musicians

Camille Chambir

Musician

الموسيقار الخالد كميل شمبير - وليم مطر

وُلد الموسيقار كميل شمبير بحلب، فى 8 آيار سنة 1892، دخل مدرسة الفرنسيسكان فعُرف فيها بالذكاء والنشاط وسرعة الخاطر، وصدق الولاء وخفة الروح.

تجلّت مواهبه الموسيقية منذ عهد طفولته، فكان إذا بكى لشئ وسمع لحناً كفَّ عن البكاء ، وأقبل على سماع ذلك اللحن شغوفاً. ولقد قويت فيه هذه الموهبة واشتدّت اشتداداً جعله يكبُّ على درس أصول الموسيقا ، وإتقان أساليبها . وأول آله اختارها من بين آلات الطرب هى البوق (البيسطون).

رآه رئيس المدرسة بارعاً فى العزف ، فعهد إليه بإدارة الجوقة الموسيقية التى أسستها المدرسة، فقام بهذا الواجب على الوجه الأكمل . وعندما بلغ عامه الخامس عشر نزح إلى الأرجنتين، وأقام بمدينة بوينس أيرس، ثم قصد إيطاليا فأتمّ دروسه فى الموسيقا.

رجع إلى الوطن فاشتغل بشركة سكة حديد بغداد التى كانت تعمل يومئذ على مدّ خطوطها . ولمح مهندس تلك الخطوط ما لكميل من حميّة ونشاط ، فأحبه وقرّبه إليه وجعله مرافقه الخاص.

ولمّا أُعلنت الحرب الكُبرى وبدأت تركيا بتجنيد شباب العرب سافر إلى مصر تخلصاً من التجنيد.

وتعرّف فى مصر إلى بعض الموسيقين. ولما توثقت فى ما بينهم عرى الصداقة أسمعهم شيئاً من الألحان التى وضعها يوم كان يدرس على نفسه فى الشهباء، فأُعجبوا بألحانه وقدروا له نبوغه وسلامة ذوقة، ونصحوه أن ينصرف إلى الموسيقا. فانصرف إليها واستطاع أن يحرز فيها شهرة رفعت اسم وطنه عالياً فى عالم الفنّ.
صاحب زعماء النهضة الموسيقية فى القاهرة أمثال المرحومين الشيخ سيد الدرويش وكامل الخلعي . وكان الأول أشد الناس إعجاباً به.

له أكثر من مئة أسطوانة منها اثنتان وستون سجلتها شركة أوديون.

لحن أناشيد أهمها : نشيد الشرق، سورية، بغداد، لبنان، الملك فيصل، الراية، الحرية، الكلمة، سورية الجميلة، يا بلبل الأوطان، يا بلاداً فى جبين المشرق، ابتكر تقاسيم رائعة هذه بعضها: تقسيم عجم، سيكاه ، صباه ، حجاز ، نهاوند، راست، بيات، يكاه ، نوى أثر، لونغا شاهناز، حجازكار، حجاز كار كردى، حجاز كار على الواحدة.
أشهر المونولوجات التى لحنها : اذكرينى، الخيال، سكن الليل، نبئينى يا حمامة، نجمة الليل، يا بلاداً، أيها الغزال، أتت هند تشكو.

من طقاطيقة المعروفة: نويت أسيبك، طوّل بالك، حماتي، زفة العروس، الصبر طيّب، وحياة عيني ما ميل للغير، يا درة نيلي يا مشوية.

وضع مارشات موسيقية بديعة منها : مارش سورية، الملك فيصل، الملك فؤاد، المقطّم، الاتحاد ، النهضة. وله غير ذلك آثار عديدة مبعثرة ومخطوطات قيّمة فى عالم الموسيقا، منها كتاب أصول تركيب الأنغام.

عَلّمَ نخبة من سيدات وأوانس كبار الأسر أصول الموسيقا الشرقية على البيانو وحبّب إليهن الألحان فأقبلن عليها. امتاز بالعزف على البوق (البيسطون) وأخرج منه أصواتاً لم تكن فيه كالربع مقام وغيره.

كان أول من ذلّل البيانو العربي وضبط أوزانه لإخراج الألحان الشرقية. كما كان أول من فكّر فى وضع وتلحين روايات غنائية "أوبريت" وله من هذا النوع رواية "توسكا" وهى أول أوبرا عربية لحّنها موسيقار عربى. ولم يكن كميل موسيقيا وملحناً فقط ، بل كان ممثلاً وروائياً وكاتباً وزجالاً من الطراز الأول.

ولابدّ لنا من أن نذكر فى هذه المناسبة جانباً صغيراً عن كل ما نعتناه به فنقول: اشتغل كميل بالتمثيل مدة فنجح فيه نجاحاً باهراً وصار يُعد من كبار الممثلين المصريين. وكان أحسن ما يستطيع تقليده وإتقانه من مختلف الأدوار هو دور المجنون الأبله والمعتوه.

دخل فرقة عبد الله عكاشة، ثم انتمى إلى فرقة الأستاذ أمين عطا الله الملقب بكشكش بك، وأخذ يعمل معه على تأليف الروايات الهزلية. أول رواية ألفها هى رواية الغريب البائس، ولقد بلغ من روعتها وجمال موضوعها انها بيعت بخمسمئة جنيه مصرى.

أما باقي الرويات التى ألفها وعربها واقتبس مواضيعها فهي: المروءة والحب، حلب على المسرح، عقبال عندك، شهر العسل، النونو، المجرم، ساعة الحظ ، الحب يا ما لوع، غنى وفقير، ليالى الأنس.

وكل من شهد رواية النونو التى مثلها بعض أنصار لجنة الكلمة التابعة لجمعية مشاريع الكلمة الخيرية، يقدر نبوغ واضعها ويشهد له بالذكاء وخفة الروح.

ولقد مر بنا أن "كميل" كان كاتباً وزجالاً ، وهذا ما يدعونا إلى أن نأتي على شئ مما كتب ونظم فى شتى المناسبات.
عندما قام فريق من أدبائنا بتكريم الأستاذ ميخائيل الصقال ألقى المرحوم كميل قصة رائعة مبتكرة الأسلوب وزجلاً فكاهياً جزلاً أثار بين الحاضرين ضجة استحسان كبيرة.

وعندما احتفلت لجنة الكلمة بتدشين دار عجائزها تلا قطعة أدبية صفقت لها الأيدي والقلوب.

ويوم اقام فريق من أدباء الشهباء ومفكريها حفلة تشجيعية لصاحب "الضاد" عبد الله يوركى حلاّق، عام 1934 ، بمناسبة تسلمه إدارة "الضاد" ونقل الامتياز باسمه، ألقى الفنان الراحل كميل شمبير خطاباً انتقادياً بديعاً عنوانه "يعجبنى ويغيظنى". ثم أتبعة بقطعة زجلية طريفة هى عند الكثيرين أجمل وأبلغ من القصائد المقفاة الموزونة ، منشورة فى عدد خاص من الضاد صدر عام 1934. ويسرنا ان ننشر مقطعين من هذه الزجلية:

تعيش يا أبو عبده للأيام وتخدم فنك بالذمة
وتلوف على ارباب الأقلام اللى لهم أفكار جمّة
وتصبح يوم فى العلم إماماً وتحقّق فيك أمل الأمة
وتنشي جرايد ومجلات
يحق لنا نفخر بالضاد مادمنا الكل ننطق بالضاد
واحن الكل على استعداد ايدنا ف ايدك باتحاد
خدم الأدب موش للأفراد دي خدمة عامة للبلاد
دي فرض علينا وواجبات

وحسبنا الأن أن نقول إن كثيراً من الحلبين، ومن غير الحلبين لم يعرفوا الفقيد ولم يقدروا له آثاره الفنية الجلية إلا بعد ان ضمه اللحد ، كأنما كُتب لكل متفنن وعظيم ان يعيش بائساً مجهولاً حتى إذا مات وقُبر انتشر ما كان خافياً من ذكره وفضله.

ولكن بعد الحركة التصحيحية المباركة التى قادها الرئيس الراحل حافظ الأسدأصبحنا فى نعمة نُحسد عليها، إذا اهتم بالأدباء والكتاب والشعراء والفنانين المبدعين الذين أخلصوا لهذا الوطن وقدسوا هذا التراب. فلقد اعتنى بهم الرئيس الأسد وكرمهم أحياء وأمواتا.ً

كان الموسيقار كميل رحمه الله، وديع النفس، طيب القلب، دمث الخلق، لطيف المعشر ذا حديث جذّاب ونكات ظريفة حببته إلى القلوب وجعلته زينة المجالس.

يُروى عنه أنه قصد – بعد عودته من مصر – حي الشرعسوس وزار الدار التى وُلد فيها زيارة عدّها فى طليعة ما كان يتمناه.

وحكي لى والدى، أنه كان يُحسن إلى كل من يستحق الإحسان، وعلى الأخص فإنه كان يساعد العائلات المعوزة المستورة مساعدات لم يدر بها أحد من أقرب الناس إليه لأنه كان يؤثر فعل الخير على سائر المبرات. كما كان أريحياً كريماً لا يضن بأثمن أوقاته فى سبيل نصرة مختلف المشاريع الخيرية والعمرانية.

قصد فى آخر صيف عام 1934 مدينة دمش مع الفرقة الغنائية التى يرأسها وهناك استطاع أن يصادف الإقبال الذى كان يرتجيه.

أصيب فى 8 تشرين الثانى عام 1934 بنازلة قوية ، ولفظ أنفاسه الأخيرة يوم الجمعة فى 9 تشرين الثانى 1934 . وحُمل جثمانه من دمشق إلى حلب ، وهنا فى حلب شُيعت جنازته باحتفال مهيب يليق بشهرته ومكانته، وأبّنه فى ساحة الكنيسة وعلى القبر لفيف من الخطباء والشعراء.

وفى الساعة التاسعة من مساء يوم السبت الواقع فى 7 كانون الأول سنة 1935، أقام الأساتذة أنطونيوس الصّباغ ، أحمد الأوبرى، عمر أبو ريشه شارل خورى، رزق الله جهامى، أنطوان حامض، عبد الله يوركى حلاّق فى قاعة النادى الكاثوليكى بحلب حفلة تذكارية كُبرى للموسيقار العبقرى المشهور المرحوم كميل شمبير بمناسبة انقضاء سنة على وفاته. وقد اشترك فى هذه الحفلة رهط من أعضاء النادى الموسيقى الحلبى وفريق من الموسيقيين على رأسهم المتفننة البارعة الآنسة ماريغون كندرجى.

وكانت لجنة الاحتفال قد طلبت إلى بعض الأدباء المعروفين أن يوافوها بما يريدون قوله من شعر ونثر فى الفقيد الكبير. فأرسل إليها الشاعران اللامعان الأستاذان حليم دموس ورياض المعلوف قصيدتين بديعتين . كما بعث إليها الأستاذ ألكسى اللاذقاني رئيس النادى الموسيقى فى بيروت بكلمة رقيقة تدل على نبل عاطفته. وعند منتصف الليل رجع المدعوون إلى منازلهم وهم معجبون بكل ما سمعوه من الشعراء والخطباء والموسيقيين والمنشدين الذين نشطوا إلى تكريم المرحوم شمبير، تقديراً لمنزلته الفنية، وإقراراً بجهوده الكثيرة، وخدماته الجلّى التى بذلها فى سبيل الموسيقا الشرقية.

وهذه بعض أبيات شاعر الشهباء عمر أبو ريشة:
نامَ عن كأسه وعن أحبابهْ قبل أن ينقضى نهار شبابهْ
نام عن سكرة الحياة وقد جـــ فً شرابُ السلوان فى اكوابهْ
بسماتُ الرضى على شفتيه وشتات الرؤى على أهدابهْ
وبنات الغروب تسكب فى أذ نية موجات عوده وربابهْ
يا بنات الغروب قد نفض الليـــ لُ على الكون حالكات نقابهْ
احملي الراحل الغريب وسيري بالزغاريد سلوة لاغترابهْ
وادخلي هيكل الفنون وأهديه سراجاً يضي فى محرابهْ

أحدثت وفاته ضجة حزن وأسى شاملة . فنعاه المذياع ، وبكاه كبار المتفننين المصريين، وعقدت أُمهات الصحف العربية حول نبوغه وعبقريته الفصول الطوال. وقد سطرت مجلتا "الضاد" و"الكلمة" صفحات خاصة عن حياة الفنان كميل شمبير وعما قيل فيه في حياته ومماته وعن مؤلفاته الموسيقية الرائعة.

قالت فيه فرقة الكسار المشهورة: "إن الموسيقا قد خسرت بفقده ركناً من أركانها، وعنصراً قلما يجود الزمن بمثله. ألا وهو عنصر التجديد والابتكار".

وقالت فيه إحدى كبريات الصحف المصرية: " إنه كان يجيد العزف على البيانو إلى درجة الكمال، وإن أنامله الحساسة كانت تطيع روحه الفنية طاعة عمياء ، فتنتزع من أضلع البيانو الصلبة أنغاماً شجية وألحاناً عذبة يصعب على الكثيرين انتزاعها من تلك الآلة التى صنعت للموسيقا الغربية وحدها".

هذا هو الفنان الأستاذ كميل شمبير وهذه آثاره التى خلفها للأدب والفن . فليبكه القلم ولتندبه الأوتار ولتحزن عليه المجالس التى كانت تسمع من أحاديثه الرشيقة . ونكاته اللطيفة ونوادره المستملحة ما كان يجعلها فى لهو ومرح.
ففي ذمة التايخ أيها الفذ الأبرّ، ما خلفت من الآثار الجليلة القيمة. وفى سبيل الفن ما خلدت فى عالم الفن، من القطع الساحرة، والنغمات الشجية العذبة.

وإن حلب الشهباء، التى رفعت شأوها فى نظر كل من يترنح للطرب ، ويهتز لاهتزاز الأوتار وتلاعبها، ستحافظ على ذكرك الطيب بما تستحقه جهودك المثمرة وستردد اسمك اللامع ، بمنتهى الإكبار والاحترام، فيها الأنغام، وما تصاعدت من أفواه فتيانها وشبابها وشاباتها ، أناشيد الفخر والحماسة.