musicians

Farid Atrash

Musician

فريد الأطرش بقلم الدكتور جورج شبلي

إذا كانت الشاعريّة روحاً يتمرّد به الشاعر، فيهزّ نفس القارئ حتى يحمله على أن يتبنّى طائعاً ما يزيّنه له من فِكَر، فمن المبدعين في الموسيقى مَن يعفرُ لهم سامعوهم الخدود في الثّرى، عازِمين بنشوتهم معهم حتى على دخول النار.

فريد الأطرش في الموسيقى قرَويّ أرستقراطي، فمَنجَم ألحانه حرصُ موهبته على الأصالة، هذه التي تمّت بينه وبينها إلفة هي أقرب الى النَّسب. فالموسيقى نديمه وأنيس نفسه ودفتر عمره، لم يرَ خيراً منها حتى من بين الناس، فكانت مقابلته إيّاها صفحة صفحة، وكأنّها مقابلة عِناق. أما الوفاء للأصالة عنده فبدا في مستويات ثلاثة، هي الحفاظ على الإيقاعات الشعبية، وخزن الطّرب في الأداء، وتمجيد الفولكلور ذي الطابع المقدّس. لكنّ " فريد " الملتزم بالمصادر الزمنية للموسيقى الشرق عربية، لم يكن مقلِّداً من دون ابتكار، فقد ضرب صخر الموسيقى بعصاه فتفجّرت تكوينات لحنية جمعت الى الأصول والمتوارثات طُرُق الغرب الميلوديّة وخصوصاً " الفالس " الذي لطالما سمعنا "فريد" يقول له: "بَنادي عليك".

فريد الأطرش الرجل الذي يُعاش في أكنافه، شُجَّ ضِلعه من رشق الحسّاد والمنقلِبين الذين لطالما ساقوا إليه جياد المدائح، فما ردّ الحجر مِن حيث جاءه. وهو لم يذمّ الزمان أو يسجّل غدره وفساده، بل لم يقل فيه سوى متى كان صالحاً. لكنّ لأزمات القلب أسباباً تصل به الى وصمة الإعياء فيجنح الى المناحي، وهذه غفلة ليست من سيّئات الشكوى. لكنّ "فريد" صاحب العِشرة الطيّبة وطهارة الأخلاق لا يُطرِق طويلاً للهموم، وقد يُستَظرَف دفاعه عن صنيع المروءة والتزام جانب الخير، فالرجل معه يُكَرَّم لفضله قبل أن يُكَرَّم لأي أمر آخر.

فريد الأطرش لا يطيل التنقيب عن موارد النَّغم، فهي مودَعة في إلهاماته بكلّ فصولها، وقد لازمته في صحبة دامت كلّ عمره. وهو من الذين كانوا يدرون كيف يجب أن يُرسَم اللّحن ويتمّ اختيار الوزن وتُعتمَد الكلمة، فقد أقدم في مجالها إقدام الغلاّب وتولّى زمامها حتى الإعجاز. ولم يستقم الأمر مع فريد الموهوب موسيقياً في التلحين فقط، بل كانت له أنفاس نشوانة في الغناء والعزف والأوبرا والتوزيع الأوركسترالي وصناعة الأفلام، فكأنّما زُفَّت مواهبه الى أمواج البحر. وفريد لم الذي يموج الناس عندما يطلّ عوده، هو نسيج وحده في الضّرب على الأوتار، وكأنّ بينها وبين أوتار قلبه حلولاً، فلو مرّ مَضرِبٌ بين أوتار عوده وأوتار قلبه، لم نكن نعرف أيّ لحن نسمع. والغريب أنّ العوّادين، لِخُيَلاء عندهم، ينكرون عليه هذه الرياسة، لكنّك إذا طلبت منهم إسماعك من عنديّاتهم " سَمَّعوا" طبعاً هذا الفريد.

لقد برز قُرب فريد في الموسيقى من خطط العرب في سلامة اللسان واللّحن اللَّذين كان إلمامه بهما عظيماً، فَقَلَّ مَن خرج مثله فيهما براعةً وصفاءَ قريحة. لذلك كان هو من آحاد الموسيقيين الذين أخذوا برقاب الجُمل اللحنية العذبة وضبط المقامات، وملكوا رقيّ العُرَب، وكانت ممرّات القفلات معهم غرراً كقَطع الرياض بعد القَطر. وقد كانت نفسه مستعدّة دوماً لمطالع الألحان، قادرة على التصرّف بمراميها التي تجمع بين رقّة نسيم الأسحار، وبين إفراج السامعين عن آهاتهم وكأنها شعاع سعادتهم، فصالات حفلاته كانت من دون مقاعد لأنّ عاشقيه ما سمعوه إلاّ واقفين.

لقد سارت الأغاني في عِقَد الزمن مسير الشمس والقمر، وسافرت في ذاكرة الأيام حتى حفظتها وأنشدتها. وأغاني فريد هذه التي حكّم فيها هواه، منها ما جاء خفيف الرّوح ذا إيقاع مصريّ، فألحان " دايماً معاك دايماً " و " زنّوبة " تسري على الألسن برغبة ولذّة وشوق. ومنها ما كان له عميق الأثر في ما يُعرَف عن المتعة بالمقدرة التأليفية وضبط أسرار الثقافة الموسيقيّة، حتى الوصول الى الحلقات السيمفونية في " الربيع " و " عِشْ أنتَ " وغيرهما. وفي الحالين اهتدى فريد الى معادلة وليس الى تشريع، فهو لم يسعَ الى الإشتقاقات اللّحنية الصعبة التي ترهق الأذن والّذهن، حتى يُؤاخِذه السّامع على تركه إيّاه تائهاً في البحث عن مكامن الجمال في الأغنية لتحصيلها. لكنه جعل جماليّات الأغاني تتواصل معه مباشرةً، وبدون تعقيد، فكأنّ اللّحن المنسوج يتسرّب الى مواطن لذّة السّامع ويلعب في حضنه ، وهذا ما لم يفعله غير فريد لانفراده في بابه.

لقد تنازع على فريد الأطرش الغناء والتلحين معاً، وطالب به الوتر والمسرح والشاشة، غير أنّ الموسيقى كانت وحدها "حكاية غرامه " . فهي ناظمٌ لشمل أنسه، وهي صحن داره، وفي المقابل هو القَيِّم بمصالح مملكتها، حتى لُقِّب بموسيقار الأزمان. لقد اتّصلت الموسيقى بنفسه أشدّ اتّصال، فبناها على أصول وأشكال مُتقنة، وسالت على وتره وكأنها فيض الفطرة وجَود الطّبع. لقد مَسرَحَ فريد الموسيقى في رقصٍ وكورال ومشهدّيات، فابتكر " الأوبيريت" وأبرزها "بساط الريح" التي زَوَّرها فريد ربوع العرب فاختصرت وزارات السياحة عندهم.

لقد وُلِد فريد الأطرش فعلاً، عندما سَمع أمّه تُدندن له أولّ مرّة، ومُذ ذاك كان يردّد مع كلّ مطلعٍ موسيقيّ له " عُدتَ يا يوم مولدي".