musicians

Laure Daccache

Musician

لور دكاش بقلم الدكتور جورج شبلي

مَن لا يغتنم رقدةً من عين الدّهر وينتهز فيها فرصة الإنتظام مع نشوة الطّرب، كمن يمرّ به الجمال فلا يشتهي أن يقبّل الأرض بين يديه، وهذا لا يُستأذن فيه.

لور دكاش اعتلت المراكب الثّقال في صِيَغ الغناء وهي بعد صغيرة، فأدّت روائع الكبار في زمانها وقبله، ثم تشاوفت عليهم في النضوج، ودفعت الى إعزاز المغنى ورفعه الى أشرف الدّرجات، حتى نادى أَشياع الأصالة بإمامتها. فهي حين تغنّي، لا تطالعنا بفنّها كما غيرها، وإنّما بقلبها وروحها بحيث يبدو كلّ نَفَس من أنفاسها وكأنّه قلب يخفق أو روح يثور. وهي بذلك تتعاطى الإخلاص لأدائها وكأنها واحد من أركان المُلك، يحوّل قضايا الحُكم الى مسائل خاصة به، تثور لها نفسه قبل أن يحسّ بها صاحب التّاج.

إنّ صوت لور دكاش ليس زخرفاً برّاقاً، بقدر ما هو نجوى حبيبَين في ضمّة قمر. فهو في رقّته وجزالته في الأدوار والموشحات والأناشيد له شخصية منفردة، يتمختر بحقائق جمالية مطبوعة بالتشعّب ومُحلاّة بالأصول المُتقَنة، وهذه من "حواضر" صوتها. هذا الصوت الذي ينتمي الى عصر كان جزءاً من رقعة الحضارة الموسيقية في الشرق، يتنازع عليه الطّرب والمَغنى الشعبي معاً، ويطالب به الجمال. فمعه يضبط الإيقاع نفسه، وتنتظم المقامات التي تحتفظ مع لور دكاش بتأثيراتها من دون تحوير، وكأنّ الأمانة في عهدة ساحر.

الإنشاد مع لور دكاش كالشّعر يمتلك قدرة متفوّقة، وكما أنّ الشّعر ليس نظماً للكلام الجميل بل هو بعض من رؤىً تتصّل باللامادي، هكذا الإنشاد هو فعل إمتاع باسم الآلهة. من هنا، تحوّل الغناء مع لور من تعبير مبسَّط الى خرق لأسرار الموسيقى العربية، وبقدر ما كان غناؤها محترِماً أدقّ القواعد الأدائيّة، بقدر ما تبيّنت فيه فوارق نغَميّة فكّكت تكبيلات المحافظة الحرفية، وأطلقت فيه حسَّ الجديد. وقد اجتمعت في دار صوتها رواجات جعلته من أندر حليّ مجالس الغناء، من العلم الدقيق بالوقفات والفواصل التابعة لجدول المغنى، الى التنويع بين الرخامة والتخفيف، الى التدرّج من القرار الى الحادّ، وبعض ذلك عصيّ على المُجَرَّب العتيق.

لقد اكتسب الغناء مع لور دكاش نظاماً صوتياً مقامياً إتّخذ عناصر المحسّنات التي أظهرت كنوزه الخفيّة. وقد تحسّست الموسيقى هذا الإرتقاء واحتفظت بهذه الصبغة التي لن تُضاهى، والتي شكّلت مركز الثّقل في الإبداع الغنائي الذي تخلّف عنه الأكثرون. ومَن كان من هواة هذه الصبغة فاصطبغ بها، حاز على النفوذ الأكبر من الإدهاش في الإحتفالات بأفراح الموسيقى.

لم تكن لور دكاش من المولَّدات في بلاطات الغناء، كما أنها لم تجتهد لخلافة أحد، في زمن ضاعت الأسماء في الكِنيات، وتاهت كالفراغ. فقد جمعت هذه المرأة حسن الصوت وبراعة التأليف الموسيقي، وكذلك الجمال والذكاء والأدب والضرب على العود، لكنّ التاريخ لم يتعرّف فيها إلاّ على المغنيّة. هذه المغنية التي أثبتت حضورها بمهارة، مطربةً مجهَّزة بعلم تام مكّنها من إنتاج مبتكَر في الفنّ، وحسّن عندها النّظامَين الصوتي والنَغَمي، فكان لها في الغناء تقدّم هو أشهر من أن يُدلَّ عليها فيه بوصف.

لور دكاش لم يكن في صوتها وتر غير مُستَوٍ، وهي التي أتقنت تطويل مِقبضه ليتسنّى له أن يكون مُجلّياً. وهذا بالذات موقع الموهبة وآهات ألسنة الندامى. وبالرغم من نتاجها الذي رآه البعض تقتيرياً، غير أنها ما غنّت مرةً إلاّ زادت في مُلك الغناء، فطيب صوتها يجعل السامع يسكر ثم يصحو، ويجعل النسيم يلوي عنقه خشوعاً وقد طرُب لها.

لور دكاش، هذه " الموصلية " الميل، لمّح بعضهم الى إنّ أحسن ما أعطته يكمن في نوع من تكريس التقليد، وهذا ليس عيباً. فهي لم تكن ظاهرة صراع بين القديم والجديد، ولم يخلع صوتها الزيّ التراثي، لكنه رصّعه بملحقات وبدون شويهات. وهذا يعني أن هذه المطربة أرادت في الوقت نفسه الحفاظ على الموروث، أمانةً لأصوله والتزاماً بأذواق العرب المتمسّكين بتقاليدهم، كما أنها استطابت تطعيمه لتغني كما يطيب لها، ولتعلن عن انطلاقة لها بريقها في الأدوار المستجدّة.

إنّ براعة لور دكاش في المغنى والتي لا تُنكَر، تجعلك تحسب أنّ "دنانير" مطربة السلاطين، قد بُعِثَت من الثرى، فتقول لشدّة ذهولك: "آمنت بالله".