poets-writers

Said Freiha

poet and writer

سعيد فريحه (1905-1978)

سعيد فريحه من الرعيل الصحفي الاول، وصاحب مدرسة مميزة ورائد من رواد صحافة الاستقلال ومكافح رهن حياته وقلمه في خدمة القضايا الوطنية والكلمة المسؤولة.

وكان دأبه توجيه الصحافة في اتجاه الاختصاص. فكانت مجلة الصياد في تشرين الثاني 1943 مدرسة في النقد الصحفي الساخر البناء. ثم تشعبت الصياد في دار تصدر عنها. الانوار، الطيار، الشبكة، الاداري، سمر، الدفاع العربي والويكلي اوبزفر.

ولم يكتف سعيد فريحه بقلمه الساخر الرشيق، ولم يترك ميدانا  صحفيا  الا وطرقه، ولعل اهم انجازاته انه قرن عمله الصحفي بالفعل التأسيسي، فكان انجازه الرائع: مؤسسة سعيد فريحه للخدمات الصحفية والعلمية وذلك في سبيل تشجيع الشباب والمواهب الناشئة، واتاحة المجال لها في تحقيق أمانيها.

والأعجوبة الكبرى هي أن يصبح أمي صاحب مدرسة في الصحافة. وحياة سعيد فريحة هي في حد ذاتها مدرسة وقدوة. فهو الذي آمن في سبيل قضاياه وناضل نضالا مرا تعدى حدوده الى محيطه العربي.

وقد رأى سعيد فريحه النور في فترة تاريخية حرجة ابان الحرب العالمية الاولى ذاق خلالها الامرين ومع ذلك شق طريقه الى النجاح واختتم حياته حتى آخر لحظة منها في خدمة الصحافة.

وحينما نشبت الحرب العالمية الاولى، عام 1914، كان لا يزال طفلا  لا يعي شيئا . وبعد مضي عامين على نشوبها، بدأ يعي الاشياء، فعرف ان والده كلن موظفا  في سكة الحديد، ينتقل من محطة الى محطة. واثناء وجوده في محطة الشام تزوج فتاة شامية ورزق منها ثلاثة ذكور، هم: رشيد وخليل جميل.

وتوفيق الزوجة فحزن عليها وطلب نقله الى محطة بعيدة فنقل الى محطة حماه. وهناك وبعد مدة طويلة، تزوج مرة ثانية ورزق سعيد وثلاثة أشقاء آخرين. كانوا لا يزالون اطفالا  صغارا ، عندما تركهم في بيروت وهاجر الى البرازيل على امل ان يحالفه النجاح هناك ويرسل في استدعاء الاسرة كلها.

وحال دون تحقيق الامل قيام الحرب واغلاق البحر. وانتقل الاخوة مع والدتهم من بيروت الى برج حمود. آنذاك ضرب الاتراك الحصار وراحوا يسوقون الشبان الى الحرب. واستطاع رشيد ان يفلت من الحصار والتجنيد ويلحق بوالده. ووقع جميل في ايدي عساكر الاتراك، وانقطعت اخباره بين جديدة المتن وبر الاناضول. اما خليل، فقد اعفي من الخدمة لانه قصير القامة.

كفاح الام

وتفشت المجاعة في جبل لبنان بفعل الحصار، وفضل حماية الدول السبع! وبدأت والدة سعيد تكافح ضد الجوع، جوعها وجوع اطفالها الاربعة، فكانت تأتي من برج حمود الى بيروت لتهرب الخبز وتوزعه عليهم، ناشفا  أو مبللا  بالدموع!

كان سعيد في السادسة أو السابعة، يرافقها في رحلات التهريب. وكانا في البداية يهربان خمسة ارغفة، بمعدل رغيف واحد لكل فرد في الأسرة. ومع مرور الأيام وشح المخزون من البشالك والمتاليك، نقص العدد فصار ثلاثة ارغفة، ثم رغيفين، فرغيفا  واحدا .. وأخيرا  لا شيء.

واشتدت المجاعة، واتسع زحفها الرهيب فشمل بيروت نفسها ونترك هنا سعيد فريحه يصف تلك الفترة فيقول "لا ازال أذكر يوم ضمتني أمي الى صدرها، وابعدتني عن مشهد بعض العمال وهم يلتقطون جثث الجياع من أول طريق النهر(قرب سينما امبير اليوم)، ويضعونها في طنابر البلدية.

وخشيت امي ان نلاقي المصير نفسه، فجمعتنا في صباح اليوم التالي وقالت لنا: احملوا بقجكم واتبعوني. وحملنا بقجنا ومشينا باقدام حافية وبطون خاوية أطول مسيرة في تاريخ الطفولة البائسة، بدأت من برج حمود وانتهت في مدينة حماه، مسقط رأس الوالدة.

وعند وصول الموكب الى "تل كلخ" تصدى له احد الرعيان شاهرا  خنجرة وسطا على البقج، وكانت احداها تحتوي على غطاء يتقون به برد الليل وهم نيام في الطريق، فرفضت الوالدة أن تتخلى عنها واستبسلت في الرفض، فغرس الوغد خنجره في كتفها وانتزع البقجة الغالية بالقوة.

وسقطت الوالدة على الارض لتمتزج دموعها بالدماء التي تنزف من كتفها، ولبيستعيضوا عن الحرام في الليالي الباردة، بدفء حنان الام البطلة. وانتهى المشوار الطويل بوفاة الام والشقيق الاصغر وبقي، سعيد ابن العاشرة، مسؤولا  عن اعالة نفسه وشقيقتيه الطفلتين.

كانت تلك تجربة مرة دفعت بسعيد فريحه الى القول: "ان قصة تلك الظروف وقسوتها طويلة، كنت ولا ازال امني النفس بتسجيلها يوما  في كتاب يهدى الى كل محروم ومكافح في الحياة".

تعلم على نفسه

خرج سعيد فريحه من ويلات الحرب صبيا  يتيما  بلا أبوين، ونحيلا  هزيلا  بلا عافية. واكثر من ذلك أميا  جاهلا  بلا علم. ولم يضيع وقته، فراح يعمل في النهار ويتعلم في الليل، ولكن على نفسه.

ولم يكن الامر سهلا ، والحروف الابجدية هي كل ما بقي في الذاكرة من ايام المدرسة التي غادرها عند نشوب الحرب واغلاق المدارس. يقول سعيد فريحه "صرت أقرأ وأقرأ، وكأني في سباق مع الذين يقرأون". والجدير بالذكر اني كنت أقرأ في السر، لأن أخي خليل، وهو من أسرة أبي الأولى، كان ينهال علي بالعصا كلما ضبطني متلبسا  بجريمة القراءة. وحجته في ذلك اني اهمل عملي واهدر مستقبلي. وكان عملي ومستقبلي عنده، في دكان الحلاقة.

المهم اني لم استسلم، بل كنت أهرب من أخي وعصاه، الى أي مكان أقرأ فيه بحرية ولا خوف. وكثيرا  ما كنت أختار مكاني تحت قنديل "اللوكس" في الشارع الذي يمتد من اول سوق النجارين الى بيتنا في الأشرفية. وكان يحدث أحيانا ، بل غالبا ، أن أقرأ الكلمات ولا افهم المعاني، حتى ولا معنى الكلمة الواحدة. وكنت أسأل، ولا أخجل من السؤال".

ومهما يكن الأمر، فقد بقي على تلك الحال حتى السادسة عشرة. وكان رفاقه يعجبون من مرحه وتجاوبه مع الشباب وزهوه وانطلاقاته البريئة.

في هذه الفترة تعرف سعيد فريحه الى حبه الاول وكان في نتائج هذا الحب أن صمم على تعلم الكتابة.

كان اسم الفتاة "لور" وقد بادلته الحب من اول نظرة ولكن تقاليد البيئة ومحافظة الاهل جعلت اللقاء مستحيلا  فكتب الى لور أول رسالة حب.

وكانت تلك الواقعة مرحلة هامة في تاريخه اذ انه كان قد تعلم بعض القراءة من مطالعة الصحف والروايات لكنه لم يكن جرب الكتابة وخشي ان تستخف به. لور ان هو استكتب أحدا  غيره، فراح يحاول ويمزق حتى استطاع اخيرا أن يكتب... لكن أهل الفتاة يقفون بوجه هذا الحب ويرغمون الفتاة على الزواج بآخر... فيهرب هو من الحب وذكرياته الى حلب ونترك هنا سعيد فريحة يروي هذا الجزء من سيرته.

"وصلت الى حلب لأجد نفسي في ظل عطف اسرة لبنانية كريمة، هي أسرة القاضي الكبير المرحوم الياس بركات، رئيس محكمة التجارة في ذلك الحين. وكان الياس بركات صديقا  شخصيا  للداماد أحمد نامي بك ووزير عدليته يوسف الحكيم. ويشاء القدر، وقدري أنا بالذات، أن يتبدل الحكم في سورية، فيبادر الحكام الجدد الى الغاء محكمة التجارة انتقاما  من القاضي صديق العهد السابق وصديقي.

اول رسالة صحفية

وثارث ثائرتي، فكتبت اول رسالة صحفية اهاجم فيها قرار الالغاء، وروح الانتقام التي كانت وراء صدوره. واخترت جريدة "الراصد" لصاحبها الاديب الشاعر ورئيس المجمع العلمي، المرحوم وديع عقل. وكنت أحب وديع عقل، وأتابع قراءة جريدته متأثرا  باسوبه الواضح الأنيق وروح الثورية في مقالاته. بعثت بالرسالة الى "الراصد" ورحت انتظر في محطة سكة الحديد وصول القطار القادم من طرابلس حاملا  صحف بيروت.

كان قلبي يدق ورأسي يضج بألف سؤال: هل ينشر وديع عقل رسالة من مجهول يهاجم فيها الحكام والناس العظام؟ هل يقدر لي أن أحقق حلمي واضع قدمي في أول طريق الصحافة؟ وهل يكرمني وديع عقل فيتيح لي فرصة الدفاع عن القاضي الذي ظلم والصديق الذي أحب؟

ووصل القطار ولم تفتح رزم الصحف في المحطة كما كنت اتمنى، فتبعتها الى مكتب المتعهد. وهناك تناولت جريدة "الراصد"، ورأيت رسالتي منشورة في الصفحة الاولى! فقرأتها وبكيت..
وتشجعت فكتبت رسالة ثانية وثالثة وتتابعت رسائلي في مختلف المواضيع كان معظمها ينشر بأحرف بارزة ومثيرة، واذكر منها تلك التي وصفت فيها رحلتي الى ما وراء نهر الفرات، وهذه بعض عناوينها كما كتبها وديع عقل او سكرتير التحرير عارف الغريب:

"مراسلنا في مهامه الأشقياء"
"مراسلنا يكابد الجوع والذعر!".
"مراسلنا والضوء الاحمر على حدود تركيا".

ولم يكن استاذي ومعلمي وديع عقل يكتفي بنشر رسائلي، بل خصص لي مرتبا شهرياً قدره ليرتان عثمانيتان، واخذ يكتب الي مشجعا  ومتنبأ بأني سأكون "من كبار المنشئين"، على حد تعبيره، ودليلة انه "لا يصحح لي خطأ في اللغة واقع فيه مرة ثانية". وكان لي بعد ذلك معلم وأستاذ آخر هو المرحوم شكري كنيدر، صاحب جريدة "التقدم" الحلبية. فقد استرعت انتباهه رسائلي في "الراصد"، وجعلته يفتح لي قلبه ومكتبه ويقول لي:"كن محررا  ". فكنت.

وذاع صيتي، ما شاء الله، كمحرر في "التقدم" ومراسل "الراصد" ومتحمس جدا   للكتلة الوطنية وللزعيمين ابراهيم هنانو وسعد الله الجابري. وكان شكري كنيدر خصما للكتلة الوطنية، ولكنه خصم شريف ينتقدها باسلوب يوجع ولا يسيل الدماء، ويقول لي:"تعلم".. فتعلمت.

ولم يكن يمانع، وهو الخصم الشريف الذي يحب تلميذه النجيب، في أن تكون الصفحة الاولى من "التقدم" ضد الكتلة الوطنية، والصفحات الداخلية معها!

وصار يعتمد علي في اصدار الجريدة اثناء غيابه، واذكر انه سافر مرة لتمضية فصل الصيف في لبنان، فأخذت حريتي.. وعاد ليكتب بيانا  خلاصته: "نشرت في غياب صاحب هذه الجريدة مقالات واخبار لا تتفق وخطتها فاقتضى التنبيه". وعاد فسافر في الصيف اللاحق، وعدت فاخذت حريتي من جديد، ثم صدر البيان نفسه. وفي المرة الثالثة حذرنتي قبل سفره من التمادي فوعدته خيرا ، وودعته على المحطة، ثم عدت لاكتب في اول عدد يصدر بعد سفره: "غادرنا امس الى لبنان الاستاذ الكبير شكري كنيدر لتمضية فصل الصيف مع السيدة زوجته. وستصدر في غيابه مقالات واخبار لا تتفق وخطة هذه الجريدة، فأقتضى البيان سلفا ..".

وقطع رحلته وعاد غاضبا  بقصد الاستغناء عن خدماتي، فماذا به يفاجأ يوم وصوله بصدور"التقدم" وفيها حديث خطير للزعيم ابراهيم هنانو حول مصرع أحد العملاء ووضع حراسة مشددة على قبره من قبل السلطة المنتدبة، خوفا  من نبش جثثه. وبيع العدد بخمس ليرات سورية، أي بليرة ذهبية، واصبحت "التقدم" في كل يد.

المراسل والمحرر

وفي تلك الاونة امتاز قلم سعيد فريحه بالنبرة الوطنية الشديدة. فقد طالب برحيل الانتداب. وفي تلك الاثناء حل المفوض السامي يونسو مجلس النواب السوري وترك حكومة الشيخ تاج الدين تحكم سوريا بلا مجلس ولا دستور.

وفي احدى المرات رأى سعيد فريحه عدة جنود فرنسيين يدخلون الى دكان لبيع البطيخ في ساحة باب الفرج ويستولي كل واحد منهم على بطيخة "بخشيش". ولما أراد صاحب الدكان أن يعترضهم اعتدوا عليه بالضرب، فانتصر له الجيران والمارة ونشبت معركة كان سلاحها الايدي والبطيخ!

وكتب سعيد الخبر بالاسلوب الذي وصفه الاستاذ شكري كنيدر بعد سنين في "الصياد" بقوله:

"كان سعيد فريحة، ولم يكن وقتئذ يلقب بالاستاذ، يتولى انشاء باب الاخبار المحلية في "التقدم"، ويراسل "القبس" الدمشقية و"الاحرار" البيروتية. ويقضي الحق أن أقول انه ليس بين صحافيي هذه البلاد من يجاري سعيد فريحه براعة (الكلام عن ايام الشباب) ومهارة في اصطياد الاخبار وتنسم الحوادث واكتشاف الواقع، فهو، "ريبورتر" من الطبقة الاولى، وله في ايراد الانباء، وروايتها طريقة فيها الشيء الكثير من التفنن والطرافة، وقد يقع على الخبر التافه فيرش عليه فلفلا وقرنفلا ويقدمه الى القراء فيجدون فيه من المتعة والفكاهة ما يضاهي اجل الاخبار واهمها".
وكان استيلاء الجنود الفرنسيين على بضع بطيخات خبرا  تافها، فجعل منه حدثا  جللا اقام السلطة المنتدبة ولم يقعدها الا بعد اعتقاله وزجه في "خان اسطنبول". ولم يكن خانا  بالمعنى المتعارف عليه، ، بل كان سجنا  عسكريا  خاصا  "بالمجرمين" من اعداء الانتداب.

وفي احدى المرات وقف خطيبا  في احتفال وطني اقيم في حلب تأييدا  لفلسطين، والهب بخطبته الجماهير وسقط العديد من الضحايا برصاص المستعمر وصدر الامر باعتقاله. وقد امكن الافراج عنه فغادر حلب الى بيروت.

كان ذلك في العشرينات. وفي بيروت انضم الى اسرة "الاحرار" وكان قد كتب فيها من سوريا تحقيقا  عن لواء الاسكندرون. وبدأ عمله الصحفي الجديد بكتابة التحقيقات عن البلد بجنونه، جنوب لبنان.

واعادته الاقدار مرة ثانية الى حلب. لكن ما ان وصل اليها حتى وجد فيها رسالة من يوسف ابراهيم يزبك يطلب منه فيها العودة الى بيروت ليعمل معه في تحرير جريدة "الحديث" التي كانت في طريقها الى الصدور يومية سياسية مصورة بست عشرة صفحة من الحجم المتوسط. ثم كرر الاستاذ يزبك دعوته مجددا  حينما زار حلب شخصيا  واستطاع اقناع سعيد فريحه بالعودة الى لبنان.

صداقة الصلح لفريحه

كانت "الحديث" محطة اخرى رئيسية في حياة فريحه. فقد انطلقت الجريدة بقوة وكان سعيد قد تعرف في حلب الى رياض الصلح ايام كان يزورها، وتوطدت هذه الصداقة في بيروت واصبح الاثنان يسيران سوية يوميا  ومعه انتشار "الحديث" واخبارها الهامة التي كان يخصها رياض الصلح لصديقه سعيد فريحه. وكانت علاقة سعيد برياض علاقة صداقة ووفاء خالدة.

استمر "هرب" سعيد فريحه من سلطات الانتداب الفرنسي عقدين من الزمن وقد ازداد غضب السلطات الفرنسية في لبنان عليه بصدور مجلته "الصياد". ونترك هنا سعيد فريحه مرة أخرى يروي ذلك:

"كنت قد اصدرت "الصياد" عام 1943 وولد العدد الاول مع ولادة الاستقلال. ومن سوء حظ التوامين ان ولادتهما تمت والصراع مع رجال الانتداب لم ينته بعد. كانت الجيوش الفرنسية لا تزال تحتل ارض لبنان وانصاف الالهة من الفرنسيين المدنيين والعسكريين ما برحوا يتربعون على عروشهم في السراي الكبير، بانتظار عرقلة الاتفاق بين الحكومة اللبنانية وحكومة فيشي على الجلاء.

وطال الاخذ والرد من عام 1943 الى عام 1946، وكان لبنان خلال هذه الفترة وطنا  حرا  مستقلا  ولكن تحت وطاة جيوش الاحتلال! وكانت حكومة رياض الصلح تقود معركة الجلاء ضد المنتفعين من رجال الانتداب، تؤيدها الصحافة الحرة وفي مقدمتها "الصياد" التي وصفها الزعيم الخالد بانها "سيف من امضى سيوف الجهاد في معركتي الاستقلال والجلاء".

كفاحه ضد الانتداب

وكنت انا احب واهاجم بالكلمة والكاريكاتور. ثم احب واتوارى عن الانظار ، لان رجال الانتداب امروا باعتقالي او خطفي اذا تعذر الاعتقال بسبب صورة كاريكاتورية نشرتها في "الصياد" تمثل جنديا  فرنسيا  من المستعمرات يدوس بقدمه العارية السوداء على المتمدنين من ابناء البلاد ويقول: انا جئت امدنكم. ولم اكتف بنشر الصورة في المجلة، بل طبعت منها الالوف ووزعتها في كل مكان، فقامت القيامة، وصدرت الاوامر بأخذ الاجراءات السريعة ضدي ولو ادى الامر الى الصدام مع الحكومة اللبنانية. وكما هي عادتي، لم أفعل فعلتي دون اي حساب للنتائج والذيول، بل عمدت الى التسلح بمسدس، وصرت أختفي".

وظلت "الصياد" تواصل الصدور، وكأن شيئا  لم يكن فرأى الفرنسيون ان يشددوا حملة التفتيش آمرين زبانيتهم باقتحام البيوت، بيتي وبيوت اقاربي واصدقائي، وفي هذا كل التحدي لحرمة السيادة والاستقلال.

واتصل الخبز بهنري فرعون، وكان وزيرا  للخارجية، فغضب غضبة وطنية مشرفة بدأت باستدعاء المسيو "باز" من اركان المفوضية الفرنسية، ووجه اليه الانذار التالي: "اذا لم اتأكد، خلال 24 ساعة، من انكم اوقفتم الملاحقة ضد سعيد فريحة، فأنا سأعطي الامر باعتقالك شخصيا  واعتقال اثنين معك من كبار رجال السلطة الفرنسية"... وأرسل هنري فرعون بعد هذا الانذار، من يبحث عن سعيد فريحه ويدعوه اليه في سراي الحكومة اللبنانية، وهناك قال له امام جمهور من الموظفين والصحافيين "أذهب الى مكتبك وأنا اتحدى الفرنسيين أن يعتقلوك". ولم يعتقله الفرنسيون.

يتصدى للفساد

وأخذ سعيد فريحه في تلك الفترة يوجه عبر "الصياد" انتقاده الى اسرة الشيخ بشارة الخوري، رئيس الجمهورية وبصورة خاصة شقيقه الملقب ب "السلطان" لفساده. وفي احدى المرات اصدر ملحقا  للصياد هاجم فيه "السلطان والأسرة الحاكمة بقسوة وتهور لا يصدران الا عن المجانين" على حد تعبيره فيما بعد، وبيعت النسخة الواحدة آنذاك من "ملحق الصياد" بخمس ليرات لبنانية، كان الطبع يستمر من الصباح حتى منتصف الليل. وقد صدر آنذاك أمر آخر باعتقاله بموجب مذكرة توقيف.. ومرة أخرى نترك سعيد فريحه يروي تلك الواقعة:

"قصدت في المساء الى صيدا، وكان رياض الصلح يحضر حفلة خطابية هناك، مع فريق من الوزارء والنواب انصار السلطان سليم، فاذا "ملحق الصياد" في ايديهم جميعا ، واذا رياض الصلح يحرج احراجا  في ايديهم جميعا ، واذا رياض الصلح يحرج احراجا  كبيرا ، فويله الشيخ بشارة الخوري وشقيقه السلطان، وويله صديقه والضارب بسيفه كاتب هذه السطور...

وكان قد بلغه خبر صدور مذكرة التوقيف، فأرسل مرافقه عز الدين العرب يقول لي أن أغادر مكان الحفلة واذهب فانتظره في فندق طانيوس.

وهناك قال لي: - أنا لا أخاف عليك من الاعتقال، بل من الاغتيال. وافضل ان تذهب الى بيت قريبنا توفيق الجوهري، في صيدا، وتختبىء هناك ريثما ندبر الموضوع. وكان آل الجوهري، وخصوصا  توفيق الجوهري، يعرفون صلتي بنسيبهم رياض الصلح، ويرحبون بي اذا ذهبت اليهم لاجئا  مختبئا .. غير اني، زيادة في الحرص، لم أذهب، لثقتي بان بيوتهم ستتعرض للتفتيش، وهكذا كان. وانطلقت قوات الشرطة والدرك تبحث عني في كل مكان كما تطوع للبحث والتفتيش كل من يحب السلطان سليم او يريد ان يبيض وجهه معه.

وكثيرا  ما كان المسلحون من الانصار يوقفون السيارات على طريق صيدا ويسألون الركاب عن هوياتهم، ويطلبون من لابسي النظارات السوداء أن يرفعوها عن وجوههم لمعرفة ما اذا كان عدو الله والسلطان متنكرا  بينهم.

كل هذا وانا مختبىء في منزل الصديق حسن الصمدي في بيروت الذي ذهب يصطاف مع اسرته في بحمدون وترك لي بيته أسرح فيه وأمرح، وراء نوافذ مغلقة، ومع كل ما أحتاج اليه من أسباب المعيشة واستقبال الضيوف.

وتطور الخلاف بين رياض الصلح والسلطان سليم بسببي حتى وصل الى حد التهديد بزحف مسلح من الجبل على الاحياء الغربية في بيروت، اذا لم يقدم رياض الصلح استقالته من رئاسة الوزارة ويسلم المطلوب الهارب من العدالة. ولم يأبه رياض للتهديد، فاحتشد الوف المسلحين في قضاء المتن وانحدروا الى بيروت في موكب ضخم من السيارات يهتفون بحياة الشيخ سليم وسقوط رياض الصلح ومجلة "الصياد" ووصل خبر الزحف الى الاحياء الغربية، فأقيمت المتاريس واستعد شباب الاحياء للدفاع عن النفس مهما بلغت التضحيات. وهنا فقط تدخل الشيخ بشارة الخوري، رئيس الجمهورية الشرعي، فطلب من الجيش أن يتصدى للزاحفين على العاصمة ويردهم بالتي هي احسن، والا فبالقوة. ونجح الجيش واستطاع الشيخ بشارة بحكمته وحزمه أن ينقذ لبنان من مذبحه أهلية كان سببها - لو وقعت - صحافي عاشق أراد أن يتمرجل أمام حبيبته بالهجوم على أقوى رجلين في البلاد: رجل الدولة والرئاسة والاستقلال الشيخ بشارة الخوري، ورجل الزعامة والنفوذ العظيم الشيخ سليم الخوري. وانتهت مشكلة الزحف المسلح، وبقيت مشكلة... هل أسلم نفسي للعدالة ام أظل مختبئا  في منزل الصديق على البسطة؟

وكان رياض الصلح يمانع في تسليمي، لسبب واحد هو خوفه من تصفيتي جسديا  على باب العدلية أو في السجن. ولم يكن من السهل حل هذه المشكلة وتجنيبي الاغتيال، ليس بسبب عناد السلطان سليم او رغبته في التصفية، بل لان "المتطوعين" لتبييض الوجه كانوا كثيرين وتصعب معرفتهم، كما يصعب اقناعهم بأن الشيخ سليم خصم عنيد ولكن سفك الدماء ليس من طبعه ولا من أخلاقه اللبنانية.

وقررت أخيرا  أن أسلم نفسي واضع حدا لاحراج الصديق الكبير رياض الصلح".

وعند وصولي الى ساحة العدلية، وجدت المكان يغص بانصار رياض الصلح ورجال الشرطة، وكان هؤلاء قد تلقوا الاوامر بالمحافظة على حياتي بعدما تدخل رياض الصلح شخصيا  في الموضوع. وكانت عيناي وعيون انصار رياض مركزة على رجال الشرطة وهم الذين يأتمرون بأمر المدير ناصر رعد، كما يأتمر ناصر رعد بأمر السلطان سليم الذي كانت تغضب لغضبه كل قوات الدرك والبوليس، دون أن تسأله لماذا غضب.

وأحمد الله على ان اجراءات التسليم مرت بسلام، فانتقلت مخفوزا  الى السجن لأوضع في احدى غرف المستشفى هناك، وكان هو الآخر سجنا  محفوظا  بالمخاطر، واية مخاطر!

مدير السجن نفسه ومعه جميع رجال الدرك وحتى بعض السجناء الذين كانوا في المستشفى، من انصار السلطان سليم. وأكثر من هذا، كان بين هؤلاء السجناء رجل تطوع لقتلي اثناء اختفائي في بيت الصمدي، فكان يحوم في سيارة حمراء حول بيتي ومكتبي، ليل نهار، ويده على قبضه المسدس". واكتشف امره النسيب العزيز فؤاد متري، وكان يومها موظفا في الامن العام، فأطبق عليه مع بعض الرجال، وانتزعوا منه المسدس وسلكوه الى النيابة العامة التي اضطرت الى اصدار الامر بتوقيفه، ولتيها لم تفعل لاني وجدت نفسي انام في غرفة واحدة مع من جاهد مخلصا  ومتطوعا  لتصفيتي.

وقد أطلق سعيد فريحه بكفالة بعد تدخل صديقه رياض الصلح رئيس الحكومة.. لكن ليظل معرضا لمضايقات "السلطان سليم".

وحينما روى سعيد فريحه ذكرياته عن هذه الفترة لم بنس ان يضيف: "ورغم هذا النفوذ الهائل الذي كان من اكبر اسباب الاطاحة بعهد الشيخ بشارة الخوري فان السلطان سليم عاش فقيرا وخسر السلطة والسلطان وهو فقير لم يستغل نفوذه ولا أثرى على حساب النفوذ، ولو شاء لاصبح من كبر الاثرياء.

هذه شهادة حق اقولها في الرجل الذي قابلته مرة واحدة بعد زوال السلطة والسلطان فاذا بي اندم لاني كنت له خصما  لا صديقا  يحاول اقناعه بان يستغل نفوذه لمصلحة وطنه وشقيقه المغفور له الشيخ بشارة الخوري". وفي ذلك وجه من وجوه الصدق والامانة عند سعيد فريحه.

ولادة الشبكة والانوار

في اواخر الاربعينات 1947 رشح سعيد فريحه الانتخابات النيابية عن المقعد الارثوذكسي في الجنوب لكنه سقط ورغم سقوطه فقد حمل على الاكف لانه "ابن رأس المتن المرشح عن الارثوذكس في الجنوب". ولم يكرر سعيد فريحه هذه المحاولة الا مرة واحدة عام 1964حينما ترشح عن بيروت وسقط فيها ايضا .

عام 1956 أصدر سعيد فريحة "الشبكة" التي لقيت ولا تزال رواجا  كبيرا  كمجلة اجتماعية مصورة سدت نفعا  كبيرا  في ميدانها. وعندما وقعت الحرب الاهلية في لبنان عام 1958 انتقل سعيد فريحة بالصياد الى مصر. ثم عاد الى بيروت متابعا  اصدارها اضافة الى اصدار صحيفة يومية سياسية هي "الانوار" صدرت عام 1959 كصحيفة تدعو الى الحرية والوحدة الوطنية وتؤيد كل قضية شعبية. وفي 1973 أصدر "سمر" مجلة قصصية مصورة ومتزنة موجهة لجيل الشباب من الجنسين.

ان سعيد فريحه "الامي" لم يصبح صاحب مؤسسة صحفية فحسب، بل لقد استطاع أن يرسي قواعد لدار صحفية فحسب، بل لقد استطاع أن يرسي قواعد لدار صحفية كبرى تستوعب الأحداث و تتطور مسايرة المتغيرات في عالم المهنة.

عصر الصحافة المتخصصة

وقد انعكس ذلك حينما أصدرت الدار كل من "الاداري" و"الدفاع العربي" و"تقارير وخلفيات" كمطبوعات متخصصة لتواكب بها تطورات الصحافة العالمية الاخذة بالتوجه نحو العمل المتخصص.

ولقد أوضح المبادىء التي تسير عليها الدار التي أسسها في افتتاحية له في كانون الاول 1976 حينما قال ان شعار الدار يقوم على "واجب الوفاء للبناء والوحدة الوطنية والاخوة العربية والقضية الفلسطينية" الى الوقاق. بل انه اعاد احياء "ابو خليل" الشخصية التي تمثل البناني الاصيل ليدعو باستمرار الى الوحدة الوطنية والوفاق.
ولعله من قبيل الصدف او الاحساس بالغيب انه كتب في زيارة اخيرة له الى دمشق "كلما زرت دمشق تذكرت فيها شبابي وشباب اخوان اعزاء، غاب بعضهم عن الدنيا، ولا يزال بعضهم الاخر يستعين مثلي برحمة الله على استمهال المغيب".

ان هذه العبارات التي خطت بمثل هذا الاسلوب الشيق الذي امتاز به تكشف مقدار حبه للحياة والعمل.

نال الاوسمة التالية: وسام الاستحقاق اللبناني (1972) من رتبة فارس. وسام الارز الوطني (1973) من رتبة ضابط. ونال اوسمة رفيعة من مصر، الاردن، فرنسا، اسبانيا، قبرص ، ووسام القبر المقدس من غبطة بطريرك طائفة الروم الارثوذكس.

كما وله عدد من المؤلفات (جعبة الصياد، رحلات، لندن، الى جانب مقالاته التي لم ينقطع عن كتابتها).

مؤسسة سعيد فريحة للخدمات الأجتماعية والعلمية

وقد عني سعيد فريحه في أواخر حياته بضرورة فتح المجال امام اصحاب المواهب للتقدم والبروز خدمة للمجتمع. وقد اسس لهذا الغرض "مؤسسة سعيد فريحة للخدمات الأجتماعية والعلمية" كمؤسسة لا تهدف الى الربح بل تهدف الى تشجيع اصحاب المواهب وفي عام 1974 وزعت اولى جوائزها وقد بلغت ست جوائز في مجالات الصحافة والفن. كما و ان المؤسسة اشتركت مع مؤسسة طومسون، في اعداد وتنظيم حلقة تدريب لمحرري الصحف العربية طوال 25 يوما   كانت الاولى من نوعها في لبنان والعالم العربي، تمثلت فيها صحافة العالم العربي كله وقدمت فيها شهادات التدريب للمشتركن.

كل ذلك ايمانا  من سعيد قريحه بضرورة تدعيم قواعد العمل المؤسسي في الصحافة في عهد آخر يمتاز بالتخصص على خلاف صحافة الامس التي كانت تقوم على الاسلوب الفردي.

وقد اعطى سعيد فريحه ميزة فهم استباق تطور صناعة الصحافة ولم يشأ أن يدع هذا التطور عابرا  فسعى جهده الى تعميق جذوره في صحافة لبنان والعالم العربي. وبذلك يكون قد خدم الصحافة طوال اشتغاله الفاعل فيها كتابة وقولا ومؤسسات.