musicians

Melhem Barakat

musician

ملحم بركات 1944 - 2016

تحضير الأب يوسف طنوس

مطرب وملحّن من كبار الموسيقيين اللبنانيين والعرب، طبع الأغنية العربية المعاصرة بأسلوبه اللحني الإبداعي وأدائه الذي يجمع بين الطرب الأصيل والغناء المتجدّد، إنّه ملحم بركات، صاحب الجملة الموسيقية المتجدّدة والمبدعة في الطرب الشرقي، وصاحب الصوت الذي يُعتبر من أجمل أصوات مطربي هذا العصر.

ولد في بلدة كفرشيما في شهر نيسان عام 1944. والده كان نجارًا، مارس الفن كهواية، وكان يدندن على العود ويرندح أغنيات عبد الوهاب. أمّا ملحم فكان يصغي إليه باهتمام، يراقب أصابع يديه على آلة العود ويتعلّم. وعندما كان الوالد يتغيب، كان الصبي ملحم يقفز ويلتقط العود من على ظهر الخزانة ويدندن عليه، فيجتمع الصبية حوله يصفقون، ويلقبونه "مطرب الضيعة".

ظهرت موهبته الموسيقيّة منذ كان تلميذًا في مدرسة بلدته كفرشيما. وقيل بأنّه قام بتلحين بعض الكلمات من الجريدة اليومية وقام بغنائها فى إحدى المناسبات المدرسية. ويؤكّد ملحم بأنّ أول لحن وضعه كان نشيدًا لمدرسة كفرشيما.
وكان ملحم يستمتع بالغناء من جهة لعبد الوهاب، وأغاني أم كلثوم من جهة أخرى. إشتهر منذ صباه كمغنّ في بلدته، حتّى طُلب منه مرّة الغناء والعزف بين فصلَي مسرحية "جنفياف" التي كانت تُعرض في البلدة، فلفت انتباه الموسيقي حليم الرومي، الذي كان يسكن كفرشيما، فأثنى على موهبته وشجّعه.

في مطلع شبابه طلب ملحم من والده ان يسمح له بدراسة الموسيقى، فكان جواب الأب:"هناك عبد الوهاب في الساحة وتريد ان تصبح فنانًا؟!" ومع ذلك ترك ملحم المدرسة وكان في السادسة عشرة من عمره وقرر الالتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى، فانتسب إليه، دون معرفة أبيه، فكان يخبئ كتب المعهد في كيس ورقي يخفيه أمام مدخل منزله، إلى أن اكتشف والده الأمر، الذي عاد وقبل الأمر نظرًا لإصرار إبنه وموهبته الواعدة. درس ملحم النظريات الموسيقيّة والصولفاج والغناء الشرقي والعزف على آلة العود مدّة أربع سنوات في المعهد الوطني للموسيقى (الكونسرفاتوار)، وكان من بين أساتذته، سليم الحلو وزكي ناصيف وتوفيق الباشا. وترك المعهد قبل إكمال دراسته، فنصحه فيلمون بأن يتوجه الى مسرح الرحابنة وهكذا كان. فقد تعرّف إلى إبن بلدته الفنان عصام رجي، الذي سمع عنه الكثير، فانضم بواسطته إلى فرقة الأخوين رحباني. لكنّه بعد أربعة أعوام، تركهما لكي يشقّ طريقه الفنيّة ويبني شخصيّته الموسيقيّة الطربية والتلحينيّة المتميّزة لما يمتلكه من موهبة في هذين المجالين.

وعن التعامل مع الرحابنة، قال بركات: "ذات يوم قال لي فيلمون وهبي بالحرف الواحد: يا ابني انت ولد موهوب لكن مع بيت الرحابنة لن تصل إلى الشهرة، إما أن تكون مكان نصري شمس الدين أو أقل منه، ولن يتركوك تتفوق عليه". أشار بركات إلى أن الرحابنة "كادوا أن يربطوني بعقد، لكني لم أقبل، أكملت مسرحية الشخص ورحلت، اتصلوا بي عدة مرات فقلت لهم أن مستقبلي ليس عندكم، انطلقت، لو لم أفعل هذا لما انطلقت ولم يكن هناك ملحم بركات".

في الثانية والعشرين من عمره شقّ ملحم طريقه في مشوار فني طويل تعليمًا ولحنًا وغناء ومسرحيات. فقد درّس العزف على العود، واشترك في الغناء في فرقة الرحابنة في عدد من مسرحياتهم الغنائية وقام ببطولة مسرحية "الربيع السابع"، وبدأ مسيرته التلحينيّة لعدد كبير من المطربين، نذكر منهم: وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، ماجدة الرومي، وليد توفيق، بسكال صقر، ربيع الخولي، أحمد دوغان، ميشلين خليفة، إلخ. وكانت أولى ألحانه، "بلغي كل مواعيدي" (ثنائي بينه وبين جورجيت صايغ)، ثم ألحان مسرحية "حلوة كتير" للمطربة صباح، ومن بينها: "المجوز ألله يزيدو"، و"صادفني كحيل العين"، و"ليش لهلق سهرانين".

أول عمل مسرحي قام ببطولته كان مسرحية "الأميرة زمرد" ومن ثمّ "الربيع السابع" مع الأخوين رحباني، وبعد ذلك مسرحية "ومشيت بطريقي". وخاض غمار السينما وقام ببطولة فيلم "حبي لا يموت" مع النجمة هلا عون. كما أحيا وما زال يحيي الحفلات فوق المسارح العربية والعالمية في فرنسا، وأميركا، وأستراليا، وكندا، وقرطاج (تونس) وجرش (الأردن)، وغيرها من البلدان.

شخصيّة ملحم بركات متميّزة وفيها كل صفات المبدع الحقيقي البعيد عن التكلّف والإدعاء، ولكنّها تجمع التناقضات أحيانًا، فهو موهوب، مثقّف، ظريف، عفوي، طيب القلب، ولكنّه أيضًا عنيد، حاد، صلب ومزاجي بامتياز. تضمّنت مسيرته الكثير من الكفاح والألم والمعاناة والشغب والفوضى في الحياة والفن.

مرّ بمرحلة فقر وظلم وعوز أيام الحرب. ولكنّه لمّا لحّن أغنية "أبوكي مين يا صبيّه" للفنان وليد توفيق، كرّت بعدها السبحة وانطلقت شهرته من جديد، فقدّم: "علواه يا ليلى"، "عود يا حبيب الروح"، "يا لايمة ليش الملام"، "على بابي واقف قمرين"، إلخ.

كان على صداقة حميمة مع فيلمون وهبة إبن بلدته، فأثّر فيلمون عليه بلحنه الطربي ذي الطابع الشعبيّ الذي يصنّف ضمن خانة "السهل الممتنع". وكانا كلاهما يعشقان الصيد، وحياتهما ملىء بالبسمة والطرافة و"خفة دم" ينشراها أينما وُجدا.

الموسيقار الكبير ملحم بركات هو من أهم الفنانين العرب المعاصرين، فهو مدرسة في التلحين والغناء، ويعتبر نموذجًا يُحتذى به في تطوير الغناء العربي لحنًا وأداءً، وكم من الملحّنين والمغنّين الجدد الذين يغنّون أغانيه وألحانه ويقلّدونه ويحذون حذوه. جمله الموسيقيّة مدروسة ونابعة من موهبّة خلاّقة وذوق فنّي رفيع يتماشى وصوته المتمكّن والمصقول. إنّه ليس بمكثار في ألحانه، ولكنّ كلّ لحن عنده يبدو وكأنّه أجمل مما سبقه ومتميّز عنه. وبما أنّه موهوب في الغناء والتلحين فإنّ أغانيه تتلاءم وصوت المطربين وكأنّه يلحّن "على صوته"، أي يختبر الألحان بصوته قبل أن يُطلقها، وعندما يلحّن لغيره يعرف ما ستكون عليه الأغنية لأنّه يُعطي لكلّ صوت ما يناسبه من الألحان والعِرب والألوان الموسيقيّة. وغالبًا ما تشكّل أغنيته الجديدة أو لحنه الجديد أغنية الموسم أو لحنه.

تزوّج ملحم بركات أولاً من السيدة رندا عازار وهي أم أولاده مجد ووعد وغنوة، ومن ثمّ من مي حريري التي أنجبت له ملحم جنيور والتي عاد وطلّقها.

يُعتبر ملحم بركات مجدّدًا في الأغنية العربية واللبنانية وقيل عنه بأنّه "سابق عصره" إذ قدّم نماذج من الأغنية العربية الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهو لم يغنّ إلاّ في اللهجة اللبنانية، ليس لعدم اهتمامه باللهجة المصرية أو غيرها من اللهجات العربية، بل قناعة ووفاء للذين صنعوا الأغنية اللبنانية وأوصلوها إلى كلّ الأقطار العربية والأجنبية، أمثال الرحابنة وفيلمون وهبة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا ووديع الصافي وسامي الصيداوي ونقولا المنّي وغيرهم.

إلى جانب ذلك، يحرص ملحم على السعي إلى الكمال في أعماله، فكم من الأغاني التي سجّلها أكثر من مرّة في الأستوديو ولم يرض عنها ولم يُنزلها إلى الأسواق. فهو يخشى الأستوديو أو بالأحرى لا يرتاح فيه، لذلك نجد له العديد من الأغاني المدرجة في ألبوماته مأخوذة من حفلاته الحيّة وليس من تسجيلات الأستوديوهات.

أطلق عليه المرحوم الأستاذ جورج ابراهيم الخوري، إبّان كان رئيس تحرير مجلّة الشبكة لقب "الموسيقار". ونال جوائز وأوسمة عديدة من دول ومؤسسات وجمعيات.

ملحم بركات بقلم الدكتور جورج شبلي

الموهبة التي أَنهَضَ الله سكّانها، كدنا أن نشاهدَ اليأسَ فيها ينطق، والرّجاءَ فيها يقصُر، فكأنّما عمرانها يُطوى وجوّها عريان وجوهرها حصى. فبعدَ الكِبار، صارت ضيّقة الدِّيار ودامت حسراتُها فما عادت تُؤلَف وتُستطاب، حتى هبَّ الشّوق إليها وقَرُبَ مزارُ واحدهم منها، فاطمأنّت به دارُها. إنه ملحم بركات الذي لم يعد ماء الموهبة معه طيناً، ولا أسورتها من غبار.

لقد كثُر حنين ملحم بركات للّذين كان لهم السَّبق الى الأصول، حتى لَنجدَ عهوداً بأكملها في بواكير عناوينه. وقد سرى الحنين في شريان إنتاجه، فقلَّده من المَنعة ما أحبَّ أن يصفوه به : وِفادة الأصول. وذلك، بالرَّغم من كون هذه الأصول مهدَّدةً برفض المقلِّدين والنُسّاخ أصحاب البِدَع التي لا يقوى العَروفُ على تردادها، ولم يَحفظ منها شيئاً. من هنا، فمؤرِّخو الموسيقى مطمئنّون الى أنّ ما بقي من الأصول لم يخمد أثره، ويكفي العودة الى نتاج ملحم بركات حتى يكون لدينا شاهد متفرِّد، وصورة مماثِلة تمام المماثَلة لآثار المُستَفيضي الشّهرة في الموسيقى والغناء في غابر الماضي.

نستمع الى ملحم، فلا نستطيع إثباتَ أنّ ما نسمع هو من هذا الزمان، أما ما نقدر عليه فهو المشاورة بين ملحم وبين أشياخ المَغنى في البيانات الموسيقية، وهذا موضع اتّفاق. وصوته الذي وفّى الأصول عهدها وميثاقها، لم يكن ممّا أُنشِئ ليستريح عنده نَفَس السّامع، بل ليدفع عادية المُشرِكين بأنّ الإرث بِخَير، هذا الذي ما فتئ يسأل ملحم كلّما غنّى: أتزورُني أم أزورُك؟

نستمع الى ملحم، فيَصل صوته الذي يجيد التغنّي بالعواطف الى قرارة نفوسنا، يملؤها روحاً ويقيناً، ويستثير في صدورنا الدفائن من الأشواق والحنين. فهو إذ يجيد برقيق إحساسه، لا يتدارك لظى الحبّ بالإخفاء، بل يؤانسه ليحوّل صوته الحبَّ الى عشق، والعشقُ في رسالة صوته أَغلَب. فهذا الكَلِفُ بالرقّة المتبدّية بخفيف الإيقاعات، وإن اختلط به قلب مُعابٌ بالتفتُّت، قد ضمّه وإيّاها أوثق حِبال الإنس، ففاض بأرقِّ أنفاس الوجدان، هذه التي انتقلت بالعدوى الى سامعيه فوقعت منهم موقع اللذة والمتعة.

ملحم بركات الفنّان الموهوب، رَمَت به الأقدارُ الدُّخلاء على الموسيقى والغناء، من حيث لا يدرون. فهؤلاء الردّادون، إن أقبلوا على الفنّ بَهَّته إقبالُهم، وإن نزحوا عنه عاد إليه البهاءُ من صفاته. أمّا ملحم، فقد قلب عادات العصر من إطارها الضيّق، ولم يكتفِ بإعادة الإعتبار الى الأنواع الشرقية التي ثابر عليها الأقدمون وبسطوا فيها نجواهم، لكنه أدخل معها صِيَغاً تتصّل بأساليب الحداثة في الغرب، لتصبح حال الفنّ أحوالاً، واسمه موافقاً سماته العالمية. لقد طرّز ملحم التقليد بالتجديد، ودوّن بعلامات الموسيقى أشهرَ ما حفظته خزانة الموسيقى في الشّرق، فاستطابته الحناجر الشعبية وكرَّت بترداده.

لقد اعتنى ملحم بمقدّماته الموسيقية، فأتت من الأغنيات كَمَغرس الغصن من قَدّ حسناء. فهو يتّخذ مقطع المقدّمة مُطعَّماً بتسلسل الحركات الإيقاعية التي تتدرّج حتى تسليم اللّازمة، ثم يتنفّس اللّحن في المقاطع فتَستجمع الأغنية ذاتها لتُسَمّى، ومن دون غُلُوّ، مُغَنَّاةً فنيّة. وهذه انطلاقة حديثة في جوّ السرعة التأليفية المهلِّلة لِصَخَب الإيقاع غير المتأدِّب مع الأنغام، وكأن السرعة تخاف الهلاك في فراقه. وعلى عكس هذا، فقد تدلَّلت الألحان مع ملحم، حتى انّها كانت تَهدي الكلمات إن ضَلَّت وترويها إن ظمئَت. وقد صادفت قبولاً في ابتكارها وتجديد موضوعها وغرائب عوالمها، فهي، وإن كانت شعبية نهلها ملحم من أوساط العامة، غير أنه جبلها بعبقرية ونبوغ وحَنَق، ليصبح بينها وبين الناس وُلوعٌ نادر.

إنّ صوت ملحم السّاطع يبني النّبرات وكأنه ذاهب الى تزيين عروس. فهو مُجيدٌ في تكييف غلائل صوته مع ثغور النغمات، ينتقل بخفّة الظلّ من الرّقيق في القصيد الى النّشيد، ومن الموزون في الألحان الى المُقَطَّع، لصالح الإنسجام بين المفاصل والموقَّعات. وهذا التنوّع في مرج الأداء لم يكن رائجاً لصعوبته، إذ يستوجب استيفاءَ النُّغُم الطِّوال وإصابةَ أجناس الإيقاع واجتلاءَ مواقع النّبرات، ما لا يستطيعه إلاّ الحاذق المُتقِن. وملحم بركات خطا في الإتقان وِسْعةً لم يَحظَ بها غيره، وكان له تجديد نوعيّ بإطلاقه عناصر غنائية بدأ يعرف فيها النَّغم بُعداً جمالياً، ساهم مع الكلمة، وبتناسق تام بينهما، على خلق كيان فنيّ حديث متين الصياغة وصعب الإرتقاء اليه، ما جعله من الفرائد في هذا المحور، كما جاء على ألسنة بعض أرباب هذه الصناعة.

لقد غنّى ملحم بركات بنظام صوتي مقامي، فأثار حماس الناس وإدهاشهم، هؤلاء الذين أحسّته أنفسهم فنصّبوه كبير مُغَنّي عصره، فلم يسعَ بالتالي الى مجاراة منافسيه للبلوغ بالغناء الى مرحلة الإبداع التي كان وكيلها الحصري. إنّ الجواب على شهرة بركات ليس غامضاً، فهي تُقاس بالنشوة التي تحدثها في النفوس التي تتلقّاه بالمَجامر والطِّيب، وكذلك بالتكيّف مع مزاج الناس وأذواقهم، وباحتفاظها بالصّبغة التي ميّزتها منذ نشأتها، كما بتبنّيها عناصر المحسّنات التي لطالما ساعدت الصوت على إظهار كنوزه الخفيّة.

لقد مُنيَ بعض مدارس الغناء المتعاقبة، وإن المحترفة، بتشويهات بعد أن لمعت أسماء مُنشئيها لمعاناً باهراً، إن بانحرافها عن تركتها، أو بتقتيرها في الإنتاج. وبالرغم من أنّ التأليف الموسيقي هو " نَقرٌ في صخر "، كما يقول اسحق الموصلي، غير أنّ ملحم بركات العالِم بالجمالية الموسيقية، قد رفع قوالبه التأليفية الى مرتبة الفنّ المُكتَمل، فأسّس بذلك تيّاراً ليس له صلة بعامل اللحظة والظَّرف، فلا يندثر بفعل الزمن أو التغيّر، لأنّ حيويّته ليست من خارجه، بل من فيض المطبوعين به على الدّوام، جيلاً بعد جيل.

وبعد، إنّ الفنّ الغنائي ما ضاءَ له نهار، لو لم يكن بينه وبين ملحم زمان، كما كان بين المِسك والعَنبر، وقد نازعَ الفنَّ الهوى بِشَوق اليه فلم يملك دموعه من الوَلَه. فملحم أَخلصُ أحبّاء الفنّ وأَعزُّهم، ترك بنأيهِ في خدِّ الفنّ من قَطر الدَّمع ندوباً، فرثاه الفنُّ عن صفة وَجدِه بِخَطِّه:

كأَنِّيَ لم أُفجَع بِفرقَةِ صاحبٍ ولا غابَ عن عيني سِواكَ حبيبُ