poets-writers

Youhana El Maamadan Al Hasrouni

poet and writer

 مقتطف من كتاب المطران يوحنا المعمدان الحصروني الماروني الراهب الدومينيكاني لأنطوان سعيد خاطر

لقد شهد أولو الاختصاص على ما حققه الأوائل من تلامذة المدرسة المارونية الرومانية، وثمنوا خدمات علمية قدموها أسهمت في فتح أبواب الاستشراق، وسهلت ولوج عالمه والغوص بحثا  في تراثه، ما ساعد على التقارب بين شعوب الغرب والشرق فكريا  لتحقيق التعارف والتفاهم في غير مجال، فكانوا روادا  مهدوا السبيل للنهضة العامة، تلك التي هبت رياحها منعشة لاحقا  في هذه الربوع الشرقية.

واذا كان الصهيوني ورفيقه يوحنا الحصروني، وابراهيم الحاقلاني، والسماعنة، وميخائيل الغزيري وغيرهم كثر عرفوا ونالوا حظا  عادلا  من الشهرة والتقدير، في عصرهم وفي ما بعد، فان طليعة هؤلاء الرواد، تاريخيا ، يوحنا المعمدان الحصروني الماروني الدومينيكاني، لم يحظ بتلك النعمة في عصره مثلهم، ولم يطله رذاذها لاحقا .

الواقع اللافت ان هذا الحصروني كان الوحيد من تلامذة المدرسة المارونية في رومية الذي دخل رهبانية الأخوة الواعظين (الدومينيكان) باكرا  (1590). لكن اسمه، مذ عاد الى لبنان ورسم مطرانا  سنة 1603، غاب عن سجلات هذه الرهبانية، فخابت المساعي المتكررة للحصول على معلومات عنه فيها، ما خلا ما جاء في محفوظات ديرهم في فلورنسا من اشارات ثمينة ولو مقتضبة. حتى ان المعلومات التي وردت لدى مؤرخي الكتبة الدومينيكان، لا تعوزها الدقة فحسب، بل ترى غير مطابقة للواقع احيانا !

والحق، ان ما عرف وشهر تعريفا  له، وتتبعا  لسيرته، وبحثا  في آثاره زهيد جدا  حتى يكاد يقتصر على بعض عناوين لا تشفي غليلا . فاذا استثني مؤلفه اللاهوتي مقطوف الاسرار النصرانية الذي توافرت عنه نسخ عدة من فترات مختلفة، وهو عمله الأهم ويشكل المحور الاساسي لهذه الدراسة، فان ما عداه من آثاره لم تتجاوز المعلومات عنه الاشارة العابرة الى عنوانه، او التلميح بخفر الى مضمونه، تلميح كثيرا  ما تفوته الدقة ما يحرم المعلومة ضمانة الركون اليها. بل ان تناقل المعلومة تناقلا  آليا  بدون تدقيق أو تمحيص أحدث بلبلة حينا  في معرفة جوهر الموضوع، وقصر في كل حين عن اشباع الرغبة العلمية في بلوغه وتقدير العمل الذي حققه المؤلف. هذا حال القول انه ترجم قسما  من الخلاصة اللاهوتية لتوما الاكويني، وانه وضع مؤلفا  في مناقضات القرآن، او انه ترجم قوانين المجامع، او كانت له ملاحظات على كتاب القداس الماروني الذي طبع في رومية (1592- 1594). انها اشارات عامة تبقي المصنف في دائرة الضبابية. فالحصروني الرائد لم ينعم في الواقع بالتفاتة علمية دقيقة، ولم تحظ أعماله بدراسة تبين ما له وما قد يكون عليه في اطار الأحوال والظروف التي أحاطت بنشاطه ونتاجه، ولا باشارة الى دور قام به، أو الى مكانة تسند اليه في الحركة الثقافية الدينية المارونية التي انطلقت مع المدرسة المارونية الرومانية.

حتى مؤلفه الأشهر، مقطوف الاسرار، لم تطله نعمة الصدور مطبوعا ، في حياته أو بعد وفاته، رغم حكم المراقبين الكنسيين بأنه جدير بأن يطبع، ورغم تخصيصه، هو، قسما  من ماله لهذه الغاية. انه أمر يثير الانتباه والفضول، يضاف اليهما التعجب والأسف.

ألا يثير العجب أيضا  أن الدويهي، على قرب عهده من الحصروني الحوشبي أي قرب، قصر المعلومات عن آثاره على القول انه "اختصر كتاب مار توما الملفان في اللغة العربية"، وأغفل ذكر أي عمل آخر له، بينما نجده يعرض في تاريخ الازمنة نفسه لائحة  طويلة  جدا  قد تستنفد عناوين أعمال ابن القلاعي (1516)؟! لكن العجب يزول، ربما، اذا اعتبرنا ان الدويهي اهتم بعمل الحصروني الأشهر، وقد وضعه صاحبه في الشرق، وباللغة العربية، ولم يعر أعماله الأخرى التي وضعها في الغرب وباللاتينية، - ما خلا الرتب الكهنوتية، الاهتمام نفسه، والتي يفترض ان يكون الدويهي عرفها. ثم ان الاهدني خلف ابن القلاعي على كرسي أبرشية قبرس، على بعد الفترة الزمنية بينهما؛ وسلفه هذا وضع مؤلفاته بالعربية، وفي الشرق، وكان همه المباشر الدفاع عن قومه وتنويرهم؛ ومثله الدويهي. اما الحصروني فسعى، اضافة  الى تثقيف جماعته، الى تواصل معرفي  بين قومه والغرب، وتجاوز ذلك الى تسهيل السبل لتحقيق تلك الغاية عبر نشاط المرسلين وعملهم في حقل الكنيسة الأوسع.

"ندرة من الباحثين قرأوا ابن القلاعي الذي ما زالت مؤلفاته مخطوطة، فاكتفوا بترداد ما قاله الدويهي عنه في رد التهم أو في تاريخ الأزمنة." ان هذا الحكم يصح أيضا  بشقيه في يوحنا المعمدان الحصروني. فاضافة الى أن مؤلفاته ما زالت مخطوطة، فان الدويهي نفسه ما خصه، كمؤلف، الا بما ورد اعلاه لدى ايراده خبر وفاته.

وعليه، فقد كان التوجه مصوبا  بداية  نحو دراسة الحصروني في عمله اللاهوتي مقطوف الاسرار النصرانية، وهو عمل ان تجاوزت المعلومات بشأنه عنوانه الكبير فالى اشارات برقية الى بعض مواضيعه ما لا يزيد عن تعريفه كعنوان في لائحة مراجع، رغم اهميته من حيث مضمونه ومصدره، ومنهجه، والغاية التي قصد اليها صاحبه منه، في البيئة والظروف التي وضعه فيها، وتناسخه. على أنني، اثر استكشاف أعمال الحصروني التي أمكن الحصول عليها، بعد جهد أي جهد، رأيت من الواجب القاء ضوء جامع على مجمل نتاجه لسببين اثنين على الأخص يبرران هذا التوجه: أولهما ان الحصروني، كما وصفه الحاقلاني، "علامة"، الا انه لم يحظ بما يستحق من التفات الباحثين واهتمامهم باعماله وبدوره؛ ثم انه طليعة رواد بارزين من تلامذة المدرسة المارونية الرومانية في عهد نهضة جديد بعد فترة انقطاع منذ ابن القلاعي (1516)، ويشكل، بالتالي، الحلقة الاولى لسلسلة محركي النهضة المارونية الدينية – الثقافية؛ وهو مثابر رسولي – رسالي قدر كفاءته وطاقته في هذا المجال مجمع نشر الايمان نفسه حين طلب اليه ترجمة الخلاصة ضد الامم التوماوية لما فيها من فائدة للمرسلين في نشاطهم.

ولهذا الغرض، تم تعقب آثار الحصروني، ما له وما يتصل به، انطلاقا  من اشارات أولية اساسية توجيهية، خصوصا  لدى سباط في كتابيه، مكتبة المخطوطات والفهرس؛ ولدى غراف في أثره المميز: تاريخ الادب العربي المسيحي، ولدى شيخو في كتابيه: المخطوطات العربية لكتبة النصرانية والطائفة المارونية والرهبانية اليسوعية بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، ولدى خليفه – البيسري في فهرس مخطوطات بكركي، ثم لدى البيسري وحده في الموضوع نفسه؛ ولدى الجميل في المبادلات الثقافية بين الموارنة واوروبا. وما كان هذا التعقب الا منطلقا  استدلاليا  على المنابع عقبته رحلة طويلة للتنقيب عن الأصول شملت لبنان وسوريا وايطاليا واسبانيا، وفي كلً من هذه البلدان ترك الحصروني، أو بقي من أعماله أثر أو نسخة من أثر، أو ما هو جدير بأن يعرف. فتم جمعها صورا  أصيلة، ودرسها بتدقيق، وعرضها مضمونا  ومنهجا ، وتقويمها بموضوعية.

وقد تعاور النفس في هذه الرحلة الطويلة، في محطة منها تلو محطة، مشاعر وانفعالات تراوحت بين العجب والدهشة، استغرابا  حينا ، وأسفا  حينا  آخر، أو الغبطة، في مرحلة ولحظة لتخفف قليلا  – أجل قليلا  – من تلك الانفعالات السلبية.

اما العجب والدهشة والاستغراب، فلأن مخطوطات عدة، هي نسخ عن مؤلفات الحصروني المتنوعة كانت لدى بعض عائلات حلبية، كما يفيد سباط في الفهرس، انتهت الى مصير مجهول مع اندثار العائلات التي كانت تمتلكها، استنادا  الى مراجعات عدة لدى اناس عارفين وذوي ثقة في حلب نفسها، فأحدث ذلك في النفس صدمة وخيبة.

ألا يثير الدهشة والأسف ان تتوافر عن أثر الحصروني الأهم، مقطوف الاسرار النصرانية الذي وضعه بالعربية، ترجمة لاتينية كاملة في المكتبة الفاتيكانية – المخطوط البورجياني اللاتيني 164 (ب ل 164) – صنعها هو بنفسه، وصدرها بختمه، ومهد لها بكلام عن الدافع الى ترجمته، وأثبت عليها توقيعه، ووضع عليها تصحيحات، وان يضم هذا المجلد نفسه ترجمةً لاتينية لكتابه الآخر في اختلاف القرآن أو تناقضات القرآن، وقسم مهم من هذه الترجمة بخطه، وأن لا ينعم الأصل العربي بحفظ ولا يعرف؟! وأكثر من ذلك: ان هذا الأصل لم يحظ باشارة اليه في الفهارس والجداول المعروفة أو في الأبحاث الخاصة بمخطوطات معينة. لقد أعيت الباحث الحيلة بشأنه. لكن، بعد مراجعات عدة وتدقيق في المكتبة الفاتيكانية، يغلب الظن أن هذا الأصل يرقد في ركام مخطوطات لم تحظ بعد بمن يزيل عنها غبار الزمان، وغشاوة النسيان أو الاهمال.

واما الغبطة فكانت باكتشاف دور خاص  قام به الحصروني في اسبانيا ذي أهمية بظروفه، وملابساته، وأبعاده، أظهرته وثائق ثمينة بخطه محفوظة في "دير الجبل المقدس" (Sacromonte) في غرناطة، تزيد من الاضاءة على كفاءاته، واتساع حقل نشاطه؛ دور تثبته شواهد من وثائق بخطه في موضوع "الكتب الرصاصية".

والى هذه الوثائق الحصرونية التي توزعت هنا وهناك، وأتيح جمعها بعناء، وتستنفد، حتى اشعار آخر قليل احتماله، ما عرف عن الحصروني وشهر، وما فات الباحثين الاطلاع على وجوده، أو رصد بعده ودلالته، لا بد من ابراز مخطوط الشرفة 8/8 وأهميته، وفيه من الحصروني، منذ انطلاقته، نفس المعلم الموجه، والراعي المسؤول. ورغم ان الخورفسقفوس اسحق ارملة وصف المخطوط المذكور في الطرفة، بأنه "نفيس"، فتثمينه اياه لم يتجاوز هذا الوصف، اذ لم يتكرم باشارة، ولو بسيطة، الى ما يبرز نفاسته.

ففي ضوء ما تقدم، ونظرا  الى الحقل الواسع الذي نشط فيه الحصروني تأليفا  ، وترجمة ، وتعليقا ، وتعليما ، وجدلا ، والى المعطيات والوثائق التي توافرت، واعتبارا  بأنه مجهول كبير في التاريخ الماروني، لزم ان تأتي هذه الدراسة شاملة  ما امكن، اضاءة  على سيرته، وتعريفا  باعماله، وتبيانا  لمحور أساسيً يمثله، هو أنه، بين تلامذة المدرسة المارونية في رومية، كان طليعيا  في التأليف اللاهوتي المنهجي المتكامل الأركان: عقيديا ، وأدبيا  ، ومنهجيا ، وتوجيها  راعويا  عمليا  بما يتوافق وضرورة التثقف والتثقيف وممارسة الرعاية.

وعليه، فان هذه الدراسة تتوزع على أقسام ثلاثة:

القسم الاول: يتناول سيرة الحصروني ومسيرته في ثلاثة فصول:

الفصل الاول: يعرض حالة البيئة التي ولد فيها الحصروني ونشأ قبل ذهابه للدراسة في رومية.

الفصل الثاني: يتناول سيرة الحصروني منذ ذهابه الى رومية حتى عودته الى لبنان ورسامته اسقفا (1603).

الفصل الثالث: يعرض تنقلات الحصروني ونشاطاته من هذا التاريخ حتى وفاته (1632).

القسم الثاني: يتناول البحث فيه آثار الحصروني في ثلاثة فصول:

الفصل الاول: تلقى فيه نظرة عامة على آثار الحصروني ومنهجية تناولها، وتنوع هذه الآثار، وأصولها، ونسخها، واللغات التي اعتمدها المؤلف.

الفصل الثاني: يستعرض فيه ما قدمه الباحثون في فهارسهم، وما تضمه دور الكتب والمحفوظات في خزائنها، وتعرضه في جداولها من اعمال الحصروني.

الفصل الثالث: يتناول تعريف ما يمكن اعتباره اعمال الحصروني الصغرى، وهي أعمال متنوعة المواضيع، متفاوتة الأهمية، وضعها في مناسبات مختلفة، فيتم وصفها، وعرض ملابساتها، ومضامينها. منها ما هو ملاحظات واقتراحات لاصلاح ما، او ترجمات وتقويمات اثارت جدلا  وكان الحصروني فيها طرفا  مجادلا ، (كتاب القداس الماروني، الكتب الرصاصية)؛ ومنها ما كان عملا  توجيهيا ، تدريبيا  على ممارسة خدمة راعوية ورعوية، (الرتب الكهنوتية)؛ أو تعريفا  بمصادر تنظيمية كنسية جامعة، كترجمة قوانين المجامع من العربية الى اللاتينية، وهي ترجمة بقيت مطوية  في مخابىء جهل، أو تجاهل، أو اهمال، بينما ترجمات اخرى تحققت بعدها، عرفت، وحظيت بنعمة النشر.

القسم الثالث: ولأن يوحنا المعمدان الحصروني ابن المدرسة التوماوية دراسة ، وانتماء  رهبانيا ، وفكرا  لاهوتيا ، قبل أي شيء آخر، ومدرك دوره في اطار بيئته الخاصة، وفي حقل الكنيسة وميدان رسالتها عامة ، فيخصص هذا القسم للكلام على "الحصروني اللاهوتي وأثره".

واذا كان جديرا  بالاهتمام ويسترعي التقدير ان يبكر الحصروني، بين قومه ليضع لهم كتابا  في اللاهوت يسد حاجتهم الى مرجع جامع، منهجيً، سهل، فكان مؤلفه مقطوف الاسرار النصرانية، فان ما يثير الدهشة والتقدير ان يكون، هو أيضا ، في طليعة المؤلفين معاصريه من الغربيين لوضع كتاب في اللاهوت الجدلي مع المسلمين: في اختلاف القرآن، العنوان الأصلي الذي شهر أيضا  بعنوان آخر مترجم على غير دقة: مناقضات القرآن.

لقد ترجم، هو نفسه، كتابيه هذين من العربية الى اللاتينية أملا  بالحصول على رعاية البابا أربانس الثامن، ومجمع نشر الايمان، لنشرهما بالطبع تحقيقا   لغايات وأهداف تثقيفية – تعليمية، ورسولية. لكن الأمل خاب ولم يتحقق المبتغى.

لقد نعم الأول منهما بتداول بالنسخ في الشرق، ولو محدودا ، للشعور بالحاجة الى مثله، ولكونه عمليا . أما الثاني، فقد ظل قابعا  في زوايا مجهولة وما زال، ولا يعرف عنه الا الترجمة اللاتينية التي نعرضها هنا. فلهذين العملين وللحصروني اللاهوتي استنادا  اليهما، يخصص القسم الثالث الذي يرتكز على فصول ثلاثة:

الفصل الاول: يتناول الفكر اللاهوتي الجدلي لدى الحصروني في مقالته في اختلاف القرآن، تعريفاً
لهذا الأثر في مجمل ملابساته، وتلخيصا  لمضمونه مرفقا  بتعليقات مناسبة، وتبيانا  لمنهجه، وتقويما  لمكانته في هذا النوع الادبي في عصره.

الفصل الثاني: يدور حول مقطوف الاسرار النصرانية. تعرض فيه بعض النسخ المخطوطة منه التي لم يأت على ذكرها أو وصفها وصفا  كافيا  فهرس أو جدول، ويركز، بوجه خاص على مخطوط سباط 757 (س 757) كأساس للبحث.

الفصل الثالث هو خلاصة في الهيات الحصروني في الاتجاهين: التعليمي والجدلي. ويركز بوجه خاص على المضمون اللاهوتي في مقطوف الاسرار النصرانية، بمصدره، ومنهجه التعليمي بما يتلاءم وهدف المؤلف من وضعه. وما هذا المصدر سوى مار توما الاكويني الذي "من قوله وعلمه قطفنا كتابنا هذا"، كما يقول الحصروني، مع اختلاف في الشكل مراعاة  لمن يوجه اليهم خطابه في بيئة بعيدة زمنيا  وفكريا  عن النهج المدرسي التعليمي، ما فرض اعتماد اسلوب مختلف ومراجع حديثة لم تعرف لدى مار توما، كمجمع فلورنسا (1438- 1447)، والمجمع التريدنتيني (1545-1563)، على سبيل المثال.

لما كان القصد الأول من هذه المقاربة التاريخية – اللاهوتية تعريف الحصروني كمؤلف لاهوتي وليس تحقيق طبعة نقدية لعمله، وهو ما يفرض خطة  اخرى، كان لا بد من اعتماد نسخة – مرجع. واذا عز على الباحث توفر المخطوط الاصلي العربي ل مقطوف الاسرار، فانه يجد تعزية  كافية  في النسخة الأقرب الى الأصل زمنيا ، ومضمونا ، ومنهجا . انه مخطوط سباط 757 (س 757) الذي سيجري الحديث مفصلا  عليه لاحقا ، وقد تم تحقيقه في حياة المؤلف، وهو الأكمل في مضمونه، كما سيرى.

ولا بد من الاشارة الى ان الحصروني وضع ترجمة لاتينية لكتابه مقطوف الاسرار النصرانية (ب ل 164) صنعها بنفسه، وأشرف على استكتابها، ودقق فيها، وهي نسخة يتيمة. وقد كان أولى بها، بل أمرا  واجبا ، ان تعتمد كمرجع أول ان لم نقل وحيدا ، وكافيا . الا ان ذلك يخرج عن نطاق هذه الدراسة بفعل اللغة (اللاتينية). ثم اننا على يقين من ان مخطوط سباط 757 يفي تماما  بغرض الأمانة للأصل، لأنه، كما سيرى، متوافق تماما  وترجمة المؤلف اللاتينية لكتابه. ان الأمانة لقواعد البحث العلمي الجامع وأصوله كانت تفرض الاطلاع على النص ودرسه. وهذا ما تم فعله. واعتبرنا واجبا  ان نوفر للباحثين مرجعا   وافيا  عن أصل عزيز، بكل ما في كلمة عزيز من معنى كريم ونادر، فكانت تلك الخلاصة عن أصل هو من صلب تراثنا.

وتتويجا  لعمل متكامل، بدا لنا أن نشفع هذا البحث – الدراسة بملحقين رأينا فيهما فائدة حقيقية لباحثين لاحقين أو لفضوليي معرفة يكون منطلقها الأصول، والصعب منها والغريب بنوع خاص.

الملحق الاول: يشمل الفهرس الكامل ل مقطوف الاسرار النصرانية في النص العربي (س 757)، مقابلا  به فهرس الترجمة اللاتينية للعمل نفسه التي حققها الحصروني وأشرف على ضبطها، بما يظهر الفوارق الظرفية بينهما مضمونا  وترتيبا  (ب ل 164).

الملحق الثاني: يضم مجموعة من الوثائق النموذجية أو الشواهد من الأصول التي كانت منطلقا  للبحث ومرتكزا  له، يكشف أمر بعضها ويعرض لأول مرة، ويقدم اللاتيني منها مترجما  الى العربية تسهيلا  لمحبي الاطلاع وتعميما  للفائدة.

هذا المدخل، يبرز عناوين تبين أهمية الحصروني ودوره، كمؤلف لاهوتي ماروني رائد على الأخص، بعد فترة انقطاع طويلة منذ ابن القلاعي، ويكشف عن أنه يستحق ان يعرف كأقران له من تلامذة المدرسة المارونية الذين عاصروه أو جاؤوا بعده، وأن يشهر بما ترك من آثار. ولئن لم يكن فكره مبتكرا ، ولا هو ادعى ذلك، بل صرح بأنه "مقطوف من تعليم مار توما"، فلا أقل من ان يعرف وينزل في مكانة هو أهل لها في تاريخ النهضة المارونية الدينية والثقافية التي نشأت مع الافواج المتتالية من هؤلاء التلامذة. فلئن شهر غير واحد من هؤلاء في الشرق، وبحق، مثل مخايل الحصروني، والدويهي، والباني، والتولاوي...، فقد جاؤوا بعده. أما هو، يوحنا المعمدان الحصروني، فيبقى له، أقل ما يبقى، فضل الطليعة وفاتح الطريق.

وبوحي من عمله وأعمال آخرين من هؤلاء التلامذة، تبقى صالحة  وجديرة  بالاعتبار والتنفيذ الدعوة – الاقتراح الذي رفع الى المجمع البطريركي الماروني لانشاء مكتبة مارونية مركزية برعاية البطريركية تظلل مركز بحوث تجمع فيه آثار هؤلاء الرواد ومن جاء بعدهم، وتصان، ويشجع الدارسون والاختصاصيون على انشاء أبحاث حول تلك الآثار ودور أصحابها في تاريخ قومهم.

ولا بد من الافصاح عن شكر من القلب لكل من كان له سهم أو قسط، حثا  وتشجيعا  للانطلاق في هذا العمل، وعناء الاندفاع والاستمرار فيه، وهم كثر في لبنان، وحلب، وروما، واسبانيا، وفي طليعتهم زوجتي وأولادي، والخوري ناصر الجميل أحد حملة الراية البارزين في االتنقيب عن التراث الماروني، الذي رافق تكوين هذا البحث وطاب له ان يقدمه.

حسب هذه الدراسة، بما لها وبما قد يؤخذ عليها، ان تكون اسهاما  متواضعا  في تعريف واحد من أوائل هؤلاء الرواد الموارنة، بل طليعتهم. ورجائي ان تكون حافزا  يدفع آخرين ليكشفوا علميا  عن آثار آخرين منهم، ويسلطوا ضوءا  على دورهم النهضوي، فيقدروا ويحلوا في المكانة التي هم أهل لها، اقرارا  بجميل الأوائل، وتعبيرا  عن الوفاء لهم.

القسم الاول يوحنا المعمدان الحصروني: سيرته ومسيرته

….

الفصل الثاني الحصروني: اسمه ونسبه – الدراسة في رومية – ترهبه

1- بناء السيرة

ان بناء سيرة متكاملة ل"يوحنا المعمدان الحصروني، الراهب الدومينيكاني، مطران جبل لبنان"، كما عرف نفسه في غير وثيقة، لم يكن موضوعا  ذا شأن كبير لدى الباحثين في طلائع النهضة المارونية في القرن السابع عشر، ولم ينعم باهتمام كاف يستحقه. فمؤلفاته لم تحظ بنعمة المطبعة نشرا  وانتشارا ؛ وهو لم يترك لنا سيرة، ولو جزئية، تشكل منطلقا  لدراسة موسعة كاملة.وليس في ذلك عجب. ولم يترك حتى فصولا  من سيرة تتناسب والنشاطات الوافرة التي قام بها، ولو انه خلف مشاهد أو لوحات صغيرة متفرقة، هي لمحات من حياة يصح فيها القول انها كانت حافلة بنشاطات مختلفة، متنوعة في اماكن، وبيئات، وبلدان عدة. واذا اضيف الى هذا الواقع ان غير واحد حمل الاسم الاول نفسه، يوحنا، وانه كان معاصرا  له، ونشط في الحقل عينه او في ما قاربه، فلا نعجب من ان تكون حصلت على الدارسين، وقد حصلت، بعض التباسات احيانا  في نسبة امر لهذا ال"يوحنا" أو ذاك، ولو في تفاصيل لا تغير من جوهر الاشياء. على انه، في هذا المجال، تتوافر، لدى التدقيق، علامات بارزة من شأنها ان تضيء بوضوح شخصية مترجمنا ليعطى كل ذي حق حقه، وتتحقق الموضوعية والدقة في البحث. ومن أبرز ما يجب استحضاره من علامات فارقة في هذا الموضوع التزام مترجمنا، منذ عهده الاول، صفة  مميزة يلحقها باسمه: "المعمدان". وهناك التزامه لاحقا  تعريف نفسه خصوصاً بالراهب الدومينيكاني، وقد شهر بذلك. وهناك، ثالثا ، اضافته لقبا  الى اسمه، احيانا ، خصوصا  برسم الاوساط الغربية، اضافة  تعريفية: "مطران جبل لبنان". اما صفة انتمائه: "الماروني"، فلم تكن صفة نوعية فريدة ذلك لأن آخرين كثيرين اعتمدوها.

فمن شأن هذه العلامات الفارقة طبع هوية مترجمنا بسمات تزيل أي التباس، ولا تبقي، بالتالي، مجالا  للخلط بينه وبين أي يوحنا حصروني آخر.

وما كان لمثل يوحنا المعمدان الحصروني ان يغيب عن ذاكرة رفاق درب، ومعاصرين أو لاحقين، نهلوا من منبع العلم نفسه، المدرسة المارونية في رومية، والمعهد الروماني الذي كانوا يؤمونه، ونشطوا في الحقل نفسه، حقل العلوم الدينية، على اتفاق في الرأي معه عموما  كانوا او على اختلاف ظرفي عابر. واستذكارهم اياه هذا يلقي قبسا  على محطة او زمن في مرحلة من سيرته، أو على وجه من وجوه نشاطه وأثره، أو يشكل خيطا  في نسيج مسيرته.

لا شك في ان هناك "حلقات مفقودة في حياة المطران يوحنا الحوشبي الحصروني" لم يتم اكتشافها، بل من الصعب، والصعب جدا ، حتى الآن، اكتشافها. فالباحث تصدمه قلة المعلومات التفصيلية عن مراحل أو فترات من حياته؛ وما يتوافر من تلك المعطيات يتقاطع بدون توازن، ما حال دون بناء سيرته في شكل يظهر صورته على حقيقتها بشكل كامل.

غير ان السعي لم يكل بحثا  عن اي معطى. فلم يفل من القصد صعوبة ولم يكل السعي بحثا  عن أي معلومة قد يقدمها مرجع او آخر حيث كان للحصروني في حياته محطات. وفي الواقع، رأينا ان المعلومات المنشورة متداولة وقليلة جدا  . فكان التنقيب بحثا  عن الاصول الدفينة في المحفوظات، لا سيما في ايطاليا (رومية وفلورنسا)، وفي اسبانيا (مدريد، وسلمنكا، وغرناطة، وبرسلونا)، فتوافر لنا عدد من الوثائق الثمينة لم يعرف امرها سابقا ، تلقي اضواء مهمة على سيرة الحوشبي، وتكشف تفاصيل ظلت مطوية مجهولة، وتبرز، بالتالي، صورته على حقيقتها في غير مرحلة ومجال من حياته. ويسهم في اكمال هذا الدور اشارات خاطفة حينا  وردت لديه او لدى آخرين ترشد، على شحها، الى نشاط قام به هنا، أو مهمة حققها هناك، او تاريخ هو اطار زمني لذينك النشاط والمهمة.

2- اسم الحصروني ونسبه

تفوت الباحث معطيات دقيقة عن مطلع حياة يوحنا المعمدان الحصروني في مهد نشأته، أي منذ ولادته الى ان ذهب للدراسة في رومية. فسيرته لا تختلف في ضبابيتها وغموضها عما يحيط بسيرة رفاق له من غموض وضبابية. فالوثائق والسجلات الرسمية المعروفة والمعهودة في ايامنا لم يكن رائجا  أمرها في ذلك العهد. وما ندر منها، اذا وجد، لم يحفظ؛ والأمر مشهور. وهذا ما يفسر فقدان المعالم الأولى لهذه السيرة فلا يستطاع تحديد سنة ولادته استنادا  الى سجل ولادة وعماد، أو سجل نفوس. على ان هذا الواقع لا يؤثر في جوهرها ككل، أو في أهم مراحلها.

اما أول اطلالة لمترجمنا في تاريخ محدد يظهر فيه اسمه، ولو بشيء من الاشكال، اذ تفوته سمات فارقة مميزة، فتتوافر لنا في المخطوط الفاتيكاني اللاتيني 5528 الذي يفيدنا امورا  ثلاثة بشأن الحصروني ولو على تشابه مع رفاق له: اسم الحصروني مقرونا  باسم ابيه وبصفة والده؛ وعمره، وهو ما يساعد على تحديد سنة ولادته؛ وملامح من ثقافته او تحصيله العلمي في اول الطريق الذي أقبل على السير فيه، اي تحصيل الدراسة والتنشئة الاكليريكية في اطار المدرسة المارونية الحديثة المنشأ في رومية.

واهمية الفاتيكاني اللاتيني 5528 المذكور، انه الاقرب عهدا  الى تأسيس المدرسة المارونية، وهو تقرير رسمي وضعه المطرانان فيليب سبغا، وجوليو اوتينيللي اثر زيارة رسولية قانونية قاما بها الى المدرسة المارونية بتكليف من البابا سكستوس الخامس (1585-1590) في ايلول 1585، وقد كتبه شخص واحد كما يظهر واضحا  من الخط، عرض فيه حال المدرسة مرفقا  بتوصية للابقاء عليها.

يفيدنا المخطوط المذكور عن اربعة تلاميذ وصلوا معا  في البعثة الثانية الى رومية بتاريخ 27 شباط 1581. وهؤلاء اختارهم الاب اليانو بموافقة البطريرك ميخائيل الرزي (1569-1581)، وخليفته، شقيقه، البطريرك سركيس (1581-1596)، لأنه

"رآهم أهلا  لأن يتهذبوا فيها بالسيرة الاكليريكية، وأخذ يهتم بأمرهم، فكان في اوقات الفراغ مدة اقامته في قنوبين يعنى بتعليمهم مبادىء اللغة اللاتينية كما ذكر في رسالته المؤرخة في 19 تموز 1580 للكردينال انطوان كرافا ".

اما الدويهي، فلئن اورد خبر هذه البعثة في تاريخ الطائفة المارونية، وذكر اسماء التلاميذ المرسلين الى رومية، فانه لم يشر اليها في تاريخ الازمنة من قريب أو من بعيد، وفاتنا الوقوف على ذكره الحصروني والتلاميذ الاوائل في الكراس الاول من تاريخ المدرسة المارونية الضائع حتى الآن.

وفي ظننا، بل ما نعتقده اعتقاد يقين، ان الدويهي جعل خبر الحصروني ومن سبقه، ورافقه، وتبعه من تلامذة رومية حتى سنة 1638، في بدء تاريخ المدرسة الذي وضعه، والذي، لسوء الحظ، لم يبق منه الا نبذة تبتدىء مع سنة 1639 وتنتهي بالسنة 1702، اي سنتين قبل وفاته. والبراهين على وجود مثل هذا الخبر عديدة. فالدويهي، في رسالة الى بطرس مبارك (1663-1742) مؤرخة في اوائل شهر ايار سنة 1701، يقول: "عمال نتعب عن سبب مدرسة الموارنة برومية وعن نفعها ونمو تلاميذها". فالدوافع الثلاثة التي ذكرها: "سبب انشاء المدرسة، ونفعها، ونمو تلاميذها"، تدل على معالجتها كمواضيع. واذا كانت الكراسة التي حفظت بدأها بالحديث عن بطرس بن مخلوف الذي سامه الدويهي نفسه قسيسا ، ثم مطرانا  على قبرس (1671)، فمن المنطقي ان يكون في القسم المفقود من هذا التاريخ قد تحدث عن السابقين، ومن بينهم الحصروني.

أضف الى ذلك ان الدويهي يعرض الاحتفال المئوي للمدرسة مفصلا ، ويذكر اسماء الذين تخرجوا في تلك الحقبة ومنهم ثلاثة بطاركة، واثنا عشر مطرانا ، بينهم الحصروني حنا الدومينيكاني وآخرون.

فلا يعقل ان يكون هذا المؤرخ المدقق، الدويهي، قد بسط الخطوط العريضة من حياة هؤلاء التلاميذ، واشار الى تآليف بعضهم من دون ان يلتفت مثلا  الى الحصروني، وشلق، ومأثرة هذا، اقله، في مدرسة رافينا، والى الحاقلاني ولو أنه خصه بالتفاتة مميزة. فانه يدل على مكانته لدى مجمع نشر الايمان، اذ "ان سادات المجمع عن الانتشار كذا، اي مجمع نشر الايمان، اختاروه اي الدويهي انه يكون مرسلا  بعلومه وذلك بهمة المعلم ابراهيم الحاقلاني". أفما كان الحاقلاني يستحق ان يذكره الدويهي في سياق عرضه اسماء تلامذة المدرسة المارونية في المرحلة السابقة وقد عرفه حق معرفة ويقدر حتما، كما يلاحظ، علمه وفضله ويصفه ب"المعلم"؟ بل كان يستحق ان يذكره ويذكر الحصروني كما ذكر آخرين، من تلاميذ المدرسة المارونية "الذين تهذبوا بها في العلوم ثم جملوها بفعل الفضائل وبرئاسة الكنيسة ليتم بهذا ارشاد غيرهم". "لكن هذا التاريخ اخذته يد الضياع الا كراسا  منه"، وهو الذي اشار اليه شبلي ونشره شيخو، كما قلنا.

ثم لا يتصور أن يتجاهل الدويهي، وهو المؤرخ الدقيق الامين، ذكر الحاقلاني. فانه تزامن واياه. والحاقلاني تعددت نشاطاته تعليما ، وترجمة ، وتأليفا  ، واشتهرت اعماله المطبوعة، لا سيما افتيشيوش، الذي عرفه الدويهي بدون شك. يضاف الى ذلك ان الدويهي يقر بفضل الحاقلاني الذي اقترح على مجمع نشر الايمان تسميته مرسلا ، كما سبق القول، ويشير الى انه كان قد قلد خزانة كتب مار بطرس. وهو يعرف جيدا  نصر الله شلق ونشاطه، ويعرف جيداً الحصروني، الحوشبي، الذي زامن الحاقلاني وشلق، واشتهر في غير ناد وفي اكثر من موضوع. وفيما نرى ان ذكر هؤلاء يفوت الدويهي، نرى ان القس الياس الغزيري يخلد ذكرهم في "مديحة تلاميذ رومية" الى جانب تلامذة اخرين كانوا قبل سنة 1639.

ولعل اكثر ما يثير الانتباه، ان الدويهي خص ابن القلاعي بصفحة مطولة للحديث عنه وعن مؤلفاته، وهو بذلك خليق، على بعد الشقة بينهما، وقال فيه: "ان اللسان يعجز عن وصف غيرته، وعلومه، وقداسته، ولم يسعف ملته بحياته فقط بل وبعد وفاته بواسطة المصنفات الذين كذا خلفهم بعد منه"، وسرد عددا  وافرا  من هذه المصنفات. أفما كان الحصروني يستحق، ولو اشارة  كمؤلف، خصوصا  ان مقطوف الاسرار شهر أمره في زمان الدويهي؟ لا ريب في ان البطريرك الكبير درى به اذ تعددت نسخه في عهده وهو، الدويهي، بسعة علمه، وعقله الثاقب، وحكمه الصائب، ما كان يمكنه الا ان يشير أقله الى الفائدة الوافرة من هذا المؤلف بفضل مضمونه اللاهوتي ومنهجه التعليمي العملي، كما أشاد بأعمال ابن القلاعي. فيقينا  ان ذكر الحصروني ضاع، لسوء الحظ، كما ضاع ذكر الحاقلاني، وذكر وشلق، بضياع القسم الأول من تاريخ المدرسة المارونية الذي وضعه البطريرك العالم، الباحث، المنقب.

غير ان هذه الثغرة، لدى الدويهي خصوصا ، ولدى آخرين، بشأن نسب الحصروني، يسدها الحصروني نفسه بقوله: "انا، يوحنا المعمدان، ابن الشدياق حاتم، ابن الشدياق شمعون من حصرون، الراهب الدومينيكاني، بناء  على طلب الأب برتلماوس دي ميراندا، الدومينيكاني..." ويزيد هذا المعطى الشخصي ايضاحا  ملاحظتان مسجلتان على غراماطيق غريغوريوس ابن العبري الذي كان في مكتبة المدرسة المارونية، احداهما بخط الحصروني وتعريفه نفسه: "هذا الكتاب كان كتاب خوري يوحنا ابن خوري ايوب الحصرني ولما جاء لرومية قاصد لعند غريغوريوس الثالث عشر طلبته منه أنا يعقوب ابن الشدياق حاتم ابن شدياق شمعون الحصروني..."، والثانية وضعت تعليقا  على الاولى كتوضيح تفصيلي لمضمونها، وهي:

"كتب ذلك المطران يوحنا المعمدان الحصروني الراهب الدومينيكاني احد تلاميذ هذه المدرسة الاولين وفي ذلك الوقت كان يسمى يعقوب ابن شدياق حاتم ابن شدياق شمعون الحصروني. ولما ترهب بين رهبان مار دومينيكوس دعا اسمه راهب يوحنا المعمدان ورجع للبلاد وعاد جاء قاصد لعند بابا اقليمس الثامن..".

ويحكم سد الثغرة بمعطيات ادق واكثر تفصيلا ، لاختلاف ما تقتضيه المناسبة، قريبه "مخايل بن سعاده" فيزيل كثيرا  من الابهام:

"فلما كانت سنة الف وستماية وثلاثة مسيحية التي توافق سنة 1014 هجرية، بعث البطرك يوسف من بيت الرز من جبل لبنان المطران يوحنا الراهب الدومينيكاني الملقب الحوشبي بن شدياق حاتم بن الشدياق شمعون من قرية حصرون الى عند اب الآبا وريس الروسا بابا روميه المتكنى قليموس الثامن لأجل مصالح طائفتنا فأخذ معه اربع شمامسه ليتعلموا في مدرستنا اثنين من شدرا واسماهما الشماس اسحاق واخيه سركيس واثنين من قرية حصرون الشماس يحنا بن الشدياق قرياقوس وانا لله عبد الشماس مخايل بن سعاده بن انطانيوس بن الشدياق شمعون بن الشيخ فهيد بن عم المطران المذكور الذي اجتهد وتعب في وعظ وتعليم الكهنة والطايفة عشرين سنة واتنيح في روميه في جبل كنيسة صلبوت مرى مار بطروس كما وصا واشا كما وصى وشاء.
فهذا الكلام، على ايجازه، من أوفى ما قيل في نسب الحصروني دقة ووضوحا  وأجدر ما يمكن الركون اليه. واذا تركنا جانبا  عدم ذكره صفة "المعمدان" التي لا تزيد القول اثباتا  او تقلل من شأنه، فان مخايل بن سعاده نسيب للمطران الدومينيكاني قريب جدا ، وقد ذهب بمعيته تلميذا  الى رومية، ومخايل لا يبرز فقط النشاط الذي حققه "المعمدان" في حياته على مدى عشرين سنة، ولا يحدد مكان وفاة الحوشبي ودفنه فحسب، بل يذكر ان تلك كانت مشيئته التي اثبتها في وصيته، ما يدل على انه كان مطلعا  عليها، وكما يبان في الواقع من نص الوصية، فيما الآخرون نقلوا الواحد عن الآخر انه عندما توفي دفن هناك.

ونسب يوحنا المعمدان الحصروني وقرابته مع مخايل بن سعاده يظهران واضحين في المصور التالي استنادا  الى كلام صاحب القالنداريوس نفسه.

واستنادا  الى هذا الرسم البياني الذي يوفره لنا القالنداريوس، وهو المرجع الثابت والاقرب عهدا  وصاحبه الاوثق علاقة  بمترجمنا، يكون المطران الحصروني الدومينيكاني "يوحنا... الملقب الحوشبي بن شدياق حاتم بن الشدياق شمعون" ابن عم سعاده، والد مخايل هذا تحديدا  الذي صار مطرانا  فيما بعد، وليس ابن عم مخايل بن سعاده نفسه الا بمعنى واسع.

وفي الواقع، فان هذا الرسم البياني الذي يصور كلام القالنداريوس يقدم لنا بصورة دقيقة لاتبقي مجالا  للشك او التساؤل، حقيقتين: أولاهما نسب يوحنا المعمدان الحصروني من ناحية، والثانية علاقة القرابة بينه وبين مخايل بن سعاده من ناحية أخرى، فيكون هو القول الفصل في هذه المسألة.... ....