poets-writers

Ibrahim Al Yaziji

poet and writer

1847–1906

الشيخ ابراهيم اليازجي 1847-1906م و1264-1324 ه

حياته

هو الشيخ ابراهيم ابن الشيخ ناصيف اليازجي، نصراني من طائفة الروم الملكيين. ولد في بيروت، وترعرع في بيت ركن العلم اليه، فألفه صغيرا . وتوسم فيه والده مخايل النجابة، فتعهده بعنايته، ولقنه أوليات اللغة وفنونها، وحبب اليه آدابها. فأقبل عليها يتزيد فيها بالدرس والمطالعة، حتى تفقه أسرارها واستجلى حقيقتها ومجازها، واستكانت اليه شوارد ألفاظها. فأصبح فيها علما  من الأعلام، وحجة غير مدافع.

ونظم الشعر صبيا ، ولكن لم ينصرف اليه، وانما كان يروض نفسه عليه في السوانح. بيد انه تفرغ للنثر، وزواله باعتناء، حتى برع فيه، وعد من كبار المنشئين.

ومال الى الصحافة، فكان أول عهده بها في جريدة النجاح اذ تولى اشاءها سنة 1872. ولكن لم يطل بها أمره لأن دخلها لم يكف خرجها. فتركها في السنة نفسها، وذهب الى مدرسة اليسوعيين في غزير. وكانوا يريدون ترجمة التوراة، فدعوه اليهم، وعهدوا اليه في تهذيب عبارتها. فاشتغل بها نحو تسع سنوات، منها في غزير ومنها في بيروت. فأخرجها بلغة أنيقة، بليغة التعبير، ولا سيما العهد العتيق لأنهم أطلقوا يده في تنقيحه أكثر من العهد الجديد.

وكان وهو في بيروت يعلم البيان وآداب اللغة في المدرسة البطريركية. ثم راجعه الحنين الى الصحافة، فاختار العلمية على السياسية، وأنشأ مجلة الطبيب سنة 1884 يشاركه فيها الدكتور بشارة زلزل، والدكتور خليل سعادة. وكان يكتب فيها أماليه اللغوية فطار له ذكر باللغة، بعد أن عرف ببلاغة الانشاء. وأقفلت "الطبيب" بعد سنة من ظهورها، لقلة الاقبال على المباحث العلمية.

وكانت الصحافة قد تحولت الى مصر لانطلاق حرية القلم فيها، فيمم الشيخ شطرها سنة 1893 في جملة اللبنانيين المهاجرين. وفي سنة 1897 أنشأ بها مجلة البيان مع زميله الدكتور زلزل. ثم حجباها بعد سنة، وانفصلا. وأخرج الشيخ بعدها مجلة الضياء سنة 1898، وظل يتعهدها بقلمه البليغ مدة ثماني سنوات حتى مات. وكانت وفاته بالسرطان اصابه في الكبد، ومات عزبا .

وفي سنة 1913 نقل رفاته الى بيروت فدفن فيها. وصنع له اللبنانيون في البرازيل تمثالا  من الشبه، وأرسلوه الى بيروت. فبنيت قاعدته في محلة باب يعقوب. ورفع الستار عنه سنة 1924 في حفلة حافلة شهدها ممثلو الحكومة الوطنية، والسلطة الفرنسية المنتدبة. ثم نقل الى قصر الأونسكو في الجامعة اللبنانية.

صفاته واخلاقه

وصفه جرجي زيدان في مجلة الهلال قال ما ملخصه: كان ربعة القامة، نحيف البنية، عصبي المزاج، حاد البصر، ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، حلو المفاكهة، شديد الحرص على كرامته، عفيف النفس، ظاهر الأنفة حتى الترفع. ضاق عيشه، ولم يرض اصطناع التملق ليرتزق.

وكان صادقا  في أقواله وأعماله، لا يحلف ولا يخلف، أمينا  في ما ينقله من الأقوال، بنسب الفضل الى صاحبه. وبالضد، اذا صحح مقالة لأحد، سكت عنها، ولكن أسلوبه ينم عليه.
وكان برا  بأبيه، أحسن اليه بعد موته ، وزاده شهرة باتمام كتبه وشرحها.

علومه ومواهبه

كان الشيخ يعرف من اللغات الأجنبية الفرنسية، ولم بالعبرية والسريانية. وكان بارعا   في الرياضيات وعلم الفلك، وله مشاركة في العلوم الطبيعية والفقه الحنفي. وكثيرا ما جرت المباحثات بينه وبين علماء الفلك الفرنسيين. واشتغل بحل المشكلة الرياضية المشهورة، وهي قسمة الدائرة الىسبعة أقسام، وتوصل الى نتيجة تقرب من الصواب، وبعث بها الى المجمع العلمي الفرنسي. وهو من أعضاء الجمعية الفلكية في باريس، وانفرس، والسلفادور.

وكان ماهرا  في صناعتي الحفر والتصوير اليدوي،جميل الخط، قاعدته فارسية.

آثاره

ليس لليازجي من الآثار ما يعادل شهرته العلمية، ويعود ذلك على بطئه في العمل، ثم على تنوقه في عبارته، وعنايته بتنخلها وتحكيكها. فانه لم يكن ينشر مقالة الا بعد أن يراجعها مرات، ويتحرى صحة مفردها ومركبها، يغير فيها ويبدل. ولعل خوفه من النقد كان يدفعه الى زيادة التدقيق، لعلمه أن له خصوما  يتربصون به ليتتبعوا سقطاته. ولا جرم ان مناظرته للشدياق في الذود عن والده علمته أن يحتاط هذا الاحتياط. ومع ذلك فآثاره التي تركها ما بين تأليف وشرح وتصحيح تدل على مبلغ علمه وفضله.

فأما مؤلفاته، فمنها في النثر مجموعة رسائل بخطه طبعت على الحجر وضمت الى ديوانه. ثم ما كتبه في الطبيب والبيان والضياء من المباحث اللغوية والعلمية والأدبية. ثم تعاليق على محيط المحيط للبستاني جمعها ونشرها في مصر الدكتور سليم شمعون وجبران النحاس. ثم نجعة الرائد في المترادف والمتوارد، جرى فيه مجرى الألفاظ الكتابية، على اعتبار المعنى في التنسيق. ولكنه جعل مدار الكلام على الانسان، وما يتعلق به من الصفات والأفعال، وما يكتنفه من الأشياء، ويعرض له من الشؤون، ووصف ما يجده في مزاولة الأمور، وما ينتظم به مجتمعه من أحكام السياسة والقضاء. وقسمه الى اثني عشر بابا ، كل باب يتفرع منه فصول. مثال ذلك الباب الأول: في الخلق وذكر أحوال الفطرة وما يتصل بها. وفصوله تبحث الخلق، وقوة البنية وضعفها، وحسن المنظر وقبحه، والسمن والهزال، والطول والقصر، والأطوار والأسنان، والحواس وأفعالها وما يتعلق بها. الا أنه مات قبل أن يتمه، والذي ظهر منه ثمانية أبواب طبعت في جزئين.

ومنها في الشعر ديوان مكتوب بخط يده، طبعه على الحجر حبيب اليازجي ابن أخيه خليل، وضم اليه مجموعة الرسائل. وشعره متين محكم، ولكن أكثر أغراضه يجري على الطريقة التقليدية. من مدح يتقدمه غزل بدوي، ورثاء أشبه بالمدح، وتواريخ شعرية في التهنئات وفي ما يكتب على الضرائح. وله قصائد اجتماعية وطنية، في دعوة العرب الى ترك التخاذل الطائفي وحضهم على الثورة، وخلع نير الأتراك. وقصيدة يصف بها الزهرة وصفا  علميا  .

وأما شروحه، فأشهرها شرح ديوان المتنبي. وكان والده قد بدأ به في حواش علقها عليه، فأتمه الابن وذيله بنقد لغوي لشعر أبي الطيب.

وأما تصحيحاته، فأعظمها تنقيح عبارة التوراة. ثم تهذيب تاريخ بابل واشور لجميل المدور. وتصحيح كتب والده في الصرف والنحو، واختصارها.
وقيل انه حاول أن يؤلف معجما  في المأنوس من كلام العرب الأوائل، فحالت الحوائل دون تأليفه.

ومن آثاره مصطلحات وضعها للمعاني الفنية الحديثة، وفي الضياء شيء كثير منها. وقاعدة للحروف المطبعية، حفرها بيده، شاعت في مصر وبيروت وأميركة.

ميزته

لم يرتفع الشيخ بنظمه كما ارتفع بنثره. فما نعده في طبقة الشعراء المقدمين، وانما يسير في طلائع بلغاء الكتاب، ويستوي على عرش ايمة اللغة الحاذقين.

وله في الكتابة أسلوب معروف، ولا سيما حين يعالج النقد اللغوي، فان طابعه الخاص لا يقتصر على الطريقة الانشائية وحدها، بل يتعداها الى شخصيته المتهكمة اللاذعة، الباسطة سلطانها على من تنتقده، المتحكمة به تحكم القوي بالضعيف. وسنحاول أن نظهر هذا الطابع في أسلوب الشيخ مما تناولناه من آثاره المتفرقة في مجلاته وخصوصا  الضياء، التي ظهر فيها نضجه وسمو انشائه.

مباحثه واغراضه

تناول الشيخ في ترسله مباحث مختلفة. منها الرسائل، واغراضها شكر وتهنئة، وعتاب واعتذار، وتعزية. ومنها المباحث اللغوية، كأماليه في اللغة، واللغة والعصر في فلسفة نشوء الألفاظ؛ والمجاز وأنواعه، ونقد لغة الجرائد ومغالط المولدين، والعرب الأولين، والمعاجم اللغوية وشعر المعاصرين؛ وكتب الأب لويس شيخو ولا سيما مجاني الأدب؛ ونقد على شعر المتنبي بين فيه أسباب غموضه وخفاء معانيه، وأظهر ما به من الحسنات والسيئات وعاب على شارحيه خلطهم واضطرابهم في تفسيره، وصحح أوهامهم وأقال عثراتهم.

ومنها المباحث الأدبية، كما في كلامه على الشعر وتعريفه، ونقد معانيه وألفاظه. ومنها المباحث الاجتماعية، كنقده للجرائد وابانة مواطن الضعف في مقالاتها السياسية والاجتماعية، وما تحمل من الضرر في نثرها بذور التعصب بين الطوائف. ومنها المباحث الفلكية والطبيعية، كمقالاته في الزهرة، والقمر، والتنجيم، والجبال، والرياح، والبصريات، وما اليها.

اسلوبه الانشائي

للشيخ انشاء متين بليغ، رائق الديباجة، واضح المعاني، بعيد عن الصيغ الشاذة والتراكيب الحافية، بريء من الغموص والالتباس حتى في أدق مباحثه اللغوية والعلمية. وربما حلاه بالاستشهادات من شعر وآيات وأمثال.

وجملته خطابية انشائية في الغالب، متزنة العبارة، رصينة محكمة. يميل بها الى الاسهاب من غير تطويل، ويعاقبها على المعنى الواحد دون اسراف.

ولفظه محكك مختار، خال من الغريب المستوحش، مصوغ من معدن واحد، غير متقلقل ولا متنافر. وله تعابير مخصوصة لا يفتأ يرددها اما في ربط الجمل وشدها، واما في الخروج والانتقال. فهي أشبه بدعائم يعتمد عليها، ومفاتيح يتصرف فيها. فمنها:لا جرم، وبين، وبل، وفضلا  عن، وزد على ذلك، وبديهي، وليت شعري، وأيم الله، وبالتالي. فهذه الألفاظ وأشباهها لها حظوة كبيرة في انشائه.

وأسلوبه يبعثه أحيانا  مسجعا ، وأحيانا  مرسلا . فأما المسجع فيأتي به في رسائله، ومقدمات كتبه. وربما جاد به على مقالاته الصحفية، يتوجها كما توج مقالة الزهرة، فقد استهلها استهلالا  شعريا ، فسجع وتخيل، حتى اذا بلغ أمنيته، عاد الى البحث العلمي في انشاء مرسل لا سجع به ولا خيال.

وفي هذا النوع من ترسله تكثر الفنون البيانية والبديعية ولا سيما التشبيه والاستعارة ومراعاة النظير كقوله: "وخفت اليه طلائع الاجابة من كل واد حتى أصبح مضمارا  لسوابق الأفكار، وسوابح الأحلام."

والكلام هنا على القطر المصري انه دعا الأدباء اليه فلبته جمةعهم. فلما قال: "طلائع الاجابة"، جعل الاجابة جيشا  على سبيل الاستعارة ورشحها ليزيدها قوة فكان القطر المصري لها ميدانا . وراعى النظير فجعل بها السوابق والسوابح من الخيول. وجردها فكانت خيول الأفكار والعقول. وأدخل عليها التشبيه الاضافي:سوابق الأفكار وسوابح الأحلام.

والتشبيه الاضافي كثير في ترسل الشيخ اذا نمق، وكذلك التشبيه التمثيلي الذي يأتي بصورة المحاكاة. كقوله: "الحمد لله الذي جعل العلم ضياء للبصائر، كما جعل النور ضياء للنواظر... يقلب أحوال الأرض، كما يقلب الدرهم بين الأنامل."

واليازجي شديد الحرص على اظهار الحقائق اللفظية. وحرصه هذا حمله على الاحتفال بالترشيح ليلبس اللفاظ المستعارة، والمشبه بها، الأثواب التي حيكت لها، فيعطيها قوة على قوتها، ولا سبيل الى ذلك بغير الترشيح. فلما استعار الجيش للاجابة، جعل القطر له ميدانا ، لأن الجيش لا بد له من ميدان تصول فيه خيوله وتجول. ومثل هذا قوله في العلم: "وزخر في كل واد تياره." فقد جعل العلم كالنهر الفياض بصورة الاستعارة. ثم رشحها فجهل لها تيارا  يزخر في كل واد.

وجاءت استعاراته وتشابيهه بل تعابيره في الجملة، قوالب جميلة نحتتها أيدي الأقدمين،فأخذها عنهم وأحسن انتقاءها وتأليفها، وأفرغ فيها صوره ومعانيه. وسبب ذلك سعة اطلاعه على مذاهب الكلام عند العرب، وتصنيفه نجعة الرائد في المترادف والمتوارد.

وأما انشاؤه المرسل فتقل فيه الصور البيانية والبديعية، والقوالب الموروثة، ولكن لا يعدوه اللفظ الأنيق وحسن اختياره. وهو أفيض طبعا  وأمرن جانبا ، وأسلس قيادا  من المسجوع. ويزداد قوة ومضاء بظهور شخصية صاحبه في مواطن الانتقاد، فيصطبغ بألوان من السلطة المتحكمة، والاعتداد المكين بالنفس، والتهكم الحاد، والقرص والتأنيب. فمن ذلك قوله في لغة الجرائد:

"يقولون: زف فلان على فلانة - هكذا معدى بعلى - فيعكسون الاستعمال، لأنه يقال زف العروس الى بعلها،أي أهداها اليه. ولا يقال زف الرجل الى المرأة. الا أن يكون هذا من مقتضيات هذا العصر الذي استونقت جماله، وأصبح ونساؤه رجاله. حتى رأينا الرجل يأخذ المهر، ورأينا المرأة تتطال الى النهي والأمر."

وحبه للنقد، وتتبع سقطات الأدباء، والادلاء بالرأي، والمباهاة بالمعرفة، حمله على الاستطراد في كلامه؛ فبينا هو يتكلم على لغة الجرائد اذا به ينتقل بصلة الغلط المشترك الى نقد الكتاب والشعراء المتقدمين كقوله:

"ترى أكثر كتابنا اليوم يقولون: لا يخفى بأن الأمر كذا، ويسرني بأن يكون زيد كذا، وهلم جرا . مع أنهم لو استعملوا المصدر في ذلك كله لم يكن لهذه الباء محل عندهم. ومن الغريب أن ممن استدرج بهذا عنترة العبسي في معلقته المشهورة حيث يقول:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر في الحرب دائرة على ابني ضمضم

وقول من قال ان الباء تزداد على مفعول خشبي ليس بشيء. لأنه لو استعمل الاسم هنا لم يقل خشيت بالموت. وأنكر ما جاء من مواضع زيادتها قول ابن حجة الحموي، رواه لنفسه في خزانة الأدب:
منعمة لفاء، مهضومة الحشا، تكاد بأن تنقد من رقة الخصر

فزادها في خبر كاد، وهو من المواضع التي لا تدخلها أن الا شذوذا ، فضلا  عن اشكال دخولها في هذا الباب من أصله. فما عتم أن زاد هذه الطينة بلة بدخول الباء." اه

واليك مثالين آخرين من أسلوبه أحدهما من المسجوع، والثاني من المرسل. قال يصف الزهرة:

"هي ملك جند الدجى، بل قائد معسكر الأنوار. بل الهة الجمال استوت على عرش من النضار، اذا برزت في ثوب بهائها فاكفهرت لها الشمس من الحسد، بل غشيتها حمرة الخجل بعدما علتها صفرة الكمد، فأقبل الهلال وقد انحنى بين يديها وسجد. وأطافت بها حور الكواكب. كأنهن أتراب كواعب. فوقفن لخدمتها متضائلات أمام عظمة جلالها، وقد أرخين شعورهن من حولها فشببن من جمالها. فما كادت تتجلى لهن حينا  حتى توارت عنهن بالحجاب. وسرن في أثرها متتابعات حتى برقعهن الصبح بأبيض الجلباب.

واذا رأيتها بارزة في طليعة الكواكب. وقد تجلت في فلكها حين لا يبدو طالع ولا غارب. فاستلت من الهلال سيفا  استقبلت به نحر الظلماء. ثم نادت في جيشها فاذا به قد طبق نواحي السماء. فبرز الرامي فأوتر قوسه وانتصب للنضال. ووضع الجبار يده على سيفه ونادى يا للنزال. وأشرع السماك رمحه فخفق فؤاد العذراء. وأطلق المريخ سهمه فاذا هو مضرج بالدماء. وتتابع سائر الجيش بسلاحه فلا ترى الا وميضا  وبريقا . وأسنة قد عاصت في كبد الدجنة فمزقتها تمزيقا . فما أقبل جيش الصباح الا والأفق مخصوب بدم الدجى. وقد بلغ سيله الربى بل جاوز الربى." اه

وينتقل الى البحث العلمي فيترك السجع والخيال الشعري:

"لا جرم انه اذا كان بعد الشمس والقمر نجم حري بالعبادة فأحرى النجوم بذلك الزهرة لما أنها أعظم الكواكب نورا  الخ.." اه

وقال في تعريف الشعر وهو من انشائه المرسل:

"ان النثر هو القالب الطبيعي للكلام الموضوع للابانة عن المعاني التي تتمثل في النفس. يتخاطب به العالم والجاهل، والذكي والبليد، والكاتب والأمي. فوجب أن يكون بحيث تتفاهمه هذه الطبقات كلها. ويعبر به عن المقاصد بأبين الصور وأوضحها. وذلك يقضي، ولا جرم، بأن يستعمل لكل معنى  اللفظ الموضوع له. بحيث ينتقل من اللفظ الى المعنى من غير واسطة. وبخلافة الشعر فانه من الكلام الذي يقصد به ما وراء مدلول اللفظ من مناغاة النفس، ومناجاة الوجدان، فتورى فيه المقاصد تحت الصور الخيالية. وتبرز المعاني تحت ثوب من المجاز أو الكناية ونحوهما. ولذلك اختص بمخاطبات البلغاء وطبقات الكتاب والمتأدبين. ونحي فيه منحى البلاغة في المعنى، والتأنق في الألفاظ والأساليب. وأكثر فيه من التفنن بالأنواع البديعية مما يجمع بعض أطراف المعنى الى بعض بما يربطها من تناسب أو تضاد أو غير ذلك بحيث تتألف منه صور كاملة على حد ما يفعل المصور في تصوير الأشباح، والمغني في تأليف النغم. والمقصود من كل ذلك الاستيلاء على قوى النفس والباس المعاني المتأدية اليها من طريق الحس أو العقل ثوبا   من الخيالات بعد تلوينه باللون الذي يريده الشاعر تبعا  لغرضه.

وبين أن هذا الذي ذكرناه من تأثير الشعر غير خاص بالكلام المنظوم. ولكن كل ما تضمن شيئا  من الأغراض الذكورة وأثر في النفس تأثيرها عد شعرا . وقد قدمنا أن غالب شعر الأقدمين لم يكن على وزن ولا قافية. وانما كان الشعر عندهم يمتاز عن النثر بشرف معانيه، وجزالة ألفاظه، ونوع أسلوبه." اه

منزلته

علمنا أن آثار اليازجي لا توازي شهرته العلمية ومنزلته في الغة وآدابها. فكيف طارت له هذه الشهرة، واستوت تلك المنزلة على قلة نتاجه ووشل مصنفاته؟ هذا ما نحاول البحث عنه لنستجلي تلك الشخصية القوية التي أمت الكتاب واللغويين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. وذهب لها صيت لم يذهب مثله الا للأقلين من معاصريها. وبلغت من ثقة الخاصة بمقدرتها اللغوية مبلغا  يمتد الى حد بعيد، حتى عدت حجة مكينة لا تقرع. ووضع صاحبها في طبقة أشياخ اللغة المتقدمين، وربما فضلوه على كثير منهم.

بدأت شهرة اليازجي يهب ريحها، ولما يزل رخص الأنامل، طري العود. فقد كانت مقارعته لأحمد فارس الشدياق أشبه بمقارعة بديع الزمان الهمذاني لأبي بكر الخوارزمي، فتلفتت اليه العيون، وتحدث به الناس، وعطف عليه النصراء.

ثم كانت مباحثه اللغوية والعلمية، فنقد المعجمات وبين ما فيها من سقط ونقص وخلل. وصب على الكتاب والشعراء غارة منتشرة أصابت الأخضر واليابس من المتقدمين والمحدثين، ولم تعف عنه وعن أبيه. وظهرت في نقداته قوة الحجة، وبراعة الاستنتاج والتعليل. فتهيبه الأدباء، وأقروا له بالفضل والتقدم. ولم يخل من خصوم وحساد يناصبونه، ويزيدون في شهرته، وامتداد ذكره.

وكذلك مباحثه العلمية جعلته موضع الاعجاب والاحتلاام عند أهل زمانه. وذلك لاتصاله بعلماء أوربة، واعتداد هؤلاء بآرائه وأقواله.

وكان تأثيره في النهضة قويا ، لأنه في نقده لغة الجرائد نبه الكتاب على مغالطهم، وحملهم على التماس اللفاظ الفصيحة، والتراكيب الصحيحة في كتاباتهم. ورأوا في نجعة الرائد معينا  حافلا  يستسقونه على ظماء، فيجود لهم بشتى الألفاظ، والتعابير المترادفة، فيستعينون بها حين يبتذل كلامهم من كثرة الاستعمال، وتضيق مذاهبه في وجوههم. وكان انشاؤه البليغ نموذجا  لكثير منهم يترسمونه ويطبعون على غراره. وأفاد اللغة بالمصطلحات التي استحدثها للمعاني الجديدة، وبالحروف التي وضعها للطباعة والنشر. فشهد الناس بفضله، وبايعوه بالامامة، وخلدوا ذكره، فكان أول أديب عربي نصب له تمثال في حاضرة.