poets-writers

Gabi Haddad

poet and writer

(1925 – 1965)

كابي حدّاد في ذكراه:

«صباح الخير يا راعي العوافي»

في منتصف تشرين الثاني من كلّ سنة، تأتي ذكرى كابي اسكندر حدّاد باردة، برودة الطقس والذاكرة. لكن الممحاة لا تنزل على ورقة من أوراقه، تخاف لهبًا في اسمه ما زال يُشعل الشعر والعشق، ويُسقط رمادًا عن جمرٍ كانه... واحترق به.

جوزف أبي ضاهر

«بلادي إلي ومنّا إلي بلادي
يا حسرتي ويا حسرة ولادي
هنّي وأنا عصافير
وكيف بدْنا نْطير
والدرب، كلّ الدرب صيّادي»

قبل نصف قرن أدرك كابي حدّاد ما وصلنا اليوم إليه. عرف بحدسه أن المتربّصين بنا حقدًا، «جميعهم»، يصوّبون «فوهات» شرّهم علينا، لاغتيال البشر والشجر والطير... وحتّى الحجر فينا، ولو تساقط الحجر شظايا على رؤوسهم وقتلهم.

... ما سُمع أنين كابي. رفع نظره إلى المسيح ورفع صوته:

«صباح الخير يا راعي، العوافي
أنا متلك، أنا بحبّ السَكينه
ليصل إلى القول:
إنت مشيت فوق البحر حافي
وأنا بالبَرّ صار بدّي سفينه»

... وحملته السفينة، منذ ولادته سنة 1925، إلى المغامرة.

ولد في عائلة ثريّة. والده صاحب «بنك حداد». غدر العمر به فغاب قبل أن يتمكّن من رعاية أولاده، وقبل أن يجعل منهم رجالاً يضيفون الى الوزنات التي أُعطيت لهم، لا شبابًا تغريهم الحياة فيغدقون عليها مما لم تجنه أيديهم، وينثرون الذهب على التراب... حتى يُقفل البنك صناديقه.

حصة كابي ضمنها له صهره توفيق الشرتوني (زوج أخته أغنس)، وكان تخطّي المرحلتين الابتدائية والثانوية في معهد الفرير (الجميزه)، وانتقل إلى الجامعة الأميركية لدراسة الهندسة، ولم يكملها... اختار أن يكون مدرّسًا.
كان على معرفة واسعة باللغتين الانكليزيّة والفرنسيّة، وأمّا العربيّة فلصهره الشرتوني الفضل في إيصالها إليه متينة بمبادئها، وقادرة على استيعاب أفكاره.

أوّل مدرسة دخلها لتعليم مادة الرياضيات كانت مدرسة شرتون. وانتقل الى مدرسة أخرى في مرجعيون، ومن الجنوب الى جونيه مدرّسًا للغة الانكليزيّة في معهد الرسل، قبل أن تستقبله مدرسة العائلة المقدسة في بيروت.

نار حبّ وشعر

لم يقنع كابي بـ «رسالة» التعليم. خرج من التدريس وأقفل الباب خلفه الى غير رجعة، ليفتحه على حبٍّ من نار أشعل القلب بلهب الوجع والوله، وبموهبة الشعر الذي عاش له، وعاش فيه بعدما غاب وجهه الى الأبد.

هذا الحب، أخذه من بيروت الى دمشق «كرمى لعيني ناديا صيدح»، المولودة مثله في العام 1925، وتزوجا في العام 1941، وانجبا نهاد ونديم.

«القفص الذهبي»، لم يغرِ العصفور بالاكتفاء بمساحة أضيق من جَناحيه، وهو الذي فلشهما وسع الجنون، وسع الشاعريّة.

بعد سنوات ست، بدأت رياح الخلافات تعصف بالبيت المبني على الأحلام. هي تريد زوجاً عملانياً، يتقن التصرّف الأرستقراطي، وهو لا يستطيع أن يكون غير بوهيمي يرفس الأرستقراطية برجله، ويسكب كأساً بعد كأس على اسم الشعر والحياة. ويصرف ما في الجيب غير مهتم بما سيّاتي من الغيب.

يُروى عنه، أنه: «في أحد أيام الشعانين، ألبس ابنه ثوبًا ثمينًا ووقفا على شرفة منزلهما. مرّت امرأة ممسكة بيد ابنها الذي يرتدي شبه ثوب ممزق. هزّه المنظر، ناداها لتقف... وقفت. نزع الثوب الجديد عن ابنه، وقدّمه للولد الفقير. وألبس ابنه بعض قديمه».

أقلّ من سنوات عشر مرِّت على الزواج المضطرب. كان لا بد من وضع خاتمة. تركت ناديا بيروت وعادت الى دمشق. لحق كابي بها. سعى الى إعادتها، أو الإقامة قربها ـ غير مرّة ـ ولم يُوفّق. الطبع غلب التطبّع... وانفصلا.
أبعدته من حياتها، فاقترب من ظلّها أكثر، حتى لبسه الظلّ، وبات «شاعر ندى» المغرم ، الذي لا يرى العالم إلا من خلال عينيها:

«لا عاد بدّي صبِّحا ولا مسِّيا
ولا شوف وجّا ولا بحلمي ناجيا
مستقبلي ضايع بوادي ماضيا
بْغيب عنها تَ طريقي ضوّيَا
بتقَوْدِم عليي وبنظره بتطفيا
ـ كذّاب. بكرَه الصبح رح بتحاكيا
ياما حلفْت وقلْت شو بدّي فيا
واحترت تاني يوم كيف بْراضيا
هَيْ حَرقة الشاعر، بقلبو مْخبّيا
بيضيِّعا... وبيجن حتى يلاقيا»

لجأ الى الوهم، يسقيه من كأسه التي انكسرت لحظة توقف الساقي عن ملئها... واستفاق في منتصف النهار على جيوب فارغة، وديون بدأت تطرق باب بيت أهله في حي السراسقه، سلّم مفاتيح البيت لأصحابه الجدد، وانتقل للسكن عند شقيقته أغنس، ولم يطل، غادره الى غرفة صغيرة في فندق بسيط على ساحة البرج.

«ما عاد فيي احتمل هالحصر
دايخ ولولا الكبريا ما بدوخ
قديش صعبي عيشتي بالقصر
وأصعب وأصعب عيشتي بالكوخ»

كتاب ومجلّة

سنة 1947 أصدر كابي حدّاد قصة غراميّة بالزجل اللبناني عنوانها: «مي وغسان» تصدّرتها صورة له بريشة الفنان صليبا ادوهي. لكنه سرعان ما نَدم على طبع الكتاب وانكره واعتبره «مرحلة مراهقة وانتهت».

بعد سنوات ثلاث امتلك «مجلة السلوى» «أدبية اجتماعية أسبوعية»، تصدر في بيروت مرتين في الشهر، مؤقتاً. واستطاع أن يكوكب حولها أسماء لامعة.

حال «السلوى» لم يكن مغايرًا لحال معظم المجلات الأدبية. اعترضتها صعوبات ماديّة فرضت على كابي التوقّف عن إصدارها بعد سنتين.

في الثاني من نيسان 1952 تأسست «عصبة الشعر اللبناني»، وكان كابي من مؤسسيها الى جانب: أسعد سابا، اميل مبارك، أسعد السبعلي، طانيوس الحملاوي، منير وهيبه الخازن، خليل قرداحي، سليم الخوري، وعبد الجليل وهبه... وانتخب أمينًا للسر في أول مجلس للعصبة التي أحيت في نفسه روح المغامرة فتعاون مع رفيقه خليل قرداحي (1954) على اصدار مجلة «منجيرة الراعي»، وتولى فيها كابي المدير المسؤول، وكانت «المنجيرة» أفضل حظًا من «السلوى» فاستمرت في الصدور حتى سنة 1957.

في خلال هذه المرحلة انضم كابي الى أسرة جريدة «الجريدة» أيام رشدي المعلوف وجورج سكاف، وتولى فيها القسم الاقتصادي. وحين أسس المعلوف جريدته «الصفاء» (10 نيسان 1962) كان في عداد المؤسسين معه، ليتولى أيضًا الصفحة الاقتصادية، الى جانب عمله محرراً في «الوكالة الوطنية للأنباء»، وانتخب عضواً في أوّل مجلس لنقابة محرري الصحافة.

بداية النهاية

مطلع سنة 1965 ظهرت عليه ملامح المرض، قاوم، رفض.. لكنه في قرارة نفسه كان يعرف كل شيء، ويعرف أن النهاية بدأت تلوّح له بمنديلها.

دخل الى المستشفى اللبناني في الأشرفيه (15 نوار 1965) وأجريت له عملية جراحية أولى لاستئصال إحدى رئتيه.

كان متعاليًا على المرض وفوق سريره صورتان واحدة للعذراء وثانية لـ «ندى»، التي قَبِلت أن تعود نتيجة تدخل الأصدقاء الذين نقلوا لها رغبته في مشاهدتها. بقيت معه في المستشفى مدة يومين، وعادت الى بيتها في دمشق، وهي لا تعرف إذا كانت ودّعته الى الأبد.

المرحله الأولى في المستشفى كشفت كلَّ شيء، الأيام انحسرت في أوراق من الروزنامة، تبدّلت ملامحه، ولم تتبدل نبرة صوته، ظلّت ضحكته تخترق المكان والزمان.

حاول أحد المثّالين، أن يصنع له تمثالاً... بدأ في وضع خطوط الوجه، وظل يحاول حتى كان له ما أراد. ركّز الملامح، ونام على أمل أن يقوم في اليوم التالي ويُكمل، ولكن المفاجأة صدمته. رأى التمثال شظايا مبعثرة في أرجاء المحترف... وحين جاء كابي، دلّه بحزن على الشظايا. فضحك بسخرية وقال:

«دوّبت عينك يا طويل البال
ويا ريت طول البال بيفيدك
جرّبت تنحت عيشتي تمثال
جنّ الزميل وفرّ من ايدك»

صعبة كانت أيامه الأخيرة، وقاسية. انهار ولم يبقَ إلا بعض الصوت المرتجف يقول كلامًا أخيرًا قبل أن يغمض العينين على الحياة:

«لا اسم إمّي ولا حدا
إلا أنا وصورة ندى
وعدرا معلّقه من فوق تختي
وكلمة يا خيي من قلب أختي
هي أوضتي بليلة عذاب
مصّت من ضلوعي الشباب»

... ولم يكمل، بقيت القصيدة من دون خاتمة.

منتصف ليل الأحد ـ الاثنين 14 ـ 15 تشرين الثاني 1965 مات كابي حداد.

انتهى كل شيء. توقّف القلب، وتوقّفت الحركة الصاخبة في العينين، وكمثل كل شاعر، كان مأتمه حاراً وبارداً بلون مطر تشرين، الذي يعود كل سنة، حاملاً رجع صدى صوت كابي حداد في ذكراه.

كلام صور:
ـ كابي حدّاد بريشة صليبا الدويهي.
ـ من آخر ما كتب كابي حدّاد في المستشفى.