poets-writers

Amin Mashreq

poet and writer

أمين مشرق 1894- 1938

بقلم: نسيب عازار رئيس المجلس الثقافي في بلاد جبيل
 
ولد أمين مشرق في غرزوز سنة 1894 وتلقى دروسه الابتدائية في مدرستها، ثم انتقل الى المدرسة الأميركية في طرابلس وتابع دروسه فيها حتى حصل على الشهادة الاستعدادية. ومنعته احواله المالية من مواصلة الدرس فهاجر الى الولايات المتحدة الأميركية سنة 1914 طلبا  للرزق وأقام بمدينة نيويورك سنتين، ثم غادرها الى الأكوادور فاستوطنها وجعل يتعاطى التجارة. وفي سنة 1938 صدمته سيارة صدمة قاتلة أودت به وهو ابن أربع وأربعين سنة، وكان يرجى منه ثمر كثير.

تعرف أمين في أثناء اقامته بنيويورك الى معظم الأدباء الذين ألفوا الرابطة القلمية الشهيرة، ولقي منهم تقديرا  واعجابا ، وأتيح لي أن أطلع على رسائل بعث بها الى أمين وهو في الأكوادور، كل من جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه ونسيب عريضه.

كان أمين ينشر كتاباته في الفنون والسائح وغيرهما من الصحف العربية في المهجر، وقدمته صحيفة السائح لقرائها في عددها الممتاز لسنة 1927 بقولها: "كاتب ذو قلم سيال وشاعر تتدفق عواطفه في شعره فتسري الى النفوس وتفعل فيها فعلها، وهو من دعاة التجديد في الأدب. الا أن التجارة صرفت نظره عن الانقطاع الى الأدب فأصبح كالطائر السجين يغرد دقيقة ويسكت دهرا ".

شغل أمين بهمومه المادية فلم يتسن له التفرغ للشعر والاتساع في الثقافة، فكان مقسم الفكر والغايات بين فن شغفه حبا ، وجهاد في سبيل المعاش أكره عليه اكراها.

وفي غضون حياته القصيرة المضطربة، استطاع أن يختلس فرصا  متقطعة كتب فيها ما تركه من روائع. ومما يدعو الى الأسى ان بعض آثاره لم يسلم من الضياع.

ظل قلب أمين في غربته القاسية، يتلفت الى غرزوز الى وطنه الأول، الى جنة أحلامه، بحنين موجع يتجلى في أقواله التي أنقلها اليكم وهي فقر من رسائل كتبها الي من الأكوادور:

"سلم على كل غرزوز يا أخي نسيب، غرزوز التي أراها أجمل بقعة في الأرض، والتي أطلب اليه تعالى ألا يميتني الا فيها... أنا هنا في عراك مع الطبيعة... أحن والله أشد الحنين الى العيش في غرزوز. وان كنت اليوم أحاول جمع المال بأقصى جهودي فانما لغاية العودة الى غرزوز الى عيش البساطة الكلية... كيف غرزوز؟ وهل خرجت لتشم رائحة الأرض عند أول مطرة في الخريف؟ وهل سكرت بعبير القندول واللزان والأويسه والرفغان والملعى والأقحوان وقد نشرتها نسيمات نيسان؟

هنيئا  لكم يا أخي نسيب، هنيئا  لكم أنتم المتخلفون المتجمعون حول المواقد في الشتاء اذا فشلتم في تجارة أو لحقت بكم خسارة، بقي لكم قطعة أرض تأكلون قمحها وتتنشقون عطر ترابها شاكرين. أما نحن المهاجرين، نحن الطماعين، نحن الغرباء المنبوذين نحن الكفرة العقوقين...".

أبت الأقدار أن تسعف أمينا  بأمله وتميته في غرزوز. الا أنه أتاها قبل وفاته بست سنوات، ومكث اذذاك مدة في لبنان، واختار رفيقة حياته ثم مضى بها الى الأكوادور على أن يعود في يوم من الأيام ولكنه لم يعد.
كان صوت امين مشرق صوتا  رومنتيكيا  فيه حزن الرومنتيكية وحنينها وثورتها وحلاوتها الغنائية، ونزعتها الذاتية، وتبرمها بالواقع، وتطلعها الى عالم جميل غير هذا العالم.

وليس عجيبا  أن يتأثر امين بالرومنتيكية ويسلك طريقتها على علم او غير علم منه، فهو قد عاش في جو ادبي يسوده الخيال الرومنتيكي، اعني جو الرابطة القلمية في المهجر الشمالي. وكان جبران عميد هذه الرابطة يطلق اناشيده الرومنتيكية الطريفة في فضاء نيويورك فتعبر اصداؤها القارات وتتغلغل في النفوس، وما اكثر من استجاب لهذه الاناشيد المثملة المرنحة، وما اكثر من تأثر بها وحاول ان يحاكيها ويقصد قصدها!

ما هي الرومنتيكية؟

ثمة نظرتان متناقضتان الى الانسان يمكننا ان نسميها نظرة، كلاسيكية ونظرة رومنتيكية.

الكلاسيكية ترى ان الانسان حيوان محدود ممتاز، ذو طبيعة راسخة، يروضه التنظيم والموروث، ويجعلانه حسنا  الى حد  ما.

والرومنتيكية ترى ان الانسان طيب العنصر، سليم الطبيعة، ذو امكانات مخزونة غير محدودة، لكن الشرائع السيئة والاحوال التي يعيش فيها افسدته. فاذا اصلحنا هذه مهدنا السبيل لامكانات الانسان الكبرى وادركنا التقدم المنشود.

أما الحركة الأدبية الرومنتيكية فكانت في اول امرها ثورة على تقاليد الأدب الكلاسيكي وبلغت اوجها في حقبة من القرن التاسع عشر. وليس من اليسير ان نعرفها تعريفا  تاما  شاملا  لأنها ذات نزعات متعددة تختلف باختلاف المؤلفين واختلاف الزمان والمكان.

على اننا نستطيع ان ندل على سماتها العامة المميزة، من غير دقة وحصر، وذلك في نطاق الموضوع والاتجاه والتعبير.

يتناول الموضوع الرومنتيكي في جملة ما يتناول البلدان والازمنة القديمة، والطبيعة وما فوق الطبيعة، والخراب والموت والقبور والليل واللاوعي والاحلام وما اليها.

أما اتجاه الرومنتيكية او موقفها فهو النزعة الفردية، واننا لنجد البطل الرومنتيكي اما عاكفا  على نفسه يمزقه الحخزن او السأم، واما ثائرا  غاضبا  على المجتمع. وكثيرا  ما يلوح عليه في الحالين جميعا  طابع اللغز. والرومنتيكية تثق بالمخيلة وتركن اليها، وتؤثر المثال على الواقع، وتلهج بوطن غامض مجهول بعيد المنال.

وفي التعبير تبتغي الرومنتيكية التحرر من التقاليد والمصطلحات، وتشدد امر الغنائية والتلقائية، وتذهب الى التأمل والابهام، وتسعى للتجديد في الفنون الأدبية.

ولا بد من القول ان كثيرا  من الادباء اتسم ادبهم بالرومنتيكية لكنهم لم يعنوا بنظرتها الفلسفية الى الانسان.

ومما يؤخذ على الرومنتيكية ان بعض شعرائها تعسفوا الطريق في مجاهل الخيال ومعاميه، وتمادوا في الانصباب على نفوسهم، واهملوا التراث واكتفوا بمواهبهم الشخصية. وفوق ذلك ادت الرومنتيكية الى اتجاهات باعدت بين الشعر والعقل، بين الشعر والحياة، وحملت الشاعر المتبرم بالناس والمجتمع على أن يستوحد وينطوي على نفسه ويترفع عن العالم ويهرب منه الى صومعة من صنع خياله واحلامه.

وهذا النزوع الرومنتيكي الى العزلة والترفع والهرب يعرب عنه الشاعر صلاح لبكي حيث يقول في قصيدة له عنوانها:

"ميلاد الشاعر":

وحدي فما الانسان لي باخ ولا هو لي بجد
انا لست من هذا التراب ولست من حسد وحقد
فلقد تركت وعشت في ملأ من الاحلام فرد
وقطعت وما بيني وبين الارض من صلة وود

اذا قطع الشاعر ما بينه وبين العالم من صلة وعاش وحده في ملأ من الاحلام، خسر العالم وخسر نفسه اي خسر قيمته الشعرية.

يبدو لي ان هنالك فرقا  اساسيا  بين الهرب الرومنتيكي والرفض في الأدب الحديث. الرفض يتضمن معنى المواجهة والتحدي والرغبة في الهدم. وهذه تسبق البناء والتغيير. اما الهرب فما هو الا عجز عن المواجهة والتحدي، ما هو الا استسلام تام واخلاد الى الهزيمة.

ومهما يكن من امر الرومنتيكية فان اكابر شعرائها اتوا باثار خالدة تبوأت مكانها الرفيع في تراث الشعر العالمي.

لقد اطلت شيئا  في الكلام على الرومنتيكية وذلك لأنها كانت في زمن امين مشرق تنفخ من روحها في الأدب العربي، ولأن اساليبها ومفاهيمها الشائعة كانت وراء موهبة امين، ولونت موضوعاته واتجاهاته وطريقة أدائه.

وكثيرا  ما عمد امين الى التوشيح في نظمه على مذهب شعراء المهجر المجددين الذين اولعوا بالموشحات الأندلسية وعدوا احتذاء اشكالها ضربا  من ضروب التجديد. وبالاضافة الى موهبته الشعرية اوتي موهبة  موسيقية فكان يحسن ضرب الكمنجة. ولذلك جعلها غير مرة موضوعا  لقوله.

تنتهي الينا من صوت امين مشرق نغمتان او لهجتان متباينتان: لهجة مجدد غاضب ثائر ينكر على امته استمساكها بالتقاليد البالية، وينقم منها ضعفها، ويحثها على البطولات، ولهجة مخزون شاك، متململ معذب، تمزقه الوحدة، ويلوعه الوجد والحنين.

كان الحزن من خصائص امين مشرق. وربما بلغ حزنه حدا  فحس معه أن نفسه تحترق احتراقا ، غير ان هذا الحزن لم ينته الى اليأس المظلم المدمر. فهو مثلا  لا يكاد يفرغ من بث شكواه ووصف ما يلقى من الم الحب حتى يقول:

طلع البدر في السما وبقلبي طلع الحب يملأ الليل نورا
غمر الأرض بالشعاع وحبي غمر الأرض والفضا والدهورا
عبر امين عن تجارب عاناها. وكان في تعبيره يحول دمه الى حبر، ويذيب المه في اناشيد. يقول في موشح له عنوانه "دموع الامل" معربا  عن شعوره وهو مفجوع بفقد امرأة احبها:

اطارد همي بلحن الوتر الوذ بأناته الواهيه
وانظم شعري كنظم الدرر فلا اللحن يجدي ولا القافيه
ولا كل هذا الورى مشبعي وانت ذهبت فلن ترجعي

بهذا القول الشعري الرائع المفصح عن منتهى الاسى، والسليم من التنميق ومن العاطفة المائعة، نقل الينا أمين شعوره الاليم بالفجيعة، وجعل من تجربته الشخصية شعرا  يعبر عن تجربة انسانية، يعبر عما يجده كل من ابتلي بفقد حبيب وضاقت عليه الارض برحبها.

الا أن مقاطع هذا الموشح تتفاوت قيمتها الشعرية ولا تبلغ مستوى المقطع الذي نحن في صدده.

واذا مضينا في قراءة الموشح تبين لنا ان الشاعر المحزون اليائس يستشف من وراء ظلمة يأسه بارقة أمل تعينه على الصبر وعاى احتمال الحياة. اذ يقوم في نفسه انه سيلقى في عالم الخلود حبيبته التي اختطفها الموت. ومن هنا كانت دموعه دموع الأمل.

وله موشح مشهور يناجي فيه الكمنجة ويقول في مطلعه:

انصت الليل واشباح الدجى ويك ما هذا التلوي والأنين
يا ابنة الأخشاب هل فيك حشا تتلوى تحت هزات النغم
هل ترى فيك فؤاد قد مشى فيه اشواق وآلام ودم
هل ترى فيك هيام او شقاء او سقام

هذه المناجاة الموسيقية، مناجاة الكمنجة التي هي في الحقيقة مناجات الذات، وهذه الصيحات المكرورة، صيحات التساؤل الخافتة الحزينة النائمة، تكسب موشح الكمنجة قوة الايحاء، وتفرغ عليه شعورا  وحرارة، وتكشف عن احتراق روحي قلما وفق امين للكشف عنه في سائر شعره بمثل هذه الحرارة ومثل هذا الشعور. ولا يغفل شاعرنا وهو يناجي الكمنجة، حنينه الرومنتيكي الى "ربوع ما رأتها قط عين" وظمأة الدائم "لدار قاصية"، ويمزج ذلك بالايماء الى موقفه الحائر من الحياة، ومن الخلود والشك واليقين فيقول:

يا ابنة الأخشاب هل هذا الحنين لربوع ما رأتها قط عين
أم ترى هذا سؤال تسألين عن حياة وخلود كيف؟ اين؟
بين ايمان وريبه بين آمال وخيبه

تارة  يبدو لك العيش لعيبه تارة  يبدو لك الشك يقين
لا، فما فيك كروحي نسمة ابدا  ظماى لدار قاصيه

ان الرومنتيكية لحمة هذا الموشح وسداه. وهو يتميز بان مقاطعه تكاد تكون على مستوى شعري واحد، وليست درجات بعضها ارفع من بعض كشأن طائفة من موشحاته.

يختلف الحزن الرومنتيكي اختلافا  شديدا  عن الحزن في الأدب الحديث. فهذا احلك لونا  وابعد اغوارا .
مأساة الأديب الرومنتيكي فردية او اجتماعية، مأساة انسان ينشد الصلاح في مجتمع فاسد يقع في الامكان اصلاحه.

أما مأساة الأديب الحديث فهي كونية او ميتافيزيكية ان صح التعبير، هي مأساة الجنس البشري باسره، مأساة الوجود اللامعقول والمصير المظلم، مأساة "سيزيف" الأبدية.

وراء الحزن الرومنتيكي في اكثر حالاته رجاء يأتي اما من الايمان الديني، واما من الثقة الكبرى بالتقدم الانساني، واما من الركون الى حلم غامض جميل.

وليس وراء المأساة الحديثة رجاء موضوعي يأتي من الخارج. واذا كان ثمة من عزاء فهو ينبع من اليأس نفسه، هو استنارة روحية باطنة، وبعبارة اخرى هو قبول المأساة التي لا بد منها. على ان ذلك لا يعني ان الأديب الحديث يقف موقف اللامبالي من قضايا العصر ومن السعي لتغيير العالم.

يستوقفنا عند شاعرنا أمين، حنينه الحار العجيب الى امه. وأقواله فيها وهو بعيد عنها في غربته من اجود شعره ونثره. ومنها قوله في اثناء الحرب العالمية الأولى وقد اشفق عليها وعلى اخوته أن يكون أصابهم مكروه بعد انقطاع اخبارهم عنه:

أماه بالله ما دهاك وما دهى اخوتي الصغار
هل أوقعتكم يد الهلاك ما بين نار وبين عار
هل طغى فيكم الأعادي وطاردوكم الى البوادي
أماه ها انني أنادي أماه هل تسمعين؟

قولي أتهتم بلا دليل في أبعد البر والقفار
ترجون من عابر السبيل شيئا  من القوت بانكسار
ولم يعد في الحقول عشب ولم يعد في القلوب حب
ولم يعد في السماء رب يصغي الى النوح والأنين

بهذه الاسئلة المتدفقة في جزع وتلهف، والمثقلة بالشعور وحرارة القلب؛ وبهذه الصورة الحسية المتحركة، صورة اسرة جائعة مذعورة مشردة تهيم في البراري والقفار، وترجو من عابر السبيل شيئا  من القوت بانكسار، أدى الينا الشاعر ما يريد قوله عما كان يخشى أن يحل بأمه واخوته، أداء دراماتيكيا  - وما الأداء الشعري في جوهره الا الأداء الدراماتيكي - ثم أتم الصورة وزانها بيتين رائعين يطيب لي أن أعيدهما:

ولم يعد في الحقول عشب ولم يعد في القلوب حب
ولم يعد في السماء رب يصغي الى النوح والأنين

وهاكم مثالا  آخر من مقال لأمين يناجي فيه أمه، عنوانه: "أمي":

... آه ما أقسى الغربة، وما أمر الوحشة! قد كرهت البعاد يا أمي، واشتاقت نفسي ماضيها الأمين. قد كرهت التمشي بين القصور الفخمة، والمباني الشاهقة، واشتاق قلبي الى بيتنا الصغير المنفرد. قد كرهت روائح العطور الفائحة من التماثيل المتخطرة في برودواي... واشتاقت حواسي الى رائحة الأمومة المنتشرة من "فسطانك" العتيق. قد كرهت نيويورك وكرهت أميركا، وكرهت العالم، ولم يبق لي في الحياة الاك – الاك يا أمي".

في نيويورك، في المدينة الكبرى، مدينة الغنى والفقر والصخب والعنف، لقي امين شقاء الغربة والوحدة والضياع، وافتقد حلمه الشعري بعيشة راضية مطمئنة.

في نيويورك، قمة الحضارة المادية، حيث يقترن النعيم بالجحيم وجد أمين مس الجحيم في نفسه وتمثل له النعيم في احضان امه.

كانت أمه رمزا  لحنينه الى العيش الهادىء الرغيد ، الى ماضيه وربوع صباه، الى عهد منقض من عمره جمله البعد عنه.

كانت رمزا  لحمى أليف أنيس يستجير به مما يكابد من قسوة حياة لم يخلق لها في غربته الموحشة.

كتب الناقد المصري محمد مندور عما سماه بالشعر المهموس والنثر المهموس في الادب المهجري، وعنى بهما الادب الانساني الصادق الأليف الذي يمس النفس ويهز المشاعر على حد تعبيره. واتخذ مقال أمين مشرق في أمه نموذجا  للنثر المهموس فقال:

"هذه انفاس أمين مشرق، أعد قراءتها، ثم استشعر ما فيها من حرارة ونبل. أو ما تحس بروح جميلة يحزنك أن مات صاحبها: مات بعيدا  عن "غابة السنديان" وأي قرار أجمل من أمي يتردد من حين الى حين، فكأنك تلقى واحات بصحراء محرقة، واحات ناعمات الظلال: "ما أحلاك يا أمي، ما أصفاك يا أمي" وصرخت يا أمي، هل رأيتني أمي، اني مشوق اليك يا أمي".

كم تسكن النفس الى هذا القرار! وماذا يذكر عن أمه؟ يذكر فتات الحياة التي عرف كبار الشعراء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة، يذكر يديها اللطيفتين الناعمتين، ووقع قدميها الصغيرتين حول سريره، يذكر "فسطانها" العتيق وبيتهم الصغير المنفرد... هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحركنا، لأنها نسيج الحياة، نسيجها الحقيقي، وبهذه التوافه عبر الموهوبون من الأدباء عن اكبر المشاعر. وموضع الاعجاز هو أن نقول الأشياء الكبيرة بألفاظ صغيرة، ولا تحسبن هذا أمرا  هينا ، فليس أشق من أن نلاحظ ما نراه كل يوم".

حسبنا هذا التقدير لأمين من ناقد يعد من كبار أهل الأدب والنقد في مصر وفي العالم العربي.

كان أمين مجددا  في نظرته الى الأدب والحياة، يريد نبذ القديم والأخذ بالجديد، وثوري الروح يدعو الى الهدم والبناء، ويندد ببني قومه الضعفاء، ويشيد بالقوة وبذكر الأبطال.

وضع أقصوصة - عنوانها البطل - روى فيها بسالة جندي بلجيكي بذل نفسه في معركة حربية فدا ءً لوطنه وهو يهتف باسم الوطن في نشوة فرح واعتزاز.

وتتجلى روح أمين الثورية في مقال له نشره في مجلة الفنون سنة 1917 وسماه "اردية الآباء". يتضمن هذا المقال مقاطع جديرة بالاعجاب تدلنا على ان كاتبها احس بالثورة الفكرية في زمنه احساسا  عميقا . ومن هنا كانت الروح الثورية عند أمين مزية من الأهمية بمكان.

تناول في مقاله "أردية الآباء"، قول القائل:

من تردى برداء ما رآه لأبيه
سوف يأتيه زمان يتمنى الموت فيه

وجعل يسخر من هذا القول، وعده آية ذهبية اتخذها شعبنا ورأى في الخروج عنها، أي في الخروج عن تقاليد الآباء وعاداتهم وآرائهم كفرا  بالله والحقيقة والوطن.

ثم اندفع يتحدث عن التجديد والقوة والثورة. لست أقصد الى تلخيص المقال وانما أحب أن أنقل اليكم شيئا  من كلام أمين يتعلق بهواجس الثورة في نفسه.

قال مخاطبا  رفاقه الشبان والشابات:

أمامنا عقبات كثيرة، ولكنها ستذوب أمام العزم الذي لا يذوب. وطريقنا طويلة طويلة، فليكن صبرنا طويلا  طويلا ، ولتكن همتنا شديدة شديدة. لا تلتفتوا الى خلف ولا تحاولوا أصلاح القديم فانه أصبح للموت، بل اجتهدوا في اصلاح نفوسكم وفي تقوية ذواتكم لاستقبال الحياة، حياة الجديد، حياة القوة...

سيروا يا اخوتي! انني أرى الثورة تقترب، كلما نظرت الى هذه الوجوه المتشنجة والسحنات المنقبضة، وكلما تأملت هذه العيون الحادة الملتهبة الساكنة، تمثل لي من ورائها أرواح هائجة كالبحار، متدفقة كاللجج، ونفوس ملتهبة كالبراكينن متواثبة كالصواعق، وسمعت دمدمة بعيدة من اطراف الآفاق تقترب رويدا  فأقول في نفسي: ثورة! طوبى للمتمردين! طوبى للأبطال!".

ما ان قرأت هذه الكلمة، حتى خيل الي انها كلمة طالب ثائر من طلاب العالم الحديث، يبشر بالثورة ويشحذ لها العزائم.

ثم ينتهي أمين الى القول:

"من وراء الجثث المتدلية في حبال المشانق، من وراء الأجساد الذائبة على نيران التجويع، من وراء الشراذم المتبددة في جميع أقطار الأرض لا تحمل راية ولا تعرف وطنا ، من وراء هذه الأيام السود والليالي المخيفة المحفوفة بالمهالك، من وراء جميع ذلك، أرى طلائع صبح ناصع البياض...".

في هذه الأقوال الثورية، يرتفع أمين الى مستوى العصر، ويسمعنا صوتا  لا تذهب جدته، يسمعنا صوت الأجيال الثائرة في كل زمان ومكان، يسمعنا هذا الصوت بحرارة المؤمن، وبأسلوب رائع هو النمط الأوسط بين الأسلوب المائع والأسلوب الجاف.

والأمل الذي يستشف نوره من وراء الظلمات انما هو أمل انساني بل روح معز كان وما زال ينفذ الى النفس البشرية ويضيء لها الآفاق في حلك اليأس وغمرة الآلام.

ولما انتهى الى المهاجرين في اثناء الحرب العالمية الأولى، أن شعب لبنان يقاسي الموت جوعا ، ثار ثائر أمين مشرق وأعرب عن ثورته بقصيدة رائعة عنوانها "آية الأجيال". وهي من أجود شعره، وتستمد قوتها من لهجة التعبير (tone) الملائمة لموقف الشاعر وقصده ومن الشعور الذي يتدفق فيها، ومن وحدتها الفنية وتضافر عناصرها المتناسقة على ادراك الغرض المقصود.

الشاعر غاضب لقومه ولما كابدوا من بؤس وجوع، وغاضب عليهم لأنهم استسلموا للذل والهوان وكان ينبغي أن يثوروا على من ظلمهم وأجاعهم واستبد بهم. وهذا الموقف، موقف الشاعر من قومه، تفصح عنه، لهجة التعبير في القصيدة، تفصح عنه، اشطر الأبيات القصيرة المتوترة ونبرات الألفاظ المتوهجة الجائشة بالشعور، والقوافي المشبعة الممدودة التي تزيد في حرارة الاداء وتأثيره. ابتدأ القصيدة بقوله:

يا للمذلة كيف عاشوا يا للفضيحة كيف ماتوا
يا للجبانة لا فتى شهر الحسام ولا فتاة

التعجب الساخر اللاذع المتقد انكارا  واباء وحمية في هذين البيتين يسم الاداء بطابع دراماتيكي. ويستمر القول دراماتيكيا  حارا  في معظم المقطع الأول من القصيدة حيث صور الشاعر كيف عانى قومه الجوع والشدة والموت.

يقول:

يتقلبون على الطوى ولهم أراض مخصبات
وقفوا بها متفرجين لهم عيون شاخصات
لا قلب يخفق للوثو ب ولا يد فيها حياة
شعب وليس به دم جبل وليس له ثبات

وينتهي المقطع الأول باداء تقريري مباشر تبرره التوطئة الدراماتيكية التي تقدمته وهيأت له:

قتل الجناة نفوسهم لله ما قتل الجناة
ان الشعوب نفوسها فاذا ذهبت بها رفات
ما الموت اطباق الجفون وانما الذل الممات

واحب أن أشير الى الفن الشعري في قوله:

لا قلب يخفق للوثو ب ولا يد فيها حياة

ذكر القلب واليد رامزا  الى الشعور والفعل، لأنه لا بد من أن يكون وراء الفعل، شعور يدفع اليه. ويواصل الشاعر في المقطع الثاني والأخير من القصيدة تعنيف قومه ناقما  منهم التغني بالأمجاد الماضية والمفاخرة "بعز من ولوا وفاتوا" وهم أذلاء صابرون على المذلة فيقول:

أبناؤهم كالمجرمين مذبحون وهم برأة
وبناتهم، اعراضهن على الطريق مهتكات
ونساؤهم وصغارهم وشيوخهم، مرضى عراة
ويفاخرون بعزهم وبعز من ولوا وفاتوا

ثم يخاطب ربه معاتبا  الى أن يختم القصيدة بقوله:
ذا عالم للبطش ما للعدل فيه مرتبات
أنى تكلمت المدا فع، فالشرائع صامتات
خلق الردى للضعف لا تجدى الضعيف تضرعات
والعيش للأبطال تق حمه النفوس الباسلات
ذي آية الأجيال خط تها الدماء السائلات
من ليس يحميه الحسا م، فليس تحميه الصلاة

تتضمن هذه الأبيات الأخيرة فكرة القصيدة او الغرض الذي قصد اليه الشاعر وسعى لادراكه، وهي تقرير مباشر يبرره كل التبرير اشتراك جميع عناصر القصيدة في التمهيد له، فاذا هو شبه نتيجة منطقية وطأ لها القول المطرد في سياق القصيدة. وبالاضافة الى ذلك، ينبغي أن نقيم وزنا  لقيمة هذه الأبيات الذاتية المتجلية في براعة التعبير الشعري الذي يؤلف بين الفكر والشعور ويورث التقرير حرارة  واشراقا . وكثيرا  ما يجيء التقرير المباشر في الشعر الرفيع لكنه لا يجيء الا موسوما  بالمزايا الشعرية.

يذكر ت.س. اليوت في دراسته الشهيرة لدانتي، ان هذا الشاعر العظيم، تأتى له أن يجعل من التقرير الفلسفي شعرا  رائعا  في بعض اجزاء الكوميديا الألهية.

تعنى قصيدة "آية الأجيال" بتجربة انسانية أصيلة تنشأ عن موقفنا من طغيان القوة على الحق، وتقع منا موقع اهتمام سواء أأخذنا برأي الشاعر في مواجهتها، أم لم نأخذ. ولن يكف قراء الشعر عن الاهتمام بمثل هذه التجربة والاستجابة لها ما دام في الأرض ضعيف مغلوب على أمره يستبد به قوي، ما دام في الأرض صراع الحق والقوة.

يقول الشاعر الحديث خليل حاوي في مطلع قصيدة له يتناول موضوعها هزيمة حزيران والقدس المحتلة:

ما لوجه الله صحراء وصمت يترامى عبر صحراء الرمال

لعل سؤال الشاعر الحديث عن صمت الله، لعل هذا السؤال الموجع الدقيق يرجع، على اختلاف طريقة الاداء، الى التجربة الانسانية نفسها التي حملت أمينا  على أن يقول في حسرة وثورة منذ أكثر من نصف قرن:

أنى تكلمت المدا فع فالشرائع صامتات

ملك أمين مشرق موهبة شعرية مبدعة تفجرت بأدب رفيع، حقيق بالاعجاب والاكبار. وفي اعتقادي، أن أعماله المختارة تعد من روائع الأدب المهجري، وستبقى ما بقي هذا الأدب، أي ما بقي الأدب العربي.

ما أظن أن في النقد كلمة أخيرة... وددت لو توطىء كلمتي في أمين مشرق لدراسات أتم وأشمل. فالحقائق التي ينتهي اليها النقد الأدبي انما هي ثمرات البحث الجاد المشترك.

نسيب عازار