ما حييت رفيقها
أارفضها والله لم يرفض اسمها وهذا امير المؤمنين صديقها
فنحن وان لم نسكن الخلد عاجلا  فما خلدنا في الدهر الا رحيقها

وقوله:

بكيت وما ابكي على دمن قفر وما بي من عشق فابكي على الهجر
ولكن حديثا  جاءنا من نبينا فذاك الذي اجرى دموعي على النحر
بتحريم شرب الخمر والنهي جاءنا فلما نهى عنها بكيت على الخمر
فاشربها صرفا  واعلم انني اعزر فيها بالثمانين في ظهري

ولم يقلل هذا الاستخفاف فيه تقدمه نحو المشيب، فمثله لا يقف عن اعتبار او نظر في العواقب بل عن ضعف او كلال. اسمعه يذكر ايام الشباب، وكأنك تشعر باسفه ان الدهر لم يبق له غير القوة على معاقرة الخمر.

كان الشباب مطية الجهل ومحسن الضحكات والهزل
كان الجمال اذا ارتديت به ومشيت اخطر صيت النعل
كان المشفع في مآربه عند الفتاة ومدرك التبل
والباعثي والناس قد رقدوا حتى ابيت خليفة البعل
والامري حتى اذا عزمت نفسي اعان يدي بالفعل
فالآن صرت الى مقاربة وحططت عن ظهر الصبا رحلي
والراح اهواها وان رزأت بلغ المعاش وقللت فضلي

الى ان يقول

فاعذر اخاك فانه رجل مرنت مسامعه على العذل

ولكن هل ادرك الشاعر ما يتوخاه من الدنيا؟ نحن هنا امام مسالة عقلية لا يسعنا الاغضاء عنها. والجواب عليها يتناول احد امرين

1- ان الحياة اثمن ما في ايدينا، وان سعادتها قائمة على تفهم قيمتها الحقيقية والسعي لادراكها.
2- او ان الحياة مهزلة لا قيمة لها، وما على العاقل الا ان يتناساها بالانغماس في الملذات الدنيوية.

ولسنا الان في مقام يمكننا من تحليل هاتين النظريتين تحليلا  فلسفيا  وافياً، على انه لا بد من القول ان الاولى منهما نظرة جدية الى الحياة - نظرة الى جمالها الحقيقي وفرصها الثمينة، وان الثانية نظرة استخفاف اليها وانصراف الى سخائفها.

في الاولى يحاول الانسان ان يسعى نحو مرمى عال قد لا يحصل عليه، ولكن السعادة كل السعادة في هذا السعي المتواصل، وبعبارة اخرى في شعور الانسان بالتقدم نحو المثل العليا. وفي الثانية يتملك الانسان خوار العزيمة فيقف فشلا  ويحاول ان يستر فشله بمخدرات الحياة الباطلة. ومن افضل الامثلة على ذلك ما نراه في رباعيات عمر الخيام من ميل الشاعر المفكر الى نسيان الوجوه وآلامه بالخمر. ولعل الخيام تأثر بشعر ابي نواس ومذهبه، وجرفه تيار التشاؤم الى هذه الحالة السلبية. وانك لتجالس ابا نواس في مجالس لهوه فتسمع قهقهته ونكاتة، ويطربك ظرفه وجمال حديثه، وتعجبك خفة روحه بين اقداحه وندمانه، ولكنك تستشف من وراء ذلك مرارة وتشاؤما ، ربما كانا سبب عبثه بحقائق الحياة واسترساله في اسباب الملاهي. ولا يظهر ذلك في ابان قوته وريعان شبابه ظهوره بعد ان اضعفه الدهر وحط عن ظهر الصبا رحله كما قال. ذلك الاستخفاف الذي عرف به وهو في نشاط العمر، تحول ايام الضعف الى اسف مؤلم، لا عن تقوى ولكن عن شعور بالفشل. كان يشرب الخمر ويقول غير مبال:

الراح شيء عجيب انت شاربه فاشرب وان حملتك الراح اوزارا
يا من يلوم على حمراء صافية صر في الجنان ودعني اسكن النارا

ثم خمدت فيه قوة الشباب وفارقته ايام الهناء والرخاء. فرأى ماضيا  منهتكا   وفرصا  ضائعة ونفسا  شائبة بالمعاصي فصاح آسفا 

دب في الفناء سفلا  وعلوا واراني اموت عضوا  فعضوا
ليس من ساعة مضت لي الا نقصتنى بمرها بي جزوا
ذهبت جدتي بطاعة نفسي وتذكرت طاعة الله نضوا
لهف نفسي على ليال وايام تمليتهن لعبا  ولهوا
قد اسأنا كل الاساءة فاللهم صفحا  عنا وغفرا  وعفوا
قابل هذه الابيات بما ذكرناه سالفا  وقابلها بقوله

ردا علي الكاس انكما لا تدريان الكاس ما تجدي
خوفتماني الله ربكما وكخيفتيه رجاؤه عندي
لا تعذلا في الراح انكما في غفلة عن كنه ما تسدي
ان كنتما لاتشربان معي خوف العقاب شربتها وحدي

وقوله من قصيدة

ألم ترني ابحت الراح عرضى وعض مراشف الظبي المليح
واني عالم ان سوف تنأى مسافة بين جثماني وروحي

وانظر كيف تحول اشره الى ضعف واستخفافه الى شعور بالفشل. وقد ذهب بعضهم انه كان يقترف ما يقترف اتكالا  على الله، ويستشهدون على ذلك بقوله

لا تحظر العفو ان كنت امرءا  حرجا  فان حظر كه بالدين ازراء

وقوله

حتى اذا الشيب فاجاني بطلعته اقبح بطلعة شيب غير مبخوت
عند الغواني اذا ابصرن طلعته اذن بالصرم من ود وتشتيت
فقد ندمت على ما كان من خطل ومن اضاعة مكتوب المواقيت
ادعوك سبحانك اللهم فاعف كما عفوت يا ذا العلى عن صاحب الحوت

او قوله من قصيدة

بادر شبابك قبل الشيب والعار وحثحث الكأس من بكر لابكار

الى قوله

فذاك قبل نزول الشيب عادتنا لكننا نرتجي غفران غفار

الى آخر ما نراه من كلامه الزهدي. وليس ذلك بادل على التوبة وحب التزهد والتجدد مما هو على الشعور بالضعف والخور والخوف.

جاء في الاغاني من محمد بن ابراهيم الصوفي قال:

دخلنا على ابي نواس نعوده في علته التي مات فيها، فقال له علي بن صالح الهاشمي: يا ابا علي انت في اول يوم من ايام الآخرة وآخر يوم من ايام الدنيا، وبينك وبين الله هنات، فتب الى الله عز وجل. فبكى ساعة ثم قال ساندوني ساندوني. ثم قال اأخوق بالله عز وجل، وقد حدثني حماد بن مسلم عن زيد الرقاشي عن انس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلعم) لكل نبي شفاعة، واني اختبأت شفاعتي لاهل الكبائر من امتي يوم القيامة. افتراني لا أكون منهم؟
هذا الشعور بفشل الاباطيل هو الذي كان يدفع شاعرنا في اواخر ايامه الى الندم والتحسر. وقد صدق الجرجاني اذ قال "فلو كانت الديانة عارا  على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا  لتأخر الشاعر، لوجب ان يمحى اسم ابي نواس من الدواوين ويحذف ذكره اذا عدت الطبقات.

على انه لا يجوز ان نحصر الحكم على فن الشاعر في منطقة الشرائع الروحية والاجتماعية، التي اتفق عليها المصلحون والمهذبون. فالشعر لا يتقيد بذلك، وما جماله قائما  فقط على ما فيه من عبر وارشاد، بل على ما يتجلى فيه من شعور وحياة. الادب فن تتجلى فيه خوالج النفس، وعلى هذا التجلي تتوقف منزلة الشاعر الفنية.

نعم ان ابا نواس لم يزهد لتجدد في طبيعته، بل مات كما عاش. وقد ترك لنا شعرا  يحفظ لا لسمو عواطفه، ولكن لخفة روحه، وجمال صنعته، ولتمثيله الخلاب لحياته وحياة بيئته.