poets-writers

Naguib Mahfouz

poet and writer

نجيب محفوظ

عميد الرواية العربية وحامل جائزة نوبل، كاتب جريء ، صريح، وهو ضمير شعبه، شهر بدماثته وسرعة بديهته ووفائه الاسطوري لأصدقائه ومعارفه، ولم يكن وفاؤه للأشخاص فحسب، بل للمعاني والعادات والمواعيد ايضاً. بعد حياة مديدة، حافلة بالعطاء غيّب الموت الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ أثر اصابته بقرحة نازفة وهبوط مفاجيء في ضغط الدم وفشل كلوي حسبما افاد اطباؤه.

وقد بدأ مشهد النهاية بالنسبة الى محفوظ في 19 تموز المنصرم حين سقط في منزله، ما أدى الى اصابته بجرح في رأسه ونقله الى المستشفى .

ولد محفوظ عام 1911 وبدأ الكتابة عام 1932، وقد بلغت اعماله الـ 50 رواية وقصة قصيرة، بعضها تضمن مسرحيات من فصل واحد، بالاضافة الى اربعة كتب شملت مقالاته القصيرة التي نشرها في صحيفة «الاهرام».
وكتب محفوظ سيناريوهات افلام سينمائية عدة. بعدما عرضت معظم اعماله على الشاشة الكبيرة. وعام 1988 توّج مسيرته الابداعية الغنية بالفوز بجائزة نوبل للآداب، وهو أول اديب وآخر عربي يحصل عليها حتى الآن.

تعرض محفوظ لمحاولة اغتيال بواسطة سكين على يد متطرف عام 1994، ما ادى الى اصابته بشلل في يده اليمنى، لكنه كافح وتمرّن، على الكتابة بخط ركيك، وبدأ ينشر اقاصيص وخواطر في مجلة «نصف الدنيا» التي تصدرها «الاهرام» وجمعها في كتاب «أحلام فترة النقاهة» وهو آخر أعماله.

وقد نعى مبارك الأديب الراحل معتبراً انه انحاز بقلمه لشعب مصر وتاريخه وقضاياه وعبّر بابداعه عن القيم المشتركة الإنسانية فكان حصوله على جائزة نوبل للآداب اعترافاً بإسهام الفكر العربي في حضارة الانسانية وتراثها المعاصر، ورأى انه علم من اعلام الفكر والثقافة وروائي فذ ومفكر مستنير.

مقتطافات من كتب نجيب محفوظ:

اللص والكلاب - نجيب محفوظ - الحائز على جائزة الدولة التقديرية وجائزة نوبل العالمية للآداب لعام 1988

مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط ، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطوياً على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس ، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين ، ولا شفة تفتر عن ابتسامة.. وهو واحد، خسر الكثير ، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدراً، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحدياً . آن للغضب ان ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن يياسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائبة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ انتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر ولن اقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر. وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر. وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟... لا شيء، كالطريق والمارة والجو المنصهر. طوال أربعة اعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب. ينعم في ظله بالسرور المظفر، والخيانة ذكرى كريهة بائدة؟ .. استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة ويطير في الهواء كالصقر ويتسلق الجدران كالفأر وينفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأي وجه يلقاك. كيف تتلاقى العينان؟، انسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقى كالكلب!، ألم اعلمك الوقوف على قدمين؟ ومن الذي جعل من جامع الأعقاب رجلاً؟ ولم تنس وحدك يا عليش ولكنها نسيت ايضاً ، تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة. ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم الا وجهك يا سناء ، وعما قريب سأخبر مدى حظى من لقياك، عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكى العابسة، طريق الملاهى البائدة، الصاعدة الى غير رفعة، اشهد أنى أكرهك . الخمارات أغلقت أبوابها ولم يبق الا الحوارى التي تحاك فيها المؤمرات ، والقدم تعبر من آن لآن نقرة مستقرة في الطوار كالمكيدة ، وضجيج عجلات الترام يكركر كالسب، ونداءات شتى تختلط كأنما تنبعث من نفايات الخضر، اشهد أنى أكرهك . ونوافذ البيوت المغرية حتى وهى خالية، والجدران المتجهمة المقشفة ، وهذه العطفة الغريبة عطفة الصيرفى ، الذكرى المظلمة ، حيث سرق السارق ، وفي غمضة عين انطوى، الويل للخونة. في هذه العطفة ذاتها زحف الحصار كالثعبان ليطوق الغافل، وقبل ذلك بعام خرجت من العطفة تحمل دقيق العيد والأخرى تتقدمك حاملة سناء في قماطها، تلك الأيام الرائعة التي لا يدرى أحد مدى صدقها ، فانطبعت آثار العيد والحب والأبوة والجريمة فوق أديم واحد. وتراءت الجوامع الشاهقة ، وطارت راس القلعة في السماء الصافية، وانساب الطريق في الميدان، تجلت خضرة البستان تحت الأشعة الحامية، وهبت نسمة جافة رغم القيظ منعشة، ميدان القلعة بكل ذكرياته المحرق. وكان على الوجه الذي لفحته الشمس ان ينبسط وأن يصب ماء بارداً على جوفه المستعر كي يبدو مسالماً اليفاً فيمثل دوره المرسوم كما ينبغي.

واجتاز وسط الميدان متجهاً نحو سكة الإمام، ومضى فيها يقترب من البيت ذى الأدوار الثلاثة في نهايتها وعلى مفرق عطفتين جانبيتين يتفرع اليهما الطريق الأول. في هذه الزورة البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء، فادرس طريقك ومواقعه، وهذه الدكاكين التي تشرئب منها الرءوس كالفيران المتوجسة. وجاءه صوت من وراءه يقول:

- سعيد مهران !.. ألف نهار أبيض ..
- توقف عن المسير حتى أدركه الرجل فتصافحا وهما يغطيان على انفعالاتهما الحقيقية بابتسامة باهتة. إذن بات للوغد أعوان وسيرى قريباً ما وراء هذا الاستقبال ، ولعلك تنظر من الشيش مستخفياً كالنساء يا عليش.
- أشكرك يا معلم بياضه..
ولحق بهما كثيرون من الدكاكين على الجانبين، وارتفعت حرارة التهاني، وسرعان ما وجد نفسه مطوقاً من جميع الجهات بحشد من أصدقاء غريمه ولا شك، واستبقت الحناجر قائلة:
- الحمد لله على سلامتك..
- مبارك للأصدقاء والأحباب..
- قلنا من القلوب سيفرج عنه في عيد الثورة..
فقال وهو يتفحصهم بعينيه اللوزيتين العسليتين:
- الشكر لله ولكم..
فربت بياضة على منكبه قائلاً:
- تعال الى الدكان لنشرب الشربات!
فقال بهدوء:
- فيما بعد عند العودة..
- العودة؟!
وصاح أحد الرجال موجهاً حنجرته الى الدور الثاني من البيت:
- يا معلم عليش! . يا معلم عليش انزل هنىء سعيد مهران!
لا داعي للتحذير يا خنفساء. انى قادم في ضوء النهار.. واعلم انكم تترقبون.. وعاد بياضة يتساءل:
- العودة من أين؟
- لدى حساب يجب ان اسويه..
فتساءل بوجه ممتعض :
- مع من؟
- أنسيت انني اب؟ وان ابنتي الصغيرة عند عليش؟
- نعم، ولكل خلاف حل في الشرع..
وقال آخر :
- والتفاهم خير..
وثالث قال بنبرة المسالم:
- سعيد انت قادم من السجن والعاقل من اتعظ!
فقال وهو يداري حنقه المختنق:
- من قال اني جئت لغير التفاهم؟!
وفتحت نافذة في الدور الثاني واطل منها عليش فارتفعت الرءوس اليه في توتر . وقبل ان تبدر كلمة خرج من باب البيت رجل طويل عريض، في جلباب مقلم ، ينتعل حذاء حكومياً فعرف سعيد فيه المخبر حسب الله. وسرعان ما تظاهر بالدهش وقال منفعلاً:
- ماذا دعا الى اقلاقك وما جئت الا للتفاهم؟
فمضى نحوه مسرعاً وتحسسه مفتشاً عما يريب في صدره او جيوبه، فعل ذلك بمهارة وخفة ودربة وهو يقول :
- اسكت يا ابن الثعلب ، ماذا تريد؟
- جئت للتفاهم على مستقبل ابنتي ..
- أنت تعرف التفاهم !
- نعم، من أجل ابنتي..
- عندك المحكمة..
- سالجأ اليها عند اليأس ؟
وصاح عليش من أعلى:
- دعه يدخل ، تفضلوا..
اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك. وعند الأجل لا ينفع مخبر ولا جدار. ودخولوا حجرة الاستقبال فتفرقوا فوق الكتب والمقاعد.
وفتحت النوافذ فاندفع الضوء والذباب، وتبدت في البساط السماوي نقط سود من أثر حروق. وحملق عليش من صورة كبيرة في الجدار معتمداً بقبضتيه عصا غليظة. أما المخبر فقد جلس الى جانب سعيد وراح بعبث بحبات مسبحة.
ودخل عليش سدرة في جلباب فضفاض منتفخ حول جسم برميلي، رافعاً وجهاً مستديراً ممتلىء اللغد تحت ذقن مربع وأنف غليظ محطم العرنين. صافح سعيد متظاهراً بالشجاعة وقال:
- حمد الله على سلامتك!
وسرعان ما تأزم الجو بالصمت وتبودلت نظرات قلقة حتى عاد عليش يقول وكأنما يرغب في فتح صفحة جديدة:
- ما فات فات، وكل ما حصل يقع كل يوم، وقد تحدث أمور مؤسفة وتنهار صداقات قديمة، ولكن لا يعيب الرجل إلا العيب!
بدا سعيد وهو يتابعه بعينيه البراقتين وجسمه النحيل القوى كأنه نمر يتربص بفيل ، ولم يسعه الا أن يردد قوله:
- لا يعيب الا العيب..
وحدجته أعين كثيرة عقب ترديده وكفت يد المخبر عن العبث بحبات المسبحة فأدرك هو ما يجول بخاطرهم فقال مستدركاً:
- أوافقك على ما قلت حرفاً بحرف..
فقال المخبر بضجر:
- ادخلوا في الموضوع واعفونا من اللف..
فتساءل سعيد بسخرية خفية:
- من أي ناحية؟
ناحية واحدة هي التي يجوز الكلام فيها وهي ابنتك!
- وزوجتي وأموالى يا جرب الكلاب! الويل .. الويل.. اريد ان أتلقى نظرة من عينيك، كي احترم من الآن فصاعداً الخنفساء والعقرب والدودة. سحقاً لمن يطرب لأنغام امراة.
ولكنه هز راسه بالايجاب ، فقال أحد ماسحى الجوخ :
- بنتك في الحفظ والصون، مع أمها، وشرعا يجب ان تبقى مع أمها بنت ستة اعوام، وان شئت ازورك بها كل اسبوع. .
فرفع سعيد صوته متعمداً ليسمع من الخارج:
- شرعا هى حق لى لشتى الملابسات والظروف..
فتساءل عليش في غلظة:
- ماذا تقصد؟
ولكن المخبر عاجله قائلاً:
- لن يجيء من الكلام الا وجع الدماغ..
فقال عليش بيقين:
- لم أرتكب جريمة ولكنها القسمة والنصيب، والواجب ايضاً، واجب المروءة دفعنى الى ما فعلت، ومن أجل البنت الصغيرة ايضاً!
- واجب المروءة يا ابن الأفعى ! الغدر الخيانة المزدوجة. المطرقة والفأس وحبل المشنقة. ولكن ما شكل سناء الآن؟
وقال بهدوء ما استطاع :
- لم أتركها في حاجة، كانت لديها أموالى ، أموال طائلة..
فهتف المخبر :
- تقصد مسروقاتك؟! تلك التي انكرتها في المحكمة!
- ليكن ، ولكن أين ذهبت؟!
فصاح عليش :
- ولا مليم!، صدقوني يا رجال، كانت الحال لا يسر بها عدو ولا حبيب، وحقاً قمت بالواجب..
فتساءل سعيد في تحد:
- خبرني كيف امكنك ان تعيش في سعة وان تنفق على الآخرين؟
فصاح عليش محتداً:
- هل أنت ربنا حتى تحاسبني ؟
وقال رجل من ماسحى الجوخ:
- اخز الشيطان يا سعيد..
وقال المخبر :
- انا عارفك وفاهمك، انا خير من يقرأ داخل رأسك، ولكنك ستهلك نفسك، لا تخرج عن موضوع البنت فهذا خير لك...
فتراجع سعيد باسماً وهو يخفي عينيه في الأرض وقال باستسلام:
- بالحق نطقت يا حضرة المخبر ..
- انا عارفك وفاهمك ولكنى ساماشيك احتراماً لهؤلاء الرجال ، هاتوا البنت، أليس الأفضل ان نعرف رأيها اولاً؟
- كيف يا حضرة المخبر؟
- يا سعيد أنا فاهمك ، أنت لا تريد البنت، ولا تستطيع ان تأويها، ولن تجد لنفسك ماوى الا بعد الجهد، ولكن من العدل والرحمة ان تراها ، هاتوا البنت..
بل هاتوا امها، كم ارغب ان تلتقي العينان . كى أرى سراً من أسرار الجحيم. الفأس والمطرقة، وقام عليش ليجىء بها.
وعندما ترامى وقع الأقدام القادمة خفق قلب سعيد خفقة موجعة وتطلع الى الباب وهو يعض على باطن شفتيه . مسح تطلع شيق وحنان جارف جميع عواصف الحنق. وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدى الرجل، ظهرت بعد انتظار طال ألف سنة. وتبدت في فستان ابيض أنيق وشبشب أبيض كشف عن اصابع قدميها المخضوبتين. وتطلعت بوجه أسمر وشعر اسود مسبسب فوق الجبين فالتهمتها روحه. وجعلت تقلب عينيها في الوجوه بغرابة، وفي وجهه خاصة باستنكار شديد لشدة تحديقه ولشعورها بأنها تدفع نحوه واذا بها تفرمل قديمها في البساط وتميل بجسمها الى الوراء . لم ينزع منها عينيه ولكن قلبه انكسر، انكسر حتى لم يبق فيه الا شعور بالضياع . كأنها ليست بابنته رغم العينين اللوزيتين والوجه المستطيل والأنف الأقنى الطويل. ونداء الدم والروح من شأنه؟ أم هو الآخر قد خان وغدر؟ وكيف له رغم ذلك كله بمقاومة هذه الرغبة الجامحة في ضمها الى صدره حتى الفناء؟
وقال المخبر بضجر ودون اكتراث:
- ابوك يا شاطرة!
وقال عليش بوجه لا يبين عن شيء .
- سلمي على بابا..
كالفأرة ! مم تخاف!. ألا تدرى كم يحبها! ومد نحوها يده ولكنه بدل الكلام شرق فازدرد ريقه . وابتسم في رقة وإغراق . وقالت سناء لا . وتحركت لتتسلل راجعة لولا الرجل وراءها . وهتفت «ماما» فدفعها الرجل برقة وهو يقول:
- سلمي على بابا..
وتجلت في الأعين نظرات اهتمام، وشماتة، وآمن سعيد بأن جلد السجن ليس بالقسوة التي كان يظنها . وقال متوسلاً:
- تعالى يا سناء..
ولم يعد يحتمل رفضها فقام نصف قومة ومال نحوها فهتفت:
- لا
- انا البابا..
فرفعت عينيها الى عليش سدرة مستغربة فقال سعيد بإصرار :
- أنا بابا ، أنا ، تعالى ..
فتأبت واشتد ميلها الى الوراء، جذبها نحوه بشيء من القوة، صرخت ضمها الى صدره فدافعته باكية . ومال نحوها ليلثم – رغم هزيمته ويأسه – فاها او خدها ولكن شفتيه لم تلثما الا ساعدها المتحرك في عصبية غير راحمة.
- أنا بابا، لا تخافي، أنا بابا...
وافعمت رائحة شعرها روحه بذكرى امها قتقبضت اساريره وازدادت البنت مدافعة وبكاء حتى قال المخبر:
- على مهلك البنت لا تعرفك..
فتركها تجرى يائسا ثم اعتدل في جلسته وهو يقول بغضب:
- سوف آخذها..
ومضت هنيهة صمت قبل ان يقول له بياضة:
- هدىء نفسك اولاً..
فقال بإصرار :
- لا بد أن تعود إلى..
فقال المخبر بحدة:
- دع القرار للقاضي..
ثم التفت نحو عليش متسائلاً:
نعم؟
الأمر لا يخصني في شيء ولكن أمها لن تفرط فيها الا بالشرع ...
فقال المخبر :
- كما قلت اول الأمر، كلمة واحدة لا ثاني لها، وهي المحكمة!
وشعر سعيد بأنه لو تمادى في الغضب لأنفجر جنونه فتسلط على مشاعره بقوة غير طبيعية مذكراً نفسه باشياء كاد ينساها ، وقال بهدوء نسبي:
- نعم المحكمة!
فقال بياضة:
- والبنت كما ترى تعيش في رعاية وراحة..
وقال المخبر في لهجة لم تخل من سخرية:
- ابحث اولاً عن طريق مستقيم تأكل منه لقمتك..
رغم هذا بدا أنه يسيطر على نفسه أكثر فاكثر حتى قال:
- نعم، كل هذا حق، ولا داعى للاسف من ناحيتي ، وساعاود التفكير في الأمر كله، ولا شك أنه خير ان انسى الماضي وأن ابحث عن عمل حتى أهىء للبنت مكاناً طيباً في الوقت المناسب.
وساد الصمت دهشة فتبودلت نظرات مصدقة وغير مصدقة. وكوَّر المخبر قبضته على المسبحة متسائلاً:
- انتهينا؟
فقال سعيد :
- نعم، ولكني اريد كتبي..
- كتبك؟!
- نعم..
فصاح عليش :
- ضاع اكثرها بيد سناء وسأحضر لك ما تبقى منها.
وغاب الرجل برهة ثم عاد حاملاً على يديه عاموداً متوسطاً من الكتب، فوضعه وسط الحجرة، وقام سعيد الى المجموعة فتناول كتاباً إثر آخر وهو يقول بأسف:
- ضاع اكثرها حقاً..
وضحك المخبر متسائلاً:
- من أين لك هذا العلم؟
ثم وهو ينهض معلناً انتهاء المقابلة:
- أكنت تسرق فيما تسرق الكتب؟
وابتسم الجميع ولكن سعيد اقبل يحمل الكتب دون أن يبتسم..

حضرة المحترم

انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لا نهائية، تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكاناً محدوداً في شتى التفاصيل . آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم . لذلك اشتعل وجدانه وغرق في انبهار سحري. فقد أول ما فقد تركيزه. نسي ما تاقت النفس لرؤيته. الأرض والجدران والسقف. حتى الاله القابع وراء المكتب الفخم. وتلقى صدمة كهربائية موحية خلاقة غرست في صميم قلبه حباً جنونياً ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلطة. عند ذاك دعاه نداء القوة للسجود، وحرضه على الفداء ، ولكنه سلك مع الآخرين سلوك التقوى والابتهال والطاعة والأمان. كالوليد عليه ان يذرف الدمع الغزير قبل ان يملي ارادته. وتلبية لاغراء لا يقاوم خطف نظرة من الاله القابع وراء المكتب ثم خفض البصر متحلياً بكل ما يملك من خشوع.

وكان حمزة السويفي مدير الادارة يتقدم الموكب الصغير فقال مخاطباً المدير العام:

- هؤلاء هم الموظفون الجدد يا صاحب السعادة ..
مر ضوء عينيه على الوجوه، وعلى وجهه ضمناً ، فجال بخاطره انه دخل تاريخ الحكومة ، وانه يحظى بالمثول في الحضرة. وخيل اليه انه يسمع همهمة من نوع عجيب ، لعله يسمعها وحده، ولعله صوت القدر نفسه. ولما استوفت الفراسة امتحانها الوئيد تكلم صاحب السعادة. تكلم بصوت بطيء وهادىء ومنخفض فلم يكشف عن شيء يذكر من جوهره . قال متسائلاً:
- جميعهم من حملة البكالوريا؟
فأجاب حمزة السويفي :
- بينهم اثنان من حملة التجارة المتوسطة.
فقال صاحب السعادة بنبرة مشجعة:
- العالم يتقدم ، كل شيء يتغيّر، ها هي البكالوريا تحل محل الابتدائية .
اطمأنت القلوب ودارت فرحتها بمزيد من الخشوع ، فقال الرجل:
- حققوا المأمول منكم بالاجتهاد والاستقامة.
وراح يراجع بياناً بالأسماء حتى سال عن غير توقع:
- من منكم عثمان بيومي؟
دق قلبه دقة قوية جداً. وقع نطق الرجل لاسمه من نفسه موقعا مؤثرا عنيفا . تقدم خطوة مطرقا وهمس:
- انا يا صاحب السعادة!
- ترتيبك ممتاز في البكالوريا فلم لم تكمل تعليمك؟

صمت . اضطرب . لم يدر في الوقائع ماذا يقول بالرغم من حضور الجواب في وعيه طيلة الوقت. وعنه أجاب مدير الادارة كالمعتذر:
- لعلها ظروف يا صاحب السعادة!

سمع الهمهمة مرة اخرى، سمع صوت القدر. ولأول مرة شعر بأن ثمة زرقة تخضب الجو، وأن رائحة طيبة غريبة تجول في المكان. ولم يحزنه ان يشار الى «ظروفه» المعوقة بعد أن تقدس شخصه بعطف صاحب السعادة وتقديره. وقال لنفسه انه يستطيع ان يحارب جيشاً بمفرده فينتصر عليه. والحق انه ارتفع وارتفع حتى غاص رأسه في السحاب ، وثمل لدرجة العربدة الوحشية. اما أصحاب السعادة فنقر على حافة المكتب وقال مؤذنا بالختام :
- شكراً ، ومع السلامة..

وهو يغادر المكان قرأ في سره آية الكرسي.

بداية ونهاية

ألقى الضابط نظرة كئيبة على الردهة الطويلة التي تفتح عليها فصول السنتين الثالثة والرابعة ، وقد شمل المدرسة- سكون عميق، ثم مضى الى فصل من فصول السنة الثالثة، ونقر على الباب مستأذناً، ودخل متجهاً صوب المدرس وأسر في اذنه بضع كلمات ، فسدد المدرس بصره صوب تلميذ يجلس في الصف الثاني وناداه قائلاً:
- حسنين كامل علي .
فقام التلميذ وهو يردد بين المدرس والضابط نظرة مليئة بالترقب والقلق، وغمغم:
- افندم؟
فقال المدرس :
- اذهب مع حضرة الضابط.
فخرج التلميذ عن قمطره ، وتبع الضابط الذي غادر الفصل في خطوات بطئية ولم يطمئن قلبه لهذه الدعوة ، وراح يسائل نفسه: ترى أجاء بسبب المظاهرات الأخيرة؟ وكان قد اشترك في المظاهرات ، وهتف مع الهاتفين: «ليسقط تصريح هور» و «ليسقط هور ابن الثور» وقد ظن أنه نجا من الرصاص والعصى والعقوبات المدرسية جميعاً ، فهل كان مغالياً في ظنه؟ وسار وراء الضابط في الردهة الطويلة متفركاً، يتوقع بين لحظة وأخرى أن يجبهه بما عنده من تهم، ولكن قطع عليه تفكيره وقوف الرجل حيال فصل من فصول السنةالرابعة ودخوله مستأذناً، ثم بلغ مسمعه صوت المدرس وهو ينادي قائلاً .
- حسين كامل علي .
شقيقه أيضاً؟! ولكن كيف يمكن ان توجه اليه تهمة من هذه التهم وهو لا يشترك في المظاهرات بتاتاً؟! وعاد الضابط يتبعه الفتى واجماً،وما أن وقعت عيناه على شقيقه حتى غمغم في دهشة:
- وأنت ايضاً ؟! ماذ حدث !؟
وتبادلا نظرات حائرة، ثم تبعا الضابط الذي مضى منسمتاً حجرة الناظر وسأله حسين في لهجة رقيقة مؤدبة:
- ما الذي أوجب استدعاءنا من الفصل؟
فأجاب الضابط بعد تردد قائلاً:
- ستقابلان حضرة الناظر.
وقطعوا بقية الردهة دون أن ينبس أحدهم بكلمة. وكان الشقيقان متشابهين لدرجة كبيرة ، فكلاهما له هذا الوجه المستطيل ، وعينان عسليتان واسعتان، وبشرة سمراء ضاربة الى العمق، الا ان حسين في التاسعة عشرة، يكبر اخاه بعامين ودونه طولاً ، على حين يمتاز حسنين بدقة في قسمات وجهه أكسبته وضاءة ووسامة، ومضى قلقهما يتزايد وهما يقتربان من حجرة الناظر. وتخايل لعينيهما منظره الصارم في رهبة وخوف. وزرر الضابط سترته ونقر على الباب، ثم دفعه برقة ودخل وهو يوميء إليهما أن يتبعاه . ودخلا وهما ينظران الى الرجل وقد انكب على مكتبه في صدر الحجرة يقرأ رسالة بعناية دون أن يرفع بصره نحو القادمين ، كأنه لم يشعر بحضورهم. وحياه الضابط بأدب جم وقال:
- التلميذان حسين كمل علي وحسنين كامل علي .
فرفع الناظر رأسه وهو يطوي الرسالة بيديه ، وأطفأ عقب سيجارة في النافضة، وجعل يردد بصره بينهما ، ثم تساءل:
- في أي سنة أنتما؟
فقال حسين بصوت متهدج:
- رابعة رابع.
وقال حسنين :
- ثالثة ثالث.
فنظر اليهما ملياً ثم قال:
- أرجو ان تكونا رجلين كما ينبغي ، لقد توفي والدكما كما ابلغني اخوكما الأكبر والبقية في حياكما..
ووجما في ذهول وانزعاج، وهتف حسنين وهو لا يدري قائلاً:
- توفي أبي !! مستحيل..
وغمغم حسين وكأنه يحدث نفسه:
- كيف؟ لقد تركناه منذ ساعتين في صحة جيدة وهو يتأهب للخروج الى الوزراة..
فصمت الناظر قليلاً ثم سالهما برقة:
- ماذا يعمل أخوكما الأكبر ؟
فقال حسين بعقل غائب:
- لا شيء..
فتساءل الرجل:
- أليس لكما اخ موظف أو شيء من هذا القبيل؟
فهز حسين راسه قائلاً:
- كلا..
فقال الرجل :
- أرجو ان تتحملا الصدمة بقلوب الرجال، واذهبا الان الى البيت كان الله في عونكما..